حاصرتني أشباح أناس، أقسم أنهم أحياء.. يمكنني دوما أن أقدمهم لمن يجلس إلى جواري، بأنهم أصدقاء "الشات" أو غرفة الدردشة.. إلا "جوليا" لا يمكن أن أبوح باسمها أو رسمها أو بما يدور بيننا من حوار.
ذات ليلة بينما كنت ممتدا على ظهري، ما بين النوم واليقظة، أحست زوجتي بشخص ثالث يشاركنا الغرفة. يبدو أنها لم تكن المرة الأولى، و إلا لماذا حانت منها التفاتة فزعة نحوى، إلى حيز ضيق جدا بيننا على السرير؟
ثم قالت بثقة جعلتني انتبه إليها:
"بلغت الجرأة منك أن تسمح لها بالنوم على سريري، أن ترقد بيننا؟!"
فكرت في حيلة تقنعها بأننا وحدنا فى الغرفة، نهضت.. أحكمت ستار النافذة، وتعللت بظلال تغزو غرفتنا، بسبب كشافات السيارات المسرعة فى الخارج.
وضعت قدميها تحت فخذيها وتربعت فوق السرير على هيئة بوذا أو الكاتب المصري القديم، وبدأت تأنبنى على أفاعيلي كلها.. ثم أوجزتها: أن الملعون الكمبيوتر سرقني من بيتي وأسرتي ومنها، وما فاض وغطى كما فيضان السيول من الأنهار، أن أحمل زوار "الشات" معي إلى غرفة النوم، و"جوليا" بالتحديد، تلك التي جرأت إلى احتلال السرير.. بيني وبينها!
وصلتني الرسالة كلها، فهمت، ماذا على أن افعل؟ كيف أقنعها أن "جوليا" هناك.. فى بلاد الأندلس يا حبيبتي!
تابعت: رأيتها هنا فى الحديقة الصغيرة للبيت، تعدو خلف القط الرمادي، ثم تضحك.. وكأنها لمحتني وتتعمد إثارة غضبى، أكيد تعلم أنني لا أحب الغرباء يدللون قطي.. وكان القط يهز ذيله.. هل تسمعني، رأيته يهز ذيله؟
فابتسمت لعلى أهون من غضبتها: وماذا يعنى أن يهز قطك ذيله؟!
يعنى أنه يعبر عن سعادته!
هل تريد أن تعرف المزيد؟
إذن أذكرك بما حدث يوم أن جاءتك رسالة فى البريد الالكتروني، مرفق بها صورة، اجتهد فيها المصور الفنان فى إبراز توزيع الضوء بين أرجاء المشهد، كانت لقطة لبستان جميل، بينما الصغار يقطفون زهرة الياسمين فى الفجرية!
سألتك عن صاحب هذا البستان الجميل، وقلت لك: ما أسعده هذا الرجل، هل إختبأ بين غياهب تلك الزهور الجميلة؟
- الفور علقت مبتسما، ولماذا لا تكون صاحبة البستان، هذه الرقة وهذا الجمال لا تأتى إلا من أفكار وأعمال امرأة؟! كنت أعلم أنك تعنى الحديث عن "جوليا" صديقتك، التي تخفى أخبارها عنى.
وعندما همست فى أذنها القريبة من فمي بأنها تحلم، ارتجفت قليلا ودفعتني بدلال، وقالت: أنت تعلم أنني أغار من دغدغة أذني، لن أسمح لك أن تخدعني!
ثم همت وأشارت إلى ما كان بيننا من مساحة هينة، وفجأة إنحنت حتى تكاد رأسها تلامس ملاءة السرير، تسعى لأن تمسك بالأنثى البيضاء ذات العيون الخضراء والشعر الأسود.. هكذا وصفتها لي، ثم طلبت منى تفسيرا يقنعها.. كيف تراها بيضاء وذات شعر أسود؟!
لم أستطع أن أنكر، جوليا حقا لها شعر أسود!
ولأنها لا تمسك إلا الهواء، ظلت تحك كفها بأصابعها المنفرجة، تمسح بها المكان كله، حتى لامست ردفاي وفخذي وما بينها، وهى تسألني بصوت جاد محايد:
هل يمكن أن تخبأها هاهنا؟
فكانت فرصتي، أن أحيل الحديث إلى التعبير عن ثقتي ومحبتي لها.. من المستحيل قطعا يحدث ما تسأليني عنه، أو ما يدور بخلدك، أنت.. أنت ولا غيرك لي فى هذه الدنيا.
وحاولت أن أهدئ من روعها، وأخبرتها أن الوساوس وراء ما تفكر فيه.
إنتبهت زوجتي نحوى، ومالت أكثر: أليست تجيد العربية، سمعتها تتحدث إليك.. تسألك فتجيب؟!
ثانية لم أستطع أن أنكر، فهي تدرس اللغة العربية، وتجد فى حواراتنا فرصة لها لأن تمارس اللغة، لا أن تحفظ مفرداتها فقط؟!
لكن قبل وبعد هذا كله، كيف تخال زوجتي أن جوليا بيننا ها هنا؟ أنا لا أؤمن بوجود الأشباح، أنا واثق.. كثقتي فى صدق ما انتهت إليه زوجتي؟!
فضلت أن أشعل المصباح، وعدت إلى شعرها المنكوش أساويه وأعبث برفق فى فروه رأسها. وهو ما شجعها لأن تحكى أكثر وتبوح، ولكن بصوت عاتب غاضب غير عدواني، ولا هو صارخ كما كانت منذ قليل.
