إلى.. مدينة جنوبية .. مرة أخرى!.
القسم الأول
الملجأ المحموم
يبحث الجميع عن ملاذ :
/ القذيفة في اللحم / الزمن في الذاكرة/
الإبرة في الاسطوانة /
/ الليل في النهار /
/ والنهار في الليل /
(1)
ــــ ادخل يا نجم.. أسرع يا مجنون!
عاد الصوت ليصرخ بعد لحظة صمت:
ــــ ابتعد عن الباب وانبطح أرضا!
في صوت منشرخ استفهم:
ــــ ضروري؟
ــــ لا وقت للمناكدة.. سيعاودون القصف في أية لحظة!
اكتفى بسد سبابتيه في أذنيه، وأرغمه دوار خفيف على الاستناد إلى جدار ذي خروم وأخاديد تجسدت على لهب متقطع لقداحة غاز. توهجت جمرة ممصوصة قبل أن تتلاشى لتعاود العتمة احتلالها للأركان. ومضة أخيرة رسمت ظلالا لهياكل بشرية لم يتسن له معرفة عددها. فَلَقَ دويّ هائل أرجاء المكان مبتلعا الصرخة التي أعقبته مباشرة؛ فأطلق أحدهم ضحكة مختنقة في حين تواصل الصوت المحذر:
ــــ ابتعدوا عن الأبواب والشبابيك.
ــــ ألا يحتمل إننا اقتحمنا بيتا فيه عائلة و..؟
بتر تساؤله سيف نبرة حاد:
ــــ هذا الشارع قليلا ما تسكنه عائلات!
- غلط..
ــــ إذا افترضنا وجود عائلات فإنك تجدهم في الطوابق العليا ..
ــــ أين صرت يا نجم ؟
جاء رده فورياً وحاسماً:
ــــ في النعيم !
اقترح صوت بدا من الواضح أن صاحبه كان مبهور الأنفاس:
ــــ يبدو أنه مقهى..
ــــ وكيف حزرت؟
ـــــ من المصطبة التي تتراقص عرجاء تحتي..
انبثق صرير من ركن ما:
ــــ لعلنا في عيادة أو مختبر..
ــــ والدليل؟
ــــ رائحة الديتول..
ــــ أقسم بمقدساتي إنك لا تميز بين رائحة الجنة وعطّاب جهنم!
ــ لكنني متأكد بأننا دخلنا عيادة صالتها عبارة عن علبة كبريت. الأطباء اعتادوا استئجار مثل هذه الشقق أمّا لأنهم يحسقلون الأمور أو لأن الإيجار فاحش!
ــــ كفى يا ناس.. المكان لا يحتمل أي هراء.. مثلما دخلنا ينبغي أن نخرج..
ــــ تتحدث عن الخروج.. هه..! لابد إنك ماد يدك في كيس طويل!
ــــ كم ستستغرق الغارة؟ ساعة.. ساعتين؟
تدخل صوت أخفق في إخفاء ارتعاشاته:
ــــ التعتيم ضروري.. لا تشعلوا سجائركم قرب النوافذ..
أحدثت إحدى الأرائك صريرا حادا وهي تنوء تحت ثقل لائذ سمين أشعل تبغا من صنف خانق وطفق يئن لبعض الوقت ثم ما عتم أن انبرى متسائلا بلهجة تهكّم بدت واضحة المقاصد:
ـــ من هذا الغشيم القادم من سنوات الطواعين؟! يتحدث عن التعتيم و(بوش) أفندي يقصفنا بالأزرار..
مازال المكان خانقا ليس بفعل الدخان وحسب بل بتأثير تكدسه بالأجساد، فقام نجم بإيقاد شمعة لم يزد طولها عن عقلة أصبع، ما أتاح للمتدفقين على الداخل أن يقتنصوا وجوه بعضهم بعضا. كانت وجوها نصف مضاءة بدت أشبه ببثور بركانية على سطح كوكب بعيد. في ميسوره الآن أن يدرك أن المدخل صار أضيق من عنق قربة ماء. وعلى نور متأرجح لاحظ أن عددا من المتدافعين والمتدافعات على البوابة قد قاموا بسد ذلك المدخل، عدا امرأة كانت تتـقبع عباءة منسوجة من وحل الطرقات، وقد انتفشت أعلى هامة رأسها خصلة شعر اشتعلت شيباً. ربدت في مكانها مكوّمة على أرضية المدخل الباردة الملمس وهي تصر بإحكام على كيس رز فارغ، حتى حسبها الناظر إليها واحدة من متسولات الأرصفة أتت بها قدمان ضالتان إلى قمقم سليمان هذا! وحين عرفها بعد طول تفرس أجفل منكمشا على نفسه.
بعد قليل من الوقت أفضى بهم ذلك المدخل إلى قاعة أرحب مساحة، فأدرك وهو يقاوم دفق الهياكل الضاغطة وراءه انه مرسم علق على جدرانه عدد من اللوحات، في حين صفت لوحات أخرى على منضدة بطول محفة مستشفيات شغلت مساحة كبيرة من أرضية المرسم.
(2)
ــــ عيناي! صارتا جمرتين.. رحم الله من يطفئ السراج..
ــــ كيف نطفئه فيدوس أحدنا على الآخر في هذا الهندس الملعون؟!
ــــ يبدو أن حاسة شمك أصابها العطب..
ــــ وما دخل حاسة شمي؟
ــــ حدّد لي بالضبط.. ما الذي تشمه حاليا؟
ــــ رائحة بنزين أو ما أشبه.. كيروسين على الأكثر..
ــــ أأنت على ما يرام؟
ــــ ومن منا على ما يرام؟ أنا متصدع الرأس.. من وراء هذه الفانتومات الشبح التي لا تكف عن الأزيز..
ــــ إنها متجهة إلى بغداد..
ــــ بغداد أو غير بغداد.. المهم أنها توزع الجحيم على كل شبر في البلاد..!
لم ينقطع الأزيز لحظة. ثمة من أتى بشمعة أخرى واصلت إنارة جانب من المرسم وتعالت تضرعات المتكدسين في الداخل عقب دوي لصاروخ هزّ أرجاء المكان ليرين الصمت على الملجأ ثانية. تسلق تلك الأرواح الملتاعة نعيب صفارة إنذار ممطوط ثم خرّ متهاويا كنيزك.
وشوشت إحدى النسوة المنقذفات إلى رحم الملجأ:
ــــ دخيلك يا أمير المؤمنين..!
عقّب نجم:
ــــ صفارات آخر زمن.. متأخرة مثل كل مرة!
ــــ أحلم بأن أموت في بيتي..
ــــ أما أنا فرأسي مثل خرخاشة..
ــــ نحن في أي الحروب؟
ــــ لا ندري.. أضعنا الحساب..
سُمع غناءٌ منبعثٌ من بعيد. كان صوتا لم يخل من شجن وتعثر في اللحن ما أوحى بأن المغني كان ثملاً:
أهل الهوى يا ليل فاتوا مضاجعهم وتجـمعـوا يا لـيـل وأنـا مـعهم
يطولوك يا ليل ويقصروك يا ليل.....
زأر السمين متدخلا:
ــــ كوكب الشرق لاحقتنا لهذا الجحيم.. اقلبوا الموجة يا عالم.. نريد أن نعرف الأخبار!
ــــ ولماذا تتعب نفسك؟ نحن الأخبار.. ثم إن الإذاعة مقصوفة..
ـــ خلّونا نسمع أي إذاعة.. البي بي سي.. المونت كارلو... المنزول.. ابحثوا في الأركان.. يجب أن نعرف الحنظل من الليمون!
هتف نجم وهو يدني اللهب الأخير لذبالة شمعة من الطاولة:
ــــ هذا هو راديو الرسام.. لكن تنقصه البطاريات.
(3)
كانت الحرب قد تفتحت كزهرة وحشية منذ أمد بعيد، أبعد مما يتذكره هو أو أي من كائنات هذا المكان الهائج المائج الضاج بالصخب السابح في مدار الشمس، كما يقولون..
لم يستيقظ صدفة إذ رجّ بدنه المكدود انفلاق تبدد رويدا رويدا. وبالكاد تمكن من رفع جذعه ليعثر عليه مقوضا ومنطرحا على أريكة مهشمة تعلوها حشية اندلق طرفها المتمزق إلى أسفل.
وحين جاست يداه بحثا عما كان وسادة، ارتطمتا بفردتي حذاء، فأدرك بعد أن تفحصتهما عيناه إنهما لم تكونا خاصته فراح يبحث عن حذائه إلى أن عثر على كلتا الفردتين.. كل واحدة في مكان.
خاطبه صوت صديدي النبرة:
ــــ الكلاب فقط.. وراء ضياعها..
ــــ ضياع ماذا؟
ــــ فردات أحذيتنا..
ـ لعلها كلاب استعمارية.. أو استوردتها المخابرات من ألمانيا.. لكن كلاب..؟ هنا في هذا المكان..؟
ــــ ولم لا؟ إنها تأتي طمعا في اقتحام القمامة.. وربما تتسلل بحثا عن ملاذ..
ــــ هذا الجحر.. إنه لا يليق حتى بالبشر!
قال نجم في نغمة استعطاف:
ــــ أرجوكم.. دعونا ننعم بقليل من النوم..
فعاد أحد الصوتين المثرثرين للقول:
ــــ أنا قذفت قذفا لهذا الجحر بفعل شدة الغارة..
ــــ هل أصبت بالذعر؟
طافت قهقهة على أجنحة مشروب محلي مدوخ ليردد الثاني بعد برهة صمت:
ــــ كلا.. قلبي مات من زمان.. ثم أنني الوحيد الذي شاهد الطيار.. هاه.. هاه!
تسرب موشور من شعاع الشمس من خلل شباك نصف مفتوح لم يمنع نجم من استنشاق روائح تكدست في زوايا المكعب. بيد أنه أخفق في تحديد إن كانت متسربة من جوارب مكتومة داخل أحذية مخلوعة أو من زفرة أركان ناقعة بزفرة البول. ثمة زجاجات خمرة انطرحت صريعة: عرق محلي.. جن وكونياك وفودكا وويسكي بعلامات مهربة أو من النوع الرخيص، إضافة لزجاجات فريدة وشهريار شبه فارغة، قشور حمص مسلوق، حلقات خيار، بقع لبن خاثر وأعقاب سجائر تتربع على صحن مثلوم الحافة.
تساءل صوت بدا له مألوفا:
ــــ أين نحن الآن بالضبط؟
لوى نجم شفتيه:
ــــ لا أعرف.. إذا عرفت سأخبرك!
ــــ لعلك نعسان..
ــــ ليس تماما.. على الرغم من سهر البارحة..
ــــ سهر المطارق على الرؤوس..
ــــ كان القصف عنيفا البارحة.. مع أنه بدا بعيدا..
ضحك الآخر وقدم نفسه على أنه صاحب محل (خياطة الأمراء) في قلب السوق، واستطرد قائلا:
ــــ كلما اشتد القصف ازدحم المكان..
ــــ انفجار سكاني قادم.. إذا استمر تدفق اللائذين على الثقب..
بادره الخياط بنغمة لا تخلو من مزاح:
ــــ كلنا نعشق الثقوب.. أليس كذلك؟!
تجاهل الدلالة التي انطوت عليها ملاحظته مستنتجا:
ــــ إنه دأب الكائنات الحية..
تدخل رجل أشيب بوقار:
ــــ الويل للنمل وهو يدب تحت أقدام الفيلة..!
فأدنى الخياط فمه إلى أذن نجم هامسا:
ــــ من الواضح أن الصالة صارت مزدحمة بالفلاسفة!
أثارت سخريته الرجل الأشيب الذي يبدو أنه كان مرهف السمع فسدّد إليه نظرة نارية:
ــــ من أنت؟ الآن عرفتك.. أنت خياط ملابس الإمبراطور!
انفجر الخياط ضاحكا ثم زعق:
ــــ أستاذي العزيز.. أبا الحكايات!
التفت نحو الحاضرين مشيرا للرجل الأشيب:
ــــ أقدم لكم الأستاذ ناجي معلمنا في الابتدائية..
ــــ تشرفنا..
تدخل نجم متحدثا بنبرة من يناجي نفسه في صحراء :
ــــ إن عملية حفر بئر في الذاكرة قد تستغرق من الوقت ما يستغرقه حفر بئر حقيقية .. القذيفة تحفر .. الزمن يحفر .. أنت .. أنا .. الجميع .. أنها عملية مضحكة بقدر ما هي مبكية في واقع الحال ..
عاد الخياط ليتساءل :
ــــ ألم اقل لكم بأن القاعة غصت بالفلاسفة ؟!
ثم تابع بعد برهة صمت:
ــ كنا في قاعة غير هذه القاعة.. كانت هنالك لوحات فنية وأصباغ وفرش على طاولة، أم أنني كنت أتحلـّم؟
بادره المعلم:
ــــ رويدك.. أنت تقصد القاعة المجاورة.. قاعة البارحة التي قذفتنا الغارة إليها..
أيده الخياط:
ــــ تماما.. لكن لماذا؟ أهي غريزة الخوف؟
ــــ ربما..
ــــ أم هو صوت دواخلنا يأمرنا فنمتثل؟
ــــ نمتثل لأي شيء؟
ــــ أن نحتاط للأمر..
ـــ أية حيطة يا رجل؟! لسنا في زمن الحرب العالمية الثانية.. ولا حتى زمن حرب العراق وإيران..
فعقب نجم:
ــــ حسب علمي.. حرب العراق وإيران نسخة مستحدثة من الحرب العالمية الثانية.. هذا إذا لم تكن نسخة من الحرب العالمية الأولى.. معارك برية.. خنادق.. لكن ليست تلك هي المسألة.. نحن نكذب على أنفسنا!
ــــ لا مجال للمقارنة.. اليوم صاروخ واحد من على الميسوري..
ــــ الميسوري؟
ـــ حاملة الطائرات الأمريكية التي سمعنا عنها في الإذاعات.. صاروخ واحد منها يمكن أن يسوي بنا الأرض... كل شيء صار عرضة للانسحاق.. مطاراتنا.. جسورنا.. مصانعنا.. هذا بغض النظر عن راداراتنا ومعسكراتنا وفرقنا العسكرية دون استثناء..
منحت سحنته انطباعا بأصوله البدوية:
ــــ أعمل في إحدى مزارع الطماطم بالزبير.. وأقول لك جازما أنه لم تعد لدينا أسرار.. قبل يومين ذهبت إلى المرآب المركزي. كان صاحب باص للأجرة ينادي: المطار السري.. المطار السري.. نفر واحد!
استفسر بائع خردوات:
ــــ الجميع يعلم أن التحالف بدأ بقصف برج التلفزيون ودائرة البريد المركزي.. فأيهما تم قصفه من على حاملة الطائرات التي ذكرتها قبل قليل؟
ــــ ما عندي أدنى فكرة.. اسأل البيت الأبيض!
عاد البائع للتساؤل من جديد:
ــــ ولكن أين نحن الآن بالضبط؟
فأكد الخياط:
ــــ إنه بار.. من الواضح إنه بار.. ليس بار عمتنا ماري صاحبة (الببغاء).. إلا أنني متأكد من أننا في جوف بار..
ثم استدار صوب نجم:
ــــ ما أعرفه هو أنك تسكن قريبا من هذا الملجأ..
ــــ ليس قريبا بالضبط..
ــــ ما اسم هذا البار إذاً ؟
ــــ اعتدت أن أطلق على مثل هذه العلب تسمية مكعبات النسيان..!
ــــ نسيان ماذا؟
ــــ أشياء كثيرة تبعث على الأسى.. نسيان الألم.. الحروب!
ــــ إذاً؟
ــــ لابد أننا في شارع النسيان.. شارع الوطن.. هذا مؤكد..
فرقع الخياط أصبعيه:
ـــ كيف فاتني أن أعرف؟ لكننا معذورون.. الحروب تنسي الأم وليدها.. لم لا نخرج لاستكشاف المنطقة؟
ــــ هذا ما أنوي القيام به.. لكن ليس الآن..
هتف السمين بعد أن بذل جهدا مضنيا لمغادرة مقعده:
ــــ هنيئا لكم.. أنتم تتنزهون ونحن نعد الساعات عدّا هنا!
قال نجم:
ــــ كلنا في الهوى سوا..
فاقترح السمين:
ــــ يجب أن تكون لدينا فكرة جيدة عن منفذ ما.. وعدا ذلك سنتعفن لشهور..
مط ّ كلمة (شهور) مثلما يمط فتى علكة (بازوكا).
صرخت امرأة عجوز كانت منهمكة بدعك ثوب متفحم في طست:
ـ يا بوي.. شهور؟! مصيرنا أننا سنتحول إلى تمور (زهدي) مخموجة !
تفرق الجميع كل لهواجسه..
سكب على وجهه ماءً لاذع البرودة من كأس كانت موضوعة على إحدى المناضد ماسحا إياها بكمي سترته الكحلية. ومسح لوحات الجدران بنظرة خاطفة منحدرا ً بعينيه إلى هياكل من لم يستيقظوا بعد. كان النائمون يفتحون عيوناً غائرة المآقي, ثم يعودون لإسبالها.. ثمة من أشعل سيجارة فتذمرت صاحبة الطست مولولة:
ــــ لا تنقصنا إلا الحرائق!
وفجأة سمع المستيقظون صوتا عميقا مندفعا من زاوية ما أجش متقطعا وهو يعلن:
ــــ يا تقاة.. يا ضالون.. اسمعوا ما قاله الفيلسوف:
"أيـها الداخلون إلى هنا.. لا أمــل لكم بالخروج!" ..
(4)
بتلاشي دوي عدد من صواريخ التحالف، سمعت لعلعة رصاص متقطعة فعزم نجم على استكشاف أنحاء الملجأ وما يحف به من أبنية وأزقة. اندفع متعثرا بأجساد تتوسد الأرض، ومن ثم اجتاز ممرا مزحوما بقناني غاز وألواح خشب وصناديق صفـّت على بعضها بعضا. لم يتردد في اجتيازه دالفا إلى صالة واسعة الأرجاء قياسا بقاعتي البارحة. تتسلل إليها من ركن محاذٍ للسقف حزمة من نور الشمس كانت كافية لمشاهدة ما بداخلها من موجودات.
مسح المكان بعينين متقرحتين.
في تلك اللحظة أبصر الشاشة السكوب تحتل الضلع الغربي الأصغر.
- انه في قلب دار للسينما.
لعله المتفرج الوحيد على فيلم يختلف كل الاختلاف تماما عن أية أفلام شاهدها من قبل، في هذه السينما أو في غيرها. إنه فيلم الصمت أو صمت المدافن، تحريا لوجه الدقة، كما أنه ليس من فئة الأفلام الصامتة، لا ريب. فمنذ اللحظة التي خرست آلة العرض، راحت الصالة تعرض فيلما عصيا على التصنيف، فلا كان من فئة رعاة البقر ولا كان مراوغة من مراوغات شارلي شابلن. إنه فيلم بلا جمهور ولا شعاع منقذف ولا حشرجات من جهة السماعتين العملاقتين اللتين تحتلان ركني الشاشة الأيمن والأيسر، وقد تراكمت عليهما أطنان من الغبار. فيلم يتكرر عرضه في كل يوم من أيام ما بعد توقف الدار عن تقديم عروضها، فهو تارة يحمل عنوان الصمت وتارة النسيان، وتارة غبار الزمن.
تعددت العناوين والفيلم واحد!
راح يتفرس في الصالة وما اكتنفها من هدم وترميم ليكتشف أن الشاشة العملاقة و الدكة التي تربض عليها السماعتان، تبدوان كما لو كانتا خارج مبنى الدار الشتوي تحت رحمة شموس ألف نهار عابر. حينئذ أدرك وهو يتطلع إلى سقف المبنى الأمامي أن قسما منه قد تهاوى إلى الحد الذي صار بالإمكان مشاهدة فسحة مستطيلة من السماء.
كان ثلاثة أرباع المبنى شتويا والباقي صيفيا.
وفيما انهمك بالتراجع على مسافة أبعد من الشاشة، لمح نخلة كان ارتفاعها يناهز ارتفاع شطري الشاشة تتطامن منها سعفات هدلاء باتجاه الأسفل. وبما أنها غرست على مبعدة مترين أمام الشاشة ونظرا لارتفاعها، فإن الناظر يظنها جزءً منسيا من فيلم قديم بقي منطبعا على الشاشة.
ما الذي أتى بهذه النخلة لهذا المكان المغلق؟ وكم عمرها؟ وهل يمكن لأي مخلوق ــــ ما لم يكن فلاحا جنوبيا يلفظ الجيم ياء ــــ أن يحسب عمرها الافتراضي؟ كيف تسنى لها مواصلة العيش كل هذه السنوات في هذا المكعب شبه المغلق وفي ظروف إنارة شحيحة فلا الساق في الماء ولا الرأس في جهنم؟!
أمر مستغلق على الفهم..
الشجرة الخطأ في المكان الخطأ!
الشاشة نفسها توقفت عن أن تكون فضية ملساء مثلما كانت عليه في أزمنة ائتلاق أضواء المدينة. انقشع سطوعها الجبسي الذي كان يؤلف قشرتها الخارجية لتحل محله قشرة غير مغربلة خشنة تناهبتها الثقوب فكأنها أسنان مدمن على التدخين، كما أن صدعا شبه شاقولي متعرجا قام بفطر الشاشة إلى شطرين غير متساويين لتصبح شاشتين متقاربتين متباعدتين في آن معا!
العادة أن يخصص هذا الصنف من الشاشات المشيد من مادة الجص لدور السينما الصيفية، أما شاشات القماش فلدور السينما الشتوية، بيد أن الحال لا تنطبق على شاشة هذه الدار التي بدا من الجليّ أن مبناها شتوي لكن شاشتها من الجص، فهل كانت الدار صيفية في الأصل وحوّلت إلى شتوية أم أنها أنشئت شتوية في زمن عز فيه القماش الأبيض؟!
لا أحد بإمكانه أن يجزم.. الأمر سيان!
كان السقف مرشوشا بالصمت والظلال، لكن حزم النور التي تسربت إليه خلال الثلمات الناجمة عن تفتت آجر السطح أعانت على تبديد تلك العتمة. استطاع أن يلمح ثماني أو عشر مراوح سقفية التوت منشنقة وقد تجلطت على ريشاتها طبقات متفحمة من الغبار، كما أن عددا من ألواح الفلين الأبيض والذي يؤلف سقف الصالة الأخرى الثانوي ــــ حيث مقصورات اللوج العائلية ــــ قد تهاوى مخلفا مغاور وتجاويف متآكلة. أما على الجدارين الجانبيين فقد تعرّت براكيتات النيون من مصابيحها، والوضع نفسه انطبق على أنابيب التكييف المصنوعة من الألمنيوم والمثبتة على امتداد الجدران. لابد أن أيدٍ خفية قد عمدت إلى فصم أطواق تثبيتها لتتهدل هي بدورها كما لو كانت عربات قطار انحرفت عن مساراتها. ومثلما تآكلت أجزاء من السقف الشاهق الباهت التخريمات، تآكلت أيضا ألواح التغليف المعدنية والتي أفقدها الإهمال لمعانها المعهود، ما جعل المساحات الأعمق من الجدران تعكس خليطا غير منتظم من الألوان أو تتوقف عن إظهار أي لون على الإطلاق.
(5)
اذاً لم تعد دار السينما تؤدي مهمتها التي شيدت من أجلها: عرض الأفلام. فبعد أن وقع المحذور وفي غمرة تآكل أعداد مرتادي شارع الملاهي، لفظت الدار أنفاسها الأخيرة، وطوقت بأحزمة شقاء سكنية يعقب الواحد منها الآخر بشكل فوضى منظمة. النطاق الأقرب لمبنى السينما ضم تجمعا لبيوت جينكو وبلوك أجوف، محلات لبيع الخمور، دكاكين نجارة، محلات فارغة تؤوي بين جدرانها أعدادا من المجانين والمتسولين ومدمني المخدرات. أما النطاق الثاني فلم يكن ليقل رثاثة وعشوائية عن سابقه الأول إذ ضم مجموعة من الكرفانات وبيوت البلوك الإسمنتية التي تقطنها عائلات غير متجانسة ومنسيين سحقتهم الحياة ببسطالها الثقيل دونما أدنى التفات: مهاجرين من أرياف مدقعة، حالمين بثراء سريع وبأي ثمن، مصريين وسودانيين، وإن تقلصت أعدادهم، منحرفات وهاربات من عائلات مقطعة الأوصال أو متسربات من بلدات ريفية عرفت بتزمتها لتتلقفهن أيادٍ لا تعرف للرحمة سبيلا فيصبحن خليلات لضباط، وبائعات هوى في شبكات سرية. ثمة قتلة ومكبسلون وجنود هاربون من جحيم اسمه جبهات القتال، استمرأ بعضهم عيش الانزواء في صالات سينما مكيفة مركزيا، أو حتى سيئة التكييف يسكنون جحورا تفتقد أبسط مقومات العيش، سياسيون مطاردون يحلمون بانقلابات وجمهوريات فاضلة لم تعد حاضرة إلا في رؤوسهم المتعبة. أما النطاق الثالث فقد تداخلت مساكنه مع المساكن المجاورة فتذاوبت معها شيئا فشيء. وكالعادة لم يكن هذا المجمّع الذي يذكـِّر الداخل إليه ببرج بابل ليخلو من الذباب والقطط والكلاب السائبة التي استروحت الرقاد تحت عجلات السيارات المصطفة في مرائب المجمع الثلاثة والتي كانت تحتضن أيضا، في ساحاتها، مجموعة من عربات الدفع اليدوي ومجموعة أخرى من الدراجات الهوائية إضافة لحاويات القمامة التي تضخ في كل مساء كئيب حرائق خانقة هي أسوأ من عطن النفايات نفسها!
تتنازع في داخلك رغبتان متضادتان: أنْ تقفل عائدا من حيث أتيت وأنىّ لك ذلك أو أن تستأنف تفقدك للمبنى الذي طالما شعّ بمساقطه الضوئية وهي تنطلق من عدسات آلات العرض لتنقذف على شاشة فسيحة من حياة ساحرة حافلة بالألوان أو بالأسود والأبيض نابضة بالآكشن والوجوه الفاتنة والمعارك والقبلات والترحال. كيف لك أن تستبدلها بهذه الاختفاءات، هذه الظلال وهذا الصمت القتيل الذي يليق بالمقابر؟ بل حتى المقابر فاقت هذا المكعب المظلم في انغمارها بضوء النهار وعناقها للهواء الطلق وهي قبور!
بتر تأملاته منصرفا إلى صف من الكرفانات المختلفة الأحجام وضعت على امتداد جهتي اليمين واليسار. اكتشف أن الصالة قد فقدت الجزء العلوي الأقرب إلى غرفة العرض بما فيها مقصورات اللوج العائلية. أما القسم الأسفل من الصالة ــــ وهو الأرحب مساحة ــــ فقد تداخل مع موقع الدرجة الثالثة بعد اقتلاع الحاجز الخشبي الفاصل بينهما كما أن المصاطب والمقاعد لم تعد موجودة حاليا، وهكذا أصبحت الصالة الأرضية أرضا متدرجة عارية لولا سقط المتاع الذي تراكم على نحو فوضوي هنا وهناك.
ارتفع صرير باب من جهة الكرفان الأقرب إليه. طلع ولد أشقر الشعر وتثاءب ملقيا عليه نظرة استغراب متبلدة، رافعا دشداشته فإذا به بلا سروال داخلي وقد ظهر عضوه غير المختون منهمكا بالتبول على جدار الكرفان. ثم خرجت صبية ترتدي ثوبا فاقع اللون كان بسبب كبر مقاسه متهدلا جهة كتفيها، وقد ازدحم رأسها بضفائر قمحية اللون. أرقدت تلك البنت الصغيرة طستا على حافة تنور قريب مبقع بالسخام. كانت أشبه بدمية (باربي). رمقته بنظرة فضول سرعان ما تحولت إلى آهة ارتعاب فهرعت إلى الكرفان لتدخله. خرجت ثانية وجذبت الولد إليها عائدة إلى الداخل مطبقة باب الكرفان بقوة ذعرها.
أحالك ذلك المشهد إلى صنم لثواني حسبتها دهورا!
كيف تسنى لهذه المخلوقات دخول هذا المبنى والإقامة فيه؟
من غير المعقول أن يكون ذلك الأمر حصيلة انفجار شاشة سحيق في القدم أدى إلى انقذاف هذه المخلوقات إلى داخل الصالة.
- أن الجناح الأيمن قد تم إشغاله من عائلة واحدة. ثمة امرأة بملابس ريفية تحلب عنزة، سرب من الإوزات يحنجل بالقرب من بركة ماء عكر، وطفل رضيع موضوع في طبق خوص، ثياب حداد نسائية تتدلى من على حبل غسيل, وبجنْب الكرفان كشك من الفورمايكا لعله كان في زمن ما كابينة حراسة لشركة أجنبية، وثمة في الجوار خزان مبقع بصديد حنائي اللون وإبريق أقطم الإحليل.
في غمرة اندهاشه لم يلحظ نجم في بادئ الأمر خروج رجل قمحي البشرة أيضا، كان يعصب رأسه بكوفية رقطاء. استقبله بترحاب وقدم نفسه على أنه (عياف) أحد ساكني المبنى وحارسه غير المعين. يسأله:
ــــ صار لك مدة؟
ــــ منذ سنتين تقريبا.. كنا في الهور.. قبل أن يسري الجفاف إلى منطقتنا..
أشار إلى اللائذين بالمكان:
ــــ يوم لك ويوم عليك.. هذه هي الحروب وهذه بلاويها!
انهمك عياف بإخراج عدد من الكراسي والطاولات وعربة بعجلات عليها صندوق عرض زجاجي، كما أتى بعدة شاي وسكاكين وكمية من الخضروات وعلبة زيت للقلي وطبقة بيض. أعلن في وقار:
ــــ مطعم سينما البصرة في خدمتكم!
(6)
ارتج المبنى البائد بإعصار قذيفة مدوّ أعقبته صرخة فزع أطلقتها امرأة. اقتحم المكان عصف غباري حجب الرؤية لدقائق. أشعرتهم القذيفة بأنها الأقرب من جميع القذائف والأكثر إزهاقا للأرواح، وسرعان ما اندلعت حمى التقولات:
ــــ لا بد إنها سقطت على المبنى المجاور..
ــــ لا أعتقد.. وإلا لجرح من جرح..
ــــ يقولون أنهم استهدفوا البريد المركزي مرة أخرى..
ـــــ أغلب الظن أنها سقطت في شارعنا المغضوب عليه هذا..
ــــ من يدري؟
ساد المكان صمت كان يقطعه أنين هنا ونشيج طفل هناك، انهيار صاخب لكتلة ما.. كومة أحجار.. ألواح قصدير.. وشيئا فشيء فرت إلى الأسفل غلالة غبار معجون برائحة كيميائية تعذر الاستدلال على اسمها..
وبعد أن ارتخت قبضة ذلك الزلزال عادت الحياة إلى سابق عهدها هادئة رتيبة باعثة على الضجر دون أن تنطفئ نظرات فزع وشت بها الأعين.
تتلفت إلى من هم حولك من هياكل شبحية جائلة هنا وهناك. تتفحص الوجوه على ضوء موشورات نهار قريب وبعيد في آن معا. كان بعضها مألوفا لديك تعرفها وتعرفك تتجاهلها وتتجاهلك؛ وأخرى نسيت أين التقيتها بالضبط. ومثلما أضحت الصالة تحت تصرف جمهور من بدوا عقلاء، اجتذبت إليها صنفا آخر من المجانين.. لعلك واحد منهم!
كان مضطجعا على أحشاء مقعد منتوف الجلد استقدم من المرآب المجاور، حين تناهت إلى خياشيمه رائحة خيار وخبز ساخن وشاي إضافة لصلصة (العنبة) النفاذة والتي تضاف عادة لسندويتشات الفلافل والتي يمقتها لسبب تجهله.
ينتظر قليلا إلى أن ينتهي طابور المصطفين من ابتياع حاجياته من الطعام، فيدنو من (عياف) ويطلب لنفسه لفة بيض مسلوق وشايا. وبعد أن يتم الرشفة الأخيرة من شاي مكرر ثقيل، يخبره برغبته في إيجاد غرفة توفر له قدرا معقولا من العزلة طالبا مساعدته في هذا الشأن باعتباره أقدم ساكني الملجأ. يتوقف عياف عن تقطيع الطماطم مشيرا إلى القسم الخلفي من الصالة:
ــــ انظر يا أستاذ.. ذاك هو مبتغاك.. غرفة ماكينة عرض الأفلام..
ــــ هل تصلح حقا للسكن؟
ــــ لا بأس بها. وعدت أحد أقربائي بتأجيرها له غير انه لم يأت، ربما بسبب الطريق.. أو انه ما زال مشغولا بطلابة عشائرية..
ثم أردف بعد هنيهة صمت:
ــــ انتظرني ساعة كي أجد لك مفتاحها. الغرفة تحت تصرفك لقاء دينار لليلة الواحدة.. ما رأيك؟
تنتابه لحظة ابتهاج إلا أنه لا يرغب بتفويت مناسبة التهكم:
ــــ طريقة راقية.. فندق خمس نجوم.
لم يبد على عياف أنه فهم الفكاهة. يغمغم بعد لحظات صمت:
ــــ موافق.. على كل حال!
(7)
في أقل من ربع ساعة سلّمه عياف مفتاح الغرفة فهرع بدون تردد مرتقيا درجات الطابق الفوقاني. أولج المفتاح مديرا أكرة الباب دافعا الباب الذي صدر عنه صرير خافت. استقبلته رائحة كانت اقل وخامة مما توقع فعزا الأمر للكوى الرباعية الشكل الثلاث والتي يمر عبرها شعاع الفيلم فينقذف على الشاشة، لكنه اكتشف أن الكوى قد تم إيصادها بألواح من خشب الفورمايكا فعمد إلى انتزاع أحد الألواح من أجل أن يحظى بإطلالة على الصالة ومن فيها.
كان بإمكانه أن يبصر مقهى عياف القريب إلى الشاشة وقد احتشد بكائنات المقهى وهي تفد لشرب الشاي أو تناول الطعام أو تنصرف. مشهد الزبائن والكراسي والتخوت أمسى مكررا مألوفا، غير أن أضواء اللوكسات جعلته أكثر تأثيرا بحكم تطاول الظلال وارتمائها على تلك الشاشة الفسيحة الصامتة وعلى الجدران المجاورة. كنس الأرضية بعد أن جمع كمية من رقائق أفلام من مختلف الفئات، بيد أن الغالب عليها كان فئة 35 ملليمترا ملونة أو بالأسود والأبيض. اكتسح السقف بسعفة عجفاء استلها من رأس نخلة الشاشة فتهافتت خيوط العنكبوت ومخاط الشيطان وتقشرات الجص وشظايا حديد (الشيلمان) على أم رأسه فانهمك بعطاس خالطه شعور بالقشعريرة.
كانت أرضية الغرفة التي تؤلف جانبا من سقف البار التحتاني مكسوة بطابوق منجور تثلمت حافاته وانتفخ بتأثير عوادي الزمن، في حين نتأت عارضتا (شيلمان العكادة) الداعمتان لسقف البار تحت قدميه ما دعاه لتغليفها بسجادة مجزوزة عثر عليها في الركن ملفوفة في طيات. جاء بلوح من الخشب كان في الأصل لوحة إعلانية لشركة خطوط ميرسك الملاحية. فرك يديه في سرور..
.. حضن دافئ.. عش منعزل يبعدك عن مشاكسات محتلي الصالة وعريها وانفتاحها على تقلبات الجو.. ملك.. بل أنت ملك الملوك!
أحضر أربع صفائح سمن نظيفة فارغة وكيسا عبأه رملا ومن ثم أفرغه فيها بالتساوي، مرقدا اللوح عليها، كما تدبر لنومه واحدة من حشيات إسفنج عثر عليها في ركن ما بالطابق الأرضي. لم يتبق إلا الوسادة فمن أين يأتي بها؟ عمد إلى اقتطاع قماشها من ثوب كان مرميا بالركن حشاها بأسمال جمعها من هنا وهناك.
في اليوم التالي أقدم على خطوة متأخرة لم تكن أقل أهمية من كل ما أنجزه: إنارة الغرفة. انتزع مصباحا من فئة 40 واط كان واحدا من مصباحين يعملان في أحد الممرات. وقام بتركيبه في نقطة النور منيرا الغرفة. وإذا به يلاحظ عن كثب ما لم يلحظه في البدء: ركام من مانشيتات أفلام وبوسترات دعاية على جدران الغرفة: كلارك كيبل وفيفيان لي في (ذهب مع الريح)، سوزان هيوارد في فيلم (لن أبكي غدا). ثمة مانشيت فيلم هندي حمل عنوان (عبد الله) تذكّر أنه شاهده في زمن ما على شاشة هذه الدار. وبالقرب منه مانشيت متهرئ لفيلم مصري حمل عنوان (فاطمة وماريكا وراشيل) من بطولة محمد فوزي ومديحة يسري، إضافة لمانشيت الفيلم العراقي (بصرة ساعة 11) الذي شاهده في سينما الحمراء الجديدة الشتوي، ولهذا استغرب من وجوده هنا. كما أن الجدار المقابل لمدخل الغرفة احتشد بصور ممثلين وممثلات ينتمون لحقب مختلفة: ليكس باركر بطل أفلام طرزان، بوب هوب، فاتن حمامة، جيمس ستيوارت، اورسون ويلز، شامي كابور، سلفستر ستالوني وآخرين.
شيئا فشيء فقد الملجأ وظيفته التي أملتها عليه وطأة الحرب: أن يكون ملاذا لكل خائف مفزوع من مطارق الحرب، ليتحول إلى ما يماثل حيا شعبيا يعاني انفجارا سكانيا متفاقما بما يصاحبه من توترات وانفعالات ومشاجرات لا أول لها ولا آخر..
.. أليس هذا ما تلقطه عيناك من الفتحة التي تنبلج منها أنوار ألف فيلم وفيلم.. ابتسم.. أنت في مأمن من دوامة التدافع والضجيج! ها قد تحولت من كائن متمرغ وسط خشاش الأرض إلى كائن آخر متبرجز يراقب الآخرين ولا يموت همّا! أجل.. تتفرج ولا تشارك.. أهكذا أنت حقا؟!
منحتك الإقامة الجديدة شعورا غامرا بالاستقرار والغبطة. تغادر الملجأ لتجد نفسك تقطع زقاقا قريبا من بيت أهلك.. وكان البيت قد اقفل بعد أن أصبح غير صالح للسكنى اثر تعرضه لواحد من صواريخ حرب المدن أواخر 1986. ونظرا لأنهم غادروا على عجل تحت وابل من القصف المكثف، فقد وجدت البيت على حاله بعد أن اصطحبوا معهم ما خف وزنه تاركين الأثاث الثقيل في مكانه. كانت خزانة كتبك من بين ما خلفه أهلك بيد أنك صدمت إذ أبصرتها في حال يرثى لها إذ كانت بعض رفوفها شبه فارغة، تحوطها نثارات من مزق الكتب والمجلات. لم تكن تسعى لأن تتأخر كثيرا في البيت فقد خشيت أن تعود فتجد ثمة من اقتحم غرفتك وسكنها. تسرع ململما أوراقا تخصك وتخص أباك، إضافة لمجموعة من الصور الفوتوغرافية ومقتنيات صغيرة دسستها في حقيبة سفر قديمة. شعرت وأنت تلقي نظرة أكثر تفحصا على خزانة كتبك أن أحدا اقتحم المكان ونهب موجودات المكتبة وبعض أجهزة البيت الكهربائية.
تعود إلى الملجأ بعد ابتياع قفل ومفتاح للغرفة.
تتنفس الصعداء. تتمطى وتسمح لجسدك أن ينعم بقيلولة ظهيرة هادئة نسبيا.
(8)
من هو منذر عواد؟
ما الذي استدرجه إلى هذا الجحر الذي كان مهجورا لأمد قريب؟
راح "نجم" يتفرس فيه مليا. كان مظهره يوحي بأنه على أعتاب الكهولة. وها هو الآن منكب على كتيب أبنوسي الغلاف يتلو في غمغمات ما فيه من سطور.
من خلال نظرة أكثر تفحصا للوجه أدرك انه ليس من النوع الذي يغشى أماكن محمومة كهذا المكان، ولابد أن قوة هائلة لم يستطع لها دفعا قد جرفته إلى جوف الملجأ.. لحيته الكثة وكوفيته الخضراء ما انفكتا تمنحان المتطلع إليهما إحساسا مبهما في أنه واحد من مرتادي الحسينيات ومجالس العزاء. هذا ما ورد على لسان أكثر من شخص تطرق إلى ذكر منذر عواد هذا، ففئة عدته وليا صالحا من أهل البيت مستدلين على ذلك من لون كوفيته وأخرى حسبته من أهل البحرين. وحين استمعوا إلى صوته الرخيم، يتلو آيات من الذكر الحكيم بـتّـوا بأنه تفوق على عبد الباسط عبد الصمد وعبد الزهرة الكعبي. بيد أن أمرا جللا استغلق عليهم:
أليس من المفروض لهذا المخلوق أن ينتمي إلى أي مكان سوى هذا المكان؟!
لعلك الوحيد الذي يسمح لنفسه أن يتشاغل بكائن كهذا الشيخ..
لا مناص من أن يكون وراءه سر لابد من فضّه؛ لابد من معرفة إن كان رجل دين حقيقيا من عدمه.. الفرضيات تنهك الذهن.. اخترت أن تريح الأخير ولو إلى حين.. رحت تجتر الفرضية الأقوى والأكثر إشباعا لغريزة الفضول لديك.. رجل أمن سري تنكّر بمسوح الدين؟ أيكون استنادا على ذلك مدسوسا من لدن الجهات الأمنية لا عينا على الملجأ وحسب بل على الحي بأكمله؟!
أراحك هذا الاكتشاف لكنْ إلى حين فقد عاد التشكك ينخر في جدران هذه الفرضية إلى أن أمسـت أوهى من خيط العنكبوت:
كيف يعقل أن تتم صناعة مخبر سري بهذه السرعة، في غضون أيام وربما ساعات لاسيما أن السلطة بكل أقسامها مستنفرة حاليا لحدث الحرب الأعظم؟ لا.. لا تفكر بهذه الطريقة فهم موجودون في كل مكان.. في جيوبك.. في خلايا دمك.. في اس..!
استطاع منذر عواد وفي غضون ساعات أن يبسط نفوذه الكاريزمي على ساكني الملجأ، وبالأخص على صنف النسوة منهم، مجتذبا بوسامته ورخامة صوته عددا لا بأس به من المريدين والأتباع جعلوا يخاطبونه بـ.. يا مولانا.. أو بيا.. أيها السيد.
لاشك أن جانبا من انجذاب الناس إليه راجع إلى الفراغ الروحي الذي هيمن على أجواء المكان اثر ابتداء جحيم القصف مباشرة، والى الفزع وحاجة اللائذين بالملجأ للأمان. لقد تنامى لدى معظمهم شعور يائس باستحالة العودة إلى بيوتهم بعد أن عزلهم القصف الوحشي بمقصه اليومي الباشط. وهكذا استسلموا لمصير لم يختاروه بإرادتهم مفضلين رقادا على بسط من (الكنبار) الفظ على العودة لبيوتهم عبر شوارع متفجرة. كل فرد فيهم يحسب انه المستهدف الوحيد من هذه الحرب تناله، دون غيره، صواريخها وراجماتها وطائراتها وفوهات مدافعها البعيدة المدى. إن برودة الجو واجتماع الرهبة والفزع أمور حدت بهم إلى التجمع حول نار أوقدها السيد منذر. وهو لم يتردد في إطلاق المزيد من المزيد من المبادرات فقد شاد من ألواح الخشب ما توفر له منها غرفة صغيرة لم تتعد حجم كابينة حارس, وسرعان ما هرع الموجودون إلى تلك الغرفة جاعلين منها مصلى، مطوقين إياها بأشرطة (العلق) الخضر مخضبين جدرانها الخارجية بالحناء ملصقين عليها صور آل البيت وخضرمة بسبع عيون. ومن فوق منبر أبنوسي اللون شرع الملا منذر يلقي خطبته الأولى فيما لبث الحضور صامتين وكأن على رؤوسهم الطير:
ــــ يا الهي عظم البلاء وبرح الخفاء وانكشف الغطاء وانقطع الرجاء وضاقت الأرض ومنعت السماء وأنت المستعان واليك المشتكى وعليك المعوّل في الشدة والرخاء.. الغوث.. الغوث..!
توقف برهة ليخرج من جيبه وريقة راح يقرأ ما فيها:
ــــ اللهم أني أسألك يا الله يا رحيم يا كريم يا مظلم ذات الوقود يا من بقاؤه غير محدود يا مغذي الأطفال بالمهود يا صادق الموعد والوعود أن تحفظ الأتقياء من عبادك من شر كل جنية وان تحفظهم من كل برد وحر.. تعاليت يا ظاهر ..تعاليت يا باطن .. أجرنا من النار يا مجير !
وبعد أن فرغ من خطبته ختمها بالحمد والصلاة على محمد وعلى آل بيته ثم دعا المستمعين إلى الإسراع بطلب التوبة وبأن يتوجهوا إلى الخالق بالصلاة والدعاء ، مستدركا بأنه على أتم الاستعداد للمساهمة في خلاص ممن ضلوا سواء السبيل وحاروا في أمورهم وتلجلجوا في الطلب ، مذكرا إياهم بأن ما يحدث هو من علامات الساعة طالبا منهم أن لا يؤجلوا عمل اليوم إلى غد ..
ووسط تضرعات من استمعوا إليه ختم خطبته مصرحا :
ــــ إن الساعة قادمة لا ريب فيها وهي اقرب إليكم من حبل الوريد فسارعوا لنيل التوبة ذلك أن خير الخطاءين التوابون .
(9)
تتسلل مغادرا الملجأ في نزهة سرية أخرى قريبة كالمعتاد. تحتسى شايا لدى صاحب عربة يبدو كمن لم يسمع بوقوع الحرب . تخرج ورقة نال منها القِدم وتقرأ :
".. لقد ابتدأ شارع فيصل الثاني من حيث فكر رجال البصرة سنة 1938 في إيجاد موقع سياحي وتجاري فسعوا لإيجاد حي ليلي جديد يزيح مرابع شارع أبو الأسود الذي تميز بعد احتلال الإنكليز للبصرة بمواخيره وحاناته ومحلاته التجارية ، ليكون بديلا عنه وحتى يتشابه مع أحياء مدن العالم كالحي اللاتيني بباريز وسوهو بلندن.. ..".
تطوي الورقة وتدسها في جيبك لتقرع قدماك رصيف الشارع ..
تعددت التسميات وأنت هو أنت .. يا شارع الوطن !
تعددت التسميات وأنت هو أنت أيها الشارع العتيد: فيصل الثاني .. الثورة .. الوطن شارع الملاهي.. شارع الآثام .. شارع الندم .. مأوى الهائمين على وجوههم .. ما الذي حل بك اليوم من تبدلات ؟ أين روائح البن المحروق المتسربة من مقهى (علي بابا ) وعطور اوروزدي باك وربطات عنق سيروان ؟ أين سينمات الوطني والسندباد والبصرة وهوليوود والرشيد واطلس، نات للساعات ، جاشنمال ، راتب للملابس ، تماوجات الذهب في خزائن البنكين العثماني والبريطاني ، روائح الصمغ وهي تنبعث من كتب المثنى وعبد الله فرجو وودود ، وطقطقات المقصات وهي تتسرب من خياطة نوري عياش والمقص الذهبي ، رغوة بيرة ديانا وفريدة وشهرزاد و خمور الزحلاوي والمسيّح والحدباء الطالعة من بار ماتيلدا وماري وآسيا بار والأهرام وهافانا والشعب حيث تلاعب نسائم الليل جماجم السكارى قبل ان ينسلوا منتشين مغادرين الى أزقة الليل الخلفية او الى شارع الكورنيش الموازي كي يملأوا رئاتهم بريا ياسمين الأسيجة والجهنميات وملكات الليل والقدّاح ، او يمضوا الى مطاعم العروبة والكرامة ومرجانة والعش الذهبي والركن الهادئ ؛ تتسرب الى خياشيمهم روائح الكباب والباجة والكريم جاب قبل ان يكتموا ما في أجوافهم من شراب . أين تومان وأين لوحة اعلاناته ونداءاته الدعائية لهذا الفيلم او ذاك .. بل أين نايه الذي كان حين يعزف به يترنح المنصتون طربا ؟ واين المتأنقات الرائحات الغاديات الداخلات لمشاهدة عبد الحليم وهو يبكي خطايا الآخرين وشادية وهي في قفص الاتهام وهند رستم وهي تشاكس شكري سرحان..؟ بل أين فاتنات ستوديو ريكس وكارو والمانيكانات القابعات في فترينات العرض ومكاتب طيران أجنحة الأحلام وأين ولى غزال ملهى النصر.. ترى من أطفأ أنوارك؟! وكيف انطفأت؟!
(10)
ارتقى الشيخ منذر منبره على دكة الشاشة ملوِّحا بمسبحة من الكهرب داعيا الناس إلى الاقتراب من مجلسه، فامتثلت فئة منهم وفضلت فئة أخرى البقاء في أماكنها. جفف عرق جبينه الذي التمعت عليه بصمة الإفراط في السجود لامعة حقيقية غير مدعوكة بقشرة الباذنجان على حد وصف احد المفتونين بجاذبيته. وانطلق مخاطبا إياهم من جديد:
ـــ أما بعد فقد ذكر العلماء ان التوبة أول منزلة من منازل السالكين وأول مقام من مقامات العابدين ، وشرطها أن يقلع ابن آدم عن المعصية وان يندم على اقترافها وان يعزم ان لا يعود اليها أبدا . وها انتم تشهدون ايها الفانون ما نحن عليه من كرب وشدة من جرّاء هذه الحرب الحمقاء التي لا ناقة للشعب ولا جمل له فيها . وكل ما اطلبه هو إخلاص النية والتوضؤ وترديد آية الكرسي والمعوذتين فهذا ما يفرج عنكم كربكم وينجيكم الى ابد الآبدين . أنْ توبوا الى الله جميعا قبل أن يفوت الفوت فلا ينفع الصوت ! فهل انتم على ما أرى عازمون ؟
سرت همهمات بين أوساط المستمعين بين موافق وصامت ومتردد ومعترض . كان الجميع خائفين او يائسين من النجاة . وفي جلسة أخرى جمعت الشيخ بفئة منهم وحضرها نجم وزميله أيام المدرسة عصام جمو وآخرون ، فوجئوا باقتراح قدمه عصام تبنى من خلاله مسارا مختلفا عن مسار الشيخ حول فكرة الخلاص . قال عصام :
ـ نحن كمسيحيين نعمل بمبدأ التكفير الذي يقود المرء الى التطهر عن طريق الاعتراف في حضرة كاهن الكنيسة ، فإذا ما ارتكب الواحد منا الزنا او أزهق روحا بريئة او سرق او خان الأمانة عرج على الكاهن واعترف في حضرته بما اقترفته يداه من ذنوب ..
تدخل أبو صارم وهو شيوعي قديم ترك العمل الحزبي احتجاجا على قيام الجبهة الوطنية في السبعينيات :
ــــ لكن.. هذا يجعل من الدين حنفية يغتسل الخاطئ بمائها كلما اقترف ذنبا..
انبرى الشيخ:
ــــ رويدك يا أستاذ .. ليس الأمر كذلك ..
تابع عصام :
ــــ ستكون نفسه الأمارة بالسوء قد تخففت من أوزارها وسيتطهر من ذنوبه فتصبح أخفّ وزنا من ريشة طائر ..
ــــ وبعد ذلك ؟
- سيبدأ حياة جديدة بل وسيولد من جديد طفلا نقيا كسيدنا يسوع لا تشوبه شائبة..
عاد الشيخ للتعقيب :
ــــ ما تقوله يبدو لا غبار عليه إنما يظل غير كافٍ ..
استفهم عصام :
ــــ ما فهمت قصدك يا شيخ ..
ــــ أعني ان ديننا يحضنا على العمل بشكل مختلف . بما ان الله هو العالم بكل شيء ، وجب علينا ان نتوجه إليه دون أي وسيط بشري سواء كان كاهنا ، شيخا تقيا ورعا أم مخلوقا ذا كرامة ..
هتف واحد من مريدي الشيخ :
ــــ عاش لسانك .. الرب يعلم خافية الأعين ..
كور الشيخ مسباحه وفركه بين يديه داسا إياه في جيبه مربتا على كتف عصام :
ــــ أخي وعزيزي .. أليس الاعتراف تقليدا غربيا ؟
ــــ كلا .. انه تقليد مسيحي شرقي بحت ..
ــــ متأكد ؟
ــــ جدا ..
ــــ قد تكون على خطأ من الناحية التاريخية..الاعتراف فكرة جيدة لكننا لا نعمل بهذه الطريقة ولا نحمل رجال الدين أوزار الآخرين . ربما تتحول مادة الاعتراف الى قنبلة موقوتة يستغلها ضعاف النفوس أبشع استغلال ..
ــــ من تقصد ؟
ـــ اقصد من اقصد.. ثمة أسرار خطيرة منها ما يتعلق بالشرف ومنها ما يتعلق بالخيانات ..
ــــ خيانة الوطن مثلا ؟
شحب وجه عصام ، ووضع سبابته على أرنبة انفه :
ــــ اش .. للجدران آذان !
فاستطرد منذر :
ــــ لستُ ضد فكرة الاعتراف .. لكننا اعتدنا التوجه للغفور الرحيم فنتوب بين يديه توبة نصوحا .. ما رأيك يا نجم ؟
فوجئ نجم بسؤال الشيخ ومع ذلك قال :
ــــ لا ادري .. حين كنا في الابتدائية كان معنا في الصف عدد من المسيحيين وعدد آخر من الصابئة وحتى اليهود، أكثر بكثير من عددهم هذه الأيام . كانوا يحتفلون معنا أثناء العيد وكنا نحضر أعيادهم ويحضرون أعيادنا ..
اكتفى بالقول مضيفا :
ــــ في الحقيقة لا أجد ضرورة لوجود كاهن ..
فقاطعه عصام :
ــــ ما أخبرتكم به نابع من مفهوم ديني في المقام الأول لا سياسي ولا تاريخي ..
تدخل ابو صارم ضاحكا:
ــــ ها..عصام .. أراك تتملص ..
أردف نجم مخاطبا عصام :
ــ أفهم وجهة نظرك .. لكن المهم موضوع الاعتراف .. لمن سيوجه ؟ للرب أم لمخلوق تأمن إليه وتثق به ؟ لذاتك وأنت تناجيها .. للريح ؟ للمرايا ؟ للنهر مثلا ؟
تهدج صوت الشيخ منذر وهو يقول بلهجة لم تخل من الانفعال :
ــــ الجمهورية الفاضلة بعينها !
قال ابو صارم :
ـــ ملا منذر .. عليك ان تميز بين الشعر والفلسفة .. الأخ نجم انتقل من محراب الفلسفة إلى فضاء الشعر ..
ــــ لا فرق .. الاثنان في بحث دائم عن الحقيقة ..
قال عصام :
ــــ الحقائق تبقى نسبية ..
تابع نجم بعد هنيهة صمت :
ــــ في رأيي ان الأمر سيان سواء تقدم المعترف بحيثيات اعترافه شفاها أم قام بتدوينها على ورق .. باسم صريح أو وهمي تحاشيا للإحراج ..
التفت صوب عصام :
ــــ انت تؤيد فكرة الاعتراف أمام كاهن كنسي. منذ أمد طويل لم نلتق يا صديقي. المرة الأخيرة التي التقينا فيها كانت في مقهى الدكة وقد وجدتك منهمكا بقراءة رواية (الساعة الخامسة والعشرون) لكونستانتين جورجيو.. هل تحولت إلى قس فيما بعد؟
احمرّ وجه عصام وقال بتلعثم سعى جاهدا لإخفائه :
ــــ لا هذا ولا ذاك. لكن انظر ألينا نحن الشرقيين. فكرة الاعتراف لا تلقى رواجا لدينا..
ــــ لكن هذا النوع موجود على الساحة الثقافية ..
أصرّ عصام :
ــــ اقصد أدب سيرة ذاتية صادقا مائة بالمائة !
قال نجم:
ــــ لسنا سوى أمم مقموعة ..
أكمل عصام :
ــــ خذ حذرك .. للجدران آذان !
ردد نجم بانفعال :
ــــ لا أعني الجانب السياسي.. أنا أصلا غشيم في هذا المجال..
عدل الشيخ عمامته:
ــــ ثمة من يحسبك تعنيه..
وبعد أن كور مسبحته التفت نحو نجم:
ــــ لست غشيما إنما تتغاشم!
حاول عصام كبح جماح عربة الجدال:
ــــ ما زلت اعتبر الكاهن صمام أمان..
سحب أبو صارم كرسيا إليه:
ــــ صدقت.. لكن من أين سنأتي بهذا الكاهن؟ هل نستورده من الخارج مثلا؟
انفرجت أسارير المتحاورين للفقاعة التي أطلقها الأخير. استدرك نجم بعد أن توقف الجميع عن الضحك:
ـــ ليأخذ أحدنا نحن المبتلين بالحروب، وفي قيامتنا اللعينة هذه مهمة هذا الكاهن شريطة أن يكون كاهنا نورانيا.. لا يبدو على هذه الحرب أنها ستضع أوزارها عن قريب..
قال الشيخ :
ــــ أخشى ما أخشاه ان ننشغل بكلام الجرائد ويكون الأوان قد فات ..
ثم استدار صوب نجم :
ــــ عصام مسيحي .. وأبو صارم شيوعي.. ما هويتك أنت؟
ارتسمت على ملامح نجم ابتسامة كان من المؤكد انه بذل جهدا كبيرا في رسمها على شفتيه:
ــــ مجرد إنسان عراقي متألم.. لاغير..!
القسم الثاني
شاشات في الرأس
"تقول أسطورة إغريقية أن زيوس ربّ الأرباب جمع الفضائل في كف والرذائل في كف فنثر الأولى على البشر، وعمد إلى الرذائل فأمطر بها البشر أنفسهم وبالطريقة نفسها. وبمشيئة زيوس تلك لم يعد للفضائل ولا للرذائل وطن. ولم تعد الفضائل حكرا على قوم دون قوم، ولا الرذائل حكرا على شعب دون شعب. وبتلك الطريقة حقق رب الأرباب العدالة على الأرض."
(1)
لاحظ أنّ عددا من المتدافعين والمتدافعات على البوابة قد قاموا بسد ذلك المدخل، عدا امرأة كانت تتـقبع عباءة منسوجة من وحل الطرقات ، وقد انتفشت أعلى هامة رأسها خصلة شعر اشتعلت شيبا . ربدت في مكانها متكومة على أرضية المدخل الثلجية الملمس وهي تصر بإحكام على كيس رز فارغ ، حتى حسبها الناظر واحدة من متسولات الأرصفة أتت بها قدمان ضالتان الى قمقم سليمان هذا ! وحين عرفها بعد طول تفرس أجفل منكمشا على نفسه قبل ان يقذف ببدنه المنهك ليبصر شاشة أخرى في ثنايا رأسه .. شاشة أضاءت جانبا شبه منسي من تاريخ العائلة :
أخيرا عرفتها.. هذه المرأة ، هذا الركام الفاني المجبول من هيكل ناحل مخبوء في عباءة أضاعت حتى لونها الأسود فاستعارت من الرغام ألوانه الآسنة معجونة بنثار القمامة ورذاذ أصباغ خفف بماء مخلوط بدبق علب عصير متناثرة في كل مكان فأضحت تلك الألوان شكلا متحركا من أشكال ذلك التراب .. عرفتها مثلما تعرف دمك من دون ان تبذل أي مجهود للفرار من ثرثراتها التي اعتدت ان تفر منها في كل مرة استوقفتك كلما التقيتما.
عاشت طفولتها ومراهقتها في دار ابيها ( عبد الغفار افندي ) وكانت دارا واسعة الأرجاء من الطراز الذي يقطنه ملاكو أبي الخصيب يضم تسع غرف متباعدة تحيط بساحة مفتوحة على آخرها لسماء زرقاء ،إضافة لطارمةٍ في آخر البيت مقامة على عمودين من خشب الصاج يطوقها سياج هندي النقوش . وفي غرفة الركن اعتاد الخدم والأقنان ان يخزنوا أكياس المؤونة من رز وطحين وسكر وبقول .
للبيت مدخلان احدهما شرقي فإذا ما رغب القادم في الدخول استخدم المطرقة التي تتخذ شكل أسد ليدلف الى إيوان مُنار على نحو شاحب ومن ثم الى غرفة الاستقبال من جهة اليسار. باب جهة اليمين الداخلي يفضي الى غرفة الأفندي الباذخة ،أما الباب الغربي فينفتح على بستان مترامي الأطراف هو من ضمن أملاكه ، وهو ينتهي الى النهر القادم من جهة الشمال مرورا بنادي الموظفين يسارا ومدرسة الباشا يمينا . في ذلك النهر اعتادت وصاحباتها السباحة تحت مرأى من أعين شبقة تعري ما لم يتح تعريته .وما أن تفتحت أكمام أنوثتها حتى التحقت بمعهد المعلمات لتتخرج معلمة في إحدى مدارس البصرة القديمة .
في أوج شبابها عشقت ( الماص) ابن احد أتباع ابيها , وكم كان سرورها عارما يوم علمت ان أباها قد اتخذ خالة ( الماص) محظية له قبل ان يتزوج منها فيما بعد بالسر. وفي غمرة انجذابها غفلت عن حقيقة ان ذلك كان سيتم على حساب هناءة امها البائرة التي طالما نعتها أبوها بقالب الثلج. وما كان متوقعا ان اباها ، ما ان تقدم اليه ابو الفتى خاطبا ابنته لابنه حتى ارغى وأزبد، ظاهريا على الاقل،لأنه ـــ في دخيلته ـــ لم يكن مكترثا بأسرته اطلاقا فقد كان غارقا لحد الهامة في سهراته وملذاته. ذلك الرفض سبب صدمة لابنته الحمقاء المدللة فحاولت الانتحار برمي نفسها من سطح البيت لولا تدخل عمتها لتنكفئ على نفسها وقد سرى اليأس الى جوانحها كما يسري الداء في عظام بائدة .
وفي ليلة من ليالي الصيف ، وبينما كان الأفندي يحضر واحدا من طقوس الرقص الزنجي ، في (مكيد) معد لذلك الغرض، فوجئ الحاضرون بالفتى (الماص) الذي قضى بعض الوقت متواريا عن أسياده , يقتحم الميدان وهو عار الا مـن كسوة من الريش غلفت بدنه المفتول العضلات وراح يرقص .أصيب الجمهور وجلّه من أثرياء البلدة وموظفيها بمزيج من الذهول والطرب لذلك المشهد الجنوني المباغت . راح الفتى يرقص على ايقاع دمامات ودفوف كان بالإمكان سماعها من بعيد، وقد إغتسل جسده برذاذ أنوار لوكسات وروائح بخور وعود جاوي . لم يتحزم بأية أظلاف إنما بذلك الاهاب المنسوج من ريش الطير وحسب ، بيد انه سرعان ما خرج عن الطقس الذي عرف به ذلك النوع من الرقصات فطفق يؤدي رقصة مختلفة لاهي بالهيوة ولا هي الليوة ولا الانغروغا .
كانت رقصته هو !
راحت عيناه الواسعتان تلتمعان وهما تحدجان عبد الغفار افندي الذي كان جالسا في أول الصف بنظرة غريبة ، وقد نضحت جبهته بسيول من العرق والتهب خداه ونفرت عروق رقبته كما لو كانت صرنايا او أوتار طنبورة . ولكم بدا الماص في رقصه أشبه بغيمة محلقة هنا وهناك . وهناك في الأعالي وبجوار المجنونة ( أطول نخلات المكان) تراقصت راية ( الشنيار) الخاصة بالمكيد، كما لو كانت تتناغم مع الفتى في حمى التواءاته , ومن ثم أمسك الزيران بتلابيب الفتى الأسود المليح، فبدا كما لو انه فقد كل صلة له بالأرض فيما أضفى وقع الطبول وتخافق الألوان على الأجواء طقسا بهيا مضافا على المشهد الرهيب !
في تلك اللحظة مزق الماص الفضاء بصرخة مزلزلة وإذا بريح صرصر تهب من مكان خفي فتنطفئ الشموع وتنكفئ المباخر وتتدحرج الفوانيس , وفجأة وفي وسط هالة شبه معتمة يشتعل الجسد المكسو بالريش ليتفرق الجالسون منقذفين هنا وهناك , ومن قلب تلك الكتلة المشتعلة ينبثق عواء يهز أرجاء المكيد متوغلا الى ما جاوره من بيوت ، ليتعالى اللهب متجاوزا قامات الرجال ليهوي الفتى الأسمر جثة متفحمة ويتكدس الفضاء بدخان لحم مسفوع ورماد ريش متطاير .
هكذا إذا انفض الجمع بين مستغيث بالله ومتعثر وشاتم ومغمى عليه .
عقب تلك الليلة اختلف اهل المنطقة حول تفسير أسباب الواقعة . لكن من المؤكد انها اعتبرت نقطة فاصلة في تاريخ البلدة وروزنامة يعتمد عليها الأهالي في ذكر حوادث أخرى وقعت قبل الحريق وخلاله ومن بعده بسنين.
(2)
بعد تلك الحادثة أمست كيانا لا يكاد يستشف من فرط الهزال وعانت كثيرا من آلام الشقيقة والاكتئاب فأقفلت على نفسها الأبواب ومكثت في غرفتها دون ان ينفع معها طب أعشاب أو كي حكيم. ومع مرور الأيام وانهماكها بالتعليم وقعت في هوى شاب يصغرها بست سنين . كان ناجي قد أمن لنفسه وظيفة ، بوساطة من احد أحفاد شيخ الزبير، بعد دهور من البطالة قضاها في أكثر من مهنة اذ عمل متعهدا في مغتسل للموتى تحول من بعدها الى بيع الملابس الداخلية في محل صغير بسوق البصرة القديمة ، وبهذه وتلك استحق لقب (ابو بكلة) لإفراطه في إغراق جمة شعره بشحم الفازلين. كما عرف عنه إعجابه غير الاعتيادي بالممثل احمد رمزي نظرا للشبه الصارخ بين البكلتين .
وكانت لقاءات العاشقين تتم على ضفة شط العرب فإذا ما كلت أقدامهما من المشي دخلا لكازينو العائلات وقضيا ساعة مشوبة بالغزل، ولما كان مصابا بداء الإفلاس المزمن فقد تعين عليها في كل مرة ان تدفع الحساب إضافة لأجرة السيارة.
وأخيرا وبعد إلحاح منها تقدم لخطبتها من أبيها وفي القلب نية مبيتة على وضع اليد على راتبها. وهذه المرة وافق أبوها الأفندي على تزويجها منه دون ان يجشم نفسه عناء تقديم بيزة واحدة تعين الزوجين على تأثيث عش الزوجية على الرغم مما أشيع عن ثرائه وعن انه كان يخبئ كميات كبيرة من الليرات الذهبية في جرار مدفونة في أماكن سرية . لقد كان عبد الغفار لا يحظى بمحبة أبناء بلدته فقد عدوه شخصية مارقة ترسف في أغلال الملذات شحيحة على المقربين اليه . ان خصلة السخاء الوحيدة لديه تمثلت كما قالوا في توزيع لعناته بالعدل والقسطاس على أبنائه ذكورا وإناثا. ولعل الرب استجاب لتلك اللعنات فمات ابنه في سن مبكرة بركلة تلقاها في المعسكر من ضابط عكر المزاج نالت من كبده فصرعته في غضون ايام , وابنه الثاني مات دونما سبب معروف ولكن بعض الجيران ذكروا انه كان مغرما بتناول البيرة ! وواقع الحال ان الأخوين كانا ناقمين على أبيهما اللاعن اللاهي الشحيح الذي اعتاد شتم أمهما واتهامها بدمامة الوجه وبرودة الجسد. وبسبب من نقمتهما على ابيهما عاكساه في ميله لحياة الملوك فانجذبا لليسار والى فكرة النظام الجمهوري حتى ان أكبرهما أقدمَ في صبيحة الرابع عشر من تموز على تهشيم مذياع البيت الأثري ابتهاجا بالحدث . ويبدو ان جفاء الأب وسوء معاملته أديا الى تضخيم عيوبه بينما هو لم يكن في الحقيقة إقطاعيا ، بل لم يكن صاحب موقف سياسي البتة . صحيح انه كان وفيا لسيده البيك شأنه شأن ابيه من قبله الا ان ذلك الوفاء لم يدعه ينزلق إلى صنف الإقطاعيين. لقد بلغ به الحرص على ممتلكات سيده انه اذا ما عثر على رطبة ساقطة لقطها من على الأرض وأودعها زنبيل الطواش. وتعزز وفاؤه اثر حادثة حصلت فقد عاد ذات يوم في واحد من أبلام سيده من تحصيل أموال ( الثمرة ) السنوية ، واثناء اقتراب البلم من ضفة النهر انقلب رأسا على عقب ، على مقربة أشبار من الجرف وإذا بالمال يتسرب الى النهر فقفز عبد الغفار الى الماء وراح يجمع الأوراق النقدية رزمة رزمة وورقة ورقة . وبعد ان جففها سلم المال إلاّ القليل الغارق الى سيده. ولما علم البيك بصنيعه غمره سرور عارم واهبا إياه قطعة ارض تتجاوز عشرة اجربة في المساحة كما نفحه مبلغا كبيرا من المال ، وهكذا أضحى من كبار ملاكي الارض واقتنى بيتا من بيوت الشناشيل في البصرة القديمة .
كان عبد الغفار ينتصف لمولاه أكثر مما كان ينتصف للفلاحين وشريحة (التعابة) منهم وهي الشريحة الأكثر كدحا وشقاء وتطلعا ، وبهذا أمسى هدفا لتشنيعات قاسية نالت منه ما نالت فكان يتظاهر بأنه غير عابئ بها في الوقت الذي كان يغلي في دخيلته . ذلك كله كان في كفة والغلطة التي سيرتكبها عبد الغفار أفندي كانت في كفة أخرى وستهوي به من حالق وتتركه هشيما إلى ابد الآبدين!
(3)
تلك المرأة الزاحفة كانت دمك مثلما كنت أنت دمها.. إنها خالتك شقيقة أمك قادها الخرف إلى هذا المكان مثلما قادك الحنين إليه.. الغلطة الكبرى التي ستطيح بجدك الأفندي تمثلت بإصراره على الزواج، رغم اقترابه من الستين سنا ، من امرأة جديدة ثالثة او رابعة ، لايهم ، نكاية بزوجته المصقوعة كالقملة المنزوية في آخر غرف البيت تكح وتشكو برد الليالي ووخز خوص حصيرة ( البلّـة ) اللاسع .
كانت ( كوكب ) امرأته الحديثة الطراز كسيارة مولاه البلايموث، مربوعة القامة على جسد سومري مربرب ،وكانت تضع على عينيها نظارة غامقة الزجاج نادرا ما رفعتها عن عينيها ، كما لو كانت تينك العينين تحملان سرا غير قابل للافتضاض. وكانت تتمتع بصوت امتلكت مقدرة بارعة على التحكم بدرجات رقته وغلظته، فكانت تعمد الى ترقيقه وتغنيجه اذا ما توجهت بالحديث الى زوجها ، وتغليظه في حال خاطبت ضرتها .. تلك البائرة المركونة على رف نزوات جدك !
بعض الجيران كانوا يجزمون بأنها تنحدر في أصولها الى مدينة نصف قروية نصف صحراوية ولكن آخرين تحدثوا بأن لها سجلا في مبغى المدينة الملغى ، وثمة من تحدث عن انها اتخذت من سائق زوجها عشيقا بعد ان بسطت يدها على ثروة جدك . أنجبت منه او من عشيقها ولدا أعرج عززت من خلاله مكانتها لدى الرجل العجوز فقام بتسجيل أكثر من قطعة ارض وعقار باسمها بعد ان غدت قيمة على خزانة أمواله وذات اطلاع على الدحائس التي كان يخبئ فيها جرار الليرات ، ذلك ما كان اهل البلدة يرددونه وزادوا عليه ثم انقصوا ، كجاري العادة .
ورث (عبدالغفار أفندي) ثروته عن أبيه كان بدوره قد ورثها من الجد الأكبر. وبحكم عمله كوكيل للبيك كان همزة وصل بين سيده من جهة والفلاحين من جهة اخرى . كان ينتمي قلبا وقالبا لشريحة الملاكين بيد ان قناعاته لم تدعه يتوغل في أعماق تلك الطبقة التي استبدل العديد من أبنائها الدشداشة والعقال المقصب بالقاط الافرنجي والسدارة التي حلت بدورها محل الطربوش العصملّي ، كما انصاع بعضهم لهجمة الحياة الجديدة فاقتنوا السيارة والمذياع وأمسوا روادا لدور السينما والملاهي والحانات ، رغم ان عبد الغفار نفسه بقي محافظا على جلّ خصائصه القروية .وفي المدينة نفسها صارت طبقة الأفندية النواة الحقيقية لمجتمع صائر الى التمدن .غير ان كليهما كانا في الواقع كيانين في أهاب جسم بشري واحد . أضحى الزي إفرنجيا وبقي الرأس شرقيا فلاحيا !
وعلى العموم كان جلّهم دمث السلوك قنوعا غير ميال للمغامرة ، الا أنّ قلة متطرفة ظهرت في أوساطهم وكانت واحدة من أقليتين : النمط الباذخ أو المغرق في الشح!
شكلت المدينة بأضويتها ولياليها الملاح وتحررها النسبي مصدر جذب للوافدين القادمين من شمال المدينة اما بحثا عن العمل في الميناء او مكابس التمور او هروبا من سوط الاقطاع اللاذع ، فاندمج الصنفان بالحياة الجديدة كل بطريقته، وكان الفارق المحوري بينهما هو ان القادمين من شمال المدينة لم يقطعوا أواصرهم مع القبيلة فاصطحبوا معهم دواوينهم وسوابيطهم ودلاءهم وقواعد الأعراف العشائرية محتفظين بحذرهم الطبيعي إزاء المدن وبنمط حياتهم المؤسسة على الجماعة فقويت شكائمهم في مجتمع ليـّن الخواصر ترف الأضلاع .أما مهاجرو جنوبي المدينة ، وقد كانوا خليطا من أصول بدوية وفلاحية، فلبثوا في البدء عند حافات المدينة من جهة الغرب ورويدا رويدا أصبحوا مزارعين وتعابة وملاكين وأصحاب مهن بسيطة ,ومن هذه الشريحة انبثق عبد الغفار افندي .
كان استغلال الأرض على أيدي الإقطاع في البلدات الشمالية ابرز حضورا واشد قسوة من نظيره الجنوبية . وتمثل ذلك في الصراع على الأرض والماء والنفوذ وتميز بظهور إقطاعيين غلاظ القلوب استغلوا فقراء الفلاحين أسوأ استغلال ولهذا كان رد الفعل طبيعيا وثأريا في الغالب.
كان الصراع في جنوب الجنوب اقل حدة، فمع استغلال العديد الملاكين لتعابة الغرس وعمال المكابس ؛الا ان العنف لم يكن حاضرا في تلك البقاع بالدرجة التي كانت مستشرية في بلدات الشمال وأريافه . ومع ذلك رزح المسحوقون من جنوب المدينة تحت وطأة شظف العيش لتترعرع في أوساطهم ثقافة تقبل الأمور كما هي من خلال قناعات ألبست طابعا دينيا وآخر فلسفيا شديد البساطة مؤسسا على فكرة الإيمان بالنصيب . وكان يبدو على اولئك النفر من الفقراء أنهم غير عابئين بالسياسة وبالرياح التي هبت في وجوههم حاملة معها بذور التمرد، فلبثوا أمدا طويلا يمارسون لعبة اسمها كظم الغيظ ناظرين شزرا الى الفئة البوهيمية من الملاك والبيكوات والتجار التي كانت مغرقة في الملاذ. وكان عليهم ان ينتظروا مخاضات فكرية عسيرة عبر عقود من الزمان قبل ان يكتسبوا الوعي الكافي بأوضاعهم الحياتية المزرية .
كانت القبيلة حاضرة غير ان نفوذها كان يضعف كلما تقدم الجنوبيون باتجاه المدينة في حين بقي شمال المدينة محتفظا بحضوره الطاغي بدءً من (كرمة علي ) وباتجاه الاهوار. ولقد افتقد الجنوباويون الى وسيلة الاحتجاج. ومع تأسيس الأحزاب ودخول وسائل الإعلام تفجر ما كتموه من غيظ فانتمى بعض منهم الى الحزب الشيوعي او اكتفى بالانجذاب فكريا وسياسيا الى التيارات الوطنية والقومية في زمن لم يكن الوعي الديني قد بدأ يتخذ طابعه السياسي الحاد بعد .
كانت شريحة الأفندية بشقيها المدني والفلاحي القادم من قرى الجنوب ، إضافة لشرائح من قاطني المدينة منذ أمد بعيد ، اقرب لمفاهيم المدينة من سواها ، الا أن تلك الشريحة حملت في طيات تركيبتها ( جرثومتين ) أولاهما تقطيع خيوط انتمائها للعشيرة ما أفضى الى اضعاف وشائج أفرادها بالمجتمع القبلي الذي كانت تنتمي إليه في الأصل .أما (الجرثومة) الثانية والأكثر إيلاما ان افرادها ـــ وبالاخص فئة عبيد الملذات منهم ـــ أمعنوا في بيع أراضيهم وبساتينهم من اجل نزوات او أسباب واهية ذات صلة بالصراع داخل البيت الاسري نفسه ، وبهذا أضاعوا ركنين جوهريين من اركان التكاتف فهزلت كياناتهم لصالح ملاكين جدد جاء اغلبهم من القرى الشمالية هربا من الإقطاع والفقر بحثا عن فرص عمل أرحب وحياة تتناسب مع شهواتهم المتلهفة للثراء في سبعة ايام ، وبغض النظر عن الوسائل . بينما اكتفت الفئات الأضعف منهم بالسكنى عند حافات المدينة ضمن تجمعات عشوائية . ومع ذلك فالكثيرون امسكوا العصا من الوسط مبقين أعينا مفتوحة على لذائذ للعيش لم تكن متاحة لهم ، وعينا اخرى على حيازة العقار،وبهذا انحسرت أمواج بعلو الهضاب لتحل محلها أمواج بعلو الجبال ! وهكذا وجد الجنوبيون الوادعون أنفسهم أسفل دولاب الحياة بعدما كانوا في الأعالي . عميوا او تعاموا عن حركة التاريخ وعن الجلد المتبدل لأفعى الحياة .
(4)
مع الأيام وبعد اقترانها بناجي ، ومع مرور السنين وتربع السأم على ساعات البيت وتفاقم الخلافات ، تحولت خالتك المعلمة ( سليمة ) الى امرأة ثرثارة نقاقة لطالما استوقفتك في الشارع والركن والسوق،سواء كنت في عجلة من أمرك ام لم تكن ، كي تسرد عليك وقائع مشاجراتها مع زوجها وخياناته المتكررة مع زميلات عمله ومسيحيات بنات الجيران . ومع تقدمها في السن بدأت تظهر عليها علامات الخرف في الوقت الذي وجدت نفسها تملك بيتا شادته على حساب حياة شحيحة جدا وراتبا تقاعديا يستأثر به الزوج ويذهب قليله إلى بناتها الثلاث. ومع تدهور وضعها الصحي توقفت تدريجيا عن عزف معزوفتها الأزلية في الشكوى ، ثم تفاقمت حالات النسيان لديها حتى بات من العسير عليها تمييز الوجوه ، غير انها ابتليت في الوقت نفسه بعادة الانسلال يوميا إلى الشارع وركوب الباص الى قلب المدينة الصاخب زاحفة من رصيف الى رصيف ملتحفة بأكثر الملابس رثاثة ملوحة بكيس رز فارغ او مقعية عليه لساعات بعد ان تثقله بالأحجار لتتناثر عليه الدنانير وأرباع الدنانير فما تلحق ان تتراكم قبالتها الا وتكنسها الريح او تنتشلها الأصابع بأسرع من لمح البصر، وهي عنها سارحة ذاهلة ، ترنو اليها وفي العينين دموع تأبى الانحدار فتجدها وقد ألفت في طوافها البائس فظاظة القنب فنسيت ملمس الحرير وتلطخت بوحل السواقي بعد ان كانت تغمس جسدها في مساحيق التجميل وكريمات جمة زوجها الذي مات بالسكتة القلبية كما قيل لإفراطه بمعاشرة الغانيات وتكدست خياشيمها بعطن القمامة وحرائقها بعد ان كانت في بيت ابيها لاتتتنشق الا بخور العود الجاوي وشذا القداح والياسمين وألف جوفها الضاوي لفات الفلافل المتبلة بصلصة العمبة بعد ان كان لا يعرف الا صبور اول الموسم وبالزبيدي والضأن والدجاج الابيض. وفي زحمة وجوه الملجأ ومع مرور أيام ثقيلة كرصاص المتقاتلين بحثت عن خالتك فلم تجدها ، وحين الحفت بالسؤال عنها قيل لك أنها اعتادت مغادرة المكان والعودة اليه غير عابئة بقصف أو قتال .
ولكن ماذا ؟
هي ذي هناك متكومة وسط جمع من المنطرحات في ركن من اركان الملجأ تناديها فلا ترد فلا هي بالنائمة ولا بالمستيقظة وقد تناهشها خرف الزهايمر فتوقفت عن ان تتعرف حتى على نفسها !
(5)
كانت عيناه معلقتين بسقف الغرفة حين سمع طرقات خفيفة على الباب . خشخشت رقائق الأفلام وهو يزيحها عن جانب السرير ناهضا بتثاقل ساحبا المزلاج ليجدها قبالته مثل تمثال . وسرعان ما استعاد جانبا من حيوية فقدها مع الرقاد أتاحت له ان يتملى وجهها الانثوي القسمات سوى العينين اللتين عكستا تعبيرا لم يكن يخلو من بلاهة ويتشرب صوتا كان لخشونته يليق بحنجرة مراهق في طور النمو وليس لامرأة :
ــــ أأدخل ؟
أنصت إلى وجيب قلبه قبل إن يفسح لها المجال لتدلف عبره الى الداخل فألقت بعباءتها على السرير كاشفة عن منامة نصف كم بفتحة صدر شعّ وسطها نهر نهديها أبيض بضا:
ــــ عرفتني ؟
ــــ وسيلة ؟
ــــ بلحمها وشحمها ..
ــــ ذاك الطاس وذاك الحمام ..
أدار وجهه متحاشيا ان تلتقي عيونهما :
ــــ أين زوجك؟
ــــ نائم ..
ــــ كيف ينام وعهدي بابن عمي من عشاق السهر ؟!
ــــ كان ..
ــــ كلام الليل مدهون بزبدة !
ــــ لا .. الشراب والدخان جعلاه سكرابا ..
ــــ الشراب بس ؟
شرعت تبكي بصوت خافت فعاد ليسألها :
ــــ وكيف قادتك رجلاك لهذا المكان ؟
ــــ لعلك لا تعلم أننا استأجرنا شقة قريبة من هنا ..
ــــ أعلم .. ولكن أين بالضبط ؟
ــــ العمارة المقابلة .. الطابق الأرضي ..
ثم استطردت بعد لحظات صمت :
ــــ لا نضمن بقاءنا ..مثل كل مرة ..
ــــ القصف ؟ !
تحاشت ملاحظة يوسف الواخزة :
ــــ بل تأخرنا عن دفع الإيجار ..
تساءل بنغمة حملت أكثر من معنى :
ــــ الإيجار فقط هو السبب؟
اختارت أن تجلس على حافة السرير تاركة العنان لتضاريس جسدها ان تتثنى برشاقة بددها صوتها الأجش الذي يتعارض ونعومة بشرتها . ولوحت بذراعها إلى الصالة :
ـــــ البارحة كنا هنا.. أراد أن يراك ..
ــــ والأولاد؟
ــــ لدى جدتهم ..
ــــ كنت في مقهى عياف ولم ألحظْ وجودكما..
ــــ هو من شاهدك.. كان شديد الشوق للقياك..
ــــ ولماذا لم يفعل؟
ــــ لا أدري.. بدا مترددا..
قذف بهيكله المتوتر على حافة السرير فاهتز حتى كاد ان يهوي من على صفائح السمن الأربع التي جعلها بمثابة أرجل للسرير. قال :
ــــ على كل حال .. كان ذلك أفضل .. بأي وجه يلاقيني وبأي وجه ألاقيه بعد اتهامك لي بأني تحرشت بك ..
ــــ حاشاك ..
ــــ ولكن افتراءك سيظل وصمة ..
ــــ أنت لا تفهم ..
ــــ افهم ماذا ؟
ــــ لقد أحببتك دوما منذ أن وقعت عيناي عليك..
ــــ كذابة! ماذا عن خليلك؟ أفهم ان لديك صاحبا ..
أنصت لفحيح جسدها الزاحف نحوه ، ولتقصف الشرر وفرقعة الجمر في المجامر وهي تهمس :
ــــ ما رأيك أنت ؟
ــــ أعذاركِ أقبح من ذنوبك ..
ــــ كلا.. فعلت ذلك لأنك أعرضتِ عني ..
ــــ يا لكِ من صنف غريب من النساء !
اكتفت بالسكوت ملهية أصابعها المغزلية الطويلة بمداعبة حافة كمّها الموشى بالمنمنمات. وبحدة سألها :
ــــ ماذا تريدين مني بالضبط ؟
ــــ لقد اعترفت لك بما يدور في داخلي من ..
فبتر حديثها :
ــــ وهو ؟ أليس فرزدق ابن عمي ؟
ــــ مازلتَ على نياتك ..
ثم واصلت بعد برهة من الصمت :
ــ لا أعرف سر رغبته بلقائك ولا أستطيع تفسير سر تراجعه.. أشعر انه أراد أن يخبرك بأمر ما أجهله..
ــــ لو كنت مكانه لحملت مسدسا وطاردني به ..
ــــ ليس لهذه الدرجة ..
أجهشت فجأة بالبكاء :
ــــ والحال أننا صرنا مثل القطط .. كل شهر في بيت ..
ــــ وأخيرا قذفت بكما القسمة الى شارع الوطن ! شارع المتفوقات ..أليس كذلك ؟!
ــــ سنقيم هنا لبعض الوقت ..
ــــ أين ؟
ــــ في هذه الصالة.. الناس هنا لا يسألون كثيرا, أما صاحب الشقة فقد هددنا بقذف أثاثنا إلى خارجها.. لم ندفع إيجار شهرين.. وقلت أمر عليك من أجل أن تقرضني مبلغا من المال أو تسعى من أجل أن أقيم معكم إلى أن تنجلي هذه الغمة..
ــــ الصالة ليست ملكا لي، ولا أعتقد أن فرزدق سيوافق أن يقذفكم لهذا الجحيم..
ــــ ولم لا؟
ــــ سيقضي الوقت في شجار مع هذا أو ذاك.. وبسببك!
ثم بادرها بعبارة حرص على ان تحمل في ثناياها اكبر قدر من اللا اكتراث :
ــــ إفعلي ما بدا لك شريطة ان تبتعدي عني ..
جذبت عباءتها بنفاد صبر وخزرته بحقد مكتوم راسمة على وجهها ظل ابتسامة :
ــــ أنت لا تصدقني مع اني حلفت لك بالقرآن ..
قالت ذلك ناطقة الألف الممدودة عينا . ران عليه صمت تمثال من حجر . وانتظر أن تبارح المكان ففعلت ولكن بتلكؤ متعمد وهي تقول :
ــــ مشكور !
ردم الباب بشيء من القوة ملقيا بجسد منطفئ على أريكة من أشواك.
(6)
( وسيلة ) لم تبصر النور في البصرة ، بل في بيت من بيوت الصفيح بمنطقة العشيش او ما يطلق عليه بالصيهد عند الحافة الغربية لمدينة الكويت حيث تبتدئ الصحراء، وكانت تلك المنطقة قبل إزالتها محطة لاستقبال المتسللين من العراق وشبه الجزيرة . ان الفئة الغالبة من قاطني المكان من فئة ( البدون ) ، وهم من البدو الذي ألفوا حياة التنقل في صحراء توزعت على ثلاث دول : أفراد هذه الفئة هم في الأصل أبناء لأولئك الذين سبقوهم الى المدينة ونالوا حظوة التجنس وقطف ثمرات البترول ، ففي الوقت الذي شذب الترف أطباعهم فصاروا ليني العريكة ميالين للتمتع بالبذخ البترولي ، توقف البدون عند حافات الصحراء يقاسون شظف العيش والافتقاد الى الهوية ، كما ان نمط حياتهم لم يختلف كثيرا عما كانوا عليه في الماضي .
فرضت الصحراء قوانينها على ذلك الحي فتسربل بطابع رملي بدوي محافظ لم يخلُ من خشونة وجفاء . وفي ذلك المناخ ترعرعت أسرة وسيلة . فقد قدم أبوها من الزبير متسللا الى الكويت بطريقة ( القجغ ) غير القانونية . ولكي يعيل أسرته امتهن أكثر من عمل .ولأنه لم يكن يمتلك أوراقا ثبوتية عزف عن إدخال أولاده للمدارس ، وهكذا لم تلتحق وسيلة بأية مدرسة . وحين كبرت وتفتحت مفاتنها كانت تتململ كما لو كانت ترسف في أغلال غير مرئية تكبل جسدا فاتنا فائرا كفوهة بركان. وكانت الضغوط على أخيها (مشعل) أخفّ وطأة باعتباره ذكرا . وهو بدوره هجر البيت او كاد ، مقضيا اغلب أوقاته مع فئة من الفتيان اعتادت ممارسة (التشفيط) مثيرين الغبار بسياراتهم (النيسان جي تي) و(الكورفيت) والـ(ترانز أم). لم يكن مشعل اقل سأما من شقيقته، فإذا ما انتفخ جيبه بالدنانير، مارس لعبة (الديك والدجاجة) مع صبيان المنطقة والمناطق المجاورة . لم تكن تلك اللعبة من الألعاب التي يمكن لأي سائق ممارستها ، إذ كانت تتطلب قلبا لا يعرف للهلع سبيلا: تنطلق سيارتان، كل واحدة منهما باتجاه الأخرى وبأقصى سرعة. فإذا ما اقتربت الأولى من الثانية، فأن من يعاند ولا يحيد عن المسار في آخر لحظة يفوز بلقب الديك عن جدارة. أما متحديه المنحرف عن المسار فيستحق لقب الدجاجة فيزدريه الأصحاب قبل الخصماء. والخطورة كل الخطورة إذا ما صادف ان المتسابقين كليهما من صنف الديوك ، فتتصادم السيارتان ويلقى ، في الغالب ، احد السائقين او كلاهما مصرعه في الحال !
كان الأب كثير التغيب عن البيت . وكان من ذلك الصنف من الآباء الذين لا يكلفون انفسهم مشقة متابعة أفراد اسرهم ، إلا إذا وقع المحذور وأمسى الإبن واسطة لإحضار كارثة الى البيت ، لحظتئذ يكون الأب في طليعة اللوامين ، وبطبيعة الحال تكون الأم أول من يلام .
ذلك الاضطراب وعدم الاستقرار إضافة لفقر الحال دفع بالأم الى ممارسة بيع البراقع في سوق الحي . وهو الأمر الذي سهل لوسيلة كسر الطوق الخانق حولها ، فأقامت علاقة مع ( هزاع ) صاحب اخيها المقرب . جعلت تلتقيه سرا ؛ يقلّها بسيارته الى المدينة بعيدا عن أعين رقباء الحي . هناك يقضيان ساعات على ساحل البحر او في مطعم وجبات سريعة . وفيما بعد اقنعها بقضاء بعض الوقت في شقة احد أصدقائه .
في تلك الشقة فقدت عذريتها الى الأبد !
ثم حدث ما هو أسوء فيما بعد . فقدت دخلت الى شقة هزاع ذات يوم بناء على موعد مسبق معه ، لتجد قبالتها أربعة فتيان لم يكن هزاع عشيقها من بينهم ، وكان ان تناوب الأربعة على تناولها ما سبب لها صدمة على نحو ما ، فقطعت صلتها به ، بعد فوات الفوت !
وتتوالى المصائب إذ بدأ الأب يرتاب في أن امرأته تخونه، فمنعها من بيع البراقع في السوق، وفيما بعد أقدم على منعها مغادرة البيت من دون أذن منه، بل عمد إلى ردم نوافذ البيت بالآجر والاسمنت. وفي فورة غضب أطلق النار عليها فأرداها قتيلة. وجمع ما خف وزنه وغلا ثمنه وتسلل عائدا عبر الحدود مع ابنه وابنته ، ثم أسكنهما في بيت من اللبن بصحراء البصرة الغربية .
- صباح احد الأيام عثر عليه جثة هامدة ليتبين انه أصيب بنوبة قلبية يستدل من أعراضها انه ، في الأغلب قد مات كمدا . أما ( مشعل ) فقد التحق بإحدى جبهات القتال المشتعلة واختفى .. مات ؟ فُـقـد ؟ لا احد يعرف .. لا احد يسأل . وفي تلك الفترة كانت ام فرزدق تبحث عن زوجة لإبنها فدلتها قريبة لها على وسيلة . ومن ذلك الثقب دخلت وسيلة إلى حياة فرزدق ..
(7)
مفاجأة جديدة من مفاجآت الملجأ:
شافي هنا !
شافي القادم من اللا مكان .. الباحث كالفراشة عن النور والنار والذي احتبسته غارة مجنونة في هذا الملجأ المضطرب المحموم .
وهو لم يصطد سمكاته الثلاث بعد :
السيجارة والكأس والعشاء!
كيف صادف أن يكون في هذا المكان ، بل كيف تأخر أصلا حتى قبل الآخرين وهو المتسكع الدؤوب في شارع الوطن وما جاوره ؟
موظف دائرة الطابو الأكثر تجوالا في غرف الدائرة ، نجل الشاعر الشعبي علوان الذي انطفأ في الليلة الثالثة من عاصفة الصحراء في قريته المجاورة لحافات المياه ، تحت سماء بلا نجوم وفي غمرة ظلام دامس . فيا له موتا باعثا على الأسى ويا لها من مفارقة مريرة !
كيف يرحل أبوه حامل الفانوس ، دليل قطارات المعقل ــــ بغداد دون أنْ تودعه نجمة فترشده الى عليين ؟
عينا شافي تغرورقان بالدمع كلما تذكر ليلة انطفاء أبيه . ان شافي ، رغم كل أطنان المرارة التي تكتنفه كائن عذب المعشر يعكس تمازجا فريدا بين إشراقة الدمع وسيول متقطعة من قهقهات استخفاف بوجه زمان عبوس ، فلقد برع في قلب أي حدث مهما كان رصينا او دراماتيكيا الى نكتة يتفجر تأثيرها لتتطاير شظاياها معلقة في الفضاء لشهور, ويعين رخامة صوته حوَلٌ بسيط في العينين ، لتؤلف السمتان شكلا من أشكال الهالة التي تمنح شخصيته جاذبية من نوع خاص . ويبدو ان شافي كان يدرك تماما قوة هذين السلاحين فهو بارع في توظيفهما ـــ لصالحه طبعا ـــ كلما سعى لتوطيد حضوره المستبد الخفيف الظل في آن معا .
لكن ما الذي يتسبب في إحداث تثلمات في روحية شافي ؟ لقد مارس لعبة الإيهام في وقت مبكر، وهو لا يفعل أمرا كهذا عن سابق تدبير ، بل يترك لفطرته القروية الجذور العنان لتتدفق أفكاره سيولا تجعل كل من يستمع اليه يخفق في تقدير مدى دقتها فيقع في شرك أوهام من ابتكار مخيلة لا تجد بأسا في المغالاة والانسياق مع أقصى ما يصل اليه الخيال ، لاسيما بعد الكأس الثانية او ربما الثالثة فيشرع بالخلط والزيادة والنقصان فتحلُ الحكاية محل الحكاية والخبر محل الخبر . و الأسوأ من ذلك انه لا يتوقف عن المضي بموضوع حكايته الى فلوات اللامنطق حتى وان نبه الى ذلك ، فهو سيء من حيث الإصغاء ، ولا يجد غضاضة في الإصرار على ما يدور في ذهنه من مبالغات ، مما يحيل جلسات الشرب أحيانا الى جلسات مناكدة ومشاحنات قد تصل الى حدود الاستياء والانسحاب من جهة ندماء الجلسة .
كيف يؤمن شافي لجيبه ما يتجاوز راتبه الهزيل ، على حد زعمه ، من مبالغ ينفقها على الشراب وعلى كلوصات الروثمن والكريفن والديموريه ،وعلى خليلاته اللواتي يقتنصهن أما من محيط الدائرة او من خارجها ؟ انه بشكل عام يتحاشى التعامل مع فقراء المراجعين .. يتشمم رائحتهم من بعيد ، حسب قوله ، في الوقت الذي يعرض عن النسوة المتعلمات فليس من السهل خداعهن ، كما انهن في العادة شحيحات في العطاء وغالبا ما ينفحن رشوة فقيرة في الفيتامينات ،أو يدْعين عليه بلعنة تحيل ما يأخذه منهن من دنانير الى زقوم يصيبه بسوء الهضم او بالتسمم ! ومع ذلك فهو يستثني الصنف اللعوب منهن ممن لا يجدن بأسا في منح لحمهن الأبيض المتوسط ــــ كثيرا ما كرر هذا التعبيرـــ فلا مال يقدمنه ولا اسماك دوكان ولا حتى عرق ( العصرية ) المغشوش . يقوم شافي بتسهيل معاملاتهن بعد موسم القطاف او قبله ، الامر سيان ، فيقوم بإخراج المطمور من الأضابير الضائع والمضيع عمدا منها ، والمخبوء نافضا عنه غبار الإهمال مرحلا إياه من متاهات الضياع الى متناول ايدي موظف مختص بهذا الصنف من الروتين المزيّت حد الانزلاق .
منذ ساعة قدومه وشافي لا يتوقف عن التبرم وإطلاق الشتائم الشعبية جراء حظه العاثر الذي قاده الى هذا المعتقل في يوم أعجف لا مراجعون فيه ولا عشوات ولا مواعيد غرامية ولا حتى زجاجة جن تلاعب جمجمته . اذا فالسأم وافتقاد الشراب هما من دحرجاه الى شارع الوطن عله يلاقي نديم ( ميز ) يحل له معضلة التموين اللوجستي اللازم لإدامة كرش مدلل مثل كرشه !
منذر عواد ومنذ مطلع الصباح كتلة من نشاط ، وبما أنه يعرف شافي معرفة قديمة، أمعن في سكب تيزاب مواعظه على الأخير داعيا إياه بكل حرارة لأن يتوب قبل فوات الأوان. ولكن وعظا بقسوة لهجة منذر يثير حفيظة شافي :
ـــ أتوب؟ علام أتوب ؟ هل اقترفت ذنبا او صنعت حربا او فعلت ما من شأنه ان يغضب الله ؟ وهل كسرت رقبة احدهم كي .. ؟
يقاطعه الشيخ وهو يكتم ابتسامة غامضة :
ــــ لعن الله شاربها وساقيها وناقلها ! جفت الأقلام ورفعت الصحف !
(8)
قرع باب الغرفة.. أهي وسيلة مرة أخرى ؟.. متطفل من هنا او هناك ؟ تتلكأ في النهوض .. تحاول العودة لأحلام يقظتك .. يتواصل قرع الباب .. تتجاهل الأمر .. يتعالى الطرق متسربا الى عظامك .. الى رأسك الذي أرهقه سهر البارحة وثرثرة الرواد في المقهى .. تتجه الى الباب .. تفتحه بأناة وإذا بك أمام مفاجأة :
ــــ يوسف .. مستحيل !
ــــ نجم !
تعانقتما .. بدا أكثر هزالا مما عهدته . تراكمت الغضون على تقاسيم وجه مرهق لم يستطع إخفاء ذعر كانت تنوء به روح واهنة القوى . أسرع بإقفال الباب وراءه منتزعا حقيبة كتف ذات حزام متقطع الأوصال . جلس على حافة السرير وهو يلهث ويرتعش وعيناه على الباب . سألته عن أحواله فقام إلى الباب ثانية وتأكد من إحكام إغلاقه وعاد يلهث:
ــــ الجيش يطاردني.. كما التهم الربو صدري مع أنني لا أدخن..
ــــ تبدو مذعورا.. لم أعهدك على هذا النحو ..
ــــ أرجوك يا نجم.. لم انعم بإغفاءة منذ دهور ..
كان يرتدي قميصا أسود مرقشا بخارطة اتخذت شكل عروق ملحية متنافرة الاتجاهات.. وسرعان ما استسلم لنوم عميق ..
فضلتَ ان تدعه ينال نصيبه من الراحة مغادرا الغرفة موصدا الباب عليه من الخارج منحدرا إلى المقهى التي بدت فارغة إلا من رجل عجوز انهمك بتناول إفطار من صرة ثياب استقدمها معه ومن ثم طلب استكانة من الشاي ارتشفها على عجل وغادر المسطبة.. لم تكن لديك أدنى شهية لتناول الإفطار.. طلبت من عياف ان يعد شطيرتين (سفري) واحدة بالفلافل والثانية بالبيض المسلوق .. وبعد ان جهز الشطيرتين استعرت منه بعض أكياس الشاي وماء ساخنا في قنينة وقدحا وملعقة عائدا للغرفة ..
قبيل منتصف النهار بدقائق فتح يوسف عينيه . كان ماء الزجاجة قد صار فاترا فشطف به وجهه ,, ناولته الشطيرتين فتناولهما بشراهة نمّت عن جوع حقيقي ..
قلتَ ملاحظا :
ــــ أصبحت شائبا وأنت لم تتجاوز الثلاثين من عمرك ..
ــــ أنا في الثانية والثلاثين .. ولكن فتيان الحرب يشيبون قبل الأوان !
سألك مستفهما :
ــــ ما الذي قادك إلى هذا الوكر الخرب.. نوستالجيا السينمات.. أم أيام الزمن الجميل؟
ــــ كلاهما .. ربما ..
عدت لتقول بعد فترة صمت :
ـــ هل تذكر كيف كنا نتشاجر حول السينما .. كنت وما أزال أعشق سينما هوليوود وأنت مولع بالأفلام المصرية ..
ــــ كنت مثلك أموت في الكاوبوي والبوكسات والقراصنة . كنت صغير السن وقتذاك..
ــــ متى عشقت الأفلام المصرية ؟
ــــ منذ اليوم الذي وقعت في الحب.. الأفلام المصرية تغرق المشاهد بالعواطف..
ــــ هي والهندية سواء ..
ــــ لا .. الأفلام الهندية تغرق المشاهد بالبهارات والدموع ..
ــــ كلتاهما تتناولان أحلامنا المستحيلة ..
ــــ يوما إثر يوم يتضاءل إقبالي على السينما.. الحروب والانضباط العسكري هما من أتيا بي إلى هذه الدار.. لكن ماذا عنك؟
ــ لا أدري.. لعل الأمر كما تقول.. النوستالجيا.. ربما.. وربما غارة من غارات الأطلسي هي من دفعني لهذا الجحر ..
ــــ أحسب أن الحروب لا تنتهي ما دامت هنالك حياة.. لقد شبعت كل ذرة من جسدي معارك.. ست سنوات وأنا في جحيم الحجابات.. وما أن نعمنا باستراحة لسنتين حتى عادوا لاستدعائنا!
نهض مطلا من كوة الشعاع على الصالة :
ــــ ياه! تبدو الصالة أشبه بسوق هرج.. وكأن مخلوقات الشاشة قد تسربت إليها..
قاطعته مقترحا:
ـــ حاول أن لا تجعلهم يلاحظون وجودك.. ولا ينبغي ان تغادر الغرفة الى ان آتيك بالخبر اليقين .. أحينا يقومون بحملات مداهمة .. إنها مهمة الانضباط العسكري كما تعلم.. ولكن الأسوأ أن يقتحموا المكان بالملابس المدنية ..
كان لا بد من تدبير حشية إضافية ووسادة لنومه وفيما رحت تفكر بوسيلة تدبيرهما خطرت مغامرات يوسف في بالك .. اعتاد الفرار من الجيش فتارة يلوذ ببستان واخرى بركن مظلم بقاعة سينما لا يغادره طيلة فترة العرض بل يمكث الى ما بعد انتهائه ..هكذا اذاً ابتكر متاهته الخاصة به ، ما من احد سواه يبصر ما خفي من خيوطها العنكبوتية .. ما من احد عداه على دراية بممراتها السرية ممرا ممرا وقبوا تلو قبو يلجها أنىّ رغب ويغادرها متسللا متى ما رغب في الخروج .. هي حيلة الحرباء : التضليل مقابل المصيدة !
ــــ هذا هو ما تصنعه الحروب ..
ــــ انها كالمطر .. يهطل على الجميع .. هل تعلم ؟ سمعت عن فتى قروي لقطته أذرع الخدمة العسكرية ولكنه سرعان ما أدرك انها حرب عقيمة . في أول إجازة سنحت له شاد لنفسه سردابا ودفن لنفسه فيه لا يخرج الا نادرا وفي ظروف اضطرارية . ثماني سنوات وهو يطل على أهله من خلال ثقب صغير . عرفت شابا آخر من أولئك الحريصين على الاحتفاظ بأناقتهم حتى في شارع زلق موحل تحت سماء ممطرة ، ربما لأنه كان حلاقا . حين استدعي للخدمة كانت معارك الحدود في اوجّ عنفوانها . كان الذهاب إلى الجبهة يعني السباحة في نهر بلا عودة . لم يجد أمامه سوى استخدام ذكائه من اجل إصدار عفو صحي عنه. إنكبّ على قراءة عشرين كتاب سايكولوجي يعالج موضوع الشيزوفرينيا وتقمص دور المجنون الى ان حل موعد اللجنة الطبية فبرع في التقمص إلى درجة ان أعضاء اللجنة اقتنعوا جميعا بجنونه فأعفي من الخدمة ..
صمت يوسف لدقائق قبل ان يعاود سرد مغامراته التي وجدتها مسلية الى الحد الذي أنستك احتساء الشاي ساخنا :
ـــ اضطررت ذات يوم إلى الاختباء في دار سينما الكرنك هربا من ثلاثة من حملة شارة ( أ . ع ) أو الانضباط العسكري سيء الصيت لكن صاحبي حسان خبأني في غرفة ملحقة بغرفة تشغيل الأفلام امتازت ببرودتها تفاديا لاحتراق ما فيها من رقائق وبكرات أفلام.. كنت اسمع قرع بساطيلهم وهم يرتقون السلالم وارتطام عصيهم الغليظة بحاجز السلم في الوقت الذي امتزجت أنفاسي بأنفاس كلوديا كاردينالي ورائحة تبغ غريغوري بيك وصكّ أذني قرع أقدام راقصات الفلامنغو بينما تناهت الى خياشيمي روائح كونياك حانات شارع محمد علي .. لا ريب انه فيلم مصري أربعيني معتق .. الى ان سمعت صوت احسان وهو يطلب مني الخروج بعد ان أمن أمر انصرافهم ..
سحب يوسف زنجيل حقيبته المتعفرة بالغبار واخرج من جوفها حفنة أوراق دفعها صوبك فرحت تسأله مستفهما :
ــــ هل ما زلت تكتب كعادتك ؟
ـ كلا .. انها رسائل حب ويوميات أخشى عليها من الفقدان ..هذا ان كنت راغبا بتمضية الوقت .. اما إذا لم تكن لديك أدنى شهية للاطلاع عليها فاحتفظ لي بها لديك ..
ــــ لا مانع .. لكنني لا اضمن ..
ــــ وإن يكن .. حتى اذا فقدت فلن احزن .. نفقد كل يوم ما هو أغلى ..
بعد أن استسلم يوسف لإغفاءة جديدة عنّ لكَ أن تطّلع على سطور خاطفة مما كتب:
الاثنين: عزيزتي صابرين
للمرة الأولى اكتشف ان أكـفّ البنات تشبه أطيارا : كف ترتعش مثل انثى كناري في يوم شتائي قرير ، كف مغزلية هي أشبه بحمامة سلام ، كف ممتلئة كطائر سمان وأخرى هزيلة كفرخ عصفور دوري ، وهكذا أحببتك يا صابرين .. ليس من النظرة الأولى بل من الكف الأولى !
هل نلتقي يوما ؟
الثلاثاء
اكره الحروب. من قال إنني لم أضع قدما على بوصة من ساحة قتال ؟!
أنا رميت رميا إلى أحضان حربين طاحنتين، مثلي ومثل غيري آلاف.. كان أكثرهم صغار السن لم يكن حليب أمهاتهم قد جفّ من على شفاههم لحظة رميهم لحتوفهم. ودعني بعضهم وودعت بعضهم. كانوا يرحلون مترفي الأكتاف، ملتمعي العيون يحملون أصداء أغنيات وأحلاما ورسائل وتوصيات وأدعية وتمائم من أمهات وحبيبات وحلوى ، ليعودوا بأكتاف متهدلة وعيون منطفئة أو أنهم لا يعودون على الإطلاق ..!
الأحد
لا جدوى من وراء البحث عني. لست شجاعا. لست جبانا بالتأكيد. أنا إنسان...
أكملت قراءة مذكرات يوسف بشغف . ولكنني حين رفعت رأسي ملقيا نظرة خاطفة على سريري حيث كان راقدا ، لم أجده هناك .. لعله غامر بالنزول الى المقهى كي ينتظرني هناك فنقضي الوقت كيفما اتفق .. نثرثر .. نراقب ساكني الصالة .. ننصت او لا ننصت لهتافاتهم وتضرعاتهم وضجيجهم الذي يعلو أحيانا حتى على صوت الرصاص . ألقيت عبر الكوة نظرة فاحصة فلم أجده هناك .. اقفلت الغرفة وبحثت عنه في المقهى ، لكنه لم يكن هناك ولا في اي مكان آخر . عبثا بحثت طيلة المساء وحتى ساعة متأخرة من الليل ..بلا جدوى .. خيل الي ان كائنا بشريا قد تسلل مارقا من داخل صالة السينما عبر فجوة في الشاشة دون ان تنبس شفتاه بكلمة وداع او يلتفت مبارحا المبنى إلى خارج المبنى حيث أقصى ركن من أركان الدنيا !
(9)
في ليلة من ليالي الحصار الذي فرضته المعارك، كان فانوس عياف ، وهو يتأرجح ، يبعث إشارات طمأنينة مؤقتة للجالسين وهم يدفئون أجسادهم التي أرعشتها رطوبة الأرضية بشايه الساخن المكرر مزيلين عن أرواحهم ما علق بها من أوساخ النهار و ارتعابات الاشتباكات واليأس الرابض على الصدور الى أن يداهم أجسادهم الوسن فيرقدون على أوشال أمل بصباح لا حروب فيه ، عدا "جبار مشتت" الذي تتقد جمرة عنفوانه في ساعات المساء الأخير فيستهلك كاز عياف الابيض الذي يضطر الى ملئه أكثر من مرة من البرميل الأخير المتبقي لديه والذي أوشكت محتوياته على النفاد . يتميز عياف غيظا بينما ينفث جبار دخان ارجيلته غير عابئ ولا ملتفت ، الى ان انفجر عياف غاضبا ذات ليلة بوجهه طالبا منه الانصراف الى مأواه لعزمه على إقفال المقهى . لكن جبار أمعن في استثارة عياف مكتفيا بالرد عليه بعبارات غامضة باردة النبرة فيما راحت تتحلق حول وجهه الألغد سحب دخان الأرجيلة وتسطع عيناه ببريق سرعان ما يتلاشى لتعود قسمات الوجه الى سابق جمودها . وأخيرا عثر عياف على ذريعة يصرف بها من لا يرغب من رواد المقهى فقام بسكب الماء على مجمرة ارجيلة جبار فانكفأت منطفئة . نظر جبار إليه ببرود قاتل وقال بنبرة تفوح منها رائحة الأمر :
ــــ ستزيل الفحم وتلقم الأرجيلة بحجر جديد جاف ..
ــــ لن افعل ..
ــــ او .. ماذا اقول ؟ لتأت بواحدة اخرى ..
ــــ واذا لم افعل ؟ !
ــــ انت لا تريد .. هذا واضح .. سأعيدك الى المكان الذي منه أتيت .. فالة في اليد وحسرة في العين على سمكة زوري واحدة .. تتغدى ولا تتعشى ..
لم يكن عياف رعديدا بيد انه كان من ذلك المعدن من الرجال ممن منحتهم حياتهم في مسالك الهور اصطبارا غير اعتيادي على صعاب الأمور ، فالتزم الصمت الا من غمغمات سيفجرها ثرثرات في الغد وهو يسكب الشاي بيد يرعشها الانفعال مخبرا نجم بنبرة لا تخلو من عنفوان مكتوم :
ــــ من لا يعرف الصقر..!
حاول نجم مؤاساته :
ـــ ليكن بالك طويلا ..
ــــ لا اميل الى فتح سيرته العطرة.. أيام كان شيوخ الاقطاع يلهبون أمثاله بالسياط أو يسدون ثقوب أسافلهم بقطع ابو الفلسين ومناخيرهم ببودرة الفلفل جاعلين منهم سينما سكوب لمن هب ودب حتى إذا ما التهبت جيوب مناخيرهم عطسوا عطاسا زلزاليا تهتز له بطونهم لتدفع تلك الأسافل بالقطع النقدية بالاتجاه المعاكس ، والفائز من طارت قطعة النقد إلى ابعد مسافة !
(10)
اعتاد "عياف" أن لا يجد زبوناً أوقات الظهيرة فمعظم الموجودين يستسلمون لقيلولة قد تستمر إلى أواخر الأصيل . أما عصر اليوم فقد غصت تخوت المقهى برواد مثرثرين يقلبون أخبار الساعة وكأنهم ليسوا جزءً لا يتجزأ منها . وبما ان نجم أمسى خالي الوفاض من افلام تنسيه سيف الوقت المسلط ومن اية تأملات تذكي عقله الذي يبلده الاحساس ورائحة الجدران العتيقة ودخان اللفائف البدائية واحتباسات أبخرة قلي فلافل عياف المقلية بزيوت مكررة ، لم يجد سوى المقهى ملاذا ينسيه قلق الساعات . ومع تكرار ذهابه الى هناك لاحظ ان جبار كان الزبون الأكثر إدمانا على الجلوس وشرب الارجيلة تلو الارجيلة وتوزيع ملاحظاته الساخرة بين الفينة والفينة على مرتادي المكان يصحبه أحيانا ضرير يدعى مجيد عمارة بات صمام أمان كلما نشب الشجار بين عياف وصاحبه ذي الدم الثقيل على حد انطباع أصحاب عياف ، ورغم قصر الفترة التي عرفه عياف خلالها ، اطمأن اليه وصار يكلفه بمهام صغيرة كالإشراف على صندوق الدخل واستلام ما يدفعه الزبائن لقاء الشاي والسندويتشات والأراجيل ، وقد برهن مجيد على امانة منقطعة النظير كما عرف عنه براعته في فرز الدينار عن نصف الدينار عن ربعه مستعينا بأصابعه في تمييزها في وقت قياسي أما ان يلقي بها الى الصندوق او يعيدها الى من دفعها . وتقرب نجم من مجيد من اجل معرفة المزيد عن حياة جبار الغامضة حتى عرف انه ذاق مرارة العيش في صباه فعمل حمالا في سوق القشلة ودخل عالم السجائر المهربة من مخازن الحكومة وتهريب الويسكي الى الكويت تحت أطنان الخضروات المصدرة . وفي إحدى الازمات امتهن تثبيت مسامير التوابيت ودفن الموتى في اقرب المقابر لقاء أجور هزيلة من ذويهم ممن لم يكونوا يملكون اجور إيصالهم الى مقبرة السلام ، كما مارس خلط سماق الكباب بنشارة الخشب ، مثلما عرف عنه عشقه للنساء وبالأخص بائعات القيمر والبيض ولعل الإشاعة الأخيرة أوغرت صدور العديد من الفضوليين وكان في مقدمتهم عياف الذي أمعن في السخرية من حكاية هرب جبار من جور الاقطاع لتنتهي به الحال الى بيع الشاي والحب الأبيض والأحمر لرواد بارات شارع الوطن الشعبية ومطاردة الصبيان في دور السينما ، ولم تستقر له حال قبل ان يحظى عن طريق واحد من أقربائه بدكان بعمق متر مربع مساحة استخدمه لبيع الملابس الداخلية الرجالية ، ما لبث ان عمل على توسيعه فصار يعرض قمصانا وتي شيرتات وأحزمة بناطيل وأمشاطا وقارضات اظافر . وشيئا فشيء اشترى المحل من ابن صاحبه المتوفي ليفقده في غضون أسابيع بسبب مشكلة عشائرية . غير ان جبار لم يهدأ له بال حتى استعاد جانبا من عافيته ماليا فقد امتلك مطعم كباب ( الجنوب) واستعاد واحدا من المحلين اللذين فقدهما ، هما الآن مقفولان بسبب طبيعة الوضع الراهن .
في صبيحة اليوم التالي فتح عياف مقهاه في وقت مبكر، وفيما كان منهمكا بتقطيع الخيار الى شرائح وخلطها مع الطماطم في وعاء بلاستيكي كبير، فطن الى ان عليه ان يأتي من البيت بحاجة نسيها وكانت شبكة من المفاتيح خصص أحد مفاتيحها للخانة الزجاجية التي تحفظ بقايا الليل من أكياس الخبز والصمون ، واذا به يفاجأ بكيسي فحم من الحجم الكبير مسندين على حافة السياج الفاصل بين موقعين مع خمسة كراسي حشرت بعضها ببعض ، فانتابته حالة من الذهول وبدا غير مستوعب للمنظر الذي لم يكن ماثلا أمامه قبيل لحظات وما تسنى له ان يعرف السر قبل الثالثة ظهرا اذ اعلمه مجيد عمارة ان جبار هو من أرسلها هدية يقضي بها حاجيات خدمة الزبائن . وحين تذمر عياف في نغمة خجلى بأنه غير قادر على تسديد مبلغ الإرسالية أفهمه مجيد بأنها على حساب السيد جبار فشكره عياف بعبارة مرتبكة عكست خليطا غير متجانس من المشاعر فقد كان قبل وصولها بلحظات مغمورا حتى هامة رأسه بمشاعر سخط على الرجل سرعان ما تحولت إلى عرفان وبدايات انقلاب في نظرته لمن اعتاد ان ينعته بثقيل الدم !
القسم الثالث
يوميات الملجأ
(1)
13 شباط 1991
أعلن الراديو :
"مقتل 315 عراقيا في ملجأ العامرية "
الدنيا منقلبة رأسا على عقب وطائرات التحالف تواصل مهمة تقطيع أوصال المدن.
- كوة عرض الأفلام أقلب نظري في الأبطال الجدد لهذه السينما الخرساء وهم يفرون من رعب الصواريخ الى أمان وهمي. وما زالوا كعادتهم يثرثرون ،يتشاجرون ، يصابون بالإرهاق . يرقدون على أسـرّة من شوك ، يفتحون أعينهم .. يبسملون او يشتمون .
ازداد عدد الفارين الى أداء الصلوات ، لاسيما صلاة الفزع ، كلما تفجر صاروخ او شقت سماء . رجّت المدينة طائرة اسرع من الصوت . صنف آخر من الملتجئين انصرف صامتا الى مخدعه الشائك كي ينام ملء جفنيه . آخرون ومنهم عدد لا يستهان به من النساء كن يرفعن أيديهن إلى الأعلى ، ضارعات الى الله ان يخلصهن من المحنة التي هنّ فيها مبتليات .أما البقية المتبقية فثابرت على ممارسة سلوكها وكأن شيئا لم يكن ... يقتعدون أرائك مقهى عياف ، يقرقرون ارجيلات لا يعرف من أين أتوا بها مرتشفين الشاي في وضع سكوت جماعي او يختبئون في أوكار معتمة كي يحتسوا ما يتوفر بين أيديهم من خمور .
يوم رتيب ، سأم وذباب في عز الشتاء ، قرع أحجار دومينو على طاولات متهالكة ما زالت تحتفظ بسطوحها الفورمايكا صقيلة رقطاء . وراديو المقهى مافتئ يبث وشوشاته التي تتحول الى أخبار حربية غير مفهومة ، وما ان تذاع اغنية حماسية حتى يرتفع صوته كما لو كان حنجرة بشرية تأتمر بأوامر عقول جامحة تقودها خيول بلا أعنة .وحين يحلو لأحدهم أحيانا أن يرفع عقيرته بالغناء ، يزجره الآخرون فيصمت .
ثمة مجنون ملتح يطلع من ركن غامض من أركان الشاشة .. يجلس على واحد من تخوت المقهى الهزازة وهو لا يفتأ يتساءل :
ــــ متى يبدأ الفيلم ؟
يناوله عياف استكانة الشاي المجانية :
ــــ إنه لا يبدأ ..
ـــ كيف لا يبدأ ؟ أعور التشغيل هو السبب .. صفعتان ويصبح أطوع من حمار .. دعوني أصعد إليه !
يعيده عياف الى مقعده :
ــــ لا فائدة .. إبق في مكانك يا زياد ..
يهتف احد الزبائن من بعيد :
ــــ زياد .. نمْ في الشط !
يصاب زياد بالهيجان.. يبدأ بالصراخ ضاغطا على رأسه بيدين حديديتين
.. لحظات ثم يأخذ بمطاردة من سخر منه.. يلاحقه سرب من الصغار هاتفين.. زياد.. نم في الشط.. يوقف المجنون اندفاعه مبدلا مساره متجها نحو الصبيان.
يجد نفسه قبالة نجم فتفتر حركته ويهدأ ، يشده نجم في دعة معيدا اياه الى مكانه طالبا له سندويتشة فيتناولها ملتهما إياها في لهفة . يسأله ممتصا ما في دخيلته من غيظ :
ــــ ماذا تسمي الغني ؟
ــــ ملك الملوك..
ــــ العسكري ؟
ــــ جنرال ..
ــــ الجندي ؟
ــــ بيدق ..
يستغرق في النوم مالئا المكان بالشخير. يرد عياف على احدهم شارحا:
ــــ سقطت قذيفة صاروخ بالقرب منه.. لم يجرح أو يسقط صريعا.. دويّها فقط صيّره مجنونا !
14 شباط
محاصر بالوجوه. أهرب منها واليها... تتدفق إلى سمائي من كل حدب وصوب.. من ثقوب ذاكرتي.. من مدخل الملجأ، من لوحات المرسم، من مانشيتات بهو دار السينما وواجهاتها التي طمرها الغبار وشرخت مخالبه ألواحها الزجاجية. استيقظت.. لامست عيناي سقف الغرفة.. أشم رائحة دخان منبعث من مكان قريب.. ولا أكاد أرى من غرفتي سواء أشباح ركامات فالمصباح الكهربائي مطفأ لسبب ما والسراج المنسي على الصفيحة المجاورة لرأسي كان سخيا دخانا وشحيحا ضوءاً.. ليس بمقدوري معرفة أي وقت من أوقات اليوم أحيا.. نهار؟ ليل؟ فجر؟ غسق؟ لا أدري.. مضطجع أم متجه إلى الباب؟ لست واثقا.. لا أدري أين ذهب يوسف.. إنني أتراكض على ساحل بلا انتهاء.. صخب أمواج عاتية يحيط بي من كل جانب.. وفيما أطلق العنان لساقيّ.. يلاحقني زعيق طائر أجهل اسمه.. في أول الأمر.. التفافة مني تخبرني بأنه نورس.. كلا.. ليس طائرا واحدا بل قطعان من الطيور من أصناف شتى.. وحين ألج المكان أرمق الراقدين ممن لاذوا به.. ثمة من يشخر وثمة من يتقلب على جنبه ..أحاذر وطئهم وإذ أعلو برأسي ألاحظ ان طيور الفريد راحت تتدفق على الصالة من فتحات السقف القريبة الى الشاشة المحنطة مقوضة أعشاش اليمامات والبلابل التي سكنت الصالة حتى قبل قدومنا اليها .. كانت قلة منها بالكاد تهبط الى مضاجع ساكني الصالة لتلقط هذه االحبة من الرز وتلك الحبة من العدس ثم تطير عائدة الى وكناتها من دون ان يشعر احد .. لكنني الساعة المح نوارس الفريد وغربانه وهي تغزو الصالة مالئة المكان بزعيقها منقضة على رود تايلر تحاول نهشه ونورس ينقض على قفا ميلاني فيمزقه بمخالب ما اصلبها ، اما المعلمة آني ورث فتخر صريعة هجوم أسراب الطير الغاضب على المدرسة التي تعمل بها .. وها هي مدرجات صالة الدار تتلطخ بالدماء وريش الطيور وأعناقها المجتثة .. ثم .. لا .. يسود الهدوء الملجأ .. يتبدد النعيق رويدا رويدا .. افتح عيني لأجدني في السرير ناقعا رغم طراوة الغرفة بالعرق !
الطيور ..!
(2)
24 شباط ، الثامنة والنصف صباحا .
يعلن المذياع :
" بدأت فجر اليوم قوات التحالف عملية توغل كثيف في الأراضي السعودية والكويتية باتجاه الاراضي العراقية "
أتسلى بما جاء في أوراق دفتري :
26 شباط ، بعد الظهر
أورد مذياع البطارية الخبر التالي فتلقفه أهل الملجأ المحاصرون بمشاعر متضاربة: "تواصل قطعات الجيش العراقي تقهقرها باتجاه سفوان والحدود الشمالية..".
ما زلت اذكر مغامرة صغيرة لي ذات ظهيرة مغادرا أزقة المحلة باتجاه الشارع المبلط الذي ينتهي إلى الجسر الفاصل بين المدينة وقرى أقاصي الجنوب ، وكان مبتغاي ، كما أذكر ، استغلال حرارة شمس الظهيرة في قيظ تموزي لاهب في انتزاع كمية من لحم القار الأسود كيما أكوره على ما لدي من سهام قصبية لتندفع الى أعالي السماء . وما ان شارفت الرصيف اللاهب وأوشكت ان أغترف كمية من القار بملعقة جئت بها خلسة من مطبخ البيت ، حتى أبصرت مشهدا مفزعا : ثمة هندي احمر بوجه ذي خطوط غائرة وخدين مطليين بدهان ابيض وهو ينظرني شزرا دون ان ينطق كلمة واحدة ، تشرئب اعلى رأسه من جهة الخلف ريشة نسر نصفها السفلي ابيض والعلوي اسود . مازال واقفا يحملق بي بينما راحت ترفرف حافات قميصه الجلد ذي اللون البني ،المزركشة بخيوط من اللون نفسه .. ذلك ما استطعت ان ألمحه في وقت لم يتعد الدقيقة قبل ان ألوذ بالفرار بعيدا عن ظله الهائل المنقذف عبر الشارع منسكبا على الرصيف المقابل .
وفي المحلة انهالت الأسئلة على الصبي المفزوع الذي خسر مجموعة من صور ممثلي وممثلات السينما نظرا للاضطراب الذي داهمه لحظة ذلك اللقاء . أقسمت أنني وعلى الرغم من هربي من الهندي الاحمر التقيته ثانية لكن من بعيد وفي سوق الخضار المركزي وكان يحمل علاقة من الخوص من الصنف الخصيبي المتوسط الحجم ، وكل ما استطعت القيام به الفرار حتى صرت فيما بعد أتحاشى افلام الزنوج ــ كما يحلو لمرتادي السينمات من الصبيان مناداة الهنود الحمر ــ وتمكنت من بيع صور أبطالهم بثمن بخس كاتما في القلب مزيجا من اللوعة والارتعاب على تازا بن كوتشيز وجيرونيمو والزعيم الملقب بالظلف الاسود ونظيريه الغيمة الحمراء والدب ذا القرن المجوف وآخرين نسيتهم و حسناوات من امثال ايفون دي كارلو وهيدي لامار وروث رومان ومورين اوهارا وغيرهن . ولكنني ومع مرور الزمن صرت مرهق البال كثير النسيان واستغرق مني الأمر سنوات كي ابدأ بتفسير كيفية وصول ذلك الهندي الأحمر إلى ضواحي البصرة مع ان بعض من استمع إلي فسر الأمر بأنها أضغاث أحلام أو أوهام تراكمت مع الشيب الذي غزا شعري . ولكن واحدا من أعمامي حاول إعطاء تفسير تاريخي معقول لوجوده قائلا:
ــ لعله قدم مع الحلفاء الذين عبروا الى التنومة باتجاه شرقي البصرة اثناء إحكام الطوق على هتلر بعد توغله في الاراضي الروسية .. جيوش الحلفاء تنتمي لكل ما يخطر وما لا يخطر على البال من أجناس ..
ولكن مدرس مادة التربية الفنية والذي توقف عن تدريسها والتحول الى موضوعات السينما من اجل ان يضمن إنصات التلاميذ اليه علل الأمر على نحو مقنع الى حد ما :
ــــ لا بد أنه خرج من الشاشة اثناء عرض احد افلام التوماهوك .. !
وجوه جديدة لا تفتأ تفد على صالة السينما لتحل محل وجوه مغادرة..
أوقاتي أقضيها بين يقظة ونوم.. وكوابيسي تشبه أحلامي وأحلامي تشبه كوابيسي!
(3)
أكد المتدفقون الجدد الأخبار التي ذكرت عن حدوث حريق هائل في احد المقرات العسكرية خارج المدينة ، وأنهم شاهدوا سحبا كثيفة تغطي السماء مندفعة من جهة آبار النفط المحترقة غربا ، وأن نهار المدينة انقلبَ ليلا .
صدور إعلان بوش الذي تحدث فيه عن انتهاء عاصفة الصحراء التي تمخضت عن تحرير الكويت ، معلنا أيضا قرار وقف إطلاق النار .
28 شباط عصرا
بلاغ بث أكثر من مرة من اذاعة كويتية سرية موجه الى أهالي البصرة يحضهم على مغادرة المدينة بأسرع ما يمكن ..
صدمة وقلق هائلان هما ما سببه الخبر لي .. لم أدرك أبعاد الخبر ، لكن الشعور الطاغي انعكس على مرآة غريزة حب البقاء متمثلا بذعر بذلت مجهودا غير اعتيادي كي أتغلب عليه .. للمرة الأولى يتفوق خبر مبهم على الأثر الذي يتركه انفجار صاروخ في إثارة رعبي !
قال أحد القادمين من هناك :
ــ شاهدت عددا من الدبابات ذات السرفات الغارقة في الوحل متوقفة في الشارع المؤدي إلى البصرة القديمة ، لصقها جنود متراجعون تلوح عليهم أمارات الإرهاق والوجوم والتوتر المكتوم وقد افترشوا الأرصفة . .
واصلت البنادق الأوتوماتيكية رشق الفضاء بمطر من الانطلاقات فسر على أنه احتفال بانتهاء الحرب. بيد أن ذلك الكرنفال الصاخب لم ينقطع البتة . ذكر قادم من جهة الزبير انه شاهد بأم عينيه جنديا يسدد ماسورة دبابته إلى تمثال الرئيس شرقي ساحة سعد.
أضحى مؤكدا اندلاع صدامات مسلحة بين أطراف متنافرة : الجيش وقيادات المليشيات من جهة وأطراف تنتمي إلى الضفة الأخرى .. ضفة المعارضة .
ثمة من جاء بخبر صاعق :
ــــ مبنى المحافظة سقط بأيدي الثوار!
3 آذار
أرغمتني الأحداث الجديدة على ان أغادر معتكفي منحدرا لكافتيريا الصالة . وفيما أصخت سمعي كي استمع للمزيد من الأخبار، لمحت ( أركان ) ، فاستغربت من وجوده في مكان كالذي قذفتنا ريح القصف اليه . كان صعبا التعرف عليه من أول نظرة فلحيته الشائكة كسفت توهج خديه مغطية نونة ذقنه ، بعد ان فارقته متعجرفا مختالا في مشيته. وها هو أمامي يتوكأ على عكاز ولا يكاد يصل الى مبتغاه إلا بعناء . لكن عينيه القاسيتين دلتاني عليه ، وما انفكتا تحملقان في الفراغ او تزوغان هنا وهناك . جعل يمسح المرئيات مسحا باردا مشوبا بانكسار تزيا بزي تقطيبة تليق بأركان خليل .
وهاهي حكايته كما رويتها لشافي :
"في يوم ما انزرع ، وفي غفلة من الزمن في زقاق محلتنا. وفي البداية أثار انبهار أهل الحي بوسامته بيد ان نظرة استعلاء اعتاد ان يلقيها عليهم حدت بهم الى الانكماش والتراجع ، ليتحول الحديث عنه من العلن الى الهمس : وجه استفزازي كان مرآة عاكسة لما يمور في داخله من احتدام . لاحظ الجيران انه كان كثير الشجار مع امرأته ، ابنة عمه ، حبيسة البيت ، المغضوب عليها المشكوك زورا في إخلاصها ، وهو الانطباع الذي طالما انعكس من خلال شتائمه المتواصلة . كان يشتمها في كل مناسبة مانعا إياها من مغادرة البيت والاختلاط بنساء المحلة . أعتاد ان يضربها ضربا مبرحا كلما عاد في الليل مخمورا .
حار اهل المحلة في امر اركان فبعضهم فسر عجرفته على انها نابعة من طبع متأصل فيه ، في حين عزا آخرون ذلك الى السلطتين اللتين كان يتمتع بهما : سلطة كونه رجل امن وسلطة كونه عضوا متقدما في حزب البعث .
ذات مساء رطب عدت الى البيت من المقهى في وقت مبكر . وإذا بي افاجأ بأن أركان وقد انتابته نوبة غضب على احد أبناء جارنا الذي كان يعاني مرضا خبيثا في لهاته ، وحين هرب الإبن ، قام أركان بجرجرة الشيخ المريض الى البستان المجاور ، وأخبره ان ابنه يساكن سطح البيت : " ماذا يفعل ابنك فوق السطح ؟ ! " وحين اخبره العجوز بأنه يحفظ دروسه ، سخر منه اركان مرددا في نغمة من أفرط في الشراب : " يحفظ دروسه ؟ ! أية دروس تلك التي يحفظها .. ابنك يا مغفل يسترق النظر الى امرأتي كلما خرجت للحديقة ، هل فهمت ؟!" وراح يهدد ويتوعد بأنه سيدخله وأولاده السجن ان لم يرتدعوا . وحين أدرك الأب ان محاولات اقناع شخص مثل أركان لابد وأن تؤول الى الفشل ، راح يتملقه ويداجيه . ثارت ثائرتي فاندفعت ساعيا للتصدي لأركان ، بيد ان امي اعترضت سبيلي . أوصدت باب بيتنا بالمزلاج وسدت الفناء الضيق محيلة هيكلها الناحل الى كتلة فولاذية غير قابلة للاقتحام ، حالفة أغلظ الايمان علي ان لا أخرج . ويبدو ان جارنا الغاضب فقد السيطرة على انفعالاته وجعل يلوح بمسدس استله من قراب بذلته الخاكية . هذا ما أخبرنا به فيما بعد جارنا المريض .
فجأة مزق صمت البيوت صوت أطلاقة مدوٍ ، أعقبته صرخة امرأة ثم ران سكون قاتل !
انتظرت دقائق قبل ان أخرج لتفقد الأمر. لم يكن اركان موجودا . كان جارنا الأشيب المريض بالسرطان جالسا القرفصاء لصق قاعدة نخلة مبتورة يغالب بكاء مريرا ودموعه تنساب على وجه ملتح ممصوص: ما هي إلا شهور حتى رحل العجوز متأثرا برعب الإطلاق، ربما، وبمضاعفات المرض الذي التهم الحنجرة فيه وما تحت اللسان.
4 آذار
كنت متضايقا من وجود اركان في الملجأ ، فحيث ما وجد وجدت المشاكل. وها هو حدسي يتحول الى حقيقة ، ففي مرة من المرات تناهي لمسمعي صوت لغط منبعث من قلب الصالة ، وحين خرجت لتفقد الأمر ألفيت اركان يمسك بخناق منذر عواد ، في الوقت الذي ألجمت الهجمة المباغتة من كانوا قريبين من الاثنين فلبثوا صامتين غير ميالين للتدخل . زمجر اركان هاتفا :
ــــ تأخذ أسلابك وتنصرف .. أتسمعني ؟
امتقع وجه الملا :
ــــ اجل .. أجل ..
ــــ الآن .. !
ــــ فورا .. ودون إبطاء ، !
راح يلملم حاجياته قاذفا بها لصق جدار القاعة . وبعد ان فرغ هوى بجسد متهالك على إحدى الصرر، وطفق يلهث لتندفع يده الى جيبه وتخرج كتيب أدعية دافنا وجهه بين دفتيه مغمغما بعبارات راعشة ، بأدعية وتعاويذ غير مفهومة . اما أركان فقد اختتم هجمته بدخول كرفان الشيخ ليطلع منه ثانية قاذفا بقطعة الأثاث الأخيرة التي نسيها في الأغلب منذر عواد : ابريق الوضوء الأحمر الأشرم الفوهة !
لم يعد الشيخ يشاهد في أي من زوايا الملجأ . توارى مختبئا في ثقب ما قريب او بعيد .. لا أحد يدري بالضبط . أما اركان فيبدو انه استمتع لبعض الوقت بهيمنته على أجواء المكان . الا انها كانت هيمنة مزعزعة الأساسات ، فمن كوة غرفتي لاحظت انه كان يحرك رأسه في جميع الاتجاهات ، بل انه كان يتجنب المكوث في الصالة مختارا ركنا حافلا بالظلال ليضيع بينها الا من حلقات دخان كثيف كان يندفع من ساعة لأخرى . بدا من الواضح انه كان يبذل مجهودا غير اعتيادي كي يخفي عرجه ، بيد ان عينيه الحمراوين فضحتا وضعه النفسي القلق : أمسى شخصا مطاردا بامتياز !
الرابعة عصرا
أصوات اطلاقات نارية متقطعة ، والمزيد من الأخبار عن قتال غير مسبوق وغير متكافئ بين الدرع والمليشيات الثائرة والتي أطلق بعضهم عليها بالغوغاء . وبينما كنت التهم سندويتشة الغداء في المقهى ، قدم سلطان وهو من أهالي منطقتنا ويسكن بيتا مجاورا للبيت الذي كان يسكن فيه اركان . حياني باقتضاب وهو يجوس بعينيه كمن يبحث عن شيء ، ثم انتحى بي جانبا وبادرني قائلا وهو يلهث :
ــــ هل رأيت اركان ؟ اعرف جيدا انه هنا ..
ــــ لا اكذب عليك .. كان هنا حقا .. ولكنني لم تقع عليه عيناي منذ البارحة .. كأني به يريد نقل نفوذه الى هذا المكان ..
ــــ كان لديه نفوذ طالما استخدمه لإيذائنا .. اليوم وبعد ان سقطت المدينة في أيدينا فالويل له .. منذ اندلاع الاشتباكات ونحن نطارده من بيت لبيت ..
لوح بسكين كان قد أخرجها من وسطه :
ــــ سيكون موته صامتا .. ومحتقرا ايضا !
ــــ سمعت انه مصاب بالغنغرينا .. أهذا الخبر صحيح ؟
ــــ صحيح تماما .. ويليق بخرع مثله ، فقد عمد يوما الى اطلاق النار على ساقه كي لا يلتحق بالجيش الشعبي بعد ان صدرت الأوامر بالتوجه الى الجبهة .. وهكذا تفاقم جرحه متحولا الى غنغرينا ..
ــــ الرجل ميت لا محالة ..
ــــ لن انتظر ان يموت بهذه الطريقة .. ثلاثة من أبناء عمومتي ابتلعتهم المعتقلات من وراء تقاريره ..
السادس من آذار / ليلا
لعلعة الرصاص تأبى التوقف ، وعلى الرغم من العزلة التي اوحى بها الملجأ ، الا ان الأخبار كانت لا تنقطع :
- بالجملة .. فرهود ، مطاردات ، والجثث قد ردمت انهار المدينة .
القسم الرابع
أوراق اعتراف
الاعتراف .. أي اعتراف ؟ أهو حقا بطاقة سفر الى ملكوت التوب ، الى نعيم وارف الظلال ؟ أتسمى المناجاة اعترافا ؟ ما الاعتراف أصلا ؟ لحظة صدق مع النفس ؟ تطهر باتجاه النقاء؟ من في مقدوره ان يحط بقدميه على قمة جبل من النقاء سوى النبي والقديس والطفل ؟
أيمكن للمجنون .. ايضا ؟ أيتاح لمرتكب الإثم تلو الإثم ؟ ربما نعم .. ربما لا ..
طيب .. ولكن .. ماذا ؟ ألا تظن ان الأمر قد تأخر ؟
ها أنت تجرجر مثل سيزيف خلفك مقطورة ملء حوضها آثام .. على جلدك تتراكم الخطيئة على الخطيئة.. روحك أضحت تمثالا من النفايات ..
مطوق انت الآن بصبوتين : ان تتوب الى الله قبل ان تقوم القيامة ويفوت أوان كل شيء .. أو أن تعترف في حضرة كاهن ، حتى وإنْ كان من صنع أخيلتك ..
اليقين هو ما تسعى اليه سعي الظمآن الى سراب ..
أداخل انت ملكوته المنير أم مرتد الى العاب جسد نارية وفراديس لذائذ عابرة ؟
أم إنك مرتدٌ الى فيافي الشك وجحيم النكران ؟
كلا .. لم يفت بعد أوان قطف الآس .. تبا لك .. مالك وللندم ؟
تلك مفازة قطعتها منذ زمن بعيد ..
من يقول ؟ !
عارية قدماك .. حائرتان أين تحطان .. على عشب أخضر نديان ام على بساط من جمر ونار ؟ !
دع عنك الوساوس والأراجيف ..
قف في حضرة المرايا ..
اسرد اعترافاتك ..
أغمض عينيك .. افتحهما على أوسعيهما ..
تخفف وتذكّر :
من شفّ شفى !
(1)
أين كنت قبل ان تأتي للدنيا؟ / حبات قمح في خابية /..رشقات مطر في كأس.. /التهم ابوك حفنة من عجينها .. /ناول حفنة لامك .. / شربا ما تبقى من ماء الكأس .. /فانقذفت لهذا العالم ..
الأقنعة أسقطتها جدتي ( شمعة ) ذات ظهيرة ، لكن بعد ان شببت عن طوقي وشبعت تساؤلا .. فما روته عن سر شقاء العائلة مازال يؤرقني.. حتى هذه الساعة !
في الرابعة من عمري عرفت على فجاجة معرفتي بأحوال الدنيا انني أسكن بيتين يقعان في محلتين متجاورتين . لم أزل حتى بعد تهديمهما أجهل السبب الذي حدا بأبي لأن يتقبل فكرة انتزاعي من حضن أمي ، كي أصبح جروا مدللا في بيت عمه الثري ، ذلك العم الذي كنت أناديه بـ ( جدو ) ..
كنت وما أزال لغاية اليوم أسيرا للتكهنات والتحليلات ..
أين كان أبي لحظة الانتزاع ، بل أين كانت أمي ؟
لِمَ لمْ تتذمر؟ تبكي ؟ تزمجر .. تنقضٌّ بمخلبيها كما تفعل أمهات القطط ؟
من سرق طفولتي ؟ !
بيت وبيت ..
لا املك الجواب !
كلا البيتين كان واسع الأرجاء ..
لا اعتقد أنني كنت أتجاوز الثالثة من عمري حين قرر أصحاب البيتين .. بقرار مسكوت عنه ـ اقتسامي .. !
البيت الذي أخذتُ اليه ، بيت عم ابي ، جدي ، كان أضخم وأبهى وأكبر مساحة . وكان ــــ شأنه شأن بيوت ذلك الزمان ـــ أوسع مساحة من بيوت الآجر ولهذا كان بيت جدي يطل بارتفاعه النسبي على بستان متباعد الأرجاء . يقولون انه إشترى البيت والبستان في صفقة واحدة أواسط الأربعينيات بعد ان باع مغازة السوق وعنبار المراكب المشيد على ضفة النهر الكبير .
كنت أستيقظ في الليل مفزوعا على أصوات لغط واشتجار أصوات صغار في السن وقرع أحذية متراكضة على سطح الدار وأناشيد صباحية ودق أجراس ، ثم علمت في وقت متأخر ان البيت كان في الأصل مدرسة ابتدائية لغاية بدايات القرن العشرين ، والدليل على ذلك ان غرفاته السبع كانت من الرحابة بحيث كان من السهل إدراك أنها كانت صفوفا مدرسية . ولعل الإضافة الوحيدة للبيت تمثلت في إقامة حديقة مستطيلة الشكل توسطت ساحة مفروشة بآجر ( الفرشي ) الرباعي الشكل .. تلك الحديقة التي اقتطعت من ساحة البيت الكلية 12 × 8 مترا على وجه التقدير؛ كانت عبارة عن غابة مصغرة شديدة الكثافة بالغة التشابك ضيقة الممرات احتشدت بأشجار آس ورمان وموز وبرتقال و( مانجو ) وسنادين ورد على مدار أضلاعها الأربعة ، خلاف نشوتي نخل قصيرتين كانت أحداهما من أجود أصناف البرحي والثانية كنت اجهل تسميتها .
أما بيت الأهل المستأجر بالمشاركة بين أبي وأخيه ، فرغم رحابة ساحته الا انه لم يكن ليضاهي بيت الأقرباء . كانت جدرانه الخارجية متآكلة ومحتشدة بكتابات الفحم .أما في الداخل فلم تكن غرفه متساوية المساحات ، كما كانت تتوسط ساحته المرصوفة بآجر متثلم من الصنف الرخيص سدرة عملاقة على حوض ماء به حنفية . مدخل البيت ينتهي الى فناء قصير معتم يقود الزائر يسارا الى غرفة جدتي (شمعة) وابنتيها العانستين ( فاضلة ) و( جورية ) ، والحقيقة انها غرفة معتمة ذات أرضية شديدة الانخفاض ، لكن جدتي كانت تعوض عن ذلك الضيق بالجلوس تحت سقف الطارمة ، ففيها تطهو الطعام ، وعلى أرضيتها كانت تصلي .
كنت كلما أيقظتني ضجة العصافير بقلب السدرة ، صافحت عيناي سماء صباح بهي ، فإذا بي أسرع في النزول الى حيث جدتي التي أجدها قاعدة وهي تحتضن لمبتها الدائرية الخضراء الصغيرة . تدعوني لتناول الفطور الذي يتألف عادة من الشاي والخبز الذي تخبزه بيديها ، قطعة جبن وأوراق نعناع او ريحان .
حين أجيء لبيت أهلي ، لا اعرف اين أبات ليلتي ، وحين يتاح لي النوم في الغرفة اليمين التي يحتلها أبي وأمي وإخوتي ، يحدث كثيرا ان أصاب بأرق لذيذ . أنصت لأبي وهو يعرك قرص مذياعه ( الفيلبس ) الأثري ذي العين الخضراء التي ما ان تتوهج حتى تندلق الإذاعات بتراتيل قرآنية وأناشيد وأخبار والحان باعثة على الخدر.
اجل .. لقد تقاسمني البيتان دون سبب مفهوم !
كان يؤتى بي الى بيت اهلي محمولا على كتف ( نجية ) عمة أبي ذات البنية القوية . كانت كائنا ميالا الى الصمت عموما .وكانت ذا وجه غليظ التقاطيع لم يكن يخلو من جمال عابس . وكان شعر رأسها ـ وهو يندلق من تحت فوطتها البيضاء ـ يلوح احمر حنائيا يتخلله الشيب . ولعل عبوس وجهها ذاك مرجعه الى انها لم تهنأ بزواجها ، وهي التي تزوجت في سن متأخرة ، من ( مزهر) الذي كان ( تنديلا ) يشرف على مجموعة من الحمالين البلوش والاكراد الفيلية في شحن وتفريغ البضائع في عنبار الأسرة . ذلك الزواج لم يدم سوى شهر او أقل ، اختفى مزهر من حياتها الى الأبد ، قيل انه عاد الى زوجته الأولى بمدينة (الحويزة ) ، ولكن ثمة من قال انه غرق اثناء رحلة بحرية قرب ميناء كاليكوت الهندي ، تاركا زوجته حاملا تنتظر ، لتنجب له بعد شهور ابنة اسمتها صبرية ، لم يتح لها ان تلتقي أباها قط !
كنت في بيت الأعمام طفلا متوحدا تتخاطفه ظلال الكبار. أما في بيت أهلي فقد كنت محاطا بأخوتي أنام ملء جفوني اذا ما خيم الليل على المكان واستطالت الظلال وتوامضت اعين الطناطل والعفاريت ، وعبر الزقاق الفارغ القصير يقطع الشحاذ الليلي ( كُبير) الزقاق شاحنا اياه بغناء شعبي ومواويل سائلا اهل البيوت بعض المال او رغيفا منقوعا بحساء او بماء !
(2)
من اللامكان تطلع ( حياة ) ..
رشيقة الجسم نحيفة الساقين ذات عينين عسلييتين ضيقتين الى حد ما وحاجبين أشعثين وأنف بدقة منقار دجاجة ، الشفتان مرسومتان بقلم كحل ومخضبتان بأوراق ورد جوري او بخشب (ديرم) من النوع الرخيص .
قالت عمتي ( فاضلة ) وهي تزم شفتيها :
ـــ جنية .. هذه البنت جنية ..
عقبت جدتي :
ــــ قد تكون غجرية .. من أين يلقط أخوكم هذه النماذج ؟
توجهت لعمتي متسائلا :
ــــ صحيح يا عمة .. من اين جاء بها ؟
ــ جاءت بصحبة أبيها من قرية بشرق المدينة نسيت اسمها .. أبوك مغرم بهذا الصنف من الفقراء .. أسكنهما الغرفة المجاورة لقن الدجاج ..
ــــ غرفة المؤونة ؟
ــــ هي نفسها التي قتلت فيها افعى ذات يوم ..
صمتت لبرهة قبل ان تستأنف حديثها :
ــــ أعطى أباها صندوق ثلج وجعله يبيع السيفون عند عتبة الباب. ثم مرض أبوها، أصيب بمس من الجنون فأضطر أبوك لإرساله إلى مستشفى المجانين ببغداد . وتقريبا انقطعت أخباره، عدا رسالة وحيدة من ادارة مستشفى ( الشماعية ) فيها خبر عن وفاته وصورة له وهو عارٍ كما خلقتني .افتقدته ابنته الصغيرة بمرارة ، غير انها مع مرور الوقت اعتادت العيش معنا . لكن المشكلة انها لم تكن تستكين ولو للحظة واحدة ، فتتسرب من اصغر شق الى أي مكان .. الى الشوارع والأحراش والبساتين ، وتتوغل في الغالب في أماكن ابعد من ذلك بكثير .
بقدر تعلق الأمر بأبي كانت عمتي محقة في وصفها له . كان جلّ أصحاب ابي من الفقراء والمشردين ، وكان الفقر نقطة ضعفه الكبرى. هذا ما كانت تخبرنا به عمتي ، ففي دائرة العمل كان من أصحابه العامل والكناس والفرّاش والكاتب البسيط . لا يتفتح مزاجه الا لهم ومن اجلهم . يمضي بهم الى المقاهي ويشتري لهم شطائر وشاي ومرطبات . وربما انطلق معهم في سهرات طرب تتخللها أصوات عزف على العود او نحيب على كمنجات متقشرة الأبدان . هذا ما أكدته أمي ايضا فيما بعد . كنت اشعر بمزيج من غيرة وألم ، ليس لأنه يخص أصحابه بوقته بل لأنه في الوقت الذي كان يمارس تلك العادة ، كان جافيا تجاهنا نحن أفراد أسرته !
كنت كلما قدمت لبيت أهلي لا ألقى( حياة) . كانت دائبة الخروج .. تتسكع حيثما تشاء دون ان يمنعها احد . وحين اسأل امي عنها كانت تكتفي بهز رأسها قائلة :
ـ دع عنك هذه المخبولة ، فمنذ ان فلع رأسها ابن حارس البستان بحجر وهي تتصرف بغرابة !
كتمت ما في دخيلتي من مشاعر . انجذبت دون ان ادري اليها رغم انني كنت أخافها أحيانا .
ارجفتني نسيمات ليلة من ليالي الخريف . وكنت حينها راقدا على السطح وقد انتابني خوف غامض متأت من مرور جسم متوهج غريب في سماء مدلهمة وخفافيش وطيور طيطوى زاعقة متخاطفة . أربدني ذلك الخوف في مكاني . تململت قليلا وسحبت اللحاف الزفر المبقع متدثرا به ليندس لصقي جسد دافئ وتنهمر على وجهي خصلات من شعر ناعم ، فسرت موجة كهربائية الى كل ذرات من ذرات جوارحي وأنا اسمع همسا ناعما :
ــــ نجم .. انت بردان ؟
لم اكن املك ردا . لكن زغب ساعدي ناب عني في الرد .
كانت حياة !
أطبقت بساقيها على ساقي وهمست ثانية :
ــــ لماذا تبقى في البيت ؟
ــــ أريد ان العب مع أخوتي ..
ــــ لكنهم لا يحبون اللعب معك.. يقولون انك لست بأخيهم.. خاصة سلمان..
ــــ سلمان دائما ينتهرني ويصيح بوجهي .. ارجع .. ارجع الى بيتكم ..
أردفت قائلة :
ــــ لماذا لا تخرج معي ؟
في صبيحة اليوم التالي خرجنا معا . توغلنا بعيدا مجتازين سياجا شائكا دخلنا من فتحته الى دغل كثيف الشجر مترامي الأطراف ملاصق للبيت .
قامت الى عنقود عنب اخضر وقطفته :
ــــ إمسح عنه الغبار وتذوقه ..
فعلت ولكنني كدت ان أشرق بريقي :
ــــ انه شديد الحموضة !
ــــ ولكنه أطيب من ملح الحيطان ..
ــــ وهل تأكلين ملح الحيطان ؟
ــــ أحيانا !
في الأيام القادمة دأبت على اصطحابي الى بساتين وأجمات وأدغال وشطوط لم أكن وحدي لأجرؤ على الوصول اليها .
فيما بعد صرنا ثلاثة .. حياة وانا وصبية اسمها منى ..
كنا ندخل مملكة العشب ، نتتسلق قصار النخل ، وتذوق طعم الشاترلا والشيخ اسم الله ، وثمار العليق الحمراء . ثم جعلت حياة تعلمنا ألعابا أخرى غامضة : لعبة التشقلب معا على عشب الدغل ، فيما تنمرد تحت هياكلنا حبات الرطب والنبق والعوسج .
على يد حياة تعلمت الحرف الأول من أبجدية لعبة النار ، أشد الالعاب إرباكا وغموضا !
(3)
صورة جانبية / أولى
الطفل الوحيد في قلعة مرتفعة تشرف على بستان.
يطارد كرة فستقية اللون قاسية الملمس ، ويمتطي صهوة دراجة ثلاثية العجلات حمراء اللون . ينصرف عنها الى غرفة الضيوف ، غرفة جده الأثيرة . جده ليس في الغرفة . ينشد الى رائحة بخور الروشن ، حين لا يكون جده الضرير هناك يستروح انفلاتا اكبر. يقف مبهورا أمام اثاث الغرفة الهندي الطراز. تمغنطه تخريمات الطاولات وترصيعاتها العاجية ويدوخه لون البن المحروق فيدس انفه في لدانة الأثاث ، يتشممه بدنف عاشق ويمرغ وجهه في طنافسه متشرنقا بسحره وغموضه منجذبا الى تماثيل صغيرة تربض على الطاولات او على زوايا مثبتة على الجدران . يخرج شفرة حلاقة راقدة في جوف مزهرية بالقرب من قوقعة بحرية هائلة الحجم . يشرط ذراع الكنبة ويرفع عينيه فتلتقيان بعيني جده تحدجانه في صمت وإنكار فيفر الى خارج الغرفة مرتقيا درجات السلم الغربي الى السطح . تقبض يداه على عنق قطيطة . يتسلق سياج السطح ويرميها من علٍ الى ارض الدربونة الضيقة لكن مخلبها يخدش أذنه قبل ان يهوي بدنها المتثني الى اسفل ، مرتطما بأرضية الزقاق . لن ينسى شلال الدم المتدفق من شحمة اذنه التي خدشتها مخالب تلك الهريرة التي ارتطمت الساعة بالأرض مطلقة مواء يمازجه أنين وتنهض بتثاقل . لعلها مهشمة العظام لأن المسافة بعيدة بين السطح والأرض :
ـــــ لا تؤذوا القطط .. ان آذيتموها ، انزلت عقوبتها عليكم ..
تتراكض بعيدا .. لو كانت بشرا لماتت !
القطط بسبع أرواح .. قال جده ذات مرة ..
صورة جانبية / ثانية
الكبار منهمكون بأعمالهم بعضهم في معمل انتاج الحليب . نسوة البيت راقدات . وعمته تناديه فلا يرد .البيت على اتساعه معقل للأحلام . من خاصرة البيت ، ومن باب جانبي موارب يفر الى الخارج عبر تلك الدربونة الضيقة الى مجاهل البستان . عليه ان يتحاشى المرور بمكتب عمو فؤاد الذي عينه عمه كي يضبط حسابات (معمل البان شط العرب). المكتب يجاور مخزنا مكدسا حتى السقف بالقش ..
المكتب الآن مقفل . يجتازه الى اول البستان . تستقبله رائحة روث حيواني ، فيجد نفسه في مدخل سقيفة أبقار المعمل . المعمل نفسه يحتل الجناح الغربي للبيت المكتظ بمكائن عملاقة مهمتها مخض الحليب وتحويله الى مشتقات اخرى ، أما الباب الثاني لذلك الجناح فيفضي الى غرفة نوم جده التي آثر الرقاد فيها كي يراقب مجريات العمل . لكن اثاث غرفة جده لم يكن ليتعدى سريرا ومنضدة ومذياعا في الركن وكانت بقية المساحة مكرسة للخزانات الرصاصية التي يضع فيها العمال ملابس العمل وبقية حاجياتهم .
هو الآن في قلب سقيفة ( البنغالو ) يداعب هذه البقرة ويربت على ذلك العجل المربوط الى وتد أرضي . بيد انه يبحث عن ( باستورا ) بقرته الأثيرة لديه والتي استقدمها عمه مثلما استقدم ثورين او ثلاثة من استراليا عن طريق البحر .
أين باستورا ؟
المعتاد ان تبرك شأنها شأن بقية أبقار السقيفة على سرير من القش اليابس وتنشغل باجترار ما يقدم اليها من نخالة في طست كبير . يعشق باستورا ومن اجلها نال تقريعا من عمه مصطاف مالك المعمل . ذات مرة وقف خلفها فلم ترفسه بل رحبت به بهز ذيلها . راح يهرش كفلها . لمحه العامل راضي فنهره وغاب ساعة ثم عاد ليخبره ان عمه مصطاف يطلبه . وجده مكفهر الوجه في مكتب المحاسب وما ان دخل حتى عاجله بصفعة مدوية محذرا اياه من الاقتراب من اية بقرة من بقرات السقيفة !
حاليا يشعر ببعض الطمأنينة مادام المكتب موصدا . لا أحد . لا العم فؤاد ولا حتى العامل راضي ذو الوجه المتحفّر . سمع ثغاء البقرة يتسلل من مكان قريب . وبالفعل وجدها لصق جدار السقيفة الشمالي . كانت قائمتاها الخلفيتان مربوطتين الى جذع نخلة . لماذا ؟ لا يستطيع التكهن . لا تفسير ! يبصر فريزر على مبعدة أمتار منها مربوطا بحبل غليظ وكان لا يفتأ يضرب الأرض بقدميه وهو يدور حول جذع النخلة مطلقا خوارا مرعبا بينما الزبد يتسرب من شدقيه . ذات مرة انقطع الحبل الذي كان يربطه فأنطلق مندفعا في أنحاء البستان شاقا طريقه وسط العمال وساكني الصرائف المحاذية لبستان الحاج . كان على وشك الخروج للعب في البستان الا انه سرعان ما ارتد الى الداخل مطبقا الباب بوجه الكتلة الحيوانية المندفعة في الوقت الذي بدأ بعض العمال باستعادة رباطة جأشهم مطاردين اياه ساعين للسيطرة عليه وإعادته الى محبسه داخل السقيفة . عاد جده لفتح الباب مستفسرا عما حدث ، انكشف فضاء البستان أمامه ليجد فريزر منبطحا على الارض يقاوم بكل ما لديه من قوة مساعي رمضان وعبد حسن للهيمنة عليه .
قالت عمته انهم جاءوا به من استراليا من اجل تحسين نسل أبقار المعمل كي تعطي حليبا أفضل . ولكنه لم يفهم مدلول عبارتها ، الا بعد سنين وهو يقلب عددا من أعداد مجلة نفطية تتحدث عن فوزه بالجائزة الأولى كأفضل ثور مستورد . وكانت الجائزة عبارة عن كأس فضية عملاقة قاموا بوضعها على مكتب العم فؤاد .
يفزعه جسم رهيف مسّ رقبته فينتفض مذعورا ليجد ( حياة ) تداعبه بنصل عشبة حلفاء . وشوشت بنغمة لا تكاد تسمع :
ــــ انبطح أرضا ..
ــــ لماذا ؟
ــــ البارحة لم يستطيعوا .. وأظن انهم سيعيدون الكرة الآن ..
ــــ يعيدون ماذا ؟
ــــ إنتظر وسوف ترى ..
انهمك راضي وعبد وجودت بشد وثاق قائمتي البقرة بحبل وزحزحة بدنها ليكون بالقرب من ( فريزر) بحيث يرقد رأسها على قضيب عارضة ملاصقة لسياج السقيفة ، وكفلها والردفان بالاتجاه المعاكس . دفعت حياة رأسه الى أسفل منبطحة على ارض ندية كثيفة العشب .
ارتفع عدد العمال إلى أربعة . بذلوا جهدا هائلا لزحزحة جسد الثور بالقرب من باستورا . رفع أحدهم ذيلها إلى أعلى في حين انهمك الثلاثة الآخرون بإلقاء هيكل الثور الأمامي على قائمتي البقرة الخلفيتين . تلاشت مقاومته وبدا اكثر انصياعا فإذا بالجزء الأمامي من بدنه يبرك بالكامل على كفلي البقرة فتنطبق الكتلتان انطباق الغطاء على قدر الطهي .
إرتج بدن فريزر منكفئا الى الوراء .
همست به حياة :
ــــ اخفض رأسك ..
ففعل . عاد العشب ليحجب المشهد امام عينيه غير انه انتبه الى انه كان ملتصقا بحياة . لعله فعل ذلك من جراء الخوف المبهم الذي غزا كل ذرة من ذرات هيكله المتراعش. وفجأة دفعت به إلى أسفل يدان لم يخامره الشك في أنهما كانتا يدي حياة التي فقدت بدورها التوازن فتدحرج الهيكلان الصغيران إلى منحدر الأجمة، متعانقين .
(4)
الرب قذفني / إلى عالم موحش جميل ../راح يراقبني ../مرة من بعيد .. /ومرة عن قرب .. /أما ابي .. /فمذ ولدتني امي ../ أعرضَ بوجهه عني .. فقدت بوصلتي .. فهل سأل ؟ /
الهي ..
لماذا أقف في حضرتك واعترف بكل شيء وأنت تعلم كل شيء .. السر وخافية الأعين !
اليوم وللمرة الأولى اكتشف ان مكوثي في مملكة جدي استغرق سبع سنين تعد قليلة من عمري الذي تجاوز الأربعين بقليل .
أية سبع سنين ؟
تلك السنوات رسمت خطوطا وملامح ما سأكون عليه في قادم الأيام ، طابعة على جسدي وروحي كيات ووشوما .
العجيب ان إقامتي في بيت جدي لم تكن متواصلة رغم ان شطريها تقضى هناك .
قدم هنا وقدم هناك !
تلك الإقامة منحتني امتيازا حياتيا لم يحظ به إخوتي . كان العيش بمملكة جدي مختلفا تماما عن العيش في بيت ابي وشقيقه عمي ، الموظفين المحدودي الدخل لدى الحكومة ، واللذين قاسيا قبل دخولهما معترك الوظيفة من شظف العيش منذ اللحظة التي فارق بها جدي ـــ أبوهما ـــ الحياة ، ودخولهما الى غابة ذئابها أكثر عددا وشراسة من حملانها ! أدرك إخوَتي أنني كنت أتمتع بامتياز العيش في مكان أفضل. خبروا ذلك الأمر حين تسنت لهم الإقامة المؤقتة معنا في البيت الكبير، إذ فاضت المدينة من اثر مطر غزير تداعت من أثره بعض جدران بيتنا المستأجر حتى خشي الكبار من إنهيار أسقف الغرف عليهم . كنت شديد الابتهاج يوم قدموا للسكنى في غرفة السطح العلوية ، فهاهم إخوتي معي وقد منيت نفسي باللعب معهم . غير ان شقيقي الأصغر( عامر) مرض بالحصبة ، فراحت امي تتهمني بأنني من نقل اليه عدوى المرض ، ما سبب لي ألما واسى عميقين وكان اللقاء الأول مع شيء اسمه عقدة الذنب . وبعد رحيلهم بأيام الى بيت مستأجر من أملاك احد البيكوات في منطقة ( السيف ) ، أخذتني عمتي لزيارتهم . وحين سألت عن شقيقي اخبروني بأنه قد مات . فحزنت لأمرين : حزني لفقدانه من جانب ، ولأن أمي حملتني وزر موته من جانب آخر ، مع اني في الأسابيع التي سبقت رحيله ، كنت أروح لبيت اهلي فأجدهم قد وضعوه على خرقة ثوب ، داخل صندوق من الخشب ربط في مقدمته حبل راح إخوته يسحلون ذلك الصندوق في ساحة البيت التي أشبعها الشتاء بردا وأمطارا . لقيته ذات يوم وفي يده برتقالة وحين أبصرني بادرني بأعذب ابتسامة لطفل مريض ، ومن يومها لم نلتق قط . وفي الشهور التي تلت موت شقيقي الأصغر عاد ابي وعمي واستأجرا البيت القديم نفسه ثانية .
قاد أخي ( سلمان ) ، الأصغر مني بسنة ، حملة مناوأتي كلما قدمت اليهم وملء جوارحي تلهف اليهم :
ــــ عد الى بيتكم .. لست أخانا .. !
كنت اتمتع بامتياز العيش في مكان أفضل . اتنعم بما كانوا يتحسرون عليه فأنا أول الراكبين لدواليب العيد وأتنزه في شوارع ما كانوا ليبلغونها على الإطلاق ، حتى وإن امتلأ جيب ابي بدنانير راتبه الشهري التي يضن بها عليهم بداعي العوز مرة وبداعي كثرتهم في مرات !
كانت عمتي ( صبرية ) وهي عانس بدينة عشت معظم سنواتي السبع في كنفها ، تصطحبني معها لنزور بيوتا قاطنوها باشوات وعبيد.. أغوات وأفندية .. تجار وأصحاب مراكب ومكابس تمور وموظفون من فئات الدرجة الأولى . كنت أغافلها وأتسلل الى داخل حجراتهم متقافزا من ممر الى ثان ومن سطح الى آخر. أتسكع في حجرات أنيقة الأثاث مضاءة او نصف مضاءة ، أستنشق عطورا لا اعرف أسماءها . احضر حفلات غناء نسائية لم يكن يسمح للذكور عدا الصغار ممن كانوا على شاكلتي بحضورها . واذهب مع الكبار للسينما . أهرب من ( ميشلين ) ذلك المخلوق السمين الذي يحمل اطار سيارة ويملأ شاشات العرض السينمائي بهيكله الهائل ، وكأني به يوشك على الانقضاض علينا كلما بدأ العرض السينمائي ، وكان لا يفعل ذلك الا حين تنطفيء الأضوية ويغمر الصالة الظلام . اجل . رأيته ذات فيلم يندفع بقوة نحوي . ففزعت لائذا بالفرار لتمسكني عمتي وتضعني في حضنها مكفكفة دموعي المنسكبة بمنديل .
أجل .. حضرت حفلات صيد البر والبحر وركبت ( الهلمن ) و( الجي أم سي ) و( الهمبر)، في الوقت الذي كان أبي يتأبى على صغاره كلما طلبوا منه ان يردفهم وراءه وهو على دراجته الهوائية . وفي قصور باذخة التصميم إعتدت ان أشهد صاحبات عمتي : نسوة متبرجات يرتدين معاطف الفرو وموديلات ( كريب الساتان ) ، يجلسن في شرفات تتوجها زخارف ومداميك تتماوج بالألوان . أكلت موزا وفستقا وكليجة وحلويات وتفاحا واحتسيت عصائر وأشربة سحرية المذاقات في صالات مغمورة بأكثر الألوان فتنة، تدفئها مواقد جدارية ذات ديكورات فاخرة ، تحلق في أجواء تلك البيوت عطور موانيء قصية ، وتنبعث من صندوق اسطوانات اثري اغنيات شجية :
"الأفنـدي الأفـندي عيــونـي الأفـــنــدي
الله يخلّي صبري صندوق أمين البصرة "
لبثت ردحا من الزمن أتساءل كيف يمكن للأفندي ان يكون صندوقا !
كان ( مفيد ) ابن عم ابي والذي كنت اناديه (عمي) من عشاق السينما . ومن خلاله تعرفت على عالمها السحري . لكن مرات اصطحابي كانت اقل من ان تشبع نهما تفجر في دخيلتي الصغيرة لتلك الأضواء الفضية . ثم انني لم اعد اصاب بفوبيا ميشلين ولا بخديه الكلثوميين ولا حتى بعضلاته . لقد فتح لي عمي الطريق الى صندوق من الأحلام الملونة ، فأصبت بلعنة عشق السينما في سن مبكرة من حياتي . ذات مرة خدعت حلاقا في العشار يقع محله بجوار محل الألبان الذي اصطحب اليه جدي الضرير في بعض الأحيان . وكنت حينها في الصف الرابع الابتدائي . وما ان اكمل الحلاق عمله حتى بسط يده طالبا مني ان ادفع الاجرة . فأخبرته ان أبي قادم في لحظات ، وتسللت مغادرا محله بينما كان منشغلا بزبون ثان . تسللت اصابعي الى جيبي متلمسة الدرهم الذي اعطانيه ابي كأجرة للحلاق . فررت الى سينما بشارع الوطن . ويبدو ان العرض كان بدأ منذ نصف ساعة تقريبا ، اذ ما ان قطعت تذكرة الدخول وكانت اربعين فلسا ودلفت لصالة السينما حتى أدركت من الظلام الذي كان يسودها ان مشاهد كثيرة من الفيلم قد فاتتني . ولم يكن امر كذاك ليهمني . كان همي ان أتفرج على شكل من أشكال السحر يدور على شاشة بيضاء . كانت قصة الفيلم تدور عن الذئاب .
غير ان خاتمة الفيلم اكتملت مع عودتي للبيت وتمثلت ببضع عصي انهالت على ظهري مشفوعة ببصقة اخطأت هدفها وهي تنطلق من فم ابي الغاضب .
ومع تقدمي في السن أخذ جدي يصر على ان اصطحبه الى محل ابنه في العشار كي يقضي فيه بضع ساعات يتناول خلالها بعض اللبن الخاثر ويثرثر مع عامل المحل ، ثم ينهض مسددا عصاه نحو الخارج على نحو يوحي بأنه ليس ضريرا فأعود به إلى كراج السيارات القريب من اسد بابل كي نستقل إحدى سيارات الأجرة عائدين من حيث جئنا ، هو الى البيت وأنا الى المدرسة . وكنت أحيانا أمارس نوعا من التخابث خاصة وأنه لم ينفحني يوما ولو قطعة نقود من فئة الدرهم او حتى من فئة العشرين فلسا . فكنت ادعه يجلس على الدكّة المقابلة للمبنى الخلفي لسينما الرشيد وانفلت دالفا إلى مدخلها الساحر، انظر متحسرا إلى مانشيت الفيلم المعروض والى الواجهات الزجاجية التي تحتشد بداخلها صور فوتوغرافية لمشاهد من الفيلم ومن الأفلام التي ستعرض في الأيام اللاحقة...
وحين أعود إلى جدي ، ألفاه ، يالخبثي ! جالسا يتململ على دكة نهر العشار صارخا بأعلى صوته مناديا إياي ولا من مجيب ! كنت في واد ثان أحلّق مع بساط السندباد السحري او أشارك ستيف ريفز رحلة البحث عن الجزة الذهبية أو أطير في منطاد بيرت لانكستر القرصان الاحمر ، فأين أنا من جدي ! وحين أعود اليه وامسك ذراعه ، ينهض مرددا بسخط :
ــــ هيا بنا.. أبو السينمات! قد صارت السينما دينك ومذهبك.. أيها الملعون!
(5)
كان بيت أولاد عم والدي عالم كبار.
في موهن من الليل توقظني جلبة العمال وتخز عينيّ أسلاك نور منطلقة من واحد من مصابيح صفراء ذابلة ،عبر شباك غرفة عمتي لترقد في حدقتيّ. كانوا يستخدمون تلك المصابيح من أجل إنارة غرفة المكائن والجهة الغربية من البيت حيث المرحاض أسفل بئر السلم . أغادر غرفة عمتي متسللا الى غرفة المكائن التي تنطلق هادرة وهي تمخض الحليب . أتقافز تحت ظلال عملاقة من مكان الى مكان . تصك اسناني ريح صرصر في غبش بارد وصلصلة كينات الحليب الفارغة وهي تحتك بعضها ببعض ، فيما ينفذ الى آذاننا ثغاء الأبقار في الحظيرة المجاورة . أشم رائحة الحليب الخام ممزوجة بزفرة بول الابقار وسرجينها ، وكلي توق للذهاب مع العمال في باص المعمل الخشبي الحمصي اللون ، الى حافات الهور الشمالية حيث (كرمة علي) . كنت أحلم ان أرافقهم كل يوم ، حتى وان انحشرتُ حشرا وسط كينات الحليب التي تتعاضد مع طسات شارع دينار ورجرجات هيكل الباص في ضعضعة عظام هيكلي الغض ، فلا آبه بل اضحك بوجه الريح المتدفقة عبر شبابيك مهشمة الزجاج ، نرتقي جسورا وننحدر الى وهاد وسكك حديد وبيوت من قصب وطين خفيضة السطوح ، وصرائف تحف بها تنانير تندفع من فوهاتها ألسنة نيران ، تتحلق حولها فتيات مليحات الوجوه ونسوة بالعباءات تتخاطف أذرعهن وهي تلصق او تشلع الارغفة فيشتد جوعي ، ولكنني أعود منسحرا بعويل قطار نازل الى محطة المعقل او صاعد الى بغداد ؛ واسماك مجنحة وطيور تحلق فوق امواج سطوح مائية وهي تعكس ألوان سماء صباح مقترب ، تندفع الى الوراء، سكك حديد وضفاف انهار، شطوط وهامات نخيل وبردي وخرنوب بري . وما ان يصل الباص الى حافات الهور حتى انحدر مغادرا الى الحافات مقتعدا عشب الضفاف المخضل بالندى مطلا على قطع ضخمة سود مبقعة بالبياض لجواميس وأبقار مغمورة بمياه الهور . أنصت في اندهاش لأصوات بشرية متخافتة تتخللها أصوات أطلاقات نارية فأنكمش من برد الصباح وأحيانا من خوف لا أدرك مصدره.
وحين تشارف رحلة العمال شبه اليومية على الانتهاء ، أجد ثمة من يناديني بالإسراع لركوب الباص والاّ سيتم نسياني مثل أية حزمة برسيم على ضفة نهر. وكان طريق العودة مختلفا تماما عن طريق الذهاب رغم ان الطريقين هما في الأصل واحد ، اذ تكون شمس اول الصباح قد بدأت بسكب خيوطها الذهبية على اسطح البيوت وعلى كل المرئيات تقريبا . وما ان نصل للبيت حتى يسرع العمال بإنزال كينات الحليب متوجهين بها الى مكائن مخض الحليب وتعقيمه او بسترته على حد قول عمي وتصنيفه الى أكثر من منتوج فالحليب يعبأ في زجاجات والزبدة تقطع الى مئات القطع وتغلف بثلاثة احجام ، اما اللبنة ( الريجان ) فكمياتها أقل ولهذا تباع في أوعية من القصدير كبيرة . ويبدو ان المعمل لم يكن ينتج كميات كبيرة من القيمر، فقسم منها كان يذهب لمحل الألبان في العشار والقسم الآخر يؤخذ للبيت . وفي البيت يحدث أحيانا ان اجد عمي مستيقظا وربما كان في صحبته الميجور رويال جالسا على كرسي هزاز . وكنت اعرف انه نائم من خلال قبعته الانكليزية التي يحجب بها وجهه . اما إذا كان مستيقظا فأبادره بما لقنني اياه من عبارات قصيرة :
صباح الخير سيدي .. شاي ام قهوة ؟
فيأتيني جوابه مقتضبا وحاسما في الاختيار .
كان الميجور رويال صديقا من أصدقاء عمي، قدم مع الجيش البريطاني المحتل، ثم عاف حياة العسكرية ، على الرغم من انه كان يحرص على ارتداء بزته العسكرية ، ليصبح تاجر خنازير خاسرا ومن ثم ليعمل في مضمار استيراد الثيران والأبقار المحسنة من أقاصي استراليا ونيوزيلندا مرورا بالبحرين حيث كان يمتلك شركة هناك . كنت العصفور الوحيد في بيت يغص بالصقور وأمهات الطير . كنت مطوقا بالكبار في كل ركن من أركان البيت : جدي ، امرأته ، أولاده الثلاثة ، ابنته ، اضافة للعمال والخدم البلوش . كان عالما مثيرا للفضول بيد انه كان يضاعف من شعوري بتوحدي وضآلتي . وما انفكت أحلامي تحتشد بجسيمات متوهجة وسط فضاءات مضببة . كانت المنمنات تبدو بالنسبة لي أحجارا جبلية بالغة الضخامة ، حتى كرات اللعب الزجاجية كانت بأحجام لا يمكن تصورها .
غير ان جملة من الأحداث قد تبدو صغيرة في حينها إلى الحد الذي أدرجت في عداد النسيان غير أنها لم تكن كذلك بالنسبة لي ، حتى وان كنت واحدا من مقترفيها . تلك الأحداث ستكون من أكثر الضرائب التي سأدفعها فداحة في عالم كُتِب عليّ ان أحياه اسمه عالم الكبار !
(6)
طريقته في قرع الباب هي هي ..
هو أصلا لا يقرع باب البيت بل يركله عدة ركلات مصحوبة بخضِّ مقبض الباب..
كانت طريقة خاصة مرتبطة بمزاج مراقب البلدية ابراهيم يعقوب . يزيد عليها في بعض الأحيان رغلا بإطار الدراجة الامامي ..ينفتح الباب على نحو موارب سرعان ما تشرعه يد غاضبة او إطار دراجة مستخدم في اقتحام الداخل :
ــــ الله يساعدك ابا نجم ..
يسحل الدراجة إلى فناء البيت دون أن يكلف نفسه عناء الرد على تحية الاستقبال..
وفيما تقفل اخته ( فاضلة ) الباب وراءها تعود لغرفتها مخبرة أمها :
ــــ يبدو ان المدير قد ضيّق عليه من جديد ..
يقضي اغلب يومه ساهما ، لاسيما في أوقات العودة من الدائرة او اذا نادى ولم يلبَّ له طلب . اذ ذاك يتحول الى كائن سريع الانفعال . تقف على رأسه امرأته ، الابنة الكبرى لـ ( عبد الغفار افندي ) :
ــــ تتغدى ؟
لايرد . ينضو عن هيكله المغزلي قمصلة العمل الصوفية الداكنة الزرقة ذات الكتافيات مركنا قبعته الانكليزية الطراز على منضدة المذياع . يخلع بنطاله مدليا اياه على مشجب مائل الزاوية ، فيظهر سرواله الداخلي ذو الخيط أصفر مبقعا . يحشر ساقيه بسروال بيجامته المفصلة من قماش البازة ، ويجلس معانقا ركن الغرفة مديرا ظهره للجميع .
يؤتى بصينية الغداء :
ــــ ماهذا ؟ لماذا الاكل بارد ؟ !
يقلب الصينية بما فيها من صحون مشيحا بوجهه عنها . تردد امه :
ــــ استغفر الله .. انك تطيـّر النعمة ..
ينبري شاتما كل شيء : الدنيا ، امرأته ، أولاده والزنادقة والمرتدين لكنه لا يشمل مدير البلدية بشتائمه . تشكوه امرأته لعمتها :
ــــ ابنك لا يقيم لي وزنا ... وليتني أسلم من شر شتائمه ..
ترد أمه عليها بجفاء :
ــــ ومن ذا الذي رماكِ علينا ؟ !
ــــ بختي !
البيت يتحكم فيه مزاجان :
مـزاج إبراهيم ومزاج شقيقه قاسم المختبئ خلف قناع من الفكاهة مجبول من شذى انتشائه بكؤوس العرق الزحلاوي . اما أبي فهو جاد لحد النخاع . في الوقت الذي يداري قاسم أحزانه بالخمر والسيجارة والسخرية . النكتة على طرف لسانه 24 ساعة !
ذات يوم حاول سحب اخيه الى عالمه اللعوب . دعاه الى جلسة شرب على شرف مدير البلدية . تقضّت الجلسة بين قصف ومجون ونوادر يطلقها ندامى المدير ، الا ابراهيم فقد لبث صامتا في كرسيه لا يريم . استحثه قاسم :
ـــــ لاتدع كأسك فارغة ..
يرفع الكأس الى شفتيه ويأخذ رشفة تكفهر من بعدها تقاسيم وجهه :
ــــ انه لشراب ماسخ وبائخ !
ينفجر الندماء ضاحكين لتمسي حكاية ابراهيم مع الويسكي على كل شفة ولسان !
عادت زوجته لتشكوه لأمه :
ــــ ليته روّح عن نفسه مثل اخيه قاسم ..
ردت أمه في نغمة من تميل لتحاشي الخوض في الموضوع :
ــــ هكذا طبعه منذ ان كان صغيرا .. فولاذ امام الشراب ..
ــــ ونايلون امام البنات !
ثم تروي لعمتها كيف انها لمحته يتنزه بصحبة فتاة مسيحية اسمها (روز) ذات أمسية ماطرة . اركن دراجته الهركيوليز وغاب معها في أعماق الدغل المجاور .
ــــ لعلك تتوهمين .. كيف اصطدته ؟
ــــ من سياج السطح ..
تكهربت علاقة ابراهيم بمدير البلدية منذ حادثة المغنية . ونجم عنها كثرة تعرضه للعقوبات الادارية من خصم للراتب ونقل الى قسم بلدي بعيد و مثقل بزحمة الأعباء . كان ملاحظ العمل يفرض عليه القيام بطرد من تحسبه الدائرة متجاوزا على الأرصفة عن طريق ركل قدور بائعات القيمر والباقلاء والخبز والخضار . بيد انه يرفض ، يتظاهر برفعه لأغطية القدور ثم يعيدها دونما كلل أو زجر. يجالس الباعة ويحتسي الشاي معهم فيعرضه ذلك التعاطف لعقوبات أشد .
الحكاية التالية التي سردت وقائعها فيما بعد امه تمثلت في اعاقة ترفيعه الى درجة أعلى بالتقادم نظرا لاكتظاظ ملفه بالعقوبات ، وهي الحكاية التي نادرا ما رواها ابراهيم الا فيما ندر وخص بها اقرب المقربين اليه . قالت الجدة ( شمعة ) :
ــ سكنت قبالة بيتنا المستأجر مغنية شعبية اسمها مريم. وللإنصاف كانت رقيقة الاهاب عطوفا . ولكن مشكلتها مع الليل فقد اعتادت ان تقيم سهرات غنائية صاخبة يحضرها كبار المدراء وموظفو الدوائر . حتى عمك قاسم كان يتودد إليها . وأعتقد انه يعرفها منذ زمن بعيد وكيف لا يعرفها وهي التي غنت في ليلة عرسه ؟ !
ثار أهل المحلة واحتجوا لما سببته تلك الحفلات من ازعاج وسهر وخدوش طالت أرواحهم سريعة العطب ، فارتأوا تقديم مضبطة أخلاقية الى السلطة يشكون فيها تلك المغنية مطالبين برحيلها . لم يرد اسم عمك ضمن الموقعين على مضبطة الترحيل . ولا ندري من زجّ باسم أبيك كواحد من الموقعين عليها . أيكون قد وقع عليها حقا في لحظة غضب من المدير ؟ هو يحلف أغلظ الأيمان بأنه رفض التوقيع خوفا من سطوة المدير ومن حاشيته .
بطريقة او بأخرى وقعت المضبطة في يد صباح شوكت . وحين وجد اسم أبيك وتوقيعه ثارت ثائرته وأطلع عمك عليها الذي صارح آخاه بالتهمة فأحجم عن تبرئة نفسه، ومن جانبه أسرها المدير في نفسه .
منذ ذلك اليوم وراتب أبيك يراوح في مكانه !
الحادثة الثانية التي جعلت المدير يضيق عليه الخناق ، على حد حكاية عمتي فاضلة ، نقلا عن قريب لنا يعمل في الدائرة نفسها . يقول ( حسين العبود ) : " عرف عن ابراهيم انطواؤه وميله لاقتناء الكتب اليسارية والتصاقه بالفقراء وتعاطفه مع شرائح المسحوقين والمشردين . فمثلا كان من أصدقائه نعيم بائع الشاي القريب من موقف سيارات ابي الخصيب ، وعبد الرزاق السميري وهو من كتبة البلدية يسكن بيتا من الطين في البصرة القديمة اعتاد ان يصطحبه لصيد السمك في انهار الجنوبات الفرعية ، ومصطفى الزبال وعبد الله الشكور وهو معروف بنشاطه السياسي كشيوعي ، وقد اشترك في اكثر من مظاهرة ضد الحكم الملكي وضد الانكليز . "
تحول ابراهيم الى هدف للمخبرين السريين ، لاسيما بعد حادثة صفائح الكتب .
ــــ ما تفاصيل هذه الحادثة .. عمتي ؟
ــــ ذات يوم سمعنا قرعا عنيفا ولما فتحنا الباب فوجئنا بابن عمنا مصطاف يقف امام الدار بسيارته الانكليزية وهو يردد : " نادوا على ابراهيم .. بسرعة .. بسرعة ! "
صحتُ عليه فخرج ، وإذا بمصطاف ينزل ثلاث صفائح طالبا من ابراهيم ان يطمرها في مخبأ أمين داخل البيت . وبعد انصراف ابن عمنا سألت ابراهيم عنها فأخبرني بأنها تحتوي على كتب . ومن ثم عمد الى دفنها في ساحة البيت الخلفية ..
تلك الحادثة اثارت شكوك مخبري السلطة فقد عرف عن مصطاف كونه واحدا من قيادات الحزب الشيوعي المحلية ، وفي وقت لاحق انضم إلى كتلة (داود الصائغ).. هل عمل مصطاف على كسب ابن عمه ابراهيم لصفوف الحزب ؟
كلا ..
هذا ما ردده حسين العبود :
ــ اذا أردت الحق فأن أباك هو الذي أثّر بافكاره على ابن عمه مصطاف ، لكنه شخصيا لم ينتظم في حزب او جهة من أي اتجاه ..
من يقنع مديرا بمثل معدن صباح شوكت بتلك الحقائق ؟
منذ تينك الحادثتين وصباح شوكت سيف مسلط على ابراهيم مراقب البلدية الصامت الحرون الذي ينفث غضبه في اهل بيته وفي أثاث البيت ، منقلبا في الوقت نفسه الى كائن صامت مرتجف في حضرة مسؤوليه !
لم يدرك إخوتي مدى التعاسة التي عانيتها جراء بقائي وحيدا في ذلك البيت المنيف المتباعد الحجرات الحافل بالعماليق .
ذات مرة سمعت ان عمي مصطاف سيسافر إلى مدينة لم اسمع بها من قبل اسمها موسكو . لم اكُ وقتها اعرف سبب سفره بطبيعة الحال ، اما حين كبرت فعرفت ان السبب كان سياسيا . المهم انني كنت سعيدا لغيابه . سيتاح لي ان أتحرر. أخرج للبستان والى ما هو ابعد من البستان ، أتحفى ، أتسكع في الشوارع والأزقة ، أتسلل عائدا من شارع الكورنيش عبر أدغال نهير تحف به اشجار توت ونبق ورمان . وتتمرغ على ضفافه كلاب نابحة .
بعد عودته من روسيا تزوج من ابنة تاجر للنقل النهري . كانت تحبني كثيرا وكانت تغدق علي قطع النقود وقطع الحلوى . ثم فتر اهتمامها بي من بعد شجار بينها وبين امرأة جدي ( زكية ) . والأخيرة لم اكن أحبها . كانت حادة الطبع حادة اللسان . وقد سمعت انها سافرت ذات مرة الى لبنان لحضور حفلات مطربها الأول والاخير ( فريد ) . لكنني سمعت من مصدر آخر انها ذهبت الى هناك طلبا للإستشفاء فقد كانت مصابة بالسل . ولكنني لا اذكر انها كانت تسعل كثيرا . كنت أستغرب علاقة بدت مبهمة بالنسبة لي : كيف تكون لي ثلاث جدات ، اثنتان منهما لم تفكرا يوما بالسفر الى أي مكان والثالثة كانت جدتي ( شمعة ) التي اعتادت الرقاد على حشية مهلهلة النسيج خفيضة الأرض مع ابنتيها العانستين والأقرب الى قلبي . لماذا لم تفكر جدتي ( شمعة ) في السفر الى لبنان مثلا كي تعالج ساقها العرجاء او عينها المعقوصة الجفن ؟ ! ذلك أمر استغلق على مداركي الصغيرة لأمد طويل .حتى ادركت فيما بعد السبب الأول والاخير : كان فقر الحال !
في الوقت الذي فضل عمي قاسم البقاء في بيت الحمد، ذلك البيت الذي ولدت فيه، فأن والدي ،بعد حادثة المطربة ، لم يرق له المقام فآثر الانفصال عن أخي الذي كان راتبه مجزيا ويسمح له بتحمل بدل الإيجار وكيف لا يفعل وهو ينفق المال عن سعة على جلسات الشرب والغواني ؟ لكنه ، فيما بعد سيقدم على خطوة نبيلة هي تقبله لفكرة بقاء امه وشقيقته دون أي تذمر من زحام ودون أي تفكير بأن أخاه لابد وأن يشاركه تبعات سكن النسوة الثلاث معه حيثما سكن .
كان أبي غريب الأطوار حقا ، ففي الوقت الذي اعتاد ان يستقبل من ينجذب اليهم من فئة المدقعين ، بدا غير مكترث بمكان سكنى أمه وشقيقته اللتين ستتزوجان مستقبلا من رجلين كبيرين في السن .
ما أعجب ذلك !
لعل الإجابة تكمن في كثرة تنقلاته ، فمن بيت الى بيت ، من البصرة القديمة الى السيف ومن السيف الى الفرسي ، وما لبث ان عاد للسكنى مع اخيه في حيّنا القديم. ومن جديد ارتحل الى بيوت آدم علي في قلب اسواق العشار القريبة من موقع القشلة القديم . أما البيت الأخير الذي استأجره ، فكان قبالة بيت جدي ، عمه ، تماما ، ولهذا بدا منهكا من كثرة التنقل ، واعتاد ان يصف عائلته بالقطط التي لا يبدو عليها انها تملك مسكنا ثابتا .
حين حصل ذلك الأمر بعد ان استأجر الشقيقان بيتا بأربع غرف ، كان عمي قاسم قد احضر امرأة عرفنا فيما بعد انها أصبحت امرأته الثانية .
(7)
ما روته جدتي ذات ظهيرة قائظة زعزع أوصالي وما زال ، بل انه قلب أفكاري عن جدي عم ابي رأسا على عقب :
ـــ كان جدك الكبير يوسف تاجرا من تجار الجنوبات المرموقين فقد كانت لديه في سوق أبي الخصيب مغازة كبيرة يبيع فيها الحنطة والبقول والزيوت وكل ما يمت للبيت اي بيت من لوازم واحتياجات . وكان لديه على ضفة شط العرب عنبار دأبت المهيلات والدوب والصمابك على الرسو فيه مفرغة بضائعها المستوردة من سواحل بمبي وكاليكوت ومن موانئ عمان والبحرين ، فيخزن بعضها في ذلك المستودع بينما يمضي بالقسم الآخر الى مغازته في السوق . وكان يعتمد في تسيير رحلاته التجارية على ولديه التوأم يعقوب وفاضل . كان يعقوب حسبما روت جدتي اكثر نباهة وسخاء من شقيقه بل كان اكثر شجاعة منه اذ لم يعمد الى الهرب من الجيش العثماني كما فعل أخوه ولم يصبغ شاربيه كي تصاب عيناه بعطب مؤقت كي يتذرع بهما في لاحق الأيام في امر العفو عنه من قبل الجيش وهي الخدعة التي سترتد عليه فيما بعد ليفقد بصره الى الأبد . كان جدكم الأكبر يمتلك اراض في منطقة الفلاحية شرقي عبادان وكانت له صلات حسنة مع شيوخ الضفة الشرقية وصلت الى حد المصاهرة لكن ثمة من أسـَـَر في اذن الشيخ خزعل بأن اخواله يتآمرون عليه فعاقبهم بطردهم ومصادرة اراضيهم وأحل دماءهم ففروا الى الضفة الغربية من الشط وسكنوا الدواسر والمعامر ثم ما لبثوا ان ابتاعوا أرضا واسعة الأرجاء في احدى قرى أبي الخصيب إضافة الى شراء بيت كبير لاشك انك لحقت على صغر سنك ان تتجول في غرفه الهائلة الاتساع .أسكنني جدك في ذلك البيت لكن ليس لوحدي فقد تزوج من زكية. وكانت امرأة مزاجية غضوبا قاسية القلب . ثم وقعت الواقعة .. ذلك الحدث الذي زلزل حيتنا جميعا فقد مات جدك يعقوب اثر عودته من رحلة بحرية بعد ان أصيب مع من أصيب بالكوليرا !
هذا ما روته جدتي ذات ظهيرة في غرفتها المعتمة لتعود وتستكمل حكايتها في يوم آخر :
ــــ بموت جدك بدأ عذابنا نحن الخمسة ، فقد الفيت نفسي بلا حول ولا قوة .. أرملة .. مجرد كائن أوهن من جناح فراشة . كان اكبر أولادي سنا أبوك وكان حين رحل جدك صبيا لم يجتز العاشرة من عمره . وقد انفرد أخوه التوأم بثروة الأسرتين لتكونا تحت تصرفه وتصرف امرأته التي خشيت ان يلين قلب زوجها فيضم اليه أرملة اخيه ، وزاد من الطين بلة ان شقيقتهما نجية إصطفت جنبا الى جنب زكية فراحت الامرأتان تؤلبانه ضدنا .
كان أبوك في الصف الأخير من الابتدائية وكان ذكيا . تاق يوما الى الالتحاق بالكشافة وكنت لا املك من المال الا القليل . لم يكن جدك قد ترك لي مالا استعين به على نوائب الدهر فقد كان رأس المال كله في خزينة العنبار وما لبث ان انتقل بعد رحيل جدك الى قاصة عم ابيك في البيت . كنت المحه في ليالي الشتاء منكبا على الليرات يعدّها قطعة تلو قطعة . وبعد ان بعت خاتمي الذهب في سوق البلدة اشتريت لأبيك زي الكشافة الا ان المبلغ قصر عن تدبير أمر السدارة فراح أبوك الى عمه طالبا منه شراء سدارة فزجره وطرده شر طردة حيث بات ليلتها في البستان .
كره ابوك المدرسة ومن ثم هجرها الى الابد ولحق به عمك فتوقف أيضا .اما فاضلة وجورية فلم تذهبا الى المدرسة بل اكتفتا بتلقي بعض الدروس القرآنية على يد احدى ملايات الكتاتيب ، ثم أمستا قعيدتين في البيت الذي تحول الى جحيم بعد ان شنت امرأة جدك حملة شرسة ضدي وجاع اولادي وكبروا على شيء اسمه الحرمان بينما واصل اولاد عم أبيك دراستهم فدخلوا المعاهد والكليات وامتلكوا المعامل والبيوت وتسنموا وظائف مرموقة فصار بعضهم قضاة ومحامين ومهندسين في الوقت الذي ارتمى أولادي ملتحفين السماء متدثرين بالرغام .
كان لابد من الرحيل .. هذا ما قرّ قراري عليه . اكتريت زورقا وضعت فيه أباك وعمك وعمتيك ونزحنا الى المدينة عن طريق النهر .استأجرت بمعونة قريب لي صريفة في ( أم الدجاج ) . كان مأوى بائسا وكثيرا ما بات الأطفال على الطوى راقدين على أرضية رطبة خشنة زاخرة بالنتوءات على حصران ذات نصال كالسيوف تنفذ الى ثغراتها المياه وتنام فيها الصراصير والحيات . وبعد ايام كالحات وليال سود ما بعدها سواد استطاع عمك وابوك ان يحصلا على وظيفتين متواضعتين في بلدية المدينة .اما عم ابيك فقد قرر مغادرة القرية هو أيضا وابتاع بيتا هو البيت الذي قضيت فيه سنوات طفولتك ، كما قام بشراء بستان كبير ليتفضل في لحظة تأنيب للضمير ، ربما ، علينا بقطعتي الأرض هاتين اللتين انحشرنا فيهما مع انه كان يستطيع أن يهب كل من أبيك وعمك قطعتي ارض أرحب مساحة الا ان البخل ويد امرأته الخانقة منعتاه من إطلاق يديه!
ما روته جدتي لم يكن حكاية عادية بالنسبة لي . كان زلزالا هزّ كل ملليمتر في جنبات روحي .. كانت صدمة ما بعدها صدمة . رقدت ثلاث ليال متواصلات في سعي للتهرب من وطأة الحقيقة . انتابتني حالة مؤقتة من السويداء . لقد وضعت جدتي جمرة في راحة يدي وضمت أصابعي عليها !
(8)
ستظل تجاربي كيـّات لا على أجساد ضحاياي من البنات اللواتي كنت أقتنصهن ماضيا بهن الى ما وراء الأعشاش انما على روحي التي صرت فيما بعد أمعن في تقريعها شاعرا بمدى خستي وحقارتي .. ومع بلوغي سن التفجر واكتشافي الصاعق للسائل الأبيض الذي كان يتدفق دافئا لزجا على راحة يدي. ومع الايام صرت نهبا لجواذب أخرى غير السينما . ومع إنني أدمنت عادة قراءة الكتب ما شغلني وقتيا عن بقية الاهتمامات ، الا ان عشيقتي الأولى كانت الأنثى التي تفوقت بسطوتها بسحرها على ما عداها . كان نموي الجسدي أبطأ مما يجب او ربما ابطأ مما كنت ارغب كمراهق. لقد استغرقت تبدلات الجسد عندي أمدا من الزمن دام لبضع سنين بيد انه راح يتلاشى مع الأيام متساوقا مع اعتيادي المضطرد على الهيئة الجديدة لجسدي ، دون ان افلح في نزع ما تبقى من قشرة الطفولة لا على الجلد بل على اهاب الروح التي يبدو انها هي التي شبت عن طوق أحلام الصبا، أما الجسد فبقي ضئيلا قياسا بجرم نزواتي. ومن حسن الحظ ان التبدلات الهورمونية عادة ما تكون مخفية تحت الجلد .. يا للثياب من اختراع عظيم !
في المرحلة الحرجة ـ ما بين الثانية عشرة والسابعة عشرة ، مررت بأوقات عصيبة حقا. كنت ومنذ صغري حسيّ النزعة لحد النخاع. لم ألحظ في الصغر اية تضاربات حادة. كنت انساق لما كانت تريده الحواس وعلى ما كانت تريده (حياة) . لقد ضخت تلك العفريتة في جسدي نسغا أشعل النار في جسدي المغزلي. لم اكن أفكر بالعيب والإثم والقصاص . كان جسدي سيدي ، وفي الوقت نفسه تصارعت في دواخلي مشاعر عطشى الى صنفين من أصناف الانثى: الطفلة الصغيرة التي يسهل خداعها واحتواؤها والمرأة التي تكبرني سنا والتي لا تجد صعوبة في احتوائي، وهي الأقرب الى صورة امي التي طالما افتقدت منذ ان ابعدت عن حضنها في السن الثالثة من عمري .
ومع الايام ومع دخولي الى عالم المراهقة اتخذ عشقي للأنثى منحى آخر اذ بدأتُ أميل للأنثى ـــ الفكرة . اجل .. كنت انجذب الى وجوه الفتيات انجذاب الفراشة للنار . وفي أحيان كنت أقع في حب احداهن حبا غير قابل للتفسير : زهرة النجفية ذات العينين الذي كان لونهما يقع في منطقة وسطى بين زبيدة ثروت ولبنى عبد العزيز . كان حبي لها حارقا ولكنه كان في الوقت نفسه صامتا. لم أتقدم نحوها ولو خطوة واحدة . بدت أشبه بكوكب دري صعب المنال . بقيت زهرة كائنا نائيا أقصيه كلما اقترب وهو في الاصل لم يفعل .كان لديها علاقة مع رياض ابن محلتنا ودأبت على الالتقاء به في سطح منزله الملاصق لمنزلها .وذات يوم كاد الاثنان ان يضبطا لولا إسراع زهرة الى السياج وتسلقه الى سطح بيتها دافعة في ذعرها ثمنا باهظا اذ أسفرت عملية الهروب عن كسر ساقها !
من بعدها أحببت عشرات الفتيات من أماكن غير محددة : وجه عذب في سينما بغدادية ، ابنة صيدلاني من الجيران ، صبية مسيحية اعتدت ان ألقاها تقتعد كرسيا عند مدخل بيتهم . كنت قبل الاقتراب ألاحظ حرصها على تعديل تقبيبة شعرها الأشقر الناعم، ومع ذلك كنت أتحول كلما اجتزتها الى كائن أخرس الى الحد الذي سمعتها تهمس بي ذات يوم ان إنطقْ! لم افعل . لقد دمر العقل كل حجيرة من حجيرات نزواتي التي كان الإقدام في طليعة صفاتها ايام الصغر . بحثت عن جرأتي وقتذاك فلم اجدها . لقد انكفأت على ذاتي وجعلت أنهل منها أفكار عجز غريبة من نوعها . عندئذ أدركت ان شيئا تهشم في داخلي . لقد بهت بريق ذلك الولد الصغير المدلل وبان تأثير الحرمان الذي تعين علي ان اقاسيه منذ لحظة مغادرتي السعيدة لبيت جدي وانضمامي الى بيت ابي الفقير وضياعي وسط حشد من الأشقاء والشقيقات وأولاد العم وبنات العم.
لم أتوقف يوما عن عشق المرأة ، ولأنني أقصيتها عن جسدي ، تعين على روحي ان تلاحقها دون ان تتمكن من الوصول اليها . من هنا تحولت الى بطلات السينما .. مارلين مونرو .. ايرين باباس .. شادية .. سعاد حسني ومئات لا يتاح لي ان أتذكرهن دفعة واحدة بعد ان اعتاد ذهني تقليب أسماءهن وتملي وجوههن المترعة بالتعبير وهي تملأ جنبات الشاشة الفضية . أهو شكل غير مألوف من أشكال المرض ؟ هل تحولت الى سايكو .. حالة مرضية عصية على الفهم ؟ لا ادري .. كل حالات العشق التي مرت بي كانت مع الأسف مدرجة تحت عنوان وحيد :
حب .. مع وقف التنفيذ !
(9)
أمعنت حياة في اصطحابي معها كيما نهيم معا في مجاهل أدغال وأجمات لا يُسمع فيها سوى تغريد الطير وصياح بعضها : " سكين برأسك طبر ! " ونباح الكلاب وهي تثب على بعضها وخرير مياه السواقي .
راحت حياة تلحف علي ان أقدم على امر كنت أتهيب حتى من مجرد التفكير فيه .. العودة لبيت أهلي طالما انهم صاروا الآن يسكنون قبالة بيت جدي تماما . جاءتني ذات يوم باقتراح شيطاني : تهريب سريري بحبل طويل متدل الى ارض الزقاق ومن ثم حمل السرير الى بيت أهلي .
وهكذا قمنا بتهريب السرير بعناء إنما بنجاح .
للمرة الأولى في حياتي أبيت على سطح بيت أهلي ، فنمت نوما لم انعم بمثله طيلة سنواتي التسعة الماضية .
في صباح اليوم التالي أنساني قلبي الطفولي فعلتي وما اقترفته من مغامرة طفولية أغضبت اولاد عم ابي ، اذ وجدت الشرر يتطاير من مآقيهم حين دلفت لبيت جدي ، وما ان تقدمت بخطوة حتى هوتْ امرأة جدي على خدي بصفعة مدوية فأنشجت باكيا . بيد ان ابنها مفيد خاطبها بلهجة انفعال مزيجا القنوط وكتمان الغيظ :
ــــ دعيه يذهب لشأنه .. الولد كبر ويريد أهله ..
إلتفت نحوي مدمدما :
ــــ انصرف .. من لا يريدنا لا نريده !
رجعت كسير الخاطر أتقلب ذات اليمين وذات الشمال فراحت حياة تسري عني وتهدئ من روعي . كانت عمتي ( جورية ) أكثر أهل البيت ابتهاجا بعودتي . كانت تحبني حبا جما وكانت تدعوني برجلها الصغير . وكانت اذا ما عانقتني لا تدعني أفارقها الا بعد ان تشبعني ضما وشما وتقبيلا ، فأضيع في اهاب عباءتها المضمخة بعطر لا يمكن لحاسة شمّي ان تخطئه !
كانت تردد قائلة :
ــــ وكيف تزعل يا نجم وأنت الآن حر في بيت ابيك .. لاسطحا ترش ولا إبطا تحلق ولا قيمرا تبيع ولا أرضية تكنس ..
في صباح يوم منعش جديد خرجت الى سطح البيت . تسلقت سياج السطح وألقيت نظرة فضول على سطح الجيران . كان سطحا فسيحا تندفع من صحنه سدرة عملاقة تتناثر حولها ثمار النبق وتحنجل حولها عشرات الحمائم من كل نوع وهي تهدل وتغمغم وتدلف لأقفاص مفتوحة وتغادرها كلما رغبت بذلك . أتيت بقوس ونشاب وسهم من القصب كورت حول طرفه المستدق كرة من القار الأسود . سددت السهم باتجاه الفضاء ، ليتوارى عن بصري لحظات ومن ثم ليختفي نهائيا فيما تردد جوارحي عبارة عمتي جورية وهي تسكب الماء على جسدي المتراجف العاري:
ــــ انت الان حر يا نجم .. أنت الآن حر !
(10)
الأشياء لم تعد كما كانت .. البستان المجاور لبيتنا المستأجر تحوّل الى مدرسة بنات .. حسنية البغدادية لم تعد في البيت .. قيل انها عادت الى بغداد وثمة من قال انها ماتت .. حلت محلها أسرة كردية .. كلما مررت في الزقاق ابصرت ابنتهم شيرين بعينيها الدعجاوين الواسعتين فتعلقت بها ولكن في صمت .. كانت أصغر سنا من ان ُتعشق .. ولكنني كنت واثقا من انها كانت تعرف طبيعة مشاعري كلما صادفتها جالسة على عتبة البيت .. كنت أتسمر في مكاني وأسكب نظرات صامتة على بحيرتي عينيها العسليتين .. كانت تعرف .. على صغر سنها .. كانت اصغر من ان يتودد اليها احد ..كانت تذكرني بمنى ، لا في طبيعة الجمال اذ لم تكن بجمالها بل اكتست بجاذبية صنعها شبه استحالة وصولي اليها ..
المغنية رحلت .. لملمت أمتعتها وسافرت الى بغداد شأنها شأن أية فراشة تبحث عن النار والنور .. رحل السمار وندامى الليل ..
كانت المفاجأة انني اعتدت ان امرّ على عصام في بيته المجاور للمصرف الصناعي.. كان يمتلك عددا كبيرا من المجلات المصورة والروايات البوليسية .. وفي احد الأيام لمحت فتاة ناصعة البياض ترتدي ثوبا اسود وعلى وجهها مسحة حزن غير قابل للإخفاء ، لأدرك في لحظات انها منى .. سألت عنها عصام فروى حكايتها او بالأحرى مأساتها .. لقد أحبها فتى من ابناء المنطقة وأحبته ، وحين طلب يدها من أهلها رفض طلبه .. بل منعوها من الذهاب للمدرسة . كان ذلك الشاب معروفا بحدة مزاجه .. وذات يوم توجه الى محل أبيها الكواء وحاول اقناعه بالموافقة على زواجهما فرفض الأب طلبه ثانية فاستشاط الشاب غضبا وأهوى بالمكواة على رأس الأب ليرديه قتيلا .. اهتزت المدينة للخبر وقبض على الولد وحكم عليه بالإعدام شنقا .. الحزن أحال الفتاة الى كائن فاقد للبصر ولزمت البيت لتمسي رهينة المحبسين ثم ماتت كمدا ..
ما رواه هز جنبات روحي ..زلزل كياني .. كيف استطاع ذلك الشقي إغواءها ؟ اتكون قد أذعنت لمغازلاته ؟ اجل .. من شب على شيء شاب عليه .. لقد تخرجت ومنى من مدرسة ( حياة ) .. !
ثمة شعور أليم لم استطع إبعاده عني طيلة هذه السنين .. أأكون أنا من علمها الحرف الاول في ابجدية اللذة ؟ أو لستُ من طبع بصمات أصابعه على جسد ترفٍ غض فاستجاب لا عن خبرة بل عن سذاجة .. ليس من روح شيطانية بل من براءة صبية ؟
ما زال ذلك الشعور يؤرقني بين الفينة والفينة دون ان أتمكن لحظة من التحرر منه!
القسم الخامس
حكايات الملجأ
في صفحة لا على التعيين من صفحات دفتره، دوّن نجم العبارات التالية: الاثنين/
" ومما ذكر ان قوما اجتاحتهم جائحة حرب فلاذوا ببناء مهجور تبين انه دار للخيّالة . في ذلك الثقب سيمكثون عددا من الليالي أذهلهم الذعر عن إمكانية عدها ، ودرءا للسأم ونسيانا لما هم فيه من احتجاز ، اتخذوا من مقهى الشاشة محطة يتبادلون فيها أخبار الاشتباكات المحتدمة في شوارع المدينة ، او ألهوا نفوسهم بحكايات تعبق بروائح الاعتراف والرغبة بالتطهر من اوزار آثام ثقلت عليهم لآماد وهي حكايات لا تخلو من سخرية وإحساس متأخر بالندم والرغبة في التقرب من الله قبل ان فوات الاوان ، دون ان تخلو من مذاق عامر بالسخرية او التفاخر. وثمة من قال انه يكفي ستة او سبعة رجال لا يملكون في الدنيا سوى ذكرياتهم ان يجتمعوا حول منضدة ليقتسموا ثروات غير منظورة ."
كان نجم واحدا من هؤلاء الرجال وسيشارك في اكثر من حكاية على سبيل التسرية ونسيان المخاوف ، بعيدا عن عوالم غرفته التي أقفرت الا من ذكريات ماض قريب بعيد يحمل جرعات من الشجن اكثر مما يحمله من المتعة :
حكاية اللية الاولى
مغامرة ليلية رواها واحد من ندماء شافي حاول ان يمزج عبرها بين الاعتراف والتسرية عن جمهور السامعين فبعد ان ارتشف قليلا من شاي عياف إنبرى ليروي:
كنا في اوائل السبعينات صغار السن وطائشين في الوقت نفسه . وفي إحدى جلساتنا بـ( هافانا) أعلمنا شافي بأنه يعرف بستانا من بساتين الجنوبات كان حينها في عهدة موظف صغير بدائرة حكومية . وذكر بأن ذلك البستان يصلح مكانا لقضاء ليلة حمراء : " سكوب ملون " على حد وصفه ، وقد أسهب ذلك الموظف الصغير في وصف المكان منوها بأنه يحتوي على شاليه يتألف من غرفتين مؤثثتين ومطبخ تتوفر فيه كافة تجهيزات السهرة من آنية وفراش ، مضيفا بأن عبد الحليم حافظ ابان زيارته الفنية للبصرة أواسط الستينات دعي لذلك المكان وغنى في ربوعه ( تخونوه ) و ( أهواك ) و ( اسمر ياسمراني ) . طيب .. اتفقنا على استئجار مومس تسكن في واحد مما تبقى من أزقة مبغى المدينة الملغى ، وقضاء ليلة من ليالي ألف ليلة وليلة في ذلك القصر المنعزل .انتظرت وصاحب لي في مقهى ( السباع ) حتى وافانا شافي وعلى محياه سرور عارم . وبعد ان تناول على عجل استكانة شاي بارد ، راح يثرثر عن ليلة الأنس الموعودة ممتدحا مواصفات تلك المومس ، مؤكدا أنها بارعة في الرقص أيضا . اعتذر منا نحن الاثنين من اجل ان ينسق أو " يرندج " للسهرة طبقا لقاموسه المختص بمناسبات من ذلك الصنف وما تتطلبه من مكان ومواصلات وفاكهة ونقل وشراب . طلب من كل واحد منا ثلاثة دنانير معلنا :
ــــ ولكن دون ذلك أهوال !
استفسر صاحبي :
ــــ هل في الأمر مجازفة ؟ إن كان الأمر كذلك فاعتبراني منسحبا ..
انبرى شافي ماسحا بيده على صدره :
ــــ اعتمد على أخيك ..
أردف وهو يبتعد :
ــــ رب أخ لم تلده أمك !
توارى على امل ان يعود ظافرا بكنزه الشهي . وما أن ابتعد حتى بادرني صاحبي متسائلا بنبرة لم تخل من ارتعادة توتر :
ــــ أهو القواد ؟ أرجو أن تحذر هذا الصنف من العفاريت !
غاص قلبي أسفل سافلين و خامرني شعور بالندم لكنني غمغمت متجالدا :
ــــ كلا يا رجل .. هو اخي الذي لم تلده أمي !
ثم أردفت وانا اقلب كأس الشاي بتلويحة من يدي :
ــــ انه متحمس قليلا .. فقط لا غير ..
تحت نور مصباح الزقاق لمحناها واقفة هناك . كانت تحمل وجها أطفأه ، رغم قناع المكياج الرخيص ، إحساس مرير راحت شفتاها تغالب به شجن يوم مطير . ناداها شافي فاقتربت بقامتها القصيرة وتساءلت :
ــــ كم عددكم ؟
ــــ نحن ثلاثة ..
ــــ لكن عمتي أخبرتني بكلام آخر..
ــــ بم اخبرتك ؟
ــــ إثنان فقط !
ــــ لا تخبريها بأننا ثلاثة ..
لم ترد . ركبنا تاكسيا قديم الطراز أوصلنا بعد مسيرة نصف ساعة تقريبا قضيناها ما بين زقّ ودفع لسيارة مطعطعة ، الى مدخل تلك القرية . كان الليل قد أسبل عباءته الحبرية على البساتين وكانت السماء ملبدة بالغيوم . لقينا متعهد البستان في انتظارنا وما ان شاهدنا حتى اومأ إلينا بأن نلحق به . انحدرنا الى بستان خفيض أرضا يقع في الجهة المقابلة ، مخترقين ممرا ترابيا يتوسط صفين من أشجار نخيل سامقة لم يمنع طولها الشاهق إنصاتنا لوشوشة سعفاتها التي قامت ريح قوية بالعزف عليها . استقبلنا نباح كلب متعثر فقذفه دليلنا بحجر لندلف الى بيت واطئ السطح جدرانه من اللبن . قام بإشعال فانوس سائلا ايانا ان نضع طعامنا وشرابنا على طاولة في ركن الغرفة . جلسنا على حصيرة من الخوص وجلس قبالتنا ( غالب) حارس البستان الذي حدثنا عنه شافي . وبعد الترحيب وعبارات المجاملة عمرنا كؤوسنا فيما شرع الحارس بالغناء :
صوت السهارى يوم
مروا عليّ عصرية العيد
وعلى نور الفانوس بدا وجهه الناحل مثل منجل صدئ .وما انْ ختم المقطع الأخير من الاغنية حتى انتقل الى لحن آخر فصار يدندن بأغنية ( مرينا بيكم حمد واحنا بقطار الليل ) ، وللإنصاف كان صوته آسرا وباعثا على الذهول . كان لوحده كأس نبيذ. لكننا في الوقت نفسه توقعنا ان يغادر البيت ، الا انه قام إلى وجار الموقد وأوقد نارا سقاها ببضع قطرات من النفط الأبيض :
ــــ البرد يشتد رويدا رويدا ..
ضحك شافي وهو ينتفض اثر جرعة عرق سادة ترجمتها شفتاه بشكل ارتعاشة سرت الى أوداجه :
ــــ وهل سترحل يا غالب بقطار الليل ؟!
غرز عينيه في ( نورهان) التي كانت تقتعد حصيرة البيت :
ــــ كسر البرد أضلاعنا فصرنا نبحث عن الدفء ..
ساورني قلق خفي ولحاجتي لإفراغ مثانتي خرجت الى فضاء البستان . تحول قلقي الخفي الى شكل من أشكال الخوف وأنا أبحلق في مويجات ظلام دامس وعزف جماعي لسعف النخيل .واذا بي ألمح شبحين حسبتهما من الجن ، على مبعدة أمتار من أقرب نخلة الى الصريفة فاقشعر بدني . بادراني بالسلام وسألا عن غالب فقادني حدسي الى حصول اتفاق سري بين الطرفين . ويبدو ان غالب كان حقا على موعد مسبق مع الرجلين اذ خرج مرحبا بهما . فدلفا وجلسنا على البساط ، فقدم لهما بعض الشراب والمزّة .
لم يرفعا عينيهما عن الفتاة .
كنا ثلاثة وها نحن خمسة من طلاب اللذة . راحت نورهان تخزرنا بوجه مربد غاضب ، ثم انفجرت باكية وقامت إلى ركن في الصريفة وانزوت هناك لينقلب بكاؤها نشيجا ومن ثم ليمسي عويلا . قضينا وقتا مريرا ونحن نحاول إقناعها بتقبل عددنا لكنها رفضت رفضا باتا : ــــ أعيدوني .. لا أريد .. أعيدوني !
وبعد ذلك هددت بتقديم شكوى الى عمتها صاحبة البيت التي اختارتها دون صاحباتها لليلة عاثرة الحظ كهذه الليلة . ثم هددت بأنها ستقلب المكان رأسا على عقب بالصراخ وتلمّ على البيت أهالي المنطقة كي يقتادوا الخمسة الى اقرب مركز للشرطة مذلين مهانين ! وأخيرا وبعد جدل ساعة وافقت على البقاء على ان نزيد لها أجرها ، على ان لا يذكر أي منا أمر الصفقة الجديدة لعمتها صاحبة البيت السري فهي تستأثر بأكثر من ثلثي ما تكسبه . المهم اننا وافقنا على الزيادة على أن نتحملها نحن الثلاثة فيما بيننا . ولكن حين جاء دور شافي تبين انه لم يكن يمتلك نصف ذلك المبلغ فأقرضته بضعة دنانير على ان يسددها لي في اليوم التالي .. من دبــش !
دخلنا في جدال حول ايّنا سيكون اول الداخلين عليها . وبما إننا كنا شديدي الرغبة في التخلص من غالب وصاحبيه ، قدّمناهم علينا ، وبهذا أمسى أعلى قدر الحلاوة المحترقة من نصيبهم ، ونلنا نحن ( حكاكة ) أسفل القدر . عرك سامي زر مذياع البطارية فاندلق صوت ام كلثوم مسلطنا :
هبوا املأوا كاس المنى قبل ان تملأ كـأس العـمر كـف القدر
وبعد ان قضى الثلاثة وطرهم من جسد المومس غادروا غير مرحب بهم . داهمني دوار غفوت بعده على معطف صاحبنا الثالث لساعة من الوقت فأيقظني قرع عنيف قادم من جهة السقف . راح المطر ينهمر مدرارا من خلل السقف الى مضاجعنا التي لا تدفئ من برد فلم نجد مناصا من ان نتكور حول أنفسنا ونلتصق ببعضنا بعضا مغطين وجوهنا المبللة بستراتنا المخشوشنة .
لم نصدق أنفسنا حين نشر صباح غائم أنواره على البستان متسللا الينا عبر الشقوق لنعثر على أجسادنا وهي تلاصق أرضية ترابية متخشبة فلا سيراميك ولا رقص غجري ولا حتى عبد الحليم حافظ . كل ما حرصنا عليه إتباع النصيحة المخلصة الوحيدة لحارس البستان بأن نسرع في اول الصبح بمغادرة البستان خشية ان يلحظنا أهل البساتين المجاورة . وبالفعل ، ففي تمام السادسة الا ربعا ؛ غادرنا وكر لذائذنا المسفوحة على مذبح شهواتنا ماضين باتجاه الطريق العام مجتازين دربا متعرجا زلقا موحلا ، ساعين جهدنا لتخليص أحذيتنا الملتصقة بصمغ الطمي الماسك . والحقيقة ان احذيتنا نقلت معها نصف كمية الطمي الموجود في البستان ، هذا اذا ضخمنا الامور حسب نظرة شافي .
بعد مشقة وجدنا أنفسنا عند طريق ابي الخصيب العام . أومأنا لأول باص خشبي لكنه سرعان ما عدل عن فكرة التوقف من اجلنا بعد ان وقعت عيناه على هيئاتنا المزرية . أخفينا أحذيتنا الموحلة ما استطعنا الى ذلك سبيلا انتظارا للباص الثاني . وفي تلك اللحظة داهمنا المطر مغرقا هياكلنا المنهكة بشلالاته الهادرة ، كما لو انه أبى الا ان يشارك الحظ العاثر في توديعنا بأقسى ما استقبلنا به . وكان مقلبا لا من صنع اوهام شافي وحسب بل من صنع أحلام الشباب ..
ولعلي يا صديقي أخفقت في إيصال ما أريد ، عبر رسالتي هذه . بيد انني واثق من انني لم احدْ كثيرا عن حقيقة ما حصل ..
كان ذلك المقلب كأسا حلفت انني لن أعود الى شربها ما حييت !
حكاية الليلة الثانية
تشريفات
سبق لنجم ان استمع لهذه الحكاية التي سردتها صاحبتها لخياط من خياطي احد الأزقة الخلفية لشارع الوطن ولعلها حكاية لا تعني أحداً لاسيما من ذاقوا اهوال معارك حربية لاتبقي ولاتذر ، فمن ذا الذي يعبأ بحكاية بائعة هوى عجفاء يتآكلها الجوع والبرد والفزع في زمن اشتد أوار معارك شرسة لا تبقي ولا تذر ؟ ولكن يبدو ان الخياط الذي رويت له الحكاية نفسها هو من انبرى لإعادة سردها بناء على رغبة احدهم بالاستماع الى حكاية تعد بمثابة قناع من الأقنعة التي تغطي وجه الحرب، اية حرب، حتى اذا ما نزع القناع بانت حقائق كثيرة ؛ مؤلمة.
تحدث الراوي ناطقا بلسان السارد الاصلي .. فقال الخياط على لسان بائعة الهوى العجفاء :
ـــ لايخفى على الجميع ان الحرب قد ألقت بظلالها على شارع الكورنيش فأحالته من ضفاف مزدحمة بالعشاق والمتنزهين الى شريط مقـفـر قلما يصادف فيه المرء كائنا بشريا يتنزه ، وإن حصل فالمتنزهون ليسوا سوى جنودا عائدين الى الجبهة الأخرى ما وراء الضفة الشرقية في العمق الايراني المحتل او أرتالا من الوازات العسكرية او مركبات ( الايفا) التي تحمل جنودا ذاهبين الى الموت او عائدين منه . وهناك وجدت نفسي أتسكع وقد طوى الجوع مصاريني وعصرني الإفلاس عصر الأسد للعصفور ، بحثا عن زبون ينال مايروي به رغبته من جسدي لقاء ورقة مالية أعود بها الى البيت ومعي رغيف وبضع ثمرات بطاطس او طماطم املأ بها معدتي الخاوية .
وفيما كنت اسير على ضفة شط العرب مرًّ بجانبي رتل من سيارات الواز العسكرية انعطف الى الجسر المؤدي الى الضفة الاخرى حيث ( التنومة ) التي أُفرغت او كادت كما سمعت من اهلها ليحل الجيش محلهم ، غير انني انتبهت الى أن واحدة من سيارات ( الايفا ) لم تلتحق بالرتل بل تلكأت في مكان قريب من الكان الذي كنت أتوقف عنده ، وبعد ذلك اخذت بالتقهقر جهتي الى ان حاذتني ليطل منها وجه محمر لضابط حليق اللحية
مشيرا الي :
ــــ اركبي !
فامتثلت دون ادنى تردد وبعد ان سارت بي المركبة قليلا عادت للتوقف . كان القصف قد بدأ في المواقع الشرقية غير ان حدّته سرعان ما خفت لبعض الوقت ثم تصاعد من جديد ويشكل متناوب . وقد ظننت ان السيارة توقفت بسبب القصف . عاد الضابط الاحمر الوجه يقول بصوت آمر :
ــــ إرفعي عباءتك .. وخذي هذا المنديل واعقصي به شعرك ..
ففعلت . ناولني خوذة وهو يطلق ضحكة مزمجرة خافتة :
ــــ ضعيها على رأسك ..
فوضعتها . ليكرر من جديد وهو يناولني قميصا خاكيا عليه تاج ونجمتان لكل كتافية وبنطالا خشنا :
ــــ البسيهما .. لاتخافي .. صاحبها لم يمت بعد .. !
مضيفا :
ــــ ارتديه ..
ففعلت لتواصل المركبة السير عابرة الجسر ومواقع عسكرية اخرى . الغريب انه في كل موقع من المواقع كان ضباط المركبة الثلاثة يطلبون مني ان اتقدمهم على المقعد الامامي كي يراني عسكري السيطرة .وكان اولئك الجنود يؤدون لي التحية العسكرية دون تردد او حتى دون ان يطلبوا منا التوقف .
كان الضباط الثلاثة قد تناوبوني تباعا في مضجعي بالقسم الخلفي من الايفا . كنت كمن في حلم . وكان هزيم الرعد يختلط بهدير المدفعية ممتزجا بتأوهاتهم كما لو كانوا عازفين على اوتار ربابة تنزف الما .
وبعد مسافة مايعادل ربع الساعة قاموا بانزالي الى موقع عسكري كان عبارة عن كرفان . ثم قام عدد منهم بزيارتي والعزف على ربابتي . وبعد ان اكتمل كل شيء طلبوا مني ان اعود فارتدي الخوذة والبزة العسكرية وهل لي ان لا افعل ؟! فعلت وعادت بي الايفا من حيث جئت ولكن القصف كان قد توقف ، وقتذاك معه توقفت آلامي مع حفنة الدنانير التي قذفت الى حضني والتي اسرعت بدسها في جيب ثوبي لأعود من جديد الى ما كنت عليه ..بائعة جسد.. !
كرر المعلم العجوز بعد ان استمع للحكاية :
ــــ نكتة من نكات الحرب لا شك!.
حكاية الليلة الثالثة
المقلب
عبدالرسول سرد الحكاية التالية والتي جرت له منذ عهد ليس بالبعيد وقبل ان يجد نفسه بحارا يحط من ميناء الى ميناء ،وهي تذهب الى ان الطيبة والسذاجة وجهان لعملة واحدة ودواؤهما ان يتعلم المرء درسا بليغا غير قابل للنسيان فلا يعاود فعلته الناشئة من الغباء:
كنت على الدوام أتوق للسفر الى بلاد الاوربيين الفرنجة ، ولكنني لم أحظ برفيق سفر تارة ولا بالمال الذي يغطي نفقات الرحلة تارة اخرى . وواقع الامر ان رفاق السفر متوفرون ولكنهم جميعا واحد من أصناف ثلاثة من البشر : صنف ينام في رأسك أي أنْ تتكفل انت بنفقات الرحلة كلها او جزء منها . وصنف أناني لايتكشف معدنه الحقيقي الا بعد ان تقع الفأس في الرأس فهو يؤثر نفسه على غيره ويفرض مزاجه على من يرافقه فإذا تناول وجبة بيض مسلوق يتعين عليك ان تتناول كما يتناول هو ، وفي الليل لا يتردد في ترك مصباح الغرفة مسلطا عليك ليحرمك من لذة النوم ، ثرثار ولايجد بأسا اذا ما سهرتما في حفل في اختيار المقعد الأفضل إطلالة على بؤرة العرض تاركا اياه منزويا تمط عنقك للأعلى من اجل ان تتفرج. وصنف ثالث يباغتك بما ليس في الحسبان اذ يتوارى فجأة ولايؤوب الا في آخرة النهار.
ولقد خبرت هذه الاصناف الثلاثة وصنوفا غيرها في اكثر من سفرة ولكن اعجب ما حصل لي جاء على يد صديق جمع الخصال الثلاث وزاد ! فحين علم اننا نعتزم السفر الى بلاد البولونيين عمد الى حشر نفسه بيننا ملمحا في جلسة ومصرحا في جلسة اخرى . وحينئذذ أفهمناه اننا مسافرون على طريقة ( كل واحد قهوته على كيسه )وحين ادرك ان امر سفره معنا امر ميؤوس منه جاءنا يوما بنصيحة غريبة من صنفها :
ــــ انتم ذاهبون من اجل المتعة طبعا ومن الواجب ان أزجي اليكم بهذه النصيحة التي خلص إليها واحد من اصدقائنا المحنكين في دنيا الأسفار، ومفادها أنكم ما ان تشارفوا ذلك البلد الذين تنوون زيارته ، إعمدوا الى ارتداء بناطيل الجينز المهلهلة وتمرغوا في الوعثاء بعد ان تكونوا قد أطلتم شعور رؤوسكم واطلقتم لحاكم حتى يبدو الواحد منكم اشبه بواحد من الهيبيين فأن صبايا الدول الاوربية يمتن عشقا في صعاليك الهيبيين فيقبلن على الواحد منكم إقبال النحل على رحيق الزهر ..
وكانت تلك سفرتنا الاولى ولذا لم تكن لدينا الخبرة الكافية بطباع بنات وارشو وبودابست وفارنا وغدانسك وبراغ وماجاورها من منتجعات . ولسذاجتنا وثقتنا بصاحبنا نفذنا وصيته الغالية بالحرف الواحد ، وأتت النتيجة بغير ما كنا نتوقع بعيد اول جولة لنا في شوارع العاصمة البولونية وارشو ، فالصبايا إزددن احجاما عنا وكن يجبن عن تساؤلاتنا بأدب ثم مايلبثن ان يبتعدن ابتعاد الصحيح عن المريض وإذا بنا ندرك اننا أمسينا صفر الأيدي . فأسرعنا من ساعتنا الى مخازن المدينة المركزية واقتنينا من رفوفها من الثياب اكثرها اناقة وهي زهيدة الثمن بعد ان نعم كل منا بدش دافيء ثم خرجنا الى شوارع المدينة لنكتشف الفارق الكبير في أعين اهل المدينة رجالا ونساء ، اطفالا وشيوخا لندرك فداحة المقلب الذي كنا ضحاياه على لسان واحد من اقرب اصحابنا انتقاما لعدم اصطحابنا اياه على نفقتنا .
وما ان اختتم البحار رسول حكايته الطريفة حتى سأله احد الجالسين ان يوافيه باسم صاحب المقلب اللئيم فأجاب رسول بعد لحظات تردد :
ــــ انتم تعرفونه .. انه موجود بيننا ولكنني لن أخبركم باسمه !
حكاية اللية الرابعة
رسالة لم يروها نجم بل قرأها لنفسه وكانت في الاصل جزءا من رسالة بعثها فرزدق بيد زوجته وسيلة :
دمي وصديقي نجم
توقفت عن قراءة الرسالة شاعرا بأثر صدمة ممزوجة بالذهول مثل عبارة إعتدت ان اقرأها على شاهدات القبور، لا ان تمسي مطلعا لرسالة . كززت على اسناني وواصلت قراءة الرسالة :
عزيزي نجم :
كم بذلت من الجهد أشده هولا ومشقة كي لا تلتقي عيناي بعينيك ، مع انني قدمت للملجأ مرات ومرات . وكنت في كل مرة ألوذ بعيدا عن مدى أبصارك فأراك ولا تراني . فبأي وجه القاك انا الكائن الذي غدر بقريبه في لحظة غضب تشكلت كموجة عاتية ودفعتني لاقتراف فعلتي في تلك الليلة المشؤومة . كنت كالمطعون بخنجر مسموم حين اخبرتني وسيلة بأنك اثناء زيارة لنا ــــ وكنت حينها في الجبهة ــــ قد راودتها عن نفسها . فعزمت على الانتقام منك . لكن كيف ومتى ؟ هذا ما اجابتني عنهما تلك الليلة التي كنت خلالها في اجازة .
لعلي أوافيك بسطوري هذه بعد خراب البصرة . وقد علمت من واقع قدومي غير المعلن للملجأ عزم جماعة انت في طليعتهم على تفريج هم ّالقلوب الآثمة عن طريق الاعتراف النابع عن نية خالصة . كتبت هذه السطور اثر علمي ببراءتك من اثم التحرش بوسيلة فأنا خير من يعرف سجاياك التي لا يوجد فيها ما يمت للغدر والخيانة بصلة .
لتهنأ ببراءتك ولأغص بسم حقارتي الى ابد الآبدين . فلعل بصيصا من النور يطلع من جوف هذا الاعتراف عما اقترفته في تلك الليلة بحقكم ، انت والأهل .
لا انتظر منك عفوا بل فهما لما حدث كي لا تسدد اصابع الاتهام الى آخرين هم ابرياء من دم نجم ، فأقوم بحمل وزر جنايتين أو أكثر .
واليك الحكاية :
كان اليوم الثالث من إجازتي التي قضيتها مرغما في بيت مهدد في أية لحظة بأن تقوضه قذيفة من قذائف القصف المتبادل للمدن . وكانت معظم العائلات قد غادرت الحي بثيابها فرارا من جحيم قصف لا يرحم طال البيوت والبشر والنخيل وكل شيء تقريبا .
وفي تلك الايام العاصفة ، بل ما قبلها بالتأكيد كان خنجر وسيلة مزروعا في أضلاعي .. جهة القلب تماما . ففي الوقت الذي كنت نسيا منسيا في خندق من خنادق جبهة مشتعلة ، كانت وسيلة تنعم بدفء فراش وثير مع واحد من عشاقها على مرأى ومسمع من أطفالنا الثلاثة في بيتنا المهجور . في بداية عهدنا بالزواج كانت تجهل ردود أفعالي فلم تستقبل رجلا في غيابي مكتفية بالذهاب اليهم بملء جسدها . وبعد انقضاء مرحلة جسّ النبض ووثوقها من انني كنت أتغاضى ، أمست أكثر وقاحة واستهتارا ، لاسيما وأنني كنت ، بعد ان أعبّ زجاجة نصفها من عرق العصرية ، أغفو كميت ، ما شجعها على اصطحابهم الى مخدعنا . وبعد ردح من التقلبات قرّ عزمها على الاحتفاظ بعشيق واحد كان عتاقا جوالا اسمه ( نويبت ) . وكأي جندي لا يصدق انه على مبعدة امتار من البيت ، جرفني سرور عارم سرعان ما قوضه إرهاق ثقيل الوطأة حتى شعرت ببذلتي العسكرية الخاكي وكأنها سبكت من زجاج كان سيتهشم في أية لحظة . وكنت اشعر برغبة هائلة في النوم . بيد انني غالبت خليط تلك المشاعر محتفظا بواحد منها : ان افتح الباب فلا اجد وسيلة ! فمنذ الفترة التي أعقبت زواجنا وافتضاح أمرها صرنا مشروعا دائما للطرد ، فقد طردنا من شقق ( الواثقية ) ، كان ذلك اول الغيث اذ صار الأهالي يطردوننا في اليوم التالي من استئجارنا لهذه الشقة او ذلك البيت .
في تلك الايام كان أوار حرب المدن يشتد يوما إثر يوم ، حتى اصبح عادة شبه يومية . طال القصف كما تعلم بيتكم . ومن جهتنا لم نلق سوى بيت الاهل الملاصق المهجور ، وهو أرث متنازع عليه ، كي نسكنه ولو الى حين مع علمنا الاكيد بأن المكان ما زال عرضة لصاروخ كذاك الذي سقط في بيتكم فقلَبَ الغرفة الخلفية رأسا على عقب . وكنتم من المحظوظين بفراركم المبكر الى مزارع الزبير ومن ثم الى حي من احياء بابل.
استقبلتني وسيلة وقد رفرف على محياها وقع مفاجأة قدومي غير المعلن عنه جليا للعيان، بيد انني لم ألتفت لدقائق الامور. كنت يائسا وراغبا في ان انام. إلتم حولي الصغار وعانقوني فدفعتهم عني بلطف وانطرحت على السرير مستغرقا في نوم عميق، فحين فتحت عينيّ ابصرتا نور أعالي الضحى متسربا الينا عبر مصراعي الشباك، فعدت للنوم من جديد.. ساعة او ساعتان. ثم استقيظت على مهل. وبعد ان اغتسلت بماء لم يفلح موقدنا في تسخينه خرجت. رحت للعشار، واشتريت عشرة ارغفة خبز بائتة وباقلاء وكيس مكسرات وزجاجة عرق، وقطعت شوارع مهجورة تحت هدير قصف لم ينقطع وإن بدا اقل حدة مما سبقه من ايام، بحسب ما ذكرته وسيلة وهي تتأفف وتلعن حظنا العاثر الذي جعلنا نقع تحت مطرقة قذائف لا ترحم ونسكن مدينة أشباح!
كنت ادرك جيدا انها تكذب وأن كل ما يعنيها ان تروي جسدا غير قابل للإرتواء. وكنت ألمح في عينيها أطراف حديث آخر، كانت عيناها زائغتين ومسددتين نحو البيت. كانت في انتظار رجل آخر سواي! اطلعت على سرها منذ الليلة الاولى، حين ادركت جازما انني كنت أزف الى ( درة ) كما وصفتها امي الساذجة، درة ربما ولكن مثقوبة !
آثرت الصمت ولم أتحْ لذلك الخبر الذي هزّ أركاني ان يتحول الى فضيحة . فقط اخبرت امي ، في ليلة كنت فيها ثملا وياليتني لم اخبرها ، اذ انها بثت الخبر الى خالتي فتسرب الى الآخرين ، وكان القرار بيدي ، الا ان ضعفي امامها وامام الخمرة جعلاني أعقد صفقة : ان أدعها يائسا تتصرف على حل شعرها ، وان تدعني أعاقر الخمرة وأعاشر من أعاشر من بائعات الهوى ، كي تتوازن الكفتان ، ربما !
شرعت في اعداد مائدتي المقامة على تختة لحم كانت بالكاد تكفي لكأسي وزجاجة مشروبي وماعون زلاطة يحتوي قطع خيار وبعض حبات حمص مطبوخ إضافة لثلاث ثمرات طماطم إحداها لي وضعتها جنب حفنة من ملح خشن في حين كانت الأخريات من نصيب وسيلة والصغار . كانت ليلتي الثانية من واقع ست ليال سأقضيها في البيت قبل ان اعود لجبهات القتال . طفقت احتسي شرابي بإيقاع سريع نتج عنه احتساء نصف الزجاجة في غضون نصف ساعة تقريبا . وسرعان ما خلد الصغار لنوم أملته مخاوف القصف والصاروخ الذي قوض البيت اللاصق بيتكم . هذا ما اخبرتني به وسيلة وهي تخزرني بنظرة غريبة لم افهم مراميها ، فلم تجد بدا من ان تتحدث دونما مواربة مقترحة ان نتسلل لبيتكم بحثا عن طعام او شراب او أي شيء ذي جدوى . فراقت لي الفكرة وهكذا صعدنا الى السطح متسلقين السياج الفاصل بين سطحنا وسطحكم ، وما هي الا دقائق حتى وجدنا انفسنا في طارمة بيتكم الخلفي يبدد ظلام البيت نور مصباح يدوي راح يدلني على ما تبعثر من اثاث في أرجاء البيت .
كانت ثلاجتكم خالية الوفاض عدا عفونة استقبلتنا أسوأ استقبال فهجرناها الى خزانة كتبك الرابضة في ركن الباحة الخلفية . كان الانفجار قد أطاح بعشرات الكتب والمجلات الى ارض الطارمة ، بينما نجت الكتب الضخمة المجلدة من ذلك الزلزال فبقيت في مكانها على الرفوف . في المرات القليلة التي اصطحبتني لخزانتك ، كنت أتفرس فيها بذهول وملء روحي رغبة في ان تكون محتوياتها ملكا لي . وها هو حلمي يتحقق في ليلة جحيمية شديدة البرودة . جلبت وسيلة ثلاثة صناديق كارتون فارغة حشوناها من الكتب أنفسها وأغلاها ثمنا . كان ذلك هينا . لكن عملية نقلها عبر سياج السطح استغرقتنا ساعة ، لنعود من جديد كي نستكمل نهب الخزانة . كان تأثير كؤوس العرق التي تناولتها قد خفّ على نحو ملحوظ فقد اخذت أتراعش الى الحد الذي راحت الكتب تهوي من اصابعي المتشنجة ، مما ارغمني على إيقاد نار في طاسة اسمنت ، سرعان ما انطفأت فاضطررت لإلقامها بما تيسر بين يدي من كتب وصحف ومجلات . وبقفزة قط وجدتني على سطح بيتنا ومن ثم انحدرت الى مائدتي ونقلت ما عليها من شراب وما تخلف من سلطة ومقبلات نقلتها لغرفة ابيك .
لا الشراب ولا الطمع ولا أخيلة الشيطان استطاعت ان توصل الدفء لأقدام أفقدها البرد القارص كل احساس بالدفء . كرعت ثمالة كأس كنت عمرتها في غرفة ضيقة موحشة فبلغ السعار مني اقصاه فلم أدَع ْكتابا الا وألقمته للنار . كنت أضحك وأضحك غير مبال بهدير المدفعية البعيدة المدى وهي تتحكم بمصائر من تبقى في المدينة من الناس . كنت اضحك متسائلا في سري :
ترى ما الذي ابقيته لهولاكو ؟ !
في غرفة كراكيب ابيك ، وعلى سريره الخشبي المتهالك وطئت وسيلة لا بصفتها امرأتي بل كما لو كانت امرأة اصطدتها من بين حشد من عشاق اللحم الحرام !
كان لون جنوننا أسود حبريا مثل نوايانا .
في الايام الثلاثة التالية إنهمكنا ببيع ما نهبناه من كتبك ، بعناها بأبخس الاثمان لواحد من تجار اللقى . وما هي ايام حتى عثرت من جديد على جسدي دون روحي منطرحا في واحد من خنادق جبهة لم ينطفيء أوارها لسنين .
هل تغفر لي؟ اشك في انك ستفعل .. ومحقٌّ ان لم تفعل .
وداعا ــــ فرزدق
حكاية الليلة الخامسة
إكراه
في وقت متأخر من هذه الليلة نفسها قرأ نجم على مسامع شلة المقهى حكاية خطّـت في زمن ما على كارتونة قمصان تركها له مجهول امام باب غرفته فلم يتعرف على كاتبها ولكن صار بالإمكان استخلاص العبرة منها متمثلة في تأنيب الضمير الذي رافق حامل الكارتونة حتى ساعة تدوين سطورها :
كان احد اصحاب ابي قد عرض علي ان أدير محلا لبيع المواد الغذائية . وذات ظهيرة دخلت المحل امرأة شابة تحمل على صدرها وليدا هزيلا لم يتوقف لحظة عن البكاء . تفرست في وجهها الجميل التقاطيع فخيل الي انها ليست بالغريبة عن حينا . سألتها عن مرادها فبذلت مجهودا هائلا في إسكات الصغير كيما تخبرني بحاجتها الى علبة حليب اطفال على ان تدفع الثمن مع راتب آخر الشهر .
كانت مليحة الوجه متوردة الخدين وبدت شفتاها اشبه بثمرتي توت متشققتين موضوعتين في سلة . سألتها :
ــــ اين زوجك ؟
ــــ في الجيش ..
ــــ ضابط ؟
ــــ جندي مكلف ..
نظرتها ثانية فنكست رأسها الا انني لمحت نظرة توسل غصت بها عيناها حين قلت:
ــــ لا .. !
أشرت الى رقعة ملصقة على جدار المحل :
ــــ هل تقرأين ؟ ( الدين ممنوع ) ..
استدارت نحوي مرددة :
ـــــ الله يخليك !
أعرضتُ بوجهي عنها . بكاء ابنها لم يتوقف لحظة :
ــــ أرجوك ..
ــــ المحل ليس لي .. الا اذا ..
بدت كطائر فقد جناحيه :
ــــ الا إذا .. ماذا ؟
راودتها عن نفسها فانكمشت متقهقرة للوراء وقد احكمت ذراعيها حول الصغير .
أخرجتْ من فوطتها ورقة مالية :
ـــــ عندي دينار .. وادفع لك فيما بعد ..
ــــ ولكنني لا أستطيع ان ابيع ..
ــــ انا ايضا لا أستطيع ..
كانت توسلاتها تقرع يافوخ رأسي بعنف :
ــــ الله يخليك .. منذ الصباح وهو يبكي .. سيموت جوعا ..
إزاء اصراري وصراخ الرضيع لانت اخيرا فناولتها علبة الحليب وقنينة ماء أفرغتها بداخل بزازة رضاعة بعد ان ألقمتها ملعقتي حليب ودستها في فم ابنها والتحقت بي الى فسحة كانت خلف رفوف البضائع ..
وحين فرغت من فعلتي نهضنا عائدين لنجد الصغير نائما بعد ان ارتوى من أغلى زجاجة حليب دفعتها امها ومن أية فاتورة ؟!
ليلتها بتُّ ضحية لمطارق الارق وتبكيت الضمير !
اشعر الآن وبعد ان فضفض قلمي بما احتبسته جوانحي لسنين بارتياح لم اعتده من سنين .
حكاية الليلة السادسة
الدرهم الفضي
أسند نجم ظهره الى حاجز في احد تخوت المقهى سبب له ألما ممضا وبدأ بسرد حكايته :
انها حكاية قديمة تلك التي سأسردها عليكم ايقظت تفصيلاتها صورة فوتوغرافية لجدي استطعت بعد الاستغراق في تأملها ان استعيد أحداثا طمرها غبار الزمن :
الصورة بالابيض والاسود لشيخ يعتمر كوفية بيضاء لايبدو عليها انها من قماش فاخر ، فهي تكاد تمسي مهلهلة كشراع مركب بلي بفعل الريح وملح البحر، يعلوها عقال اسود ذو طبقتين منحتاه شكلا من اشكال الغلظة .
العينان ضيقتان الى حد ما ــــ ربما لأن العماء الذي انتابهما قد زادهما ضيقاـــ وقد روت لي جدتي زوجة اخيه التوأم انه فقد بصره بسبب رهاب استدعائه لخدمة الجيش العثماني فأقدم على تمريغ عينيه بصبغ شوارب فقد اثر ذلك بصره .
كان عم أبي ميسور الحال إذ كان تاجرا وكان يملك مغازة لبيع الرز والبقول وحاجيات الاسرة اضافة لمركبي ( صمبوك) لأسفار موانيء الخليج فلا يعودان دون ان يكونا قد غصا بانواع السلع من البهارات الى الحبوب واسماك ( المتوت ) العمانية وشتى اصناف المكسرات .ولكن ذلك كله توقف بعد ان قرر النزوح الى مركز المدينة .
كان جدي ميسور الحال ولكنه كان في الوقت نفسه شديد البخل فقير الخيال فطيلة الفترة التي قضيتها في معيته لم يروِ لي ولا حتى حكاية واحدة . ومن الجانب الاخر لم يفكر يوما ان ينفحني قطعة نقود فضية أقتني بها طائرة من ورق او حلوى او فقاعة ملونة أو اذهب لاشاهد فيلما يعرض في احدى سينمات شارع الوطن.
كان جدي مفرطا في طلباته وربما كان فقدانه للبصر من جراء ذلك . كانت حصتي من تلك الطلبات ان أصطحبه الى العشار كي يجلس في مقهى او محل بيع منتجات الالبان الذي يمتلكه ابنه الكبير. كنت احيانا ارفض ما يطلب بحجة دوام المدرسة المسائي . لكنه كان يصطادني في ايام الدوام الصباحي .
إغراء آخر كان يمسك علي انفاسي : عشقي للسينما !
ما ان نغادر سيارات اجرة الخورة حتى نرتقي رصيفا يبتديء من عند اسد بابل وباتجاه جسر المغايز مرورا بدكة طويلة تشرف على نهر العشار. ومن حسن حظ جدي وحظي انه اعتاد ان يستخدم تلك الدكة للراحة مخففا في الوقت نفسه من ضغط بدنه الثقيل المتكئ على هيكلي النحيف .
ما ان يستريح حتى أعافه الى مانشيتات القسم الخلفي من سينما الرشيد متلمسا عضلات ستيف ريفز متشمما عطر شعر فرجينا مايو متعلقا باغصان شجر البانيان قافزا مع طرزان من شجرة الى اخرى مستقلا عربة ريتشارد ويدمارك الاخيرة .. لكن واحسرتاه لم اكن املك فلسا واحدا لشراء بطاقة الموقع الشعبي ( ابو اربعين ) ..
نبهتني تفاصيل صورة جدي الى ان ياقة جلبابه كانت متآكلة اما الجلباب نفسه فكان مهلهلا تغزوه التجعدات .ولحظتها ادركت سرّ ما كان يحدث على تلك الدكة النهرية ابان جلوسه عليها : ذات مرة وبينما كان ينكت الارض بعصاه وكنت جالسا بالقرب منه وبعيدا عنه في آن معا تفاديا لعصاه ان تهوي على رأسي اثر جولة مطولة في مدخل السينما الخلفي ، مر رجل وقور في هيئته ونظرنا ثم أخرج من جيبه درهما وناولني اياه :
ــــ أعطه للحاج ..
كان سمع جدي رهيفا وخيل اليه انه سمع حركة وكلاما فسألني مستفسرا ، الا انني نفيت الأمر برمته .
أعترف انني ومنذ ذلك اليوم صرت معتادا على تلقف ما ينفحني به المارة من دراهم وعشرات وآنات داسا اياها في جيبي كاتما الامر عن جدي منتظرا مجيء الجمعة السعيدة .
كانت تلك الوسيلة الوحيدة لتوفير ثمن التذكرة فلا أبي كان يسمح لي اصلا ولا جدي ، واعترف انني حرصت في المرات القادمة على احضار طاس من النايلون الكاتم للرنين كان يغص بقطع النقود ..عانات وعشرات ودراهم كانت تلقى سبيلها الى جيبي القاحل مثل صحراء ! وبتلك الوسيلة التي اضطرني حبي للسينما الى اللجوء اليها حولت جدي المبصر من شيخ ميسور الحال الى شحاذ . لا ادري بالضبط إن كان مافعلته انتقاما او عوزا او كليهما!.
الحكاية السابعة
رواها نجم لصديق من اصدقاء المكان وحده لإدراكه التام بأنه يحمل في اعطافه فضيلة كتم اسرار اصدقائه مهما كان صنف الحكاية التي يسردها هذا وذاك :حكاية بطل الشمال
أفر من وطأة الجدران ومن شجار اخوتي وتذمرات امي ومن صمت بساتين الأوقاف المحدقة بالبيت ، الى طرقات المدينة عبر شارع الثانوية او شارع الوطن متوقفا قبالة السينما الشتوية مطيلا النظر في مانشيت الفيلم المعروض .اصابعي تجوس أرجاء جيب دشداشتي بحثا عن ست قطع من فئة العشرة فلوس أشقيت حالي كي أخبئها قطعة قطعة ،فواحدة في ثقب حائط بيت جارنا رديف وأخرى في شق بلحاء شجيرة التوت المطلة على نهر المحلة الأعقف والبقية في صندوق توفير سري قمت بدفنه في غرفة السطح ..لا زحام على شباك تذاكر ابو اربعين . أقطع بطاقة وأهرع لباب السينما المجاور لمكتبة (فرجو ) . يقطع سمير أمامي الطريق :
- نجم .. ادخلني معك ..
ــــ إثنان ببطاقة واحدة ؟! ويلك .. بواب الموقع صار يعرفنا ..
ــــ ادخلني معك والا اخبرت امك ..
يلقط حجرا مربعا كبيرا طالبا مني دسه خلف ظهره أعلى قفاه ، فأنصاع لطلبه في استغراب . يحني جذعه العلوي فيبدو مثل احدب نوتردام :
ــــ سأثير شفقة البواب فيدخلنا معا ببطاقة واحدة ..
أدفع بالبطاقة للبواب بينما يختبيء سمير ورائي . وبعد ان يقطع التذكرة يقبض على ذراعي دافعا بي الى مدخل الصالة شبه المعتم الرطيب .. اطل على المدخل .. ذراع البواب الثانية تحكم قبضتها على كتف سمير دافعة به الى الخارج فيما تتطاير شتائم الولد قبل ان يبتعد مختفيا .. أعاود الانزلاق لجوف الصالة.. الى نعيم البهجات والسحر الخفي للمكان .. الصالة الآن في مرمى أنظاري الغوشاء غير انها ليست المقصد إنما الشاشة .. من حسن الحظ ان الصالة ما زالت مُنارة وما كان عليّ سوى الارتماءالى مكان يناسب بقامتي الخفيضة ،الا انني اصطدمت بامتلاء المصاطب الخلفية بل لم يعد من فراغ حتى في المصاطب الامامية سوى واحد او اثنين يرهقان عيني المتفرج على امتداد عرض الفيلم .وهاهي انوار الصالة تنطفئ تباعا فتسمع رغم الضجيج صوتا ينادي .. ياولد ..! أشرئب برأسي الى رجل عجوز جالس في الخلف أومأ لي ان اجلس لصقه ففعلت.
يسألني العجوز الذي تذكرني هيئته بجدي عن اسمي :
ــــ نجم..
ــــ هل انت في المدرسة ؟
ــــ ذاهب للسادس الابتدائي ..
ــــ جيد .. بل احسن مني لأنك تستطيع ان تقرأ الترجمة ..
ــــ ليس دائما ..
يغادر مقعده لبضع دقائق وعاد وفي يده كيس كرزات . يناولني ملء راحة يد :
ــــ هل سمعت بمحارب الساموراي ؟
ــــ كلا ..
ــــ هو محارب ياباني ..
في تلك اللحظة انطفأت انوار الصالة فهاج اولاد الموقع الامامي وماجوا ، ثم ما عتموا ان جنحوا للهدوء مع ازدحام الشاشة بالمَشاهد .بدأت المقدمة الدعائية بالسلام الجمهوري ثم عرضت مقدمة الفيلم الياباني فلكزني الشيخ بخفة هامسا :
ــــ هل تراه جيدا ؟
ــــ من ؟
ــــ بطل الشمال .. تحدثوا عنه كثيرا .. الساموراي ..
واستطرد بعد مشهد آخر للفيلم فقال الشيخ :
ــــ سيعرضون الفيلم يوم الجمعة عصرا .. هل ستأتي ؟
ــــ انه فيلم عجيب ولكن لا أقدر ..
ــــ ولماذا لا تقدر؟
ــــ لا يتوفر المصروف دائما ..
ربت على كتفي بقوة :
ــــ ما هذا الذي تقوله يابطل الجنوب ؟ فلوس البطاقة عليّ ..
ــــ هل هذا صحيح ياعم؟
ــــ اسكت وتفرج .. سنتحدث بالموضوع بعد انتهاء الفيلم ..
بعد انتهاء الفيلم غادرنا الى ارصفة شارع الوطن ويده تقبض على يدي الى ان توقفنا عند ساحة أحد البارات. اومأ بأصبعه الى آخر الزقاق المفضي الى شارع الثانوية:
ــــ هل تعرف ذلك المكان أم نذهب اليه؟
ــــ أعرفه تمام المعرفة لأنه طريق المدرسة .. ياعم ..
ــــ انتظرني الجمعة بعد الظهر بالقرب من بيت الشمخاني .. يجلس عند بوابته شحاذ بإمكانك ان تسأله عني .. أخبره بأنك تنتظر ابا مطرود . إجلس جنبه وانتظرني هناك .. لن اتأخر عليك ..
حلت ظهيرة الجمعة بعد طول ترقب وانتظار.. غافلت اهلي وخرجت غير ان اخي تعلق بطرف جلبابي فاضطرت لاصطحابه معي .كان لديه مقلاع ما ان خرجنا الى طريق الإسفلت العام حتى انهمك في البحلقة في هام الشجر بحثا عن بلبل او عصفور. أغافله مهرولا نحو موعدي الأثير غير آبه للظى القار وما هي سوى خطى قليلة حتى أفاجأ بانقطاع طوق نعلي فأربطه كيفما كان مستأنفا زحفي المقدس الى ساموراي الشمال .. لقيت شحاذا كسيحا أرقد أرضا عكازتين عجفاوين . وحين سألته عن العجوز انبرى مجيبا بصوت صدئ النبرة :
ــــ أهو انت ؟ لقد اخبرني عنك .. تعال اقعد جنبي .. سيأتي بعد قليل ..
كنت جالسا القرفصاء على مقربة متر او مترين من الشحاذ ذي اللحية التي راحت تتصبب عرقا الى حضنه وهو يدندن لحنا بطاس النقود .كان لحنا غجريا حزينا .. ومن بعيد لاح الشيخ بقامته القصيرة. ألقى التحية على الشحاذ حاطا ذراعه الايمن على كتفي:
ــــ على الموعد تماما.. انت خوش ولد !
ورمقني بنظرة غريبة لم تلقَ مني كبير اهتمام. كانت لحظة الالتقاء ببطل الشمال الياباني تحتل كل حجيرة من حجيرات جوانحي ثم ما لبث الشيخ ان نزل مقرفصا لصقي قائلا:
ــــ بعد قليل سنذهب .. مازالوا يعرضون فيلم الساعة الثانية عشرة وإذا تهيأ لدينا من الوقت الكثير سنتسلى بأشياء اخرى ..
نظر الى ساعة يده الضائعة تحت شهر زنده الكثيف :
ــــ لدينا ساعة بالضبط .. نقضيها خلف سور تلك العرصة ..
في تلك اللحظة شعرت باصابع يده تلامس أسفلي .. الملامسة نفسها لم تفلح في التوغل في العمق إذ حال قماش الدشداشة السميك المنضغط بحكم طبيعة جلوسي دون ذلك. بيد ان المفاجأة كانت من خضّ كياني .. في لحظة واحدة يزيح الشائب قناعه عن وجه مرعب كان لذئب بالتأكيد .. كان ينبغي ان افعل شيئا للخلاص من الفخ الذي أوقعت نفسي فيه طائعا مختارا .. نظرت من حولي فوجدتني عصفورا مذعورا بين صقرين بمخالب فأرتعدت فرائصي ورحت أتلفت يمنة ويسرة ..
أنهضت نفسي على نحو ملتو ومباغت تلاحقني أربع عيون متفحصة منهضا هيكلي النحيف :
ــــ محصور .. اريد ان أتبول ..
ودون ان أنظر للخلف جريت بأقصى ما أستطيع من سرعة لأجد نفسي على الرصيف المقابل ماضيا صوب العرصة المهجورة المقابلة قافزا أعلى سياجها الخفيض باتجاه ثلمة تقود الى شبكة ازقة بأكثر من إتجاه لأنفذ عبر واحد منها راكضا كما لم افعل من قبل وبسرعة اطلاقة من بندقية راعي بقر دون ان افكر في ان استدير برأسي وإنْ بالتفاتة واحدة لأجد نفسي امام اخي الذي كان على وشك التقاط جثة عصفور اصطاده مقلاع أعمى المرام .. أعمى المرام ؟ ! أينا كان .. انا ام المقلاع ؟ !
حكاية الليلة الثامنة
ابو الكاوليات
رواها وافد جديد على المقهى لم يتح لنجم التعرف على هويته او اسمه :
اعترف ان امي ذاقت صنوفا من العذاب من جراء شقاواتي . كنت صياد مشاكل منذ صغري فتارة أفلج رأس واحد من اصحابي بحجر وتارة اتسلل الى النهر الذي يلتف حول محلتنا فأقفز الى لجج مياهه العميقة حتى كدت ذات مرة ان أغرق تحت الجسر فألتحق بابن جارنا الذي التقفته سورة الماء دافعة به الى اسفل ليطفو بعد يومين من نداء امه . واعتدت ان أَغير على ألعاب اصحابي فأقرصنها وأهرب الى زقاق آخر بعيد .
وحين صرت رجلا صغيرا انتفخت اوداجي وتغيرت تبعا لسني هواياتي فجمعت عددا كبيرا من صور حسناوات السينما والراقصات الشهيرات والفتيات التي تتصدر صورهن اغلفة المجلات . ثم تطورت اهتماماتي وامست اكثر سرية اذ صرت أبتاع من البحارة الهنود أعدادا من مجلات العري كنت أحرص على اخفائها تحت حشية سريري المبقعة بآثار معارك الليل الذي تسكن في فضائه الكائنات وتنهمر الاحلام كالمطر.
وصاحبت فتى من ساكني بيوت القصب المنحنية على ضفاف نهر المحلة حتى لازمته ولازمني . وكان صاحبي يصغرني بعام او عامين لكنه لم يقل عني شقاوة .
وكان يبزّني في نقطة واحدة هي انه كان يتيما يعيش في كنف خاله الذي يعمل في احدى الشركات فلا يؤوب من عمله الا في آخر المساء ناضجا منعنعا مستويا فيغط في النوم من ساعته . كان صاحبي ذاك ينعم بكامل حريته في الوقت الذي كنت رهينة لأعين سبعة من أخوتي ، ناهيك عن ابي وامي .
اتسعت دائرة مغامراتي مع حرصي ان لا