1 - إصــلاح
في صبيحة وقفة العيد الكبير، جأر موتور أم خليل في المسقط، بحشرجة مقلقة، لم توصل الماء إلى حنفية شقتها. سارعت أم سيد جارتها، بإيقاظ زوجها لإصلاح الموتور، وكان يهوى إصلاح الآلات. شكرتها أم خليل، مقدرة موقفها، ففي الأيام العادية، لم يكن زوجها يستجيب إلا بعد إلحاح، وأحياناً يصهين .
- يا ستى الجار للجار .
وأسرت إليها أن ابنتها ستعيد عليها في الصباح.
وفي ضحى أول أيام العيد، علمت أم سيد أن خليلاً، الذي كان يذبح عجلاً كل عام، ذهب للحج.
قالت لمن أخبرتها :
- شوفى يا أختي الولية اللئيمة .
2 - غنــــــاء ..
استدعيت عامل المقهى بإشارة من يدي. قال:
- عندنا هذه المرة يا عم الحاج.
آه.. بدأ الغناء ..
- شكراً .
- خلِ عنكَ ..
هززت رأسي ممتناً ..
- 11 جنيهاً .
كنت سأصهين عن نصف جنيه باقي العشرة، وأدفع الجنيه إكرامية .
ناولته ورقة بعشرة جنيهات وتطلعت إليه ..
تلكأ قليلاً .. ولم ينبس .
وهو يسحب خطواته، ألقيت جنيهاً معدنياً على الترابيزة .
3 - خدمــــــــــة
لم تكد تقف أمام الكشك، حتى تسابق جيرانها ليفتحوا لها قفل بابه، وفاز بالفتح صبي المقهى، وأسرع لإحضار قهوتها السادة، وهو يقول :
- نورت يا حاجة .
وسحبت بنت صاحب محل حبوب خلفها، كرسيها من داخل الكشك، وأجلستها، بعد أن ركنت عصاها التي تتوكأ عليها في جانب .
ومرت بعض نسوة ذاهبات للتسوق، عبرن عن افتقادهن لها يومين كاملين، وكن يسترحن عندها أحياناً يدردشن، أو يتركن ما اشترينه في عودتهن، بعض الوقت، ريثما يذهبن إلى مشوار آخر .
وردت :
- الحمد لله على كل حال .
ومدت يدها من فتحة الكشك المربعة، التي تبيع منها لزبائنها، السجائر والحلوى والبسكويت والمناديل الورقية، وكبشت بعض الطوفي، ونفحت الصغار الذين بصحبتهن .
دعون لها بالصحة، ورجونها أن تأمر بأية خدمة .
وإزاء إصرار إحداهن، قالت :
- كيلو طماطم ونصف فلفل .
انصرفت النسوة، فحملت كرسيها إلى الداخل ببطء..
وانتزعتها نقرات على قاعدة الفتحة، من غفوتها، وتناولت كيساً بلاستيكياً .
شكرت الشارية، وبعد أن شيعتها بنظراتها، تفحصت ما في الكيس.. حبات من الطماطم مفعصة، وقرون فلفل صغيرة .
وضعت الكيس جانباً، وهي تردد في نفسها.. حاضر يا ستي.. لن أكلفك بشيء ثانية .
4 - نظــــرة
ناولت صديقي القطة، موفياً بوعدي. راوغت وانفلتت. أمسكتها وأعدتها له. فلفصت وتملصت. أطبقت عليها بكلتا يدي وصدري .
وهو يغيبها في كيس قماشى أحضره معه، طالعتني بنظرة منكسرة، مقهورة .
اجتاحنى أسف فور مغادرته، فقد أبلت معي بلاءً حسناً. منذ رأيتها أمام باب شقتي ذات مساء بارد، فأحضرت لها علبة كرتونية، لتقضي فيها ليلتها .
في الصباح فوجئت برأس فأر مقطوع، على بعد سلمتين من بابي. ابتسمت ومضيت. بعدها تركت جثة فأر على بسطة مقدمة السلم المؤدي إلى شقتي في الدور الخامس. انتشلتها بورقة محاذراً وقذفت بها في كيس القمامة .
واستخسرت ما تفعله في سكان العمارة. فكلما نظفنا المسقط مما يلقونه فيه، ووعدهم بعدم الإلقاء، يعاودون ثانية. وكان عادياً للصاعد ليلاً أن يفاجأ بما يسير أسفل قدميه. يقفز مضطرباً ويفر الفأر مذعوراً.
اتصلت بصديقي أطمئن على هديتي، فأخبرني أنها امتنعت عن الطعام. هدأت خاطره أنها ستفعل فور أن تعتاد بيئتها الجديدة. وساورني قلق أن يكون السبب عزلها داخل الشقة، أو لأنها في موسم التزواج، فقد كان الذكور يطاردونها، ونسمع أصوات تحذير ترسلها إلى المتنافسين عليها.
وخشى السكان أن تفعلها، ويستوطن صغارها السلم .
عاودت الاتصال، فأنبأني أنها ماتت.
غزاني حزن، زاد من ألمه عجزي عن فعل شيء .
وتسللت إلى داخل نفسي نظرتها العاجزة الناشعة بالقهر، تطفو من حين لآخر.
5 - ورقــــــــــة
لفتت نظري بقعة زخرفية زرقاء، في يسار الورقة من أسفل. استعرضت ورقات أخرى، فوجدت الرقم مكتوباً وسط هذه البقعة وكان لونها أحمر. دققت النظر في توقيع محافظ البنك المركزي على الورقة المختلفة والأوراق الأخرى فلم ألحظ فرقاً. لكني شككت فيها .
استبعدت تصريفها لبائع الجرائد، خشية ألا تكون فكه متوفرة لديه، وكذا بائع المخبوزات، الذي اعتدته فربما لحظها وأحرجني، وإن كان –عادة- لا يبالي، والبقال لعل زبوناً لا يقبلها، فيحتفظ بها حتى يراني ثانية. واستقر عزمي على أية صيدلية. فعشرة جنيهات على فرض أنها مزورة، مجرد قطرة في بحر أرباحهم، التي لا يقنعون بها، ويتاجرون في الأقراص المخدرة.
وقفز إلى ذهني اسم دواء بسعر الورقة زائد عدة جنيهات فضية، ألهيه بها، وآخذه وأنصرف. وإذا به يجيبني أنه غير موجود. وكنت قد أعددت نفسي بطلب بديل أقل سعراً. مد الصيدلي يده إلى أحد الرفوف، ووضعت الورقة مطوية على الغطاء الزجاجي لبنك البيع، والتقطت الدواء، وهو يستمهلني ليغلفه لي، وأرد أن الحكاية لا تستاهل .
غادرت وجوانحي عامرة بالنشوة، وفردت ورقته المطوية، رأيت جانبها الأيسر ممزقاً، ومن الصعب قراءة رقم خمسة في البقعة الزخرفية، وقد التحم المزق بالأم بشريط لاصق وقد انطمست بعض أرقامها .
6 - تنمُّـر
جلست على دكة خشبية، أفك لفافة بها رغيف فينو كبير، معمر برقائق من الشاورمة. وخزتني نظرات بعض القطط على بعد يسير. وقد وقفت في تحفز. اقتطعت لباباً مشبعاً بالدهن، كان مدسوساً في لحم المخروط المعلق من قاعدته وحرارة كهربية تشع من ثقوب صغيرة في خلفية معدنية. بينما يجتهد سكين البائع في الترقيق، كأنما يقطع من لحمه. رفعت يدي، فشبت القطط إلى أعلى. سارعت بإلقائه نحوها، وقد مسنى غير قليل من الخوف .
وبخفة قرد، التقط قط ما ألقيته قبل أن يسقط أرضاً. وعلى سلم بيتي ماءت قطة، فوضعت لها فتات خبز وبعض الأرز، تشممتها وابتعدت .
وعادت القطط تنظر نحوي في تنمر، بسبابة وإبهام يدي اليمنى، تناولت قطعة من الدهن وطوحت بها.
طارت القطط كموجة عالية إليها. انتزعت قطعة من الخبز، وألقيتها بعيداً، لتبتعد عني. تسابقت إليها وعادت تغزني بنظراتها .
تجاهلتها وتطلعت إلى الباصات الواصلة إلى المحطة، حتى لا يفوتني المتجه إلى محافظتي .
وكنت ظهري على أضلاع مسند الدكة، وقد سمح انفلات مسمار في أحدها بقلقلته في ظهري، وانساب بصري إلى الشارع الذي يحف بالمحطة. كان المساء على وشك السدول، والحركة لم تخفت . اختلاط المسير بالباصات الداخلية والتاكسيات والعربات الخاصة وازدحام المارة. وحسدت نفسي، لأنني مررت من بينها سالماً إلى المحطة، مع أني لم أسترح منذ وصولي في الصباح لقضاء مهمة لي في وسط المدينة .
وتوالت إعلانات النيون في الظهور، بألوانها وأشكالها المختلفة، تؤكد عتمة المساء .
سلكت قميصي من مسمار الضلع المنفلت ، وأنا ألمح اسم محافظتي على واجهة الباص الواصل .
7 - صيــــاح
بعد اللف على القنوات، في موعد بث المباراة، نهضت في ضيق إلى الشرفة، رأيت الناس تجلس في ازدحام أمام تليفزيون، في مقهى قريب، وامتدت الصفوف إلى الشارع. تجولت في الشقة لأشغل نفسي بشيء، ولم أجد داعياً للبحث ثانية في القنوات، فالمباراة مشفرة، ومتاحة لمن يدفع للشركة المحتكرة.
تصفحت مجلة، وبعد قليل ألقيت بها، وعدت إلى الشرفة. كانوا يجلسون وقدران عليهم سكون متحفز. دخلت .. وجاءت خلفي صيحة جماعية، كُبحت فجأة، تلملم ما اندثر من نثارها. وعاد الصمت.. هممت بتشغيل التلفيزيون، لكني عدلت.. وإذا بصيحة خبت بسرعة، وعمق الصمت مصحوباً بهاجس أن يكون الخصم قد سجل في مرمى مصر .
غطست في كرسي أسيوطي، وأغمضت عيني، فلاحقتني صيحة ممتدة، لها شراشيب متماوجة.
أتراه هدف فوز أم تعادل ..؟!
تنامى الوقت في ثقل، وارتخيت في كرسي. نظرت في ساعتي، مقدراً أن الوقت انتهى أو على وشك، عندما صكت سمعي صيحة عالية، رفرفت مناديلها تصفع الهواء. ابتسمت، وأنا أتعجل موعد نشرة الأخبار، متلهفاً لسماع الخبر .
8 - حياة الناس
أخرج الموسى من غلافه الورقي.
ولما كان استعماله أول مرة، يجرح ذقنه، فقد وضعه على رف زجاجي أسفل مرآة معلقة فوق حنفية غسل الوجه في الحمام. قرط إغلاق مكنة الحلاقة، وضغط أنبوب المعجون على وجهه في عدة مواضع، وغراه بالفرشاة والماء. انزلق بالمكنة على وجنتيه.
غسل وجهه، وجففه. جلس إلى ترابيزة عليها صينية الشاى. فتح عليه السكر وملأ ملعقتين، وضعهما على الصينية، وقلب في الكوب بالملعقة.
وهو نازل رجته زوجته أن يشتري كيلو من الملوخية، ولما كانت تستغرق وقتاً في إعدادها، فسوف تقطف أوراقها، وتخرطها حتى يعود.
قال لبائع الخضر أن يزن له كيلو من الباذنجان. وفي طريق عودته تذكر أن المكمل الغذائي من فيتامينات ومعادن نفد من عنده. بحث عن صيدلية حتى وجدها. دخل محل بقالة. وساعتها غامت الدنيا في عينيه وكاد يغمى عليه. جعله البقال يتساند عليه، وأوقف تاكسياً ليوصله إلى مستشفى الطوارئ.
تابع طبيب الاستقبال دقات قلبه، وتفحص بياض عينيه، وسأله عدة أسئلة. أمر بإعطائه محلول جلوكوز فوراً.
علا وجهه الخجل وهو يفصح للطبيب عن خوفه من الحقن، فذات مرة تصلبت عضلة في إليته، كادت تكسر إبرة المحقن، لكن الله سلم.
طمأنه الطبيب أن الحكيمة تجيد عملها ولا داعي للقلق. اصطحبه ممرض إلى عنبر خلف حجرة الاستقبال، وأرقده على سرير. علقت الحكيمة زجاجة المحلول أعلى السرير. أدلت منها خرطوماً من المطاط في آخره إبره، أمسكتها لترشقها في ذراع مريض راقد على سرير يجاوره، لكن الخرطوم لم يمكنها لقصره.
أمرت الممرض أن يحضر لها خرطوماً أطول، أخبرها أن الخراطيم كلها مقاس واحد، وهي تأتي مع الزجاجات. انقلبت سحنتها وصاحت:
- اغطس ولا تقب إلا ومعك المطلوب .
انصرف الممرض ليتقي غضبها، تشيعه كلماتها.
- إلى متى تعرضون حياة الناس للخطر..؟!
9 - الجنيه الورقى
دس له بائع الهريسة جنيهاً ورقياً في باقي حسابه، وخجل أن يسأله تغييره، فالباعة يعتذرون عن قبوله، ويفضلون الجنيه المعدني، وأخذ يشتم البائع في سره.
ذهب إلى بائع السجائر، وطواه ضمن ثمن العلبة. التقطه البائع، فاعتذر عن توفر فكة.
- يبقى عليك .
شكره وذهب ليبتاع علبة شاى. أعاده البائع ورد على اعتذاره، أن الدنيا لم تطر وليدفعه في أي وقت .
وفي مقلاة للفول السوداني، لوح صاحبها بيده في استهانة، فظرفه في جيب قميصه وانصرف.
وفي البيت خلع قميصه المشرب بالعرق، ورماه في الغسيل، ووضع الجنيه في جيب القميص المكوى وعلقه على الشماعة.
10 - الشهـــادة
أخذت المراقبة أبلة تقية ترتب الأوراق مع رئيسة اللجنة. وإذا ببعض الممتحنين يتلكأون في الانصراف.
اقترب أحدهم. تطلعت إليه أبلة تقية، فلحظت أن شكله يصعب على الكافر. استمهلته حتى تمسح قطعة الإملاء التي كتبتها على السبورة .
- مالك .. ؟
- أعمل في شركة بيع المصنوعات المصرية، وإذا لم أعطهم شهادة محو الأمية سأفصل.
نظرت إلى أبلة نجية، فأومأت بالموافقة. أخرجت أبلة تقية ورقته، فوجدتها أنظف من الصيني بعد غسيله. قالت أبله نجية:
- بيدك الشمال .
ابتسمت وهي تريها القلم جاهزاً في يسراها.
دست ورقته في مكانها بين الأوراق. تقدمت منها خطوات مترددة. وتسلل صوته خافتاً، وهو يميل نحوها بقامة منكسرة:
- لن يعطوني رخصة القيادة دون الشهادة .
أزالت أبلة نجيه قلقه بالقول أنهما تساعدان قدر استطاعتهما، ولن تقطعا عيش أحد، فرد ممتناً أنه سينتظر خارجاً لتوصيلهما، هزت أبلة تقية رأسها رافضة، وهي تبحث عن ورقته .
- غيري من شكل الخط .
- مفهوم .. طبعاً .
ظهر عند الباب المشرف العام، فنهضت أبلة نجية لتلحق به، وأخذت منه مكافأتهما .
11 - الظروف المغلقة
فور وصولنا للرقابة، في امتحان الشهادة الإعدادية، جاءنا مندوب من الأهالي، ورجانا أن نتساهل في اللجان، وليس لهم بركة إلا نحن. وعلينا ألا نحمل همْ غدائنا، وكانت البلدة مشهورة بالسمك البورى المعتبر، وبالفسيخ والسردين البلدي.
وفي ضحى اليوم الأول، وصلتنا زجاجات مياه غازية، خففت من زمتة الحر ورتابة المشى بين الصفوف في اللجان. وعند انصرافنا، أعطانا المندوب أرغفة من الفينو، بعضها محشوة بلحسة من "البلوبيف" وبعضها محشوة ببيض مسلوق في حلقات على أرضية من سلطة طحينة بيضاء. فاحت في الجو رائحة نصب، فأبلغنا المندوب أننا نريد حقنا ناشفاً، وإلا ستكون اللجان كما أُنزل في الكتاب.
أكد أن ما يصلنا هو واجب الضيافة، وطمأننا أن ظروفاً ستصلنا قبل المغادرة، حسب طلبنا.
وذهبنا إلى الاستراحة عشية اليوم الأخير، وكان لامتحان مادتي الرسم والدين .
فتحنا الظروف، والتقطت أصابعنا منها، ورقاً أبيض لم يمس بسوء .
12 - امتحـان
عندما أعلنت نتيجة دبلوم الصنايع، تعجبت زميلاتها في قسم التفصيل من نجاحها، وانطلقت ضحكاتهن بالصخب نفسه، الذي فعلنه يوم خروجها من لجنة امتحان اللغة الانجليزية. كان كل سؤال تحته عدة إجابات، تختار التلميذة إحداها.
أخذوا منها ورقة الأسئلة، ليروا علاماتها على ما اختارته .
- أين تستقبلين الضيوف .. ؟
- في المطبخ
- أين تضعين الطعام .. ؟
- في الحمام
- أين تنامين .. ؟
- أمام باب البيت .
ساعتها، نحين الورقة جانباً، وقلن من خلال ضحكاتهن :
- سيفطس المصحح من الضحك .
13 - بالسيم
أرهفت فرحانة أذنيها ..
أتراهم فشلوا في سد الطريق .. ؟ !
هل لم يستطيعوا تدبير عربة أجرة مستهلكة، لتصطدم بعربة يجرها حمار، ليقع المسكين مصاباً أو منهكاً، ويستغرق إزاحته، أو إنهاضه، وقتاًً ، فتضطر الداورية للمسير في حارة جانبية، لتنفذ منها إلى طريقها من جديد، هل توقفت الداورية في انتظار نجدة تخلى الطريق، ولم تدخل الحارة، حيث زرعوا قنبلة، يتعذر وضعها في الطريق الساحلي المراقب دوماً، والمسفلت بطبقة سميكة. هل تم الاصطدام بعيداً عن النقطة التي يضيق فيها الطريق، وتمكنت العربات الإسرائيلية المحملة بالجنود، من المرور في اتساع الشارع. قطبت جبينها خوفاً أن يكون قد أصاب الحمار أذى، مع أنها نبهت عليهم أن يحاذروا، فأتاها صوت أحدهم ضاحكاً: حمار وطني وعليه التحمل.
وزادت من عبوسها، فهي التي اقترحت الاصطدام بالكارو، وألم تكن عربة أجرة أخرى مستهلكة تفي بالغرض، وخففت من عبوسها، فاصطدام عربتين يمكن الإسرائيليين من إزاحتهما بسهولة إلى جنب، أو رفعهما بالذراع الحديدي للجراف.
جعلت تتنصت، فبيتها ليس بعيداً عن الساحل، لو كان زوجها معها لأتاها بالخبر اليقين، لكنه انفصل عنها لمخالفتها أوامره بعدم الاختلاط بالرجال، وحرجه من قبيلته، وأخذ ابنتيه تاركاً لها طفلاً رضيعاً، وهو لا يدري أنه أعفاها من هم إعالتهما حين تكون في القاهرة، ومع أن الجيران يتكفلون بهما، إلا أنها تظل قلقة حتى عودتها، وغير مطمئنة لرعاية والدهما، الذي يتغيب عن البيت لعمله ممرضاً في مستشفى العريش، وكثيراً ما يفرض المحتل حالة الطوارئ وحظر، التجول، لعدة أسابيع، فلا يستطيع المغادرة، خاصة وانقطاع الكهرباء والمياه لمدد طويلة، يضر بالمرضى .
هل كذبت القنبلة .. ؟ !
أم لم توفق في زرعها .. ؟!
هل سيشمت فيها أفراد القبيلة .. والاسم . ذاهبة إلى القاهرة .. وعائدة منها.. وها هي لم تتعلم شيئاً.. ولعلهم سيسخرون من حجتها الأخيرة للحاكم العسكري ليسمح لها بالسفر، أن أمها المهجرة من سيناء ماتت ، وهي ذاهبة إلى الجنازة وتلقي العزاء، وهم أول من يعلم أنها شبعت موتاً من سنوات .
وعادت محملة بالطعام لها ولجيرانها، وأصرت قريبة لها على إعطائها بيضاً، وافقت على أخذ الطعام، واعترضت على البيض حتى لا ينكسر، فأقنعتها قريبتها أنه بلدي، ويفتح الشهية، خلافاً لبيض الدجاج المهجن والكبير وليس له طعم .
توقفت مركب بمجدافين، عند نقطة متوارية على الشاطئ الشرقي لقناة السويس، استطاعت التسلل منها إلى العريش في طريق غير مطروقة يعرفها رعاة الغنم .
وبالقرب من العريش فأجأتها داورية وطلب منها عسكري أن تنزل القفص الجريدي عن رأسها. أفهمته أن به طفلاً رضيعاً. وقف متصلباً وأشار إليها بحمله وقلب متعلقاته أرضاً. أنزلت القفص وانحنت على الطفل .
اضطرب قلبها، وكادت تجري، وبللها العرق أسفل عنقها في ظهرها، والعسكري يتعجلها. وبسرعة وتماسك حسدت نفسها عليهما فيما بعد فقشت بيضتين، وخلطت سائلهما بسرعة، ولطخت قماط الرضيع، ودارت القشر في قماط آخر دستة تحته بحذر. واجهت العسكري، ورفعت جلباب الرضيع فأشاح بوجهه، وأشار لها لتمضي من أمامه وهو يبرطم .
سكون مريب في الجو .. وطفلها الذي لا يكف عن الحركة همد.
تصاعد رنين جرس الباب . أسرعت بقلب مخضوض تفتح .
ارتمت بنتها في حضنها، وما بين لهفتها في تقبيلها ومعرفة ما أرسلته أبلتها، كانت يداها تفران بسرعة الكتب والكراريس في شنطتها القماشية المعلقة على ظهرها. انسحبت البنت من حضنها وقالت :
- لم ترسل شيئاً ..
فكرت في الذهاب إلى المدرسة، فهي قريبة من بيتها، وقرأت البنت ما جال بخاطرها فحركت يدها كمن تشد شيئاً وترخيه، فانتبهت إلى سرعة مرور الوقت، وأن هذه ساعة دق جرس انتهاء اليوم الدراسي في المدرسة الابتدائية، حيث تعودت البنت التسلل إليها خلسة. ورجحت أن أبلة رقية، لم يصلها شيء، وإلا لكتبت إليها عدة سطور كما اعتادت ، بالسيم ، كأن تقدم حرفاً من آخر كل كلمة إلى أولها، أو تبدأ بالحرف الثاني حتى لا تفهم البنت، وكانتا تستطيعان التحدث بذلك أمام آخرين، فتثيران ضحكهم .
وساهمت هذه المحادثات في توطيد الصداقة بينهما، والتي نشأت بعد الاحتلال الاسرائيلي لسيناء عام 67، حين كانت رقية تبحث عمن يستطيع إدخال الجرحى الذين تعثر عليهم، في الصحراء، إلى مستشفى العريش، حين كانت تتجول كراعية غنم، بعد أن سمعت أن والد أحد تلاميذها من الرعاة عثر على جريح . وكانت رقية لا تستطيع أن تقدم للمصابين الذين تأويهم في خيمة تابعة لقبيلتها أكثر من الإسعافات الأولية، وعلمت في المدرسة أن والد إحدى تلميذاتها يعمل في المستشفى ، اتصلت بزوجته حتى لا تثير أية ريبة. وعرفتها فرحانة على صديقاتها من الفتيات المتطوعات للعمل كممرضات في المستشفى .
وكن يخبئن الطعام المعلب والجاف تحت ملابسهن البيضاء، لمساعدة الأطباء في تغذية المرضى، بعد نفاد أغذية المستشفى ومحاصرة الأطباء .
وأقنع أحد الضباط المصابين رقية، بالذهاب إلى القاهرة لإبلاغ معلومات، وإحضار منشورات. وعندما بدأت الدراسة، طلبت من فرحانة أن تحل محلها، وتطورت المهمات، فكانت تحضر القنابل والمتفجرات .
انتفضت ابنتها وهي تحتمي بحضنها .
- ماما .. سمعت .. ؟ !
وهي تمسد ظهرها ، تزيل عنها الخوف :
- سمعت.
14 - تراب الفرن
- المِتع ..
ما إن نسمعها، بصوته المرتفع، وقد هجع الشارع في بداية ليل شتائي طويل، حتى تنطلق ضحكاتنا، ونحن منكمشون حول أمي، نتهرب من نظراتها، لا نعلم من الذي ستكلفه بالذهاب إلى الفرن، وقد انقطعت الرِجل من الشارع، يحمل طاجناً كبيراً، اسود لونه الطوبي من كثرة ما حمل من تراب الفرن. وتستفسر أمي عمن ذهب بالأمس وأول أمس، وتحدد من عليه الدور فلا يستطيع التحجج .
وفي صمت يملأ عم محمد الطاجن. ولم يكن أحد يعرف هل أسواني، نسبة لبشرته الغاطسة في السمار، ولهجته العادية لا تسفر عن شيء، وكان يطلق صيحته قرب المغرب، وقد استند بقامته العملاقة على حافة فتحة الباب، وقد فرد على دكة خشبية عريضة، متهالكة، فطائر كبيرة، يابسة، ربما مصنوعة من دقيق الذرة، وقد احمرت ثنيات سطحها، ويتوافد بائعو البوظة لأخذها، يخمرونها، ويصنعون منها شراباً لبيعه على رواد المقاهي البلدية .
أسرع بالطاجن، هرباً من البرد الذي يلفح وجهي، وقبل أن تلسع يدي الجمرات المتقدة تحت الرماد. أضعه في وسط الصالة بسرعة وهو يكاد يفلت مني، ونجلس حوله.
تدس أمي ثمرات أبي فروة البنية الناعمة، التي اشترتها من بائع سريح يدفع أمامه عربة يد .
وحتى تنضج، نمد أيدينا فوق الرماد استجلاباً للدفء .
ويظن أحدنا أنه غافل أمي، ونقب الرماد، استعجالاً لحبة يأكلها خفية، فتأتيه ضربة يد رحيمة على يده، مشفوعة بـ :
- الصبر .
وتتسلل إلى أسماعنا نغمة خافتة ممطوطة، فتومئ أمي لأختي التي تكبرني فأفرح، وتحضر أختي برام الزبادي الخالية، ومعها النقود الفكة من جوارها على ترابيزة المطبخ، ولا يطول فرحي وقد أشارت أمى برأسها نحوي لتعطيني ما جلبت. وتنبثق من عيني أختى نظرة عابثة، وتدير وجهها حتى لا تراها أمي وهي تحولها لشماتة ساخرة، بينما يأتيها تحذيرها :
- ها .. !!
وأنتهز الفرصة :
- ما زالت تنقط .. !!
وتجزم أمي أن المطر انقطع من زمن، وتنبهني لأخذ جرعة ماء قبل النزول.
أناول الرجل على دراجته النقود، وقد ثنى ذراعه الأيسر أسفل طاولة خشبية، وبيمناه يلقى بالنقود في جيب معطف رمادي أقرب إلى السواد، طرازه من أيام قوموا واقعدوا. وحواف ياقته وعراويه منسلة، يأخذ البرام بيده الحرة، ويزيح جنباً من مشمع أبيض مغبش، ويزقها تحته برفق .
ومن الجانب الثاني يناولني الممتلئة ويتحسس بإحدى قدميه كفة البدال، وقد انتصبت كتلة جزعه المدكوكة، وكأنه لا يراني، ينظر إلى الأمام ولا يلتفت. أتلكأ لأسمع نغمته، لكنه يمضى بوجهه المغضن، اسمراره من اسمرار حراشيف السمك الشبار، وشعره الخفيف مثل أشواكها، وبه شيبة، وعيناه جاحظتان في خفة، ودامعتان دوماً، لا ينزلق منهما شيء .
وكنا في البيت نحار.. فأدعى أنه يقول " زبادي" مضغمة، وأخي الذي يصغرني يصف النغمة أنها "لبن" ممطوطة، أما أختي فتتهمنا بالطرش وأنه يقول "يا معين". تستدر هذه الكلمة ضحك الأطفال. ولدان وبنت، باقي أخوتي، وتتجه عيوننا نحو أمي كي تؤكد لنا حقيقة النغمة، فتبتسم وتأمر أحدنا بإحضار حبات من البطاطس، لتدسها تحت الرماد، لتنضج ، حتى يعود أبي .
- الحمش ..
تدب الحمية في نفوسنا، ونسارع لأخذ النقود والنزول، فقد كنا نحب مشاكسة بائع الفول السوداني، وقد حمله، ولم يزل ساخناً، في مقطف على ظهره، يشده من خلفه، ويعبئ بكوز صفيحي، مرة واثنتين وثلاثاً، حسب نقودنا، ونحن نرجوه أن يتوصى ، فيمد يده، متصنعاً أنه يكبش بكفة يده الفول، وإذا بها لا تخرج بأكثر من قرنين، وحين نحتج يجري كالعفريت من بيت إلى آخر، ملبياً النداء .
وحول الرماد، نقشر الفول، ونفتته في أفواهنا ونضن عليه بالبلع ونستطعمه ثانية، وحين وجد أخي ذات مرة قرناً خالياً إلا من حبات صغيرة محترقة، وكثيراً ما صادفنا، اقترح أن نشتري الفول غير المقشر ونعطيه للمتع لتحميصه. ضحكت أمي وعلقت :
- أصله ناقص ..!
فهو رغم ترقيه إلى فران، وعمل نوبة مسائية، تاركاً لمن زامله الصباحية، فما زال كما رأيناه عندما جاء، يحمل على ظهره زكائب سرس الأرز عن عربة كارو، ويشونها في الداخل، ويمون فتحة النار بها، ويأخذ من زبائن الشارع طاولات مرصوصاً فوقها أرغفة مبططة، ويضعها في دولاب عريض كله فتحات. ويتناول صواني البطاطس وأوعية بها سمك يرشه بالردة، وأخرى بها بطاطا، يضعها على بلاط الفرن حين يهدأ سعار النار قليلاً. وبعد شوي السمك يتبله بالملح والشطة والثوم المدقوق . ويُجزى برغيف من صاحب أو صاحبة الخبز، وسمكة، وكوز بطاطا من الشاوية .
وكان ما يثير عجبي، مواظبة عم محمد المتع على شراء جريدة يومية لا أدرى متى يقرأها، ترسلني أمي بعد عودتي من المدرسة لاستعارتها، وأعيدها بعد حين، ليستعيرها آخرون. ولم ينقطع عن ذلك إلا عدة أيام انشغل فيها بأمر زواجه. جمع له الناس نقوداً، وتبرع أحدهم بكنبة، وآخر بدولاب، وأسكنه أحدهم حجرة فوق سطح بيته بأجر زهيد، بعد أن كان ينام في الفرن .
- عجوة السمن يا ملبن .
تطالعنا أمي بنظراتها، مستنكرة عدم تطوع أحدنا، فعادة ما تقول لمن اشتراها اجلس إلى ترابيزة السفرة وفصصها. وما أن ينتهي حتى تطهوها أختى على نار هينة، تغذيها باللبن، لتكسر حدة حلاوتها. وكنت أدهش من قدرتها على ابتلاع اللبن، مهما سكبت عليها، وكان يزيد من لذة مذاقها. وكان تفصيصها يضايقني فرأس البلحة، التي تشبه البقة رخمة، وتلتصق بأصابعي وكذا نواتها، من لزوجة العسل الأسود المضاف إلى بلحها عند صناعتها، وكم تعرض المفصص للسخرية إذا سها عن رأس أو نواة. كسَفَ وجهي ونزلت. وبعصا صغيرة، يقلقل البائع بعضاً من العجوة، من كتلة كبيرة منبعجة، مأخوذة من مقطف مجدول من الخوص، ترك نسيجه علامات على جوانبها. ويزن بالقرب من كلوب يزيد نوره من لمعان البلح، وينفث صفيراً خافتاً ، أظنه يخفف من وحشته في سيره ووقفاته .
- الحلو طلب الأكال .
نتطلع إلى أمي، لتشير إلى أحدنا، فالبلحة، بضغطة بسيطة بين إصبعين، تنزلق قشرتها السوداء.
تبتسم أمي وتقول :
- عندنا العجوة .
ولا نطيق صبراً فتستجيب لإلحاحنا في إخراج أبي فروة، وإذا بدوي ضراط، جعلنا نتعجب لعدم سماع ضربة مفتاحه في طبلة الباب. وذات مرة فعلها، وكان برفقتنا صديق يراجع معي بعض مواد الثانوية العامة، ولم تظهر على وجهه أية علامة، وجلس معنا حول الرماد. وبدلاً من وضع رجل فوق أخرى، كما يفعل في الدكان، تربع، محتفظاً بطريقة جلسته في العمل، برزت رقبته من بين كتفيه، وانحنى رأسه إلى الأمام، وارتكز بيسراه على فخذه، ويمناه معلقة فوقها، ولم ينقصه سوى الإبرة والكستبان .
أخرجنا الثمرات ساخنة، نقشر غطاءها ، فيسفر عن محتواها السمني المجزع، نلقى به في أفواهنا، ونوحوح .
15 - تصوير الوقت
مهما بكرت، تجد من سبقها، لم يبق إلا أن تبيت في الشارع .
وقف المستخدم أمام الباب الزجاجي للشركة، فامتدت الأيادي نحووه ببطاقات الرقم القومي. وكلُُ يجاهد لتكون له الأسبقية حين النداء.
حاولت المروق بينهم، لكن تدافع وتزاحم الجمع من نساء ورجال وشباب، حال دون المناولة، فأسفت لخيبة مسعاها، وأومأت لبنتها نادرة، فرفعت التليفون المحمول لتصورها، فقد اصطحبتها معها لهذا الغرض، لتبعث لزوجها بالصور، لتريه مدى تعبها وهي تصرف الحوالة .
نظرت الأم إلى لافتة شركة الصرافة، فتبسمت نادرة، وتحولت ابتسامتها إلى ضحكة، ضاعت في الصخب، ولم يمتد مفعولها الساخر لأمها، التي أرادت أن تزيل أي شك قد يعترى نفس زوجها، أن ما يحدث أمام شركة الصرافة .
انسحبت الأم وابنتها بعد تسليم بطاقتها، وهي توطن النفس على تحمل مرور الوقت، بعد أن رأت البطاقات المكدسة في يد المستخدم .
فكرت عندما تدخل أن تصور المكان، لترى زوجها مدى ضيقه، مع أنهم يكسبون من عملة التحويل بالنقد الأجنبي، محل به ثلاثة شبابيك في الجنب الأيمن، أمامها طرقة صغيرة بها خمسة كراسٍ، وباقي الأشخاص واقفون يتململون، وكمبيوتر في الواجهة ومكنة لتصوير البطاقات .
الواقف بالباب لن يسمح لنادرة بالدخول. هل تأخذ المحمول، ربما وجدت من يفعل بالرغم من التوتر والانشغال. هل يمكن تصوير فقد الأعصاب. أحدهم لم يصرف لأن من كتب له بياناته لم يستوفها، لعجلته خشية ألا يسمع رقمه وقد اقترب وقت ندائه، واضطرار المسكين، بعد مشادة مع الصراف إلى الخروج، والبحث عن كاتب آخر، وهذه لم تدون رقم الحوالة صحيحاً، وضرورة خروجها، لعمل مكالمة مع الراسل لتصحيحها، وهي لا تدري متى تستطيع الدخول ثانية، وأحياناً يقترب المغرب ويحين موعد الإغلاق، وينصرف المكدسون إلى قراهم، وعليهم العودة مبكراً إلى المنصورة، والمحاولة من جديد .
تأبطت ذراع بنتها، وسارتا تبحثان عن مكان تجلسان فيه، وأخذت تحسب .. ينادون عشرة أشخاص كل مرة، يمكثون في الداخل حوالي عشر دقائق، ورقمها على حافظة البيانات الصفراء الصغيرة 170. أمامها ثلاث ساعات على الأقل. وأخذت تدعو الله ألا يتعطل الكمبيوتر، وألا يحدث شيء ليس في الحسبان.
وقفت أمام عربة من العربات المركونة أمام محال بيع حلويات، وتصوير مستندات، وبيع أغراض منزلية، في الجهة المقابلة للشركة، ركنت على مقدمتها، لتملأ حافظة البيانات. المرسل إليه : إيمان عبده ، ورفعت رأسها تتابع رجلاً خرج من محل الحلويات، وكان بعضهم قد فعل مثلها على عربتها وباقي العربات، وأخذ يهشهم، دونت بسرعة عنوانها ورقم تليفونها واسم الراسل ومبلغ الألف دولار التي أرسلها .
قست شمس الضحى على الواقفين في نهر الطريق، تزعق عليهم أبواق العربات المارة ليفسحوا .. ويحاول الجالسون على رصيفي الشارع الاحتماء في ظل شرفة أو جدار .. سرعان ما يمضي .. وهناك من يجوب في الحي بحثاً عن مقهى دون جدوى .
سارت إيمان بصحبة نادرة إلى شارع جانبي، جلستا على رصيف أمام باب أحد البيوت، واضطرتا للقيام عندما خرج أحدهم من الباب، وحتى لا يتكرر القيام والجلوس، ابتعدتا عن المدخل، وجلستا على غطاء بالوعة مجاري، وإيمان تنظر في ساعتها متعجلة الوقت، ونادرة تطالبها بغض النظر، فما زال الوقت مبكراً .
وسألت نادرة :
- هل أصورك هنا .. ؟!
ترددت إيمان، وبعد أن وافقت، أردفت :
- لن تنقل الصور حقيقة ما نحن فيه ..
لكن نادرة، استمرت في الإعداد للتصوير، فقالت إيمان كمن يسلم أمره لله :
- هاتِ في الخلفية الجالسين بامتداد الرصيف .
أو مأت برأسها وقدوش تعبير وجهها أن ذلك في حسبانها، وبعد أن انتهت قالت :
- فرصة ونحن هنا نشتري فستان الفرح .
شملتها الأم بنظراتها، وقد وعت ما يقلقها. فما أن تصلا إلى البيت حتى وتفتح مئة فتحة للنقود .
الدروس الخصوصية لأخيها في الثانوية العامة، وعرض والدها الحاج على الطبيب للمرة الرابعة أو الخامسة، مع أن مرضه ميئوس من شفائه، ولكنها لا تستطيع رد طلبه، وحتى لا تفهم نفسها بالتقصير إذا حصل المقُدر.. وجنيه هنا .. وجنيه هناك وتتبخر النقود .
طمأنت البنت أن المبلغ هذه المرة كبير، وسعر الدولار مرتفع .. لكنها في نفسها ترجئ الشراء حتى لا تفاجأ بحوالة المرة القادمة ، التي لا تدري لها موعداً، لا نتعدى ثلاثمئة دولار، كما حدث في السابق مراراً، وعندما يطول الوقت لا تتعجله، حتى لا تحرجه، فهي تخمن أنه ربما ترك العمل ويبحث عن عمل أخر ، وتهون من زنقتها، أنه سيعاود العمل، فالبناء لا يتوقف في أي مكان، وعمال المحارة مطلوبون .
أمسكت يد بنتها ، لتذهبا إلى باب الشركة، وهذه تستمهلها، فسحبتها بالرغم منها.
سألت الواقف بالباب عن الرقم الذي وصلوا إليه، وعندما علمت ، باخت، وعادتا وهي تضيق بالضجر .
لم تشأ أن تعاودا الجلوس على البالوعة، وطافت بها في الشوارع المحيطة، رأت عمارة تحت التشطيب، أسفلها صبة خرسانية تشبه المصطبة، جلستا عليها .
قالت نادرة :
- لن أصدق وعودك بعد الآن
أطرقت الأم .. تريد أن تفرحها، وتشتري لها بالإضافة إلى الفستان حذاءً ملائماً ، وملابس داخلية.. وعقلها ينصحها بالتريث، حتى يتوفر في يدها ما لا تحتاج إليه .. وهل حدث ذلك مرةً واحدة ..؟! .. لماذا لا أنتهز الفرصة، وليحدث ما يحدث ..؟! تطلعت إلى بنتها، فوخزها الألم لرؤيتها مطرقة .
قالت في محاولة للتخفيف :
- تعرفي يا بنت .. لو أقدر أصور مرور الوقت علينا وأبعثه له .
- ماما .. لا تتوهي في الكلام .
16 - شقــة
دق التليفون في رنين متصل، أسرع إليه في لهفة، وجاءه صوت ابنه من ألمانيا. وبعد الاطمئنان على الحال، قال :
- أريدك أن تشترى لي شقة .
- عين العقل .
- في مكان هادئ، بعيداً عن صخب المنصورة وزحام شوارعها.
- ما رأيك في دمياط الجديدة، على البحر، وشوارعها واسعة، وبها مسطحات من الخضرة، وتصل إليها بالسيارة خلال ساعة من هنا .
ودار في خاطره، أن يقضى فيها يومين كلما سنحت فرصة، ليريح أعصابه.
- توكل على الله .
- وحتى ترسل، أكون قد بحثت عن شقة مناسبة، تقضى فيها إجازاتك، وتسكنها عندما تقرر العودة .
قال :
- ستشتريها مما توفره من معاشك .
انعقد لسانه، ووضع السماعة .
17 - شيك
أعطاني صديقي الشاب الشيك، فقلت :
- شكراً على تعبك .
- أنت كوالدى، أسافر دوماً، وأذهب إلى هناك .
وكنت عندما أذهب إلى البنك يعتريني الخجل، حيث يخيل لي أن الناس ترمقنى، أصرف مبلغاً لا يتعدى مئة جنيه، وهم يصرفون الآلاف. بالطبع قد أكون واهماً. فكرت أن أستريح وأريح وأتوقف عن الكتابة، خاصة والمكافأة تغطي بالكاد ثمن النسخ على الكمبيوتر .
وأوشكت أن أصرح لصديقي، أنني لم أعد أذهب إلى البنك، وأمزق هذه الشيكات، لاحت لي لمعة عينيه وهو يعطيني إياها، فسكت .
18 - طلب عاجل
تلفت حوله في حذر.. وقد راعته مهابة المبنى . تتصدر واجهته أعمدة حجرية ضخمة، متوجة بزهور لوتس، أضفت رقة ونعومة على الحجر .
وقبل أن يخطو، لمح عربة أجرة تقف أمام الباب العريض، مؤطر بثمانية مفتوحة الساقين على اتساع الباب، وتمس قمتها بداية الدور الثاني، المنساب في زرقة سماء، تسبح فيها على مهل رقائق بيضاء، تشف حيناً، وتتكاثف حيناً
انزوي خلف شجرة من الأشجار المتناثرة حول المبنى، بينها حشائش يانعة الاخضرار، خففت من جهامة جذوعها العتيقة المشققة اللحاء .
دُهش حين رأى المرأة التي تغادر العربة، وتساءل .. ما الذي أتى بانشراح إلى هنا .. ؟! أم تراها امرأة تشبهها ..؟!
عاود النظر في الوقت الذي أولته فيه ظهرها، ترتقي درجات السلم العريضة المؤدية إلى الباب . لا .. لا يمكن أن تكون انشراح .. فهو لم يرها إلا مبتسمة، أو مداعبة للأطفال الذين يحملون لها البازلاء والفول الحراتي، لتفصيصهما، والقلقاس لتقشيره، والكرنب لسلقه وإعداده للحشو .
وقفت عند كشك على يمين الباب، ومال رأسها إلى جنب، فتأرجح قرط معدني، تأكسدت حواف هلاله، وزخرفة في وسطه ببني داكن. تأكدت له هويتها فكثيراً ما رآها ملوحة به متباهية وهي تتبادل عبارات المجاملة مع الأمهات العائدات من أعمالهن، لأخذ ما جهزته. وحين شكرها ذات مرة لتعبها في إعداد كرنبة، طلبت العفو .. فلا تعب هناك، وصرحت له ضاحكة، أنها اشترت ماشة رص حجر الشيشة، واستخدمتها في التقاط أوراق الكرنب من الماء المغلي، وقد أدى غرض ملقط الهوانم الذي تراه في برامج الطبخ في التليفزيون .
هل ينصرف، حتى لا تراه هذه الأرملة التي لا تُبل في فمها فولة، فتهتز صورته الحازمة في بيته أمام زوجته وأولاده، وأمام مرءوسيه في مصنع الملابس الجاهزة، وربما تعرض للسخرية بتقَّول الناس عليه، أنه لم يكتف بما يصادفه في الدنيا حوله، ولجأ إلى "المبكاه" ليبكي مثل النساء. أم يهمل ما قد يقال، ويصغي لنصيحة طبيبه بضرورة دخول هذه الدار، حتى لا تتفاقم حالته، وقد جرب أدوية كثيرة دون فائدة. وحذره من التقاعس، فقد تعصاه أعضاء جسده، ويصاب بشلل نصفي في الوجه، أو تيبس في القدمين يتعذر معه المشي .
خطا نحو الكشك، يدفعه فضول لمعرفة سبب حضور انشراح، وينحى بصعوبة هواجسه، فلم يسبق لأحد أن أخبر عما لاقاه في "المبكاه" وثمة شائعة متداولة أن الداخل مفقود .
ناول المستخدم تقرير طبيبه، شمله بنظرة سريعة وقال :
- قدمه في حجرة الأمناء .
وجذب استمارة من ملف أمامه، ليملأ بياناتها، وتطلع إليه، فقال :
- عطوان الزهيري
- السن .
- 54 عاماً .
- هل سبق دخول "المبكاه" .. ؟
- لا
- انفلات أم تحجر .. ؟
- تحجر .
- الأمناء ثالث حجرة على يمينك .
وجد في الحجرة عدة مكاتب، يجلس إليها الأمناء، فوقف حائراً. أشار له أحدهم، فلحظ أن مكتبه أعرض، وأوحى وقاره أنه كبيرهم .
ناوله ما بيده، كرمش التقرير وألقاه في سلة المهملات. وإزاء نظرة عدم الفهم، قال كبير الأمناء في ضيق :
- لسنا جهة علاجية، إننا نساعد الناس على استعادة مقدرتهم على البكاء العادي .
وضغط زراً خلفه على الحائط، فحضر ساع ناوله الاستمارة وقال :
- المشرف المناوب .
سارا في البهو، حتى وصلا إلى حجرة، مكتوب على لافتة نحاسية معلقة على بابها "لمشرفون"
وبها عدد من العاملين، وضع الساعي الاستمارة على مكتب أحدهم وانصرف .
قرأ عطوان على واجهة مقلمة على مكتبه "نظمي البيلي"
قرأ المدعو نظمي الاستمارة، واستكمل بعض البيانات عن عمله وتاريخ الحالة وطبيعتها، فأفاده أن رغبة في البكاء تلح عليه ، لكنه غير مستطيع .
- تستريح قليلاً أم نبدأ الآن .. ؟
ولما كان عطوان في شوق للخلاص، قال :
- الآن
نظر نظمي في ساعته وقال :
- خير البر عاجله.. حانت نوبتي على أية حال .
مشيا في البهو، لا تكاد قامة عطوان تحف بكتفه، واكتنفه خجل من بدلته، التي ظنها فخمة، فإذا هي لا شيء بالقياس إلى بدلة المشرف، رمادية اللون، صوفها انجليزي كما بدا له، بها أقلام بيضاء تفرق بينها مسافة إصبع .
توقف أمام حجرة في أول البهو على اليسار، نصف بابها العلوي زجاجي غامق، وطلب من عطوان النظر .
لم يكد يفعل حتى ارتد مضطرباً .
ابتسم نظمي، ووشت عيناه الخضراوان بعدم مبالاته، وقال :
- زجاج فيميه مركب بحيث تراها وهي لا تراك .
استرد عطوان أنفاسه، وقد اطمأن لعدم رؤية انشراح له، ولحظ انحناءة في ظهر نظمي، وهو يمد يده ليحرك زراً في سماعة مستديرة أعلى الباب، وسمع انشراح تبكي وتقول :
- فصصت فدادين، وقشرت فدادين.. وبنتي الكبيرة أخذت دبلوم تجارة، رفضت المحال التجارية تشغيلها، لأنها لا تعرف كتابة اسمها، ومنعت ابنتي الثانية عن المدرسة .
وأجهشت في البكاء، فاختلط دمعها بكحل حول عينيها، ولطخ في تعرج وجنتيها في لون ورِقة قشر البطاطس .
وكررت ما قالته، وعاودت البكاء، وهي تهز رأسها، فيهتز هلالاه. وانحسر منديل أبيض عن رأسها، فظهر مفرق شعرها المكشكش، وتعلق بشعرها الملموم خلف رأسها كشوشة كوز ذرة صغير .
أشار نظمي لمجموعة من النزلاء، كانت في انتظاره، فتقدمت إلى الحجرة، تنحى عطوان جانباً، وقد تسللت إليه شفقة، وهو يرى جسمها بسيطاً في جلباب من كستور منقوش، بعد أن خلعت معطفاً من قماش خفيف أزرق متراخي النسيج لا يفارقها، وعاتب نفسه لظنه أن فشتها عائمة .
سأله نظمي :
- ها ..
هز رأسه نفياً
- ولا بادرة رغبة في البكاء .. ؟
عاود هز رأسه بالنفي . وأراد أن يسأله عن سبب وجودها في "المبكاه" وهي تستطيع البكاء في الخارج كما تشاء .
أفصحت نظرات نظمي، عن معرفته لما يدور في خلده، لكنه اصطحبه إلى استراحة في وسط البهو، يقدمون فيها مشروبات وشطائر وبسكويت مغلف في أحجام ونكهات مختلفة، جلسا إلى ترابيزة مستديرة وقال نظمي :
- أنت ضيفي اليوم .
وافق عطوان بعد تمنع، وطلب شاياً، أتى به العامل، وبرفقته قهوة لنظمي دون سؤاله. رشف رشفة استطعم فيها مذاق البن المنعش، وقال :
- انشراح تأتي كمتطوعة عدة ساعات في اليوم، ليراها المتحجرون، ربما لانت محاجرهم .
أثنى عليها عطوان في سره، وهو الخائف من معرفة أحد بحضوره، بينما استمر نظمي :
- وهي أيضاً تستفيد، فالبكاء هنا آمن، وسوف نساعدها، لو انفلت عيارها، أما لو حدث ذلك في الخارج فستجبر نفسها على التوقف لممارسة عملها، وقد تصاب بالتحجر.
تعلقت عينا نظمي بساعة كبيرة على الحائط، وقال وهو ينهض:
- انتهت نصف الساعة المقررة .
ذهبا إلى المجموعة، وتملى نظمي في وجوههم ، وسأل :
- لا جديد .. ؟
لم ينتظر إجابتهم، وصحبهم إلى الحجرة التالية.
لم يكد عطوان ينظر حتى ارتد غير مصدق. ربت نظمي على كتفيه وأعاده إلى مكانه، كان الطبيب الذي كتب تقريراً عن حالته يقول :
- المخدرات التي تباع في السوق رخيصة، وتؤثر بشدة على الفص الأمامي للمخ، المسئول عن ترويض الغرائز والسيطرة عليها، شكونا لنقابة الصيادلة، ولوزارة الصحة، وما من مجيب .
وانفجر باكياً .
وبعد انتهاء الوقت المقرر، عاود نظمي سؤاله لهم وهو يتفحص وجوههم، ودن أن ينتظر إجابة قادهم إلى الحجرة التالية.
رأى نظمي عجوزاً أصلع ، وسمعه يصيح في عصبية :
- أوقفوا دوري كرة القدم وجثتي نحست لعجزي عن الاستحمام .
وانفجر باكياً ..
- الدنيا برد . والمياه لاتصل إلى الدور الرابع بالموتور .
وعلا نشيجه، وقال وهو يتفتف :
- جمهور النادي الأهلي الكبير عندما يتسمر أمام التليفزيون، يسمح ضغط الماء يإشعال سخان البوتاجاز ..
وأخذ يبكي ويلطم خديه .
وبعد انتهاء الوقت، سألهم نظمي، وقادهم إلى الحجرة التالية .
نظر عطوان، فتراجع وهو يردد :
- معقول .. ؟!
عاود النظر فتأكد له ما يراه. الشحاذ الذي يفترش الرصيف على ناصية شارعه، معوج الساقين، وجلبابه رثة وشعيراته الهشة مهوشة أعلى قورته، ويمد يده اليمنى مفرودة الكف كصحن يتلقى حبات المطر.
رآه عطوان في بدلة لا بأس بها، وقد ابيض وجهه، ونام شعره على رأسه بكريم لمعه .
وكان لا يصدق ما ترويه عنه انشراح. يعطيها الفكة لتمشي حالها ويأخذ الورق الصحيح، ويذهب إلى ميضأة مسجد قريب ويغير ملابسه . وصارت بينهما معرفة، فأخبرها أنه موظف، وله أولاد في الجامعة. يأتي في بعض الأيام ، ويواظب في يومي الإجازة، فبعد صلاة الجمعة، ينعم بأريحية المصلين، وفي يوم السبت تقام السوق الأسبوعية للمدينة، فيجلب الفلاحون الخضروات والسمن والجبن وشقق العيش البيتي المرحرحة والفطير، يجاورهم باعة الملابس المستعملة، والأدوات الكهربية القديمة وهواة تطيير الحمام، يعرضونه في الأقفاص على الشباب .
وكان الرجل يولول ويصيح :
- قرار جائر .. منهم لله .. قطعوا عيشنا.. كلما رآنا مخبر أخذنا للتحري عنا ..
قرار جائر.. حرم الناس من الحسنات ومردودها المجزي .. فالحسنة بعشرة أمثالها.. وحرم الناس من الإحساس بالراحة بعد الإحسان .. قرار ظالم ..
وانخرط في بكاء شديد .
وبعد انتهاء الوقت، كرر نظمي سؤاله ، ودون أن ينتظر رداً كالمعتاد ، قال :
- يكفي ما شهدتموه اليوم .
وقبل أن ينصرفوا، أسرع ساعٍ إلى المشرف نظمي، وناوله ورقة، وقال :
- طلب بكاء عاجل . كبير الأمناء أوصى بتلبية الطلب في الحال .
رد نظمي في ضيق :
- دون ترتيب ..؟!
وما كاد يفرغ من قوله، حتى جاء أحد الأمناء بصحبة سيدة، تركها، وانتحى جانباً بنظمي وقال بصوت خافت
- إنها تريد البكاء لوجه الله .. ويريد سعادة كبير الأمناء الإفادة من حماسها قبل أن يخبو .
جمع نظمي المتحجرين حول السيدة، التي بدت في منتصف العمر، متناسقة الجسم، ولا يدري لماذا ذكرته بانشراح التي تميل إلى الطول مثلها، لكن بطنها بارزة قليلاً . أشار للسيدة، فقالت :
- الطيران .. الطيران ..
وانفجرت باكية .
- اشتريت قطعة أرض، أقمت عليها بيتاً من دورين، الثاني لسكناي، والأول جهزته بمكن سرفلة وعمل العراوي.
وصرخت ودخلت في نوبه بكاء، قالت بعدها :
- الترخيص .. الترخيص ..
غرامة لأنني بنيت في منطقة عشوائية. أفادت ورقة من الحي أن الأرض داخل كردون المدينة .
لم يعترفوا بها، ورقة من وزارة الاسكان أكدت ما جاء في الأولى. اعتمديها من المساحة .
اعتمدتها، ودفعت .. رسوماً ، وإكراميات .. يلزم شهادة من الطيران المدني أن البيت لا يقع في مسار الطيران .. حتى لا تحف به طائرة ..
ورقعت بالصوات .. وصاحت :
- الطيران .. الطيران ..
وقالت إدارة الطيران لا نعطي شهادة لأفراد، وقالت إدارة التراخيص لا نعطي جواباً، فلا مصلحة لنا،ارجعي للطيران..
الطيران .. الطيران ..
وتملكتها نوبه بكاء هستيرية .
- رق عطوان لحالها، فتقدم نحوها . برقت عينا نظمي وأخبره هامساً أن قواعد "المبكاه" تقضي بعدم التدخل .
وحين تأمل وجوه المتجمعين، ورأى بعضهم يبتسمون، وبعضهم يضحك في خفوت، قرر حجز السيدة في عزل المنفلتة دموعهم لسبر غور بكائها .
وعندما رأى بعد قليل عيونهم تنشع بالدمع، غزاه قلق مبهم. فهل هي الدموع التي تعقب الضحك، وتجعلنا نقول : اللهم اجعله خيراً، أم هي دموع حقيقية، وتأكد له ما انتواه من ضرورة حجزها .
صرف نظمي المجموعة ، وذهب إلى حجرة المشرفين بصحبة عطوان والسيدة. دخل ليعد تقريره عن جولة اليوم بينما انتظراه على دكة في جانب من الباب .
استدعى نظمي عطوان، وأخبره بضرورة حجزه، فحالته لا تتحمل وجوده خارج "المبكاه" .
وقبل أن يسأله عن موقفه في العمل، طمأنه ألا يشغل باله، وسيعامل كمن في مهمة رسمية .
- ولو سمحت تليفونك المحمول وبطاقة الرقم القومي .
وضغط زر الجرس، جاء على أثره ساع :
- عزل المتحجرين .
سار معه عطوان وقد غامت عيناه، لا تغادر مخيلته ما رآه . سأل الساعي عن أوضاعهم، فلم ينبس بكلمة .
مد يده في جيب بنطلونه، وعزل ورقة مالية جانباً، وفركها ليتأكد من وحدانيتها. لقمها يد الساعي، فقال بجفاء:
- ماذا تريد أن تعرف .. ؟!
- الشحاذ .. ؟
- محجوز .. فكلامه عن المردود خطر .. وقد يؤدي –كما سمعت من أحد الأمناء– إلى فتنة طائفية فنحن لا نعرف مردود الحسنة في الديانات الأخرى .
- و الطبيب .. ؟
- معه تصريح بالحضور يومين في الأسبوع .
- والعجوز .. ؟
- محجوز حتى عودة الدوري .
وتلعثم عطوان وهو يبحث عن كلمات يستفسر بها عن موعد الإفراج عن المتحجرين .
لزم الساعي الصمت، فلقمته يد عطوان ورقة أخرى ، قال :
- فرجه قريب .
- ماذا تقصد .. ؟!
- أحدهم رأيته يبكي وقد انفرد بنفسه في نهاية إحدى الجولات، وأبلغت المشرف، فسارع وتفحص وجهه، وسأله بضع أسئلة. وكنت أقف في انتظار أية إشارة، لكن المشرف اقترب مني، وشوح بيده وهو يهمس: دموع للتحايل على الخروج .
وصلا إلى حجرة كبيرة في الدور الثاني، وسلمه الساعي للقائم عليها، وغادره وهو يقول أنه في خدمته لو احتاج لأي شئ .
رأى بالحجرة أسرة على الجانبين.. هذا مستلق.. وذاك يقرأ .. وبعضهم يلعب الورق أو الشطرنج في صمت .
ألحت على عطوان رغبة في البكاء، فسأل القائم عن حجرة خاصة ، فلم يرد .
عندئذ لقمه بالمعلوم . قال :
- سأعطيك حجرة اليوم استثناءً .. وفي الغد، تكتب طلباً وتضع مبلغاً في الأمانات، لتسديد إيجارها .
وقاده إلى حجرة مجاورة، فتح بابها الخشبي الرصاصي اللون، ولم يكد يدخلها ويغلق الباب حتى سمع نقرات عليه، والقائم يفتحه ويقول :
- معذرة .. نسيت أن أبلغك ببرنامج الغد ، في الصباح جولة على المنفلتة دموعهم .
- الذين رأيناهم اليوم .. ؟
- لا .. نوعية مختلفة . وبعد الظهر ، سيشاهدكم المنفلتون .
- كل منا في حجرة .
- لا .. فالمشكل أن أياً منكم لا يبوح بقصته.. ستوضعون في حجرة واحدة .
وأعقب شده للباب خلفه، سكون مطبق . سكون مشبع برطوبة الحيطان وبلاط الأرضية، سكون له ملمس معدني كشباكي سريره والكرسي والترابيزة. سكون تسرب إلى مسامه يكاد يرعش أطرافه . جلس على حافة السرير ومد يده إلى جيبه ليأخذ تليفونه، وسرعان ما أخرجها كاسف البال . أمسك رأسه بين يديه فإذا بتنميل، انتفضت منه أعداد كبيرة من النمل عندما حركها .
استلقى سانداً رأسه على حديد الشباك .
وانسابت دموعه ..
19 - عايدة وبرهوم
تجمعت قافلة من عشرين جملاً، على الضفة الغربية لقناة السويس، أمام كوبري الشط الذي أقامه المهندسون على القناة، وكانت محملة بالمؤن والذخيرة، وقبل العبور قصفتها الطائرات الإسرائيلية، فحدث اضطراب بين الجمال، وبعد السيطرة عليها، شرعت القافلة في العبور باستخدام المركبات البرمائية، تلاحقها القذائف الصاروخية، فتأرجحت المركبة التي يستقلها قائد القوة النقيب عبد الرحمن شكري، وقبيل الوصول إلى الشاطئ، وقع في الماء. أسرع بالتشبث برجل الجمل برهوم، وهو يخشى أن يرفسه لتوتره من دوي إطلاق النار، فإذا به يرفعها جاذباً إياه .
وسارت القافلة بمحاذاة القناة، متجنبة النقطة القوية للإسرائيليين في لسان بور توفيق، والتي لم تسقط حتى هذه الساعة في أيدى القوات المصرية .
ولم تكد القافلة تنفذ من ثغرة فتحها المهندسون في الساتر الترابي، حتى لاحقتها قذائف الدبابات والطائرات، فسقط عدد من الجمال بين قتيل وجريح .
اكتسى وجه النقيب عبد الرحمن بالأسى، واعتراه القلق، ألا يصل بباقي القافلة إلى كتيبة الصاعقة التي أسقطت في آخر ضوء من يوم السادس من أكتوبر، عند مضيق سدر، لمنع الإسرائيليين من تحريك لواء مدرع عبر المضيق، قد يعوق المهندسين المصريين عن إنشاء الكباري الثقيلة على القناة لعبور الدبابات والصواريخ والأسلحة الثقيلة .
أسعف سالم الأبريمي الجرحى، وأرشد القافلة إلى موقع بطارية صواريخ مهجورة من حرب 1967، فاختبأوا بين دشمها، والنقيب عبد الرحمن يعجب لتصاريف الظروف، فما تركته القوات المصرية في حرب 67، ينقذهم في حرب 73 .
وسرعان ما سمعوا أزيز طائرات استطلاع، وقد تدلى من إحداها جندي معلق بحزام، يطلق النار على الدشم، ربت النقيب عبد الرحمن وجنوده على ظهور الجمال لتهدئتها، وأعقب ذلك طائرتان، انهمر منهما الرصاص، فأعطى النقيب أوامره بمغادرة الموقع، واقترب من الجمل برهوم يمسد رأسه الصغيرة، ويحتضن رقبته، لطمأنته، تلاحقه نظرات ساهمة من الناقة عايدة.
وذهب الرقيب مختار عوضين وزميلاه من حرس الحدود إلى مكان القتلى وواروها الرمال. وتحاشى النقيب عبد الرحمن النظر في عيونهم . وود لو يشرح لهم ..
في الساعة السادسة والنصف من يوم السبت نفسه، أقلعت مروحيتان من منطقة العين السخنة، فأسقطتهما الطائرات الإسرائيلية، ونجوت مع بعض الزملاء، وانتشلتنا قوارب حرس الحدود في خليج السويس. وكان لابد من تكرار المحاولة، فوصول الزاد لكتيبة الصاعقة، قد يترتب عليه نجاح عبور قواتنا في هذه المنطقة من عدمه .
وبعدها انطلقت طائرتان من جبل عتاقة عند ميناء الأدبية، وللأسف انفجرت إحداهما في الجو وسقطت مشتعلة، وأصيبت الثانية، وقفزنا منها، حيث أصبت وبعض الزملاء برضوض بسيطة.
أخبر سالم النقيب أن برهوم أصيب وجرحه خطير، ولم يجد إسعافه، والأفضل ذبحه والانتفاع بلحمه . امتلأت نفسه بالضيق، لأنه لم يصغ لنصيحه سالم من قبل، بتخفيف حمله، وإراحته مع أحد الجنود، بعض الوقت، ثم يلحقان بهما. وتحول قلقه إلى غم .. فهل يستطيع أن يتناول قطعة من لحمه .. وأخذ يتفحص جرح برهوم وقد آلمته نظرته المستسلمة .. والآن يتفهم امتناع أهالي دمياط عن أكل لحوم الجمال.. فعندما حاصر الصليبيون مدينتهم، تسلل بعض أهاليها إلى المنصورة، وأحضروا الجمال وذبحوها، ونظفوها، وحشوها بالأرز والدقيق واللحم والسلاح، وخاطوها، وألقوها في النيل، بعد رشها برائحة كريهة، ليجرفها التيار السائر إلى دمياط، مارة بين قطع أسطول الصليبيين، الذين كانوا يبعدونها نافرين من رائحتها .
أمر النقيب الرقيب مختار وزميليه في حرس الحدود، بالمضي قدماً بالقافلة، واستمهل سالم حتى يبتعدوا، مراعاة لشعورهم، فهم الذين تولوا إطعام الجمال وتدريبها والإشراف عليها وبمعاونة سالم حفرا في الرمال، وأومأله، فقفز بجسده القليل، وقد لمعت بشرة وجهه الداكنة تحت أشعة الشمس، يلفه بشال أبيض، معقود من أعلى وفوقه غطاء رأس كاكي .
وأومأ الدليل بدوره إلى الضابط فأدار رأسه، ودوى طلق ناري. امتلأت نفسه بالضيق .. واتهمها بإرشاد الإسرائيليين إلى مخبأهم. فقط لحظ أن الإسرائيلي المدلي من الطائرة كان يطلق النار على خط سير الدورية، فقد غفل في لهوجته للاختباء عن تمويه خط السير كالمعتاد.
التأم شمل القوة، ووخزته نظرات الجنود. ليت الظرف يسمح ليشرح لهم .
فجر الأحد السابع من أكتوبر، كُلفت بقيادة عشرة قوارب سريعة، وفي كل منها عشرة فدائيين من زملائي في الصاعقة، لنعبر خليج السويس، بمسافة اثنين وعشرين ميلاً بحرياً، حتى منطقة رأس مسلة بين عيون موسى ورأس سدر. وفوجئنا بمجرد نزولنا على الشاطئ الشرقي للخليج، بلنشات الصواريخ الإسرائيلية تقصف المنطقة، وتحولها لأتون مشتعل، واستشهد عدد كبير من الرجال .
سارت القافلة، وقلوب الرجال تخفق في اضطراب، وقادهم الدليل سالم إلى منطقة بها أشجار، برَّكوا الجمال تحتها، وموهوماً بالأعشاب، وشرعوا في تضميد الجرحى، وكانت عايدة بينهم. امتلأت نفسه بالأسف، وهو ينظر إلي عايدة. حاول إبعادها عن الاقتراب من برهوم، لحظة إصابته، والشظايا تتناثر في كل اتجاه، واقترح على سالم محاولة إخراج الشظية التي استقرت أسفل رقبتها ، فاعترض سالم لأن ذلك سيتبعه توسيع الجرح، مما يزيد التلوث، الذي قد يقضى عليها . وأخبره وصوته ينشع بالحزن، أنها بلغت سن التزاوج .
تمخضت شفتا النقيب عن ابتسامة لا تخلو من مرارة. الآن فقد يعرف سر نظرتها الساهمة، عندما احتضن رقبة برهوم.
وحاول التخفيف عنها، بحك أعلى رأسها الصغير بلطف، وهو يتأمل أذنيها القصيرتين، يغطى جسدها زغب يميل إلى الصفرة في بطنها، وإلى البنى الفاتح عند ثنيات أعضائها. وسيقانها رشيقة كسيقان خيول السباق، تنتهي بخف محيطه قليل .
وأوشك النقيب أن يسأل سالم، عن قرية قريبة من قرى قبيلته الترابين، ترتاح فيها الجمال المصابة وتتلقى العلاج، لكنه قد يتأخر عن الوصول إلى كتيبة الصاعقة، ومؤنها لا يكفيها أكثر من اثنتين وسبعين ساعة .
وتحرك سالم بخفة بين الجمال يتفحصها، ويصنفها، وبرفقته مختار وزميلاه. يوقفون نزيف إحداها، ويضعون ضمادة على جرح، ويلفون ساقاً مصابة برباط ضاغط حتى لا تتهتك، ويطهرون ثقوباً أحدثتها الشظايا وطلقات الرصاص في ظهورها وبطونها. وأذابوا أقراصاً مهدئة، وأخرى تخفف من الالتهاب، في الماء وسقوها للجمال.
وحط عليهم التعب فجلسوا أرضاً، وغزا جسد النقيب الفارع ما يشبه القشعريرة، فالتفت بوجهه في لون قش الأرز، وشعره الزيتوني غير الممشط، مضيقاً جفونه على حدقتيه العسليتين. كان غضب مكتوم يشع من نظراتهم، وقد تراخت أجسادهم، وعهده بها مشدودة، وقامة مختار طويلة، بخلاف مواطنيه النوبيين، أحدهما نحيف ويميل إلى القصر، والثاني متوسط الطول، وتشاركوا ثلاثتهم في لون جلدهم البني الداكن .
وود لو يخبرهم أنه ليس أقل منهم غضباً، وأنه لم يرحم نفسه من تأنيبها، وتأنيب القيادة التي اقترحت استخدام الجمال. وإن كان بعد ذلك يخفف من حنقه، فهو أول من يعرف بإخفاق الوسائل الأخرى .
في الثامنة من صباح الأحد السابع من أكتوبر، تم تجميع قوة من رجال الصاعقة مرة أخرى، داخل عشر مركبات مدرعة، وقبل الوصول إلى ممر في الساتر الترابي، انزلق جنزير إحداها في الطين والماء المتخلفين عن فتح الممر، وسقطت في القناة. وقفزت وباقي الرجال منها، قبل سقوطها، وبينما تحاول المركبات الأخرى العبور، انقضت الطائرات الإسرائيلية عليها .
حين أصدر النقيب أمر بالتحرك، أبلغوه بنفوق عايدة، فجلس محبطاً، وقبل أن يشرعوا في موارتها الرمال، فرد ملاءة من مشمع أصفر، وضعها عليه، وسأل سالم ومختار أن يسدياه معروفاً، بدفنها في جوار برهوم على مقربة يسيرة، وسوف ينتظرهما .
وعلى عكس ما توقع لقى اقتراحه استحساناً منهما ومن الجنديين باقي القوة، وعند عودتهما لحظ النقيب عرجاً في إحدى قدمى مختار، فأخبراه أنهما لمحا طائرة استطلاع إسرائيلية في طريق عودتهما، فلبس كل منهما شوالاً والتصق بجانب من نتوء صخرى، ولم تكد الطائرة تغادر، حتى خلعا الشوالين، وإذا بنار في قدم مختار، فانتفض فزعاً وقد رأى طريشة يسرع هارباً، ووسع سالم مكان اللدغة، ليخرج ما يمكن من الدم الملوث .
أسرع النقيب إلى حقيبة طبية بحوزتهم، وتناول مصلاً حقن مختار به .
اشتد وهج الشمس، فسأل النقيب الدليل عن المسافة الباقية، فقال بثقة أنهم قطعوا أكثر من خمسين كيلو مترا، وباقي حوالي ثلاثة وعشرين، وأمرهم النقيب بالتحرك وهم يتمتم : يا مهون، آملاً في الوصول سالماً بالجمال الثمانية الباقية، وأمر بتخفيف حمل أحد الجمال وتحميله لآخرين، ليركب مختار، حتى لا يفقده، وساعتها لن يسامح نفسه لمشورته الحمقاء بمكان دفن عايدة .
وانبثق في رأسه، أن عايدة لم تمت بسبب جرحها، ولكن بسبب حزنها.. وعاودته النقمة على استخدام الجمال.. وبعد قليل حاول دفعها بعيداً ..
ففي الساعة الرابعة من يوم الأحد نفسه، دفعت القيادة عدداً من الطائرات المروحية، تسحب طائرات شراعية، محملة بما يلزم، لتتركها فور اقترابها من الضفة الغربية للخليج، بين السخنة والسويس، لاتجاه الريح، حيث تتساقط في اتجاه الشرق بسيناء. وبمجرد اقتراب التشكيل من الخليج، هاجمته أربع طائرات فانتوم وأسقطته.
لمح رجال القافلة سرباً من طائرات الميراج الإسرائيلية، يطير باتجاه المضيق. مضى الوقت بطيئاً، وراح النقيب عبد الرحمن يتلفت حوله في عصبية، غير مصغ لأية كلمة مصبرة من رفاقه، ولم تهدأ عصبيته، إلا بعد رؤية الطائرات المصرية في أثرها .
وحار النقيب.. هل يكمل مسيرته .. ؟! .. أم ينتظر .. وجاء الجواب عند رؤيته للطائرات المصرية العائدة، فغذا المسير.
وقبل أن تغيب الشمس، لاح الجبل ينطبق على المدق، وانشقت جنبات الصخور عن سواعد رجال الصاعقة، تلوح بما في أيديها من أسلحة .
ورد النقيب ورجاله التحية، وأسرعوا في إنزال المؤن عن كاهل الجمال .
20 - غضب الغربان
ما أن دخلنا الحصن ، حتى كان همنا أن نعثر على ماء .
فوهج الحرائق في الخارج ، واشتداد القصف الذي غطانا بالرمال في الحفر التي لجأنا إليها ،جعلنا في أمس الحاجة إليه . جفت حلوقنا ، وغبار أصفر يعلو رموشنا، ويلطخ مع سناج متخلف عن الدخان الكثيف وجوهنا .
وها هو مدفع الإفطار ، على وشك الانطلاق ، ونحن صائمون بالرغم منا .
وعندما عثر أحدنا على جركن بلاستيكي في ثلاجة، مليئاً به ، أطلت الفرحة في عيوننا وارتخينا أرضاً، ساندين ظهورنا إلى جدار الحجرة الصخري ، ومددنا سيقاننا، فى انتظار أن يتطوع زميلنا بتوزيعه علينا.
في بحث الزميل عن وعاء ، يسقينا منه ، عثر على دانة مدفع .. تفحصها وألقى بها ناحيتي .
تفحصتها .. نحاس خلاص ، وقدرت وزنها بحوالي عشرة كيلو جرامات .
ألقيتها جانباً ، فضحكوا جميعاً .. فليس معقولاً أن أحملها إلى المسبك الذي أعمل به .. ونحن لاندري ماذا ينتظرنا في الحرب التي لم نعبر سوى يومها الأول ..
أفرغ الزميل قليلاً من الماء في وعاء صغير عثر عليه، وإذا بنا نسمع مواءً.
فتشت عيوننا في دهشة جوانب الحجرة التي لجأنا إليها ، قطة لم ننتبه لها، ملتصقة في جانب ، قوست ظهرها، ورفعت ذيلها .. تثقبنا بعينيها .. نهضت متثاقلاً ، تقدمت منها في حذر ، أمسحها بنظرات مطمئنة. ظلت هادئة ، وعندما خف تقوس ظهرها اقتربت منها وتشجعت وربت على ظهرها .
حملتها وعدت إلى مكاني ، وأنا أتساءل .. كيف لم نلحظها عند دخولنا . وأشرت للزميل أن يحضر ماءً للقطة بعد أن يفرغ من الزملاء ، لكن خاطراً جعلني أصيح:
- انتظر
|
توقف أول الشاربين وطالعتني نظراتهم مدركة ما هجس به خاطري .. ، فربما سمم الإسرائيليون الماء .
أخرجت راديو ترانزستور من جيبي ، كان المذيع يردد أحاديث نبوية وأدعية بعد آذان المغرب، ولم نلبث أن سمعنا دعاء المصلين لنا بالنصر .
أبعد الزميل الماء .. وأخرج كل منا تعييناً جافاً من شدته، نشارك الصائمين فطورهم.
واقترح أحدنا عمل شاي ، فالتسخين يقضي على السم.
- ومن أدراك ..؟! .
تركزت نظراتهم على القطة التي التصقت ببطني .
قلت وأنا أخشى أن ينشع الإحباط من نفوسهم :
- لا .. لا ..
قال أحدهم يشجعني :
- قطة اسرائيليية على أي حال
عاد القصف، فأمرت أفراد السرية بالانتشار حول الموقع، لأن القائد الإسرائيلي سوف يركز على قلبه إذا كشف الخدعة متوقعاً احتمائنا داخله .
وتمهلت أتصل بقائد الكتيبة لإرسال نجدة من الدبابات، وأعلمته بموقعي منذ الصباح ، حيث فقدت دبابات السرية الإحدى عشرة، عندما حاصرني لواء ونصف من المدرعات الإسرائيلية، كما استشهد الملازم أول قائد السرية ، فأمرني بتولي القيادة بصفتي أقدم رتبة بعده .
كان وضعي ميئوساً منه وراودتني فكرة، فصحت في اللاسلكي وأنا أعلم أنهم يلتقطون مكالماتنا :
- الغاز الكيماوي .
وأمرت من بقى حياً من أفراد السرية بوضع الكمامات حول وجوههم .
|
وكما توقفت .. فور أن رآنا الإسرائيليون ، تراجعوا إلى الخلف وغطوا دباباتهم بالحصير الواقي.
انتهزت الفرصة واقتحمت الحصن .. فوجئ من بداخله بنا ، بينما دباباتهم على مقربة .. فأسرعوا إلى فتحات الهروب .
قذيفة قرب باب الخروج، تطاير الردم وعجزت عن التخلص من القطة التي دفنت رأسها في صدري ، تتقي الدخان الأسود الكثيف .
سحبت السرية إلى داخل الحصن .. وكان مضاءً بأنوار تشبه أنوار المترو .. واستطلع أحدنا ممراته .. حتى عثر على حجرة تعلوها قضبان سكك حديدية ، وفي مدخلها أكياس من الرمال ، فانتقلنا إليها .
خمنت أنها حجرة قائد الحصن ،، وناولني أحدهم " جركن " وجده في زاوية ، أدرت غطاءه وشممته .
- بنزين .
تراخت أبدانهم ، وقد جلسوا أرضاً في تحفز وأيديهم ممسكة برشاشات قصيرة المدى .
خفت حدة القصف ، فأرسلت جندياً للاستطلاع، عاد مهللا وقال :
- النجدة وصلت .
وتردد النداء في جهاز اللاسلكي :
- من قائد الكتيبة إلى الرقيب سيد .. من قائد الكتيبة إلى الرقيب سيد
- تمام يا أفندم .
- قواتا استولت على موقعي المعسكر الأبيض وغراب الماء .
هللنا جميعاً ، وتخلى الجنود عن حذرهم ، فقد أصبح الحصن مؤمنا ، فالموقعان في منطقة ممرات متلا، ولن يستطيعوا القيام بهجمات مضادة عبره، تعطل قواتنا من إتمام تمركزها على الشاطئ الشرقي لقناة السويس .
|
قررت مكافأتهم بوجبة ساخنة. أمرت بفتح علب طعام محفوظ، وأشعل أحدهم أقراص كحول بيضاء تحتها .
بعد تناول هذه الوجبة ، سيكون طلب الماء ملماً ، أسفت على فقدان جراكن الماء في دباباتنا المدمرة ، ونفاد ماء زمزمياتنا ، وعربة الماء ستمر بعد الظهر ، كما أخبرني ضابط التعيين ، والنهار لم يشقشق بعد .
اصطحبت زميلاً ، وخرجنا من الحصن ، لعلنا نصادف عربة جيب عائدة إلى الخلف ، فأرسل معها جندياً ، فليس معقولاً أن أرسله سيراً على الأقدام ، ومؤشر دبابتي قبل مغادتها ، أفاد أننا قطعنا مسافة ثمانية كيلو مترات و800 متر .
هل أرسله إلى موقع غراب الماء على بعد ثلاثة كيلو مترات، وقد لا يستطيع الوصول إلى جنودنا بسهولة في كمائنهم في الممرات .
ترددت في العودة إلى الحصن .. وأنا غير مستطيع مواجهة نظراتهم التي تركزت ثانية على القطة بعد تناول الطعام .
ما زال الدخان يتصاعد من الدبابات الإسرائيلية المدمرة ، فقاعات حديدية سوداء ورمادية تلوح في دروعها ، والتوت بعض مواسير مدافعها .
حامت بعض الغربان في الأفق ، وحطت على الجثث فوق جوانب الدبابات وفي بعض فتحاتها ، اقشعر جسدي وهي تنهشها بمناقيرها السوداء ، أطلقت دفعتين من رشاشي لإخافتها ، طارت وعادت تحط بثقل والغضب ينطلق من أحداقها .
ناديت في اللاسلكي بعض الزملاء ، لمواراة هذه الجثث في الرمال ، ووضعت إصبعي على الزناد لأطلق الرصاص ، توقفت وقد علت وجهي ابتسامة ، قلت لزميلي ، أحضر وعاءً به ماء بسرعة.
وضعته بالقرب من الدبابات وانسحبنا إلى الخلف نلاحظ الغربان، شربت من الماء.
ظللت أرقبها وقتاً مر على ثقيلاً .. ما زالت تنقل أرجلها .. وستعاود النهش .
قفزت القطة إلى صدري .. داعبت رأسها وأنا اقول :
- وزعوا الماء