صدر عن المؤسسة العربية للفكر والإبداع كتابا جديدا للدكتور طه عبد الرحمن تحث عنوان "سؤال العنف بين الائتمانية والحوارية"، وهو الكتاب الثاني في نفس السنة (2017) بعد "دين الحياء" في ثلاثة أجزاء، ويضم الكتاب 215 صفحة، خص القسم الأول لمسألة العنف، والقسم الثاني لمسألة الحوار وتدبير الاختلاف بالإضافة إلى تمهيد بعنوان "الفلسفة والعنف" وختمه بضميمة "الانتقال عندنا غير الإرهاب عند سوانا" كان قد خطها عام 2003، من غير قائمة للمصادر المراجع.
ليس موضوع العنف جديدا في المشروع الفلسفي للدكتور طه عبد الرحمن إذ تناوله ضمن موضوعات مختلفة في مؤلفاته، بدء من كتاب "العمل الديني وتجديد العقل" عام 1987، حيث حذر من آفات التسييس والتجريد والتسلُّف، حتى لا يفضي التدين إلى القسوة والتسلط والعنف، ونبَّه مبكرا إلى الحاجة إلى التخليق بالتسديد والتأييد، وفي الفصل الثاني من كتاب "الحق العربي في الاختلاف الفلسفي"(1)، حيث ميز بين ضربين من العنف يمكن وقوعهما في الحوار، وهما العنف الأشد الذي ينهي الحوار بالإكراه، سواء أكان إكراها ماديا قمعيا تُستخدم فيه اليد مُلحقا الضرر الخَلْقي بالغير، أو معنويا يتعلق بعنف اللسان مُلحقا الضرر الخلُقي بالغير. أما العنف الأخف أو العنف اللطيف، وهو فض الاختلاف بطريق غير تدليلي أو عبر تحكيم طرفٍ ثالث، حكمًا كان أو حاكمًا أو وسيطًا(2).
غير أنه ولأول مرة يُفرد لسؤال العنف جواباً مكتمل الأركان يستحضر مختلف الأسئلة والوقائع والمواقف والمشكلات المتصلة بقضايا العنف في عالمنا المعاصر، وينظر من موقعه الفكري والعلمي في دوافعها الاعتقادية والنفسية والواقعية، وينبه إلى امتداداتها السياسية والاجتماعية على الفرد والجماعة والإنسانية، ليقترح البديل النظري والعملي لمعالجة مشكلات العنف من جذورها، بدءا من معرفة نفس الشخص العنيف وعقله من أجل الدخول معه في حوار عاقل يُتوج بإحداث تغيير نوعي في تفكيره وسلوكه.
الفلسفة في مساءلة العنف
إذا كانت الفلسفة عبارة عن ممارسة عاقلة وكان التعاقل فعلا حواريا استدلاليا وكان العنف ضد الدليل، فإن الفلسفة ضد العنف "فلا فلسفة حيث يوجد العنف، ولا عنف حيث توجد الفلسفة"(3)، ولما كانت الفلسفة تتغيى الوصول إلى الحقيقة فإن الحقيقة تقابل العنف، إذ الحق لا يتعارض مع الباطل بقدر ما يتعارض مع العنف.
تُطلب الحقيقة بالتحاور والتعاون، لا بالتعانف والتناكص، لذلك يُلام "المتسيِّسون" لأنهم ينشغلون بالتوتب نحو السلطة وهم معرضون عن بعضهم البعض، ناكصون عن التحاور والتعاون، يحبون "التسيد" بالسلطة قبل استكمال "التخلق" في المجتمع، مما يوقع الإنسان في استسهال تعنيف أخيه الإنسان وأشد ما يكون التعنيف باسم الإيمان. فما السبب في وقوع هذا التسلُّط والتعنيف؟
يرى الدكتور طه عبد الرحمن أن التسلط بدأ تاريخيا بـ"حُبِّ الدنيا" وإيثارها مع قصة بني آدم قابيل المتسلِّط وهابيل المتسلَّط عليه، ثم استأنف العنف مسيرته عبر التاريخ، رغم دعوات الأنبياء والمصلحين وإلحاحهم على السِّلم والمحبة والرحمة للعالمين، وهي الرسالة التي تسعى "الفلسفة الائتمانية"(4) إلى حملها في عالميتها ومثاليتها، مستمدة أصولها من "روح الثقافة الإسلامية والتجربة الإنسانية" لمعالجة أدواء عالم العنف أو قل "العالم القابيلي" وإنشاء عالم السلم أو "العالم الهابيلي"، ولكل عالم قوانينه وصفاته.