قالت:
"بحسبة بسيطة تأكد لي أنك تجلس إليها وتتحاورا أكثر كثيرا من أوقات جلوسك معي والتحدث إلى.. ماذا فى جسدها ليس هاهنا؟"..
وقبصت ثدييها برفق غريب أشبه بصناع الماس يلتقطونه ويحكمون وضعه فى المشغولات الذهبية. ولأنها المرة الأولى التي أراها على هذه الدرجة من الاستفزاز والأنوثة.. دهشت، ولم أجد ما أعقب به، ولو من باب المجاملة!
تزوجنا منذ أكثر من عشرين سنة، لم أراها ضعيفة، ضعفا أنثويا، أو هكذا خيل لي. لم أستطع أن أخفي ما شعرت به، ولم أشأ أن أهمس به كعادتي معها، نظرت إلى بؤبؤ عينيها، اقتربت من مقدمة أنفها: أنت فينوس الشرق، أما جوليا التي أعرفها وليست التي فى رأسك، تسألني فأجيب، أقرأ لها أشعاري فتنصت..
لم تدعني أتابع، بغضب عادت إلى صياحها:
"لا أحب الشعر.. هل كل ذنبي أنني لا أكتب الشعر مثلك؟"
"بل أحببتك بغير الشعر.. صدقيني، لو حكم الشعراء العالم لفسدوا فيها.. أفلاطون طردهم من جنته.. لكنني أحب نزوتي!"
لم تصلني قناعتها، ولا شعرت بهوان ما فى رأسها، حاولت أن أبلغها قراري وقناعتي.. لم يعد الكمبيوتر عندي نزهة أو نزوة أو للترفيه، صدقيني.. ماذا ترين أن أفعل؟..
لم تمهل نفسها لحظة لاتخاذ قرارها.. "أن توقع عليها العقاب المناسب!"
خلت أنها تمزح، فكان تعليقي وردى.. أن نهضت، ووقفت فوق السرير ثم عبرتها، وفى خطوة واحدة كانت قدماي على الأرض، أمام دلفتى الدولاب، وفورا رفعت الحقيبة الجلدية السوداء البالية، وسحبت منها مبلغا من المال.
الآن، وبهذا المبلغ يمكنني أن أمضى أسبوعا مع جوليا هناك؟!
يبدو أنها دهشت لفكرتي وتهديدي، تعجبت إلى حد الصمت، وظلت تتابعني وأنا أرقص، كانت حركاتي ساكنة مع صفير هين بالإيقاع. لا أعرف، هل كان رقصي توترا أم سعادة؟ وان بدت نظراتي بعيدة جدا عنها، نحو باب الغرفة المحكم..
حتى انفلت لساني وقال:
"الشعر هو حياتي، أنا وهو شيء واحد، أنا شاعر!"
سحبت طرف قميص النوم من تحتها، استدارت لي، هبطت إلى الأرض، وقفت، اقتربت منى بحذر، كأنها تخشى حيوان مفترس.. لم تلتقط ناظري، بينما سحنتي تشيح إلى هناك، لم تنطق، ولا أدري ما كان يدور فى رأسها من أفكار، ولماذا بكت؟
بكت بحرقة لم أراها عليها طوال فترة زواجنا:
"هوني عن نفسك، أحبك.. هل تبكي لأنني أسأت إليك إلى هذه الدرجة؟"
"لأن جوليا هزمتني!"
"صدقيني، ليست منافسة لك"
"إذن لا تحادثها على الشات.. أما عبثها فى بيتي، أنا وحدي قادرة عليه"
لم أنبس، شعرت برغبة ملحة أن أجلس على طرف السرير.
تابعت:
"أرفض أن لا يتعلق بحياتي، ويلاحقني فى كل الأوقات، وفى كل مكان من بيتي، سوى سؤال وحيد، وكرامتي تمنعني أن أبوح به:
هل تحادث جوليا يوميا.. هل تراها ها هنا فى بيتنا؟!
ماذا أستطيع أن أفعله لك؟"
- أجد فى رأسي ما أجيب به، فلما انتبهت، فرأيتها ترمش عينيها بعصبية واضحة، عادة جديدة تكن عليها من قبل، لعلها كانت ولم انتبه إليها.
لا أدري، هل ما انتابني الآن هو شعور بالشفقة عليها أم على أنا؟!
هذا هو لب الموضوع وجوهره الآن.. هناك آلافا من الناس بل ملايين منهم يتعارفون كل يوم عن طريق الشات، لا أنا ولا أنت نستطيع أن نعرف الحقيقة، هل كل ما يحدث ويدور من أحاديث صادقة وقادرة على أن تجعلنا أكثر تحررا بسبب ما نبوح به ونعبر عنه.
لم تمهلني طويلا، تابعت بحرص شديد:
"أنا لست خبيرة فى هذه المسائل، ولا أستطيع أن أدلى برأي فيها، لكن ما تقوله أمر رائع"
.. "ولماذا هو رائع؟"
"لأنك فسرت لي ما تفعله فى الليل دون أن تدرى.."
.. "وماذا كنت أفعل؟"
"كنت تردد اسمها وتعيد كل ما دار بينكما على الشات، وأحيانا كانت تسقط بعض الكلمات، لكن لم يسقط معنى ما كان يدور بينكما!"