هل فهم العالم كارل ماركس حقا؟ هل هناك قراءة واحدة فقط لكارل ماركس لا غير؛ مثل الكتب الدينية، وما يخالفها يعد هرطقة؟ هل ولد كارل ماركس [1818- 1883م] في زمن معين اصبح في حكم الماضي، وانتهى جزء من مكتبة التراث؟ هل انتهت الفلسفة حقا من البحث والتداول، ولا مكان لأفكار ماركس في زمن ما بعد الحداثة؟
في كتابه [Why Marx was Right] يناقش [Terry Eagleton] بعض هاته الاسئلة ويرد عليها باصرار محارب روماني، مؤكدا حيوية ماركس الابدية، وانه سبق ان تنبأ وكتب عن العولمة وتحرير المرأة وازمة الراسمالية والدين في زمن، لم يكن مصطلح [ازمة] قد عرف وشاع بالمفهوم المتداول اليوم. نحن -العالم- بحاجة لقراءة كارل ماركس كل يوم واستكشاف افكار ومفاهيم جديدة ومتجددة يمكن من خلالها الحصول على حلول للازمات الراهنة والمتعاقبة التي تمرحل التاريخ. وليس أخيرا .. لماذا يجوز للرأسمالية ان تتأزم وتجد مخارج لازمتها – من داخل او خارج ذاتها- ولا يجوز للفكر الاشتراكي ان يمر بأزمات ويجد لها حلولا – من داخله او خارجه.
ليس من حق احد حصر حق قراءة ماركس بلينين أو تروتسكي وبضعة اخرين، واضفاء صفة المطلق المقدس على قراءة كل منهم. نريد قراءات جديدة تضيف وتعدل وتخطئ، بدل معيارية الابيض والاسود، واعتبار مصير البشرية طريقا ذا ممرين لا ثالث لها. واذا كانت الرأسمالية ذات نسخ متعددة، فلماذا لا يكون للاشتراكية نسخ متعددة؟
ان اقدام ستالين على غزو أوروبا الشرقية والحاقها بمعسكره سياسيا، لا يعني صحة الايديولوجية الستالينية حسب كراريسه التي تحولت الى اسفار قانونية مقدسة لأحزاب الكومنترن. لقد سهل جوزيف ستالين بقراره العسكري، سقوط الاشتراكية والماركسية والشيوعية بضربة واحدة. وحتى اليوم لا يعرف ملايين البشر، لماذا وكيف حدث ذلك حقا. ان غياب الجهد الفكري والتنظير الماركسي الجاد، منذ عقد التسعينيات المنصرم، دفع الشرائح العادية الى ترديد وترويج الاتهامات الغربية والمنتجات الاعلامية حول الفساد والاستغلال والمحسوبيات الحزبية وانعدام الديمقراطية وما شابهها، وكأن هاته المظاهر السلبية لا تعشش في قلب البلدان الرأسمالية والاقتصادات الغربية المتفاقمة حتى اليوم. ولكن البلدان الغربية تجيز لنفسها تبرير اخطائها وفضائحها، وتحرم اعداءها من حق الدفاع والوجود.
ما نحتاجه اليوم هو اعادة قراءة ماركس. بعبارة اخرى، نحن بحاجة لقراءة شرقية، بعيدة عن التلوث الغربي الذي ما زال يزعم عدم وجود علم وفلسفة وتحليل معرفي وبحث جاد الا باستخدام الادوات المعرفية الغربية، والا باستخدام الحاسوب والنت الاميركي ومحرك بحث غوغل لا غير. إن الشرق بحاجة ماسة لاستعادة روحه وهويته وذاته، بدل التبعية الخرقاء التي اصطنعها عصر الاستعمار والثقافة الكولونيالية. لنتعلم – مجددا- التفكير بعقولنا وادواتنا، وليس بالاعتماد على العقل الغربي والادوات المعرفية التي انتجتها الجامعات الغربية، وروجتها عبر جيوش من حملة شهاداتها منذ القرن العشرين، فكانت النتيجة، مزيدا من التخلف والانحطاط والتبعية العمياء، في الثياب والطعام والسلوك وادارة الحكم واساليب العبادة الدينية.
نحن – الشرق والعرب- نحتاج صدمة شمولية للاستيقاظ واستعادة الوعي والذات المغيبين باستمرار، حتى تجاوزنا حالة الاغتراب عن الذات، الى الانفصام الكلي عن انفسنا وجذورنا الثقافية. ولا نتساءل، لماذا يفتخر الغرب ويعتز بجذوره الاغريقية واللاتينية، ويسوّقها عولميا، ولا نجرؤ نحن على استعادة هوياتنا الحضارية والقومية، علما ان جذور المدنية والحضارة بدأت لدينا، قبل انتشارها نحو الاغريق والرومان وعصر النهضة الاوربية.
لقد كان تبنى الشرق لأفكار ماركس الاشتراكية سابقا زمنيا على الغرب، الذي اختار معاداته، وانحاز للشق الثاني/ المادي الكولونيالي من استنتاجاته العلمية. وطيلة وجود المعسكر الاشتراكي – السوفيتي والصيني- كان معسكرا شرقيا – مقابل جهة الغرب- بالنسبة لأوروبا والولايات المتحدة. وعلى الشرق نفسه، استعادة ماركس وافكاره، من منظور شرقي بحت، منعتق تماما من اية إملاءات واسقاطات غربية، اقتصادية وسياسية. لقد حاول البعض، درجا على منتجات الثقافة والاعلام الغربي، اعتبار [دراسات ما بعد الماركسية] هي اخر ما يمكن استفادته من فكر ماركس، وهو اجترار اكاديمي غربي سمج. اكثر منه، نحن بحاجة لمفكرين ومنظرين يكملون ماركس ويضيفون لأفكاره، دون تصنيم تلك الافكار واحاطتها بهالة التقديس والمعصومية.
ثمة مسافة نظرية لا بد من اعتبارها بين ماركس والماركسية، كما بين الاشتراكية والشيوعية، فضلا عن التمييز بين الفلسفة والاقتصاد والاجتماع؛ كما بين الحزبية والايديولوجيا وبرامج الحرب الباردة للقرن العشرين. لقد شكل ظهور جوزيف ستالين على راس الحزب والدولة السوفيتية، طعنة النهاية في قلب ماركس والفلسفة الاشتراكية في الجامعات الغربية، بعدما كانت الماركسية وتجلياتها مصدر عزاء واستنهاض ومفتاح استعادة الذات والوعي في جنوب العالم وشرقه.
ولا غرو ان يتم تشييع ماركس واستبداله بكراريس المعلم ستالين الذي طبعت شخصيته العسكرية الدكتاتورية غير قليل من انظمة وحكومات انتهت اليوم الى شر مصيرها. وفي نفس الوقت، -وهنا المفارقة- ان تولد الاحزاب الشيوعية العالمثالثية من رحم كراريس ستالين، وتبقى وفية لجموده الفكري وسطحية رؤاه وضيق افقه للولاء والانضباط العسكري للتنظيم الحزبي. وبينما سقط ستالين والاشتراكية والامبراطورية السوفيتية ذلك السقوط المريع، تستمر الشيوعية الستالينية وعصبيته الحزبية خارج الجغرافيا التقليدية للمعسكر الاشتراكي، دون تغيير يذكر في الاهداف او الاساليب، سوى استسلام البعض للبراغماتية الغربية.
ان ما سقط بقرار ميخائيل غورباتشوف (1989م) هو الشيوعية السوفيتية الستالينية المنغلقة على مفاتيح الحداثة والتمدن الاجتماعي العصري. وقد استتبع سقوط الحزبية الستالينية: (الاشتراكية الاممية)، برنامج غربي لإسقاط جملة الانظمة الحزبية الستالينية (الاشتراكية القومية) الموسومة بالدكتاتورية والانظمة العسكرية، التي جعلت من المنطقة العربية حديقة خلفية للمصالح الغربية والمارينز الانغلوأميركي.
واذا كان القدر قد اظهر بوتين على روسيا الجديدة وميركل في المانيا، فأن البلاد الاخرى استسلمت للتخبط والتمرغ بأيدي موظفي الادارة الاميركية وصنائعهم. اما على الصعيد الوطني والسياسي والفكري فلم تظهر منذئذ، شخصية قيادية عصرية، قادرة على انتشال بلدانها من وحل السقوط، وتبني موقف وخطاب تاريخي مناسب يتصدى للإمبريالية الغربية وسياساتها التدميرية التي اعادت العالم لما قبل مرحلة الاستعمار.
ليس هذا مجال تحليل ما حصل في العراق ومحيطه العربي، ولكن ما حصل، فاق كل التوقعات، بما فيها التوقعات الاميركية نفسها، التي طالما تخوفت من التعرض المباشر للعراق، وقادته على نار هادئة مدة ربع قرن قبل تحشيد قوات اممية لغزوه، على ظهور فيالق من الطابور الخامس المنتظم تحت عنوان [معارضة صدام]. فسقوط العراق – بالمناسبة- ارتبط بسقوط موسكو والمعسكر الاشتراكي، وما كان له ليحدث في ظل وجود دولة قوية في موسكو، كما هو نظام بوتين الذي غير مقاليد اللعبة الدولية في سوريا وشرق المتوسط اليوم.
فالتعميم، بسحب الاشتراكية والماركسية، كفلسفة اقتصادية واجتماعية، على عارضة الشيوعية الستالينية ودولتها البوليسية، يناقض المنهج الاكاديمي والفكر الجاد لفهم المتغيرات الزمنية وثوابت التاريخ. واذا اريد بذلك الهروب للأمام، تساوقا مع لغة الاعلام الغربي، وذر الغبار في العيون عن مراجعة طبيعة الحزبية الشيوعية ومواقفها من القضايا المحلية وحكوماتها البلدانية.
فالتحالف الغربي الذي استهدف اسقاط التجربة والدولة السوفيتية، وجد في صفوفه احزابا شيوعية تنحاز لليمين الرأسمالي لإسقاط الانظمة الوطنية في بلدانها. هذا الموقف اللاستراتيجي، اكثر تعقيدا وخلافية، من موضوع غير منطقي اخر، هو انخراط احزاب اشتراكية وعمالية غربية ضمن التحالف الامبريالي الاميركي لإسقاط انظمة عالمثالثية.
سمعت غير شيوعيين عرب يتقبلون سقوط الاشتراكية السوفيتية على خلفية بعض مظاهر الفساد الاداري الحكومي وغياب الدمقراطية الغربية، ولم يعن لهؤلاء تبرير انحياز احزابهم للتحالف الامبريالي الغربي، على اساس العصبية والثأر لهزائم الماضي. وعلى رغم كثرة الانشقاقات الحزبية والايديولوجية منذئذ، واستناد تلك التيارات لأسباب فكرية وقراءات سياسية منطقية، فلم يعن لحزب او تيار او جماعة حزبية او شيوعية او ماركسية او اشتراكية الدعوة الى ندوة وطنية او عربية او مؤتمر فكري لدراسة راهن الحركة الشيوعية والاشتراكية ومستقبلها. وفي نفس الوقت ثمة انزياح شيوعي ويساري متزايد لليمين الراسمالي والخطاب الامبريالي الاميركي.
والسؤال هنا، هل كان للمعسكر الاشتراكي ان يسقط بقرار شخص واحد، لو لم تكن الحزبيات الشيوعية من منتجات الكومنترن السابق بهاته الهشاشة والسطحية والتذبذب؟ يبدو انه، باستثناء نوري السعيد وعبد الناصر، فان الانظمة القومية العربية قد منحت الاحزاب الشيوعية العربية حجما وهالة اكبر من الواقع. وبالتالي، استفادت الشيوعية العربية من الاطار الشيوعي العالمي لتجارب اخرى اكثر رسوخا واصالة مثل كوبا وكوريا وفيتنام، فضلا عن دور الادب والاعلام الشيوعي في تهويل الصورة. والسؤال هنا، هل تستحق تلك الحزبيات والجماعات ان تقفز بين الفرقتين، وتستجدي مكانا في أي محاولة نهضة اشتراكية مقبلة في مجال البحث او العمل، بعد ان ساهمت في نسف تلك التجربة. ان ستالين نفسه، لو قدر له العودة، سيعرف كيف يبت في امر هؤلاء، من غير تهوين!.
الاشتراكية ليست بورصة سياسية او دعاية سلطوية، بقدر ما هي خبز الفقير وكرامة المستضعف، وانصاف المظاليم والمهمشين في النظام الاجتماعي والاقتصادي. أي ان الاشتراكية ينبغي ان تكون فلسفة تربوية اجتماعية اخلاقية انسانية، بعيدة عن البرامج الحزبية الانتهازية، وميكافيللي الحكم والتسلط.
ان الطريق للاشتراكية يبدأ بالعائلة الصغيرة/ الحاضنة الاجتماعية للطفل، ومنهاج قيم وعادات المشاركة والتعاون والانتماء الانساني المشرق، وتبني قيم المحبة والعدل والمساواة والزهد والتعفف، ونبذ الطمع والانانية والمادية والنزعات الاستهلاكية والتسلطية، وفي ذلك تتكون نواة مجتمع اخلاقي اشتراكي متماسك، ينمو ويتطور مع الزمن، وينتج قاعدة اجتماعية وهوية وطنية منسجمة في امكانياتها وطموحاتها، وبناء نظامها الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بالتدريج.
نحتاج قراءة ماركس بوصفه فيلسوفا وناقدا اجتماعيا، وفهم الاشتراكية فلسفة ومنهاجا اجتماعيا لبناء الانسان الفاضل الذي عملت في سبيله برامج التنوير. وكانت قراءة ماركس لراس المال من منظور تهديده للطبيعة الانسانية وتقويضه اسس الجماعة البشرية والاجتماع الانساني، كما هو حاصل اليوم تحديدا في أواسط العقد الثاني من الالفية الثالثة. وهو امر تنبأ به ماركس في حينه، ولكنه لم يدعُ لتسييس الاقتصاد وفلسفته الاجتماعية، كما انجرفت اليه الحزبيات، ونزعت عنها جوهرها، جاعلة من نفسها الوصي الروحي على أفكار ماركس.
وهذا يعني، ان لا ننتظر قرارا سياسيا، حزبيا او سلطويا، ببناء نظم اشتراكية، انما اعتبارها خيارا شخصيا شعبيا طوعيا، يتبناه عدد من اليساريين الاصلاء، لبناء مجمعات صغيرة تعتمد على الحرف والزراعة البسيطة، على غرار [حقول تولستوي] التي ظهرت في جنوب افريقيا وغرب الهند، وساهم فيها جماعات من المثقفين اليساريين والاجتماعيين، والتحقت بهم طبقات الفقراء والمعدمين، وكان المهاتما غاندي من رموزها، ومن وسائله لمقاومة الاحتكار الكولونيالي.
ويمكن الابتداء بتلك الظاهرة في اماكن انتشار الفقر والتشرد والانسحاق الاجتماعي بغض النظر عن الاسباب، وهي اليوم شائعة في مناطق العراق وسوريا وغيرها من بلداننا. ولابد لتلك المجمعات ان تبقى نزيهة عن اية احكام ايديولوجية او اسقاطات سياسية مسبقة، لتكون نواة صالحة للانتشار واجتذاب الجماهير، ليس الفقراء والمحتاجين فحسب، وانما الاغنياء والمقتدرين اقتصاديا، ممن يستعدون للتبرع بامكانياتهم الاقتصادية والانخراط في مجمعات تولستوي الاشتراكية اسوة بغيرهم.
الثورة الاشتراكية المقبلة سوف يصنعها الفقراء والمعدمون والطبقات المسحوقة التي تدفعها السياسات الامبريالية الانجلوأميركية نحو قاع القاع، حيث يزيد الاغنياء غنى، ويزداد الفقراء فقرا. هؤلاء لن يخسروا شيئا غير الأغلال. واليوم، عندما تتمخض الاشتراكية من رحم احتراقات الواقع وطبقات المجتمع الدنيا، ستكون اكثر مصداقية واصالة من الثورة السوفيتية الاولى التي احدثها نخبة من المثقفين، جمعت بين الخلاص الوطني ومفهوم خلاص الانسان مما يكبل كاهل كرامته.
الاشتراكية المقبلة ستبدأ من القاع، ولن تنزل من قمة السلطة، وفي ذلك هو مفتاح انتصارها وانتمائها، وبداية عصر الانسان الجديد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الكتاب صادر في لندن عام 2011م
* الثقافة الكولونيالية: كتاب ادوارد سعيد المعروف والمترجم باسم (الثقافة والامبريالية).
*[Tolstoy’s Farm] تسمية استخدمها الاشتراكيون الاوائل في مناطق المستعمرات، وظهرت في جنوبي افريقيا والهند.