العالم القابيلي: وهو عالم عنيف لا ينضبط إلا لقانونين خاطئين هما: قانون الإحاطة وصيغته "أن كل شيء سياسي"، وقانون الشمول وصيغته أن "كل واحد سياسي"، والصفات الغالبة عليه هي أنه عالم المصالح المادية الخالية من الأخلاق، وعالم التنازع والنفاق، والعالم الذي هذه صفاته لا شك ينتهي بأهله إلى "الهلاك" عنفاً.
أما العالم الهابيلي: على عكس العالم السابق فهو محكوم بقانونين سليمين هما: قانون عدم الإحاطة وصيغته "ليس كل شيئ سياسي" إذ السياسة مجال مخصوص إلى جانبه مجالات أخرى لا تقل أهمية عنه، بل قد تفوقه، وقانون "ليس كل واحد سياسي"، لأن قلة من الناس من يشتغل بالسياسة وليس العكس، والصفات الغالبة على هذا العالم هي أنه عالم يخلو من التسلط والتسيُّد والعنف وحُب التملّك.
هذا التصور الائتماني القائم على تفكير ملكوتي(5) تندغم فيه وتتآلف أعمال القلب والعقل والروح والنفس، فيقرن بين عالم الأسباب وعالم الأسرار، ويتصل فيه عُمق التدين بعُمق التفلسف، ويجتمع فيه الوجود بين الخلق مع الوجود عند الحق، والفلسفة التي تحمل هذا التصور هي "الفلسفة الائتمانية" التي تؤمن بـ"وحدة العقل" التي تصدر عن "وحدة القلب"، مع أن العقل يوجد على مراتب متفاوتة وليس على مرتبة واحدة. مع العلم أن القلب يتصل بالنفس فينتج أفعالا عقلية نفسية أفقية تدرك ظاهر العالم وأسبابه أو عالم الـمُلك، وهذه العملية شبيهة بعملية الإسراء، ويتصل القلب بالروح فيُنتج أفعالا عقلية روحية عمودية تدرك باطن العالم وأسراره وهو عالم الملكوت، وهذه العملية شبيهة بعملية المعراج، من غير إمكان الانفصال بين عالم الملك وعالم الملكوت على خلاف التصور الأفلاطوني.
النظر الائتماني للعنف البشري
بعد التوطئة للموضوع بهذه المقدمات انتقل الدكتور طه عبد الرحمن في القسم الأول من الكتاب والذي هو عبارة عن حوار طويل أجرته معه المؤسسة العربية للفكر والإبداع، إلى تطبيق قواعد التفكير الائتماني على موضوع مخصوص هو العنف باعتباره وصفا يخص الإنسان دون غيره من الكائنات، عبر حوار فلسفي مركز على صفات الشخصية العنيفة في المجال الإسلامي العربي، بعدما تناول الأسباب السياسية للظاهرة في كتابه الماتع "روح الدين"، مستخدما نفس الآليات الإنتاجية التي يستخدمها الفلاسفة في إنتاج فلسفاتهم، واعيا بأن العقول تختلف في المضامين أما "الآليات تشترك العقول جميعا في إنتهاجها"(6).
الفلسفة الائتمانية هي نظر فلسفي يشترك مع جميع الفلسفات في الآليات الإنتاجية ويختلف عنها في الأصول المرجعية المؤسسة والنتائج المعرفية المستخلصة، فالنظر الائتماني هو نظر أخلاقي يُسلم بعالمية الإسلام وخاتميته، ويسع جميع الأفعال البشرية والقيم الإنسانية المشتركة بين جميع الناس، مادامت الأخلاق هي أساس الهوية الإنسانية لا مجرد فضيلة مضافة إليها أو خصيصة لأمة بعينها. ومن ثمة فإن مواجهة العنف مسؤولية جميع الناس في جميع الأزمنة والأمكنة والأجيال.
آفة الشخص العنيف أبدا هي التردي بين الظلم والجهل، فهو لما يعتدي على حدود غيره يصير ظالما وللناس أجمعين، وعندما يعمى عن مآل عنفه عليه وعلى ضحيته يكون جاهلا، هذا إن لم يبلغ العمى مداه فيتلبس الرفق بالعنف حتى يظن العنيف أنه يمارس الرفق بعنفه، فيلبس الحق بالباطل ويكتم الحق وهو يعلمه. وقد سمى ماكس فيبر العنف المقنَّن بـ"العنف المشروع" وهو ما اعترض عليه الدكتور طه من وجهين؛
أولهما: أن العنف شر أخلاقي يحط من كرامة الإنسان، ولا يصح وصفه بكونه مشروعا، كما أن نسبة العنف إلى الدولة تشريع للعنف، على خلاف ما يصيب مَن ارتكب جناية أو جرما عن طريق المؤسسات القانونية الذي هو أذى لا يمس كرامة الإنسان وإنما يُهذبها.
وثانيهما: أن العنف إيذاء مميت للإنسان، بينما الإسلام وهو مرجعية المسلم في الاعتقاد والاشتغال يجعل من القصاص وهو إيذاء مستحق حياة له.
العنف اندفاع جاهل والقوة طاقة عاقلة
يلتقي طه مع غاندي في كون العنف رذيلة وإذا ما شرعته دولة ما فإنما هي دولة ظالمة تستغل سلطتها لغاية تسلطية، على خلاف القوة التي هي فضيلة توضع في موضعها من غير ظلم، فـ"سلطة الدولة تكون قوة متى لزمت صراط العدل، وتكون عنفا متى حادت عنه، وحينئذ يجوز أن نقول: عنف الدولة في مقابل قوة الدولة"(7)، ونفس القاعدة تسري على الأفراد والجماعات، فالقوة سواء تعلق الأمر بالفرد أو بالجماعة طاقة روحية عاقلة تحفظ بنية الذات وتنضبط بالقانون، بينما العنف اندفاع نفسي جاهل يفسد بنية الذات ويُدسيها ويتعدى الحدود. وبناء عليه يكون الكيان قويا إذا كانت تسكنه روحا طيبة، ويكون عنيفا إذا كانت تسكنه نفسا خبيثة.
العنف رذيلة واللاعنف فضيلة
بالإضافة إلى التعريفات التي حدَّت العنف بإلحاق الأذى أو ربطت بين العنف والظلم أو قابلت بين العنف والعقل، يمكن القول بأن العنف ممارسة ظالمة وجاهلة كما هو الحال في مقتل هابيل الذي انحاز لمشروع "اللاعنف" في أول الظهور الآدمي وبداية التشريع الإلهي، وكأن العنف انقلاب على القانون وتجاهل له كما فعل قابيل لما سولت له نفسه قتل أخيه، أي قتل الإنسانية ونزع التكريم عنها حتى سقط من رتبة الإنسانية إلى رتبة دون رتبة البهيمية هي رتبة "الإبليسية" حيث الإغواء والعراء. وهنا يلتقي صاحب سؤال العنف مع المهاتما غاندي في فلسفته السلمية التي ترفض العنف دون أن تتنازل عن الحق في مقاومة الباطل سلميا وكسر شوكته(8).
وكل قاتل هو مشارك في ذيوع القانون القابيلي الإبليسي وتجديد له، والمجدد كالمحدث، يستأنف منهجه في العالمين فيؤذي الناس أجمعين، سواء بقوله القطعي أو بتجسيده العملي، إذ القول تشريع للفعل ونشر لثقافته، وعليه يكون "كل تشدد هو بالقوة إرهاب"(9).
الطغيان جمع بين الظلومية والجهولية
لعله أخطر أنواع العنف هو ذاك الذي يصدر ممن يفترض فيهم التخلق بأخلاق الإسلام والإيمان، وهو العنف الديني أو العنف بدوافع دينية وهو الأشد فُحشاً من غيره لأن صاحبه يتجاوز ظلم الخلق إلى ظلم الحق سبحانه ومنازعته في جبروته. وأكثر قبحاً لجمعه بين الجهل على الخلق والجهل بالحق سبحانه، فيصير العنيف جبارا جامعا بين صفتي "الظلومية" و"الجهولية"، أي ظلوما وجهولا، يحب التربُّب على بعض الخلق وتكفير الآخرين، مدعيا الولاية على الناس والوصاية على العقول، مما يسوغ له ولأصحابه التقتيل والتعذيب بأبشع الأشكال وفي حق الأبرياء في كل مكان.
العنف جهل بالأسباب الموضوعية والمقاصد الشرعية
لما كان عالم الملكوت عالم مواثيق بين الخالق والمخلوق، تجمع بيت التصديقات والتصرفات، منها ميثاق الإشهاد وميثاق الائتمان، فإن الشخص العنيف يتجبر في ملكوتيته قبل مُلكيته، فينازع ربه منازعة مزدوجة، ناتجة عن فساد مزدوج؛ فساد في فهم النص، وفساد في فهم الواقع، إليه يرد مظهر التشدد في الدين والإسراف في الإيذاء، فالعنيف لا يعرف المقاصد الشرعية ولا يعمل بمقتضاها، مثلما لا يعترف بالأسباب الموضوعية ولا يأخذ بها. مجنون بتعظيم نفسه واتهام غيره، لذلك لم ينجح أهل العلم في إقناعه كما لم يفلح أهل السلطة في إقماعه. فما سبب هذا العجز المزدوج؟
استفحال العنف بين عجز العلماء وعجز الحكام
عجز العلماء عن إقناع العنيف بخطإ تصوره وفساد اعتقاده فضلا عن سوء فعله وفحش عمله، لاقتصارهم على النموذج التقليدي (الأمري) في فهم الدين والذي يُصدر الأوامر والأحكام كأنها قوانين فقط، و"معلوم أن العلاقة الأمرية علاقة تسلطية بامتياز، إذ لا تدع للمأمور خيارا، ولا حوارا"(10)، حيث سادت ذهنيات عليلة لا تحاور ولا تدع من يحاور، لا تختار ولا تترك من يختار، نشأت في مجتمع "أمري" وألفت هذه الحالة "الأمرية"، التي لا خروج منها إلا بسلوك نموذج آخر غير الفقه الأمري، هو "النموذج الشاهدي" الذي يتأسس على الجمع بين "أولوية القيم الأخلاقية" و"أولوية معرفة الله" في إطار "علاقة حضور" مع الله باستحضار معيته وخشيته، وبين الناس بأن يشاهدوا أخلاقه في سلوكه، على خلاف العنيف الذي يغيب بنفسه عن ربه، فيتربَّب من حيث لا يدري، ويُغربها عن غيره(11) فيتكبر وهو يدري. حتى يصل به الأمر إلى الاعتقاد بأن جماعته هي "الفرقة الناجية" وغيرها فِرق ضالة كلها في النار! جاعلا من اعتقاده هو حق الاعتقاد ومن اعتقاد غيره باطل الاعتقاد، معتدا بحرفية النص لا بمقصده، ومعولا على صورية العمل لا على روحه. بل يحسب تسلطه من أجلِّ المقاصد في الدين والتنازع على السلطة من أهم الوسائل.
النفس العنيفة أمارة لا مؤتمنة
إذا تلبست نفس الشخص العنيف بالحالة الأمرية صارت "أمَّارة" إن اعتقادا أو اشتغالا، أي متصفا بصفتين مَرَضيتين أو قل شهوتين هما: "شهوة الـَميز العقدي" و"شهوة الـِملك العملي"، مخالفا لمقتضيات الميثاقين الملكوتيين "ميثاق الإشهاد" و"ميثاق الائتمان"، ومنها مقتضى "الوحدة في الاعتقاد" أو الاتحاد في التوحيد الذي اتحد بنو آدم في الشهادة به، بدل الفرقة فيه ونسبة الناس إلى ضده (الشرك)، ومنها "الائتمان على ما استُخلف فيه" بوصفها أمانات بدل أن يتملكها ويتصرف فيها بإطلاق وكأنها ممتلكات، نازعا عن الاستخلاف معناه الأخلاقي ولباسه الائتماني، فيقلب قيم الدين رأسا على عقب.
من عنف الاعتقاد إلى فساد الاستنتاج
جريا على عادته في التأويل البعيد والاستدلال الفاسد، يدعي الشخص العنيف -وهو الظلوم الجهول- أنه بعنفه يجاهد في سبيل الله اعتقادا واشتغالا! وهو ليس في الحقيقة سوى عبد نفسه في استساغة العنف الذي يسميه جهادا بالأسباب النفسية الآتية:
- الحقد على الحكام، وكراهية أصحاب السلطة
- شهوة الانتقام للأعداء، وطلب رد الاعتداء
- هوس تغيير العالم، وتحقيق الانتقال إلى الأفضل
مع العلم أن الدكتور طه نبه إلى:
- التمييز بين "الحقد على الحكام" الذي هو "موقف انفعالي غير عقلي" وبين "الاستياء من التسلط" الذي هو "موقف عقلي يستند إلى أدلة تسنده"(12).
- والتمييز بين "شهوة الانتقام" التي هي رغبة غير مشروعة، وبين "الانتصاف للذات" وهو فعل مشروع.
- والتمييز بين الهوس في التغيير الذي هو حالة مذمومة وبين ضرورة "إصلاح الأوضاع" الذي هو مطلب محمود.
ليتضح أن العنيف لا هو أصاب في قراءة النص ولا في استنتاجه منه، ولا هو أصاب في قراءة الواقع كما هو ولا في تفسيره، إذ ما يهمه من النص إلا ما يستشهد به على فهمه، ولا ينظر في الواقع إلا باعتبار ذاته.
من الإخلال بمقتضى الجهاد إلى الإخلال بمقتضى المجاهدة
إذا كان "الجهد عبارة عن الفعل الذي يورث الأخلاق"(13) وكانت المجاهدة هي بذل أقصى الجهد في التخلق، قصد التحقق من قيمتي "مخالفة النفس" و"محاسبة النفس"، فإن العنيف يخل بهاتين القيمتين من حيث انسياقه وراء انفعالاته واتباع هواه الذي يزين له سوء عمله فيراه حسنا، حتى يستوي عنده الحقد على الحكام مع بُغض الجور، وشهوة الانتقام من أعداء الأمة مع واجب دفع الشر، وهوس التغيير مع الاهتمام بأمر المسلمين. في حين أنه يعاني من تغلغل ثلاثة دوافع سلبية في لاشعوره المنسي وهي: دافع التسلط ودافع العدوان ودافع إثبات الذات.
الجهاد معرفة وإحسان
يستأنف الأستاذ طه تحليله وتفكيكه لمفهوم الجهاد وما يتلبس به من استعمالات سلبية نظريا وعمليا، ليستنتج أن العنف والجهاد ضدان لا يجتمعان، فالجهاد الحق يصدر عن العلم المـلكوتي (المعرفة) ويقصد إلى تحقيق العدل الملكوتي (الإحسان)، فهو جهاد إحساني، بينما العنف يُبنى على الجهل ويقصد إلى الظلم، وبناء عليه تكون القوة التي تعقل المعاني الملكوتية هي الروح، بينما القوة التي تعقل الظواهر الـمُلكية هي النفس، وشتان بين التعقلين؛
التعقل الملكوتي قوة، أي عبارة عن تعقل روحي عمودي أو قل: عروجي(معرفة)، إذ يتجه صوب الشيء فيطوف به ولا يبطش به بوصفه "قِبلة" وهذا هو مقتضى الجهاد. فالقوة جهد روحي لا بطش فيه، وذلك هو الإحسان.
بينما التعقل الـمُلكي عنف، أي عبارة عن تعقل نفسي أفقي ينظر في الشيء باعتباره "قُنية"، مما قد يفضي إلى تدميره، وبالتالي ارتكاب فاحشة العنف، إذ العنف جهد نفسي باطش، وتلك هي الإساءة. يقول صاحب الكتاب: "إن الجهاد غيرُ العنف، لأن الجهاد ذو طبيعة روحية، في حين أن العنف ذو طبيعة نفسية؛ وأن الجهاد قوة، في حين أن العنف ليس بقوة، لأن القوة لا تكون إلا روحية"(14).
ورُبَّ معترض يعترض بقوله: إن تاريخ المسلمين يشهد على وُقوع حروب سُفكت فيها دماء كثيرة منذ فجر الإسلام إلى اليوم. إلا أن هذا القول وإن صدق في حق بعض المسلمين فلا يفيد أن الإسلام دين عنف، أو يسوغ العنف، وإن التبس العنف بالجهاد عند البعض فنظرا لصعوبة التفريق بينهما رغم تضادهما.
مع أنه لا جواز للعنف في الإسلام فلا يمنع جواز وقوع القتال بين الناس، فيكون القتال جهادا إن استوفى شروط الجهاد وعنفا إذا لم يستوفها، وقد يختلط في الصف القتالي الواحد من يجاهد ومن يعنف. وفي كليهما أذى يلحق بالفاعل كما بالمفعول به، غير أن الأذى في حق المجاهد بلاء بنِية عارفة محسنة تريد الإصلاح والإحياء، وفي حق العنيف إيذاء بنية جاهلة مفسدة تريد الإفساد والإماتة.
حقيقة الجهاد بين الدقة والشمولية
إذا كان "العنف بوصفه "جهد نفسي باطش" فإن "الجهاد هو بذل أقصى الجهد الروحي في محو الجهل وإزالة الظلم"، فهو ليس على مرتبة واحدة وإنما على مراتب متفاوتة بتفاوت هذا الجهد في مناحي سعي الإنسان، بحيث يتسع لجميع مجالات الحياة، قولا وفعلا، أو قل: صنفا اعتقاديا يروم محو الجهل (مثل جهاد الإيمان وجهاد العلم وجهاد الرأي..) وصنفا اشتغاليا يقصد رفع الظلم (مثل: جهاد العبادة وجهاد التزكية وجهاد النفس وجهاد المال..) وقمة هذه الأشكال في الجهاد الإحساني (في سبيل الله) الذي هو ذروة سنام دين الإسلام نظرا لاتصافه بآثار أخلاقية تميزه عن الاشتباه مع العنف ومنها:
الشعور بالأمانة على ما سخره الله له من كائنات وأشياء.
الهروب من التسلط، إذ المجاهد يأبى أن يتسلط على شيء
استعجال السلطة مؤذن بالعنف
في الإسلام لا يُعطى الأمر لمن طلبه، والعنيف -قولا أو فعلا أو كلاهما- يدعي أنه يمحو الجهل ويزيل الظلم من حيث هو ظلوم جهول، متشدد في اعتقاده ومُلزم لغيره بهذا الاعتقاد، يُرهب باشتغاله ويلزم غيره بهذا الاشتغال، وإلا أخرجه من مذهبه الذي يختزل فيه الدين بأكمله.
والذي يطلب السلطة لنفسه بغير عنف يوكل إليها ويُحرم من خيراتها الملكوتية، أما من يطلبها بالعنف فلا يستحق حتى أن يُوكل إلى نفسه لأن ظلمه يحرمه من العدل الـمُلكي والإحسان الملكوتي. وبالتالي فليس للمجاهد أن يطلب السلطة لنفسه، أو لذاتها مستعملا العنف أو غيره مهما كان مبرره (مثلا: استبداد الأنظمة)، وعليه أن يخشى من الخروج إلى الاستبداد خشيته الخوف من بقاء الاستبداد، كما لا ييأس من زوال الظلم مثلما لا يأمن دوام العدل. فالاستبداد لا يدوم واليائس لا يفلح.
ومما لا ينتبه كثير من الناس هو ضرورة التمييز بين الدولة والنظام، فطبيعة الدولة أنها تمارس القوة بينما النظام الحاكم قد يمارس العنف وقد يجمع بين القوة والعنف، حتى لا يكاد يظهر للعنيف سوى عنفه، نظرا لتلبس عنف النظام بقوة الدولة وتماهيه معها وتوظيفه لقوتها في ممارسة عنفه (القوة العنيف أو العنف القوي)، والعنيف يقابل هذا العنف غير الخالص بعنف خالص فيجهل ويظلم. لذلك يكون أذى الدولة بلاء أي "أذى نسبي يندفع" برفع شره أو تثبيت خيره، صابرا على بلائه مشتغلا بمجاله الذي لا تضر المنازعة فيه.
ومن أخطاء العنيف أنه ينصرف عن التغيير المجتمعي الأفقي الذي يواتي وضعه وهو خارج السلطة إلى التغيير السطحي الذي هو مِن اختصاص مَن هو داخل السلطة. فالتغيير الأول تغيير للإنسان وهو الذي يصح أن نسميه بـ"التغيير العميق" لأنه يتوجه إلى المجتمع ليجدد "أخلاقية الإنسان" التي تمده بالمعنى والحياة، بينما الثاني والذي سماه الدكتور طه بـ"التغيير في السطح" أو التغيير السطحي يلتصق بهياكل السلطة ولا يجدد سوى "شرعية المواطنة" معتدا بالهاجس الأمني الذي غرضه الضبط والتحكم. وشتان بين تغيير الإنسان وتغيير الأشياء. يذكرني هذا التقسيم بتقسيم الفيلسوف الأمريكي هربرت ماركوز H.Marcuse للتقدم إذ جعله نوعان: تقدم كيفي وهو التقدم الإنساني في إحراز الوعي والحرية، وتقدم كمي وهو التقدم التقني في وفرة الأشياء والخدمات.
بناء على ما سبق يخطئ العنيف لما ينزل منزلة سطح المواطن منزلة عمق الإنسان، فيتصرف بالعنف محل تصرفه بالقوة، وحتى في الحالة التي يمكن فيها انتزاع السلطة من النظام القائم فإن عديم العمق المجتمعي لا يُصلح في سطح الدولة بل يُفسد، وقد يكون فساده أكبر من فساد سابقه، فيأتي بعنف أفدح من عنفه.
غالبا يعتد العنيف بوسائل العنف القابيلي النفسي الذي يتصف بكونه "قوة مُلكية" تحرضه على التسلط على الأشياء، و"قوة إهلاكية" تتفنن في إلحاق الأذى بالخلق، و"قوة حربية" تسوغ له معاداة الآخرين. وفي مقابل ذلك يغفل عن أسباب القوة الجهادية الروحية أو قل القوة الهابيلية التي تجعله مجاهدا محسنا، والتي تتصف بكونها: "قوة ملكوتية" تحرره من عبودية الأشياء، و"قوة ابتلائية" تُقدره على الصبر على الأذى، و"قوة سلامية" تمكنه من تحقيق المؤاخاة مع الناس.
ولما كانت القوة فضيلة مشروعة وكان العنف رذيلة مذمومة، فلا يجوز رد العنف بعنفٍ من جنسه أو من غير جنسه، بل يجب دفع العنف بالقوة، ومقاومة عنف الدولة بقوة المجتمع، أي "دفع العنف السياسي بالقوة الاجتماعية، ودفع العنف القانوني بالقوة الأخلاقية، ودفع العنف الاقتصادي بالقوة الروحية"(15).
لا شهادة ولا ائتمان مع العنيف مِن بني الإسنان
المجاهد غير العنيف، إذ يجتهد المجاهد في مراتب الجهاد حتى يصير علمه معرفة وعدله إحسانا، متحققا بـ"ميثاق الإشهاد" الـمـُلكي و"ميثاق الائتمان" الملكوتي تحققا وجوديا يؤهله لمقام "الاستشهاد" الذي بفضله يتوصل المجاهد إلى أن يتحقق بالشهادة وجوداً، فيوحد ربه توحيدا وجوديا لا وجود لنفسه معه. آنذاك يصير فقط "استشهاده شهادة مطلقة بوحدانية ربه"(16) تتصل مباشرة بالحالة الملكوتية السابقة على الوجود. كما أنه بفضل الاستشهاد يتحقق بالائتمان وجودا فلا ينسب لنفسه قدرة على حمل الأمانة بل ولا ينسب حتى ذاته إليه، و"إنما الائتمان وذاته المؤتمنة بيد ربه وحده".
وهكذا فالمجاهد والعنيف لا يلتقيان حياة ولا موتا، فحياة المجاهد الهابيلية الائتمانية لا كحياة العنيف القابيلية الاستعجالية، وكذلك الموت فهي في حق المجاهد "قوة روحية" تكسبه "شهادة وجودية"، لأنها تلحقه بربه وتحيي من يقتدي به، وفي حق العنيف هي "عنف نفسي" يكسبه "شهادة عدمية" لأنه يثبت ذاته بإعدامها، بعدما جُمِّد قلبه وخُدِّر عقله، فاتخذ الناس وسائل لغايته التي هي ذاته. وشتان بين مَن مشروعه الإحياء حيا وميتا ومَن مشروعه القتل حيا وميتا.
طرائق دفع العنف من غير عنف
ألحق العنف بحال المسلمين فتنة كبيرة تركت جروحا غائرة وخلفت أضرار كثيرة، فكيف يمكن تجنب هذه فتنة القتل؟
قبل جوابه عن هذا السؤال نبه طه إلى ملاحظتين هما:
الملاحظة الأولى: وصيغتها "لا يدفع العنف بالعنف" نظرا للأسباب التالية:
- سبب نفسي: باعتبار العنف ليس أمرا روحيا وإنما ظاهرة نفسية غريزية في الإنسان، تظهر وتختفي.
- سبب قانوني: أن العنف غير مشروع لا للفرد ولا للدولة. وإنما المشروع هو القوة.
- سبب تقني: لتساوي عنف الفرد أو الجماعة مع عنف الدولة نظرا لما توفره الـمـُكنة التقنية لهما.
- سبب سياسي: هيبة الدولة توجب عليها ألا ترد العنف بالعنف، فبالأحرى أن تمنع القوة بالعنف.
- سبب ديني: تلبس النظام بالعنف المتعمد مخالفة للدين لأن الدين يحرم الظلم. وفي عنف النظام دليل لمواجهته عند الأفراد، ولو استدعى النظام فتاوى العلماء لمنعه ما أمكنه ذلك لتورطه في العنف.
الملاحظة الثانية: وصيغتها كالآتي: "لا يُدفع العنف على الفور"، لأن العنف اعتداء على أخلاق الإنسان وليس فقط على مواطنيته السياسية، مما يعظم من خطورته. فيستوجب حلا أخلاقيا روحيا يعيد بناء سلم القيم الإنسانية، على خلاف الحلول التقليدية الأمرية الاستعجالية التي يهمها كف الأذى في إطار ما يسميه الأستاذ طه بـ"سياسة الكف".
الحل الأخلاقي الروحي المتأني والذي يستحضر آمرية الحق وشاهديته على الخلق، أو قل "النموذج الشاهدي" لمعالجة أدواء العنف في نفوس الشباب المتدين لما فيها من قابلية لتنفيذ العنف نتيجة التربية الأمرية الغليظة التي نشأ فيها أو قل "النموذج الأمري". يتمثل هذا الحل في "طرق اللاعنف في الدعوة" وهي طرق غير عنيفة، وإن كانت تتطلب وقتا طويلا لتؤتي ثمرتها المرجوة منها، ووسائلها ثلاثة مستمدة من القرآن الكريم:
أدناها "المجادلة بالتي هي أحسن" بالتفكير مع العنيف العاقل في سلوكه من أجل صرفه عن اعتقاد الصواب في اختياره العنف وسيلة للتغيير، بتركيز الحوار على القيم الأخلاقية والمعرفة الإلهية المتجسدة في السلوكات الربانية لأكابر قدوات الأمة لا في مجرد النصوص، "لأن العمل حاكم على العلم"، وتربية العقل مقدمة ضرورية لترذيل العنف.
وأوسطها "الموعظة الحسنة" التي تتضمن المجادلة، ووظيفتها تهذيب النفوس وترغيبها في تحسين سلوكها، وترقيها في إيمانها إلى أن تترك مظاهر العنف، عبر التذكير بالقيم الأخلاقية القاصدة إلى معرفة الله الآمر الحق، باستحضار مقاصد الأوامر والنواهي لا مجرد الأحكام. وليس فقط بمنهج الأمر والنهي كما في الطريقة الأمرية التقليدية التي تنظر في السطح ولا تلتفت إلى العمق، فتجد العنيف يذكر بلسانه ويفجر بفعله، من حيث ينبغي أن يذكر من قلبه بقلبه وبلسانه.
وأعلاها "الحكمة" العملية التي تتضمن الجدال بالحسنى والوعظ الحسن، وتتجاوزهما لأن غرضها إحداث تغيير أخلاقي بالمعنى الواسع للأخلاق اعتقادا واشتغالا، يلامس ماهيته الأخلاقية التي هي كنه إنسانيته، وليس مجرد تغيير سياسي سطحي ومؤقت. فالتغيير الأخلاقي العميق يخرج الشخص العنيف (أو الجماعة العنيفة) عبر عملية صبر ومصابرة من سلوك "أخلاق العنف" التي هي أخلاق نفسية إلى سلوك "أخلاق اللطف" التي هي أخلاق روحية، وذلك عبر نقله ست نقلات تخليقية متكاملة؛ نقله من الشعور بمِلكيته لنفسه إلى الشعور بائتمانه عليها (الائتمانية)، ومن شعوره بكونه سيدا إلى شعوره بكونه عبدا لله (العبدية)، ومن شعوره بتفوقه على خيره إلى شعوره بأخوته لبني جنسه (الإنسانية)، ومن منازعته لغيره إلى منازعته لنفسه (الاعتراضية)، ومن مواجهة العالم بالأوامر إلى مواجهته بالأخلاق (الأخلاقية)، ومن النظر الأشيائي إلى النظر الأسمائي(17) الجامع بين نظر التدبر ونظر التفكر(الأسمائية).
وأخيرا يطرح سؤال الوسائل، أي وسائل دفع العنف وإبطال مفعوله في النفوس وفي الواقع؟
أما عن وسائل منع العنف فتتلخص في برنامج التغيير الأخلاقي الأفقي الذي ينشئ الإنسان نشأة أخرى تخرجه من ضيق نظر نفسه العنيفة إلى سعة عالم ائتماني حكيم، وهذا الإخراج أو قل هذا المعراج يحتاجه الناس جميعا وعلى الدوام لتجديد إنسانيتهم حتى ترتقي إدراكاتهم وتتحسن أخلاقهم، عبر جملة اعتقادات روحية واشتغالات حسية، فردية أو جماعية، خصوصية أو مؤسسية، تعبدية أو تعيشية، تربوية أو تعليمية. وفق نظرة فلسفية ائتمانية مستمدة من روح النظر الائتماني في المرجعية القرآنية النبوية والواقع الإنساني الحي.
(أستاذ الفلسفة، جامعة عبد المالك السعدي، تطوان، المغرب)
الهوامش
(1) - طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 2002.
(2) - أنظر: المرجع نفسه، صفحة 33.
(3) - طه عبد الرحمن، سؤل العنف بين الائتمانية والحوارية، المؤسسة العربية للفكر والإبداع، بيروت، ط1، 2017، ص 9.
(4) - هي نظرية فلسفية معاصرة أثلها الدكتور طه عبد الرحمن في رباعيته الأخيرة: روح الدين، و بؤس الدهرانية، وشرود ما بعد الدهرانية، ودين الحياء.
(5) - لتمييز مفهوم الملكوت عن المفاهيم التي قد تتلبس به عند القارئ، يرجى مراجعة ذلك من ص 20 إلى ص26، من كتاب سؤال العنف. وللتوسع في مفهوم "عالم الملكوت" أنظر ص 51-52.
(6) - سؤال العنف، ص33.
(7) - سؤال العنف، ص 39.
(8) - غاندي، موهندس كرمشاند (المهاتما)، موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، المجلد الرابع، الطبعة الأولى 1986، 315 – 321.
(9) - ص 50.
(10) - ص 70.
(11) - سؤال العنف، ص 74.
(12) - سؤال العنف، ص 86.
(13) - سؤال العنف، ص 92.
(14) - سؤال العنف، ص 99.
(15) - سؤال العنف، ص124.
(16) – نفسه ص126.
(17) - النظر المتخلق بأخلاق الأسماء الحسنى.