وقد سير أشغال هذا اللقاء الناقد والروائي المغربي شعيب حليفي، مستعرضا بعض معالم المجز النقدي لعبد الله إبراهيم: ومنها مشروعه الذي توج به عمله، بإصدار" موسوعة السرد العربي" من 4000 صفحة وفي تسعة (9) مجلدات كبيرة هي خلاصة جهد نقدي تحليلي يقوم على رؤية ثقافية للظاهرة السردية. تبرز الكيفية التي يتشكل بها النوع الأدبي ثم يستقيم ويهيمن ثم كيف يتحلل، ويتفكك، ويتلاشى، وينبثق نوع جديد في أعقاب النوع القديم.والهدف منها استنباط القواعد الكبرى للسرد العربي من خلال هذه المرويات والمدونات السردية..وقبلها 24 كتابا وأكثر من 400 بحثا علميا في كبريات المجلات العربية، ذكر منها مؤلفاته الأساسية؛المركزية الغربية(المركزية الإسلامية: صورة الأخر في المخيال الإسلامي، الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة،السردية العربية الحديثة،النثر العربي القديم، موسوعة السرد العربي،الرواية العربية: الأبنية السردية والدلالية، التخيل التاريخي،السرد النسوي، السرد والهوية والاعتراف...
وقد استهل اللقاء بمحاضرة للناقد العراقي د/عبد الله إبراهيم، والتي عبر من خلالها على سروره بالتقاء النخبة الخيرة ذات التعليم الأكاديمي الرصين في مدينة الدار البيضاء، وبكلية الآداب بنمسيك التي ارتادت حقل الدراسة السردية، وأثرت وعمقت الدرس السردي في المغرب وسائر بلاد العرب. وتمحورت مداخلته حول الحديث عن أمرين يكثر الحديث عنهما ويستحقان أن نجري لهما تقليبا ـ على حد قوله ـ وهما السرد والسردية، باعتبارنا ننتمي إلى ثقافة أنتجت تركة سردية عظيمة وجليلة بلغة طويلة العمر (منذ 1500 عام)، لا تماثلها لغة حية يوجد فيها تداول العلم والمعارف بهذا العمر المديد، لكن لم نتوصل للأسف لطريقة منهجية لقراءة هذا التراث.
واعتبر المفكر العراقي أن الدراسات السردية العربية الموجودة أفرزت اتجاهين:
الأول: طرائق سردية جهزها لنا الآخرون، وتتمثل في الدراسات الفرنكوفونية والأنجلوسكسونية، والتي انبهر بها عدد من الباحثين، معظمهم من المغرب الذين يرون بشرعية هذه الطريقة، القائمة على الاستدانة والاقتراض من أنظمة سردية جهزت على قاعدة الأمم الأخرى.
الثاني: يرى بأن الطرائق تختلف ولا يمكن أن نأخذ بطريقة اشتقت من نصوص أنتجت في ظروف مختلفة لها خصوصياتها.
ولم يعمد عبد الله إبراهيم إلى التفاضل بين الاتجاهين، لكونه ينقل السجال، تاركا الحكم والبت في الأمر لتاريخ النقد والأدب ليسقط الطريقتين أو يختار إحداهما.
ليعود الناقد ويجيب بعد ذلك بشكل غير مباشر عن اختياره للاتجاه الثاني من خلال عودته للدلالة اللغوية والاصطلاحية للسرد في اللغة العربية وفي ثقافتنا والتي اقترنت بالنسج وحسن الصوغ والبراعة في أخذ الخبر، والإجادة في سبك الكلام، ومراعاة الدقة في بنائه والإبلاغ عن القصد منه، وهي معان عمل على استنباط دلالتها من القرآن الكريم والحديث النبوي وأقوال الشعراء...
وانطلاقا من هذا التعريف، اعتبر أن السارد هو من يجيد صنعة الكلام وصنعة الحديث، فلا يراد بالسرد الإتيان بالأخبار بل إيرادها بتركيب بديع سليم، ومن ثم كان الحكم على مجموعة من الأعمال السردية أنها هدر وليست كتابة، مادام ما سماهم بغشماء السرد لا يفهمون معنى السرد.
وحدد د/عبد الله إبراهيم تعريفه للسرد في أن هذا الأخير لا يستقيم إلا بالسردية، عبر وظيفة الوصف التي يؤديها المصدر الصناعي، وأن السردية مدخل مرن لدراسة النصوص السردية، وهي تساعدنا في دراسة الأساليب والأبنية ودراسة الدلالة والمحاضن الثقافية التي تنبثق منها النصوص؛ ومقوماته: الراوي، والمروي (النظام الحكائي)، والمروي له. كما نبه أن السردية ليست علما، لكون القول بالعلمية لا يصمد أمام الفحص، ويمثل سلطة بينما النصوص لا تمتثل لنظام جامد ثابت، ومن ثم دعا الباحثين إلى التحرر من السلطة اللاهوتية التي تحطم وظيفة الأدب، كما كرسها مجموعة من النقاد الغربيين مثل جيرار جنيت وتودورف وغريماس... الذين تخلى بعضهم عن الكثير من آرائه السابقة.
ويكمن البديل الذي يطرحه د/ عبد اله إبراهيم في إثراء السردية عبر رفض القول بوجود نظام ثابت يوقف تجدد النصوص، وتعميق قدرة الناقد ومنهجه وثقافته وأهدافه التي يتوخاها. مؤكدا أنه من الرافضين للنظرية، وأنه لا يدعو إليها مادامت صندوقا مغلقا، ومادام الأدب لا يمكن سجنه في صندوق، كما لا يمكن جعله في المشرحة، ونشرحه كجثة هامدة. وختم الناقد العراقي محاضرته بتقييمه لسيرورة وصيرورة السردية العربية التي بلغت ربع قرن، وانتقلت من الفشل والانكسار لتصبح لها هوية، مجددا ثقته بالتاريخ والإنسان وأن الدرس السردي سيتطور ويتأصل من طرف المنخرطين في الدراسات السردية.
وفي الشق الثاني من اللقاء، فتح النقاش للحضور لمحاورة د/ عبد الله إبراهيم، حيث تناول الكلمة مجموعة من الطلبة الباحثين والنقاد؛ ومنهم: إبراهيم أزوغ، وسالم الفائدة، وأحمد بلاطي،ومحمد أيوب، وأنس هاشيم، وعبد النبي غزال، وسلمى براهمة، وعثماني الميلود، وغيرهم، تناولت أسئلتهم وتدخلاتهم مسألة نشأة الرواية العربية، وعلاقتها بالرافد الغربي، ومستقبل السرد بعالمنا العربي وضرورته في حماية الأمة العربية، وعلاقة التخييل التاريخي بالرواية التاريخية، ومصطلح السرديات الكبرى، والكتابة النسوية، ...وكذا مساءلة الناقد عن مشاريعه المستقبلية.
وفي مستهل إجابته عن هذه الأسئلة، جدد عبد الله إبراهيم التأكيد على طموحه في استخلاص المشترك العام للنظم السردية، وعناصرها الثلاث: الراوي والمروي، والمروي له، والتي تشكل مرجعية أساسية أساسها ديني، نابع من الخلفية الشفوية لعلوم الدين، كما توضح الصلة الكبيرة بين التخييلات السردية والمرجعيات الواقعية الدينية، لكون الآداب العربية نشأت في محضن ديني (الحديث النبوي)، وانهارت بعد ذلك الأنواع، وانبثقت الرواية العربية التي لا يوجد دليل على أنها نشأت بتأثير من الرواية الغربية.
ودعا عبد الله إبراهيم إلى التفكير بمستقبل الرواية العربية، ومساهمتها في الرواية العالمية، لكون تيار السرد اليوم يمر بأمريكا اللاتينية واليابان ... دون أن يعرج على عالمنا ولغتنا، وإن كان هناك الكثير من الروائيين، فإن منهم الكثير من الغشماء على حد تعبيره.
وشدد الناقد على ضرورة الفصل بين مفهوم الرواية التاريخية الذي أصبح متجاوزا، وبين مصطلح التخيل التاريخي، وذلك انطلاقا من وظيفة الأدب التي اعتبرها رائد الرواية التاريخية جرجي زيدان وصفا للتاريخ وتقييدا له، وبين وظيفته عند نجيب محفوظ حيث أمكن الحديث في أعماله الروائية عن التخيل لمرجع واقعي. مبرزا دور الرواية الموازي للتاريخ في الحفاظ على الذاكرة، مثلما يفعل اليوم كتاب فلسطين والعراق حين يعملون على تشكيل بلادهم رمزيا من خلال السرد.
وفيما يخص سيرورة مشرعه النقدي والإبداعي، أشار عبد الله إبراهيم أنه قبل ثلاثين سنة كان يرى أن براعة الناقد تتمثل في فرض المنهج على النصوص، أما الآن فيحاول أن يتوارى خلف النصوص، ويتركها تكشف عن نفسها. كما أن القراء سيطلعون قبل نهاية السنة على جديده الإبداعي، وهو سيرته الذاتية التي تحمل عنوان "أمواج" وتمتد على مساحة ورقية قدرها 573 ورقة، باللغتين العربية والإنجليزية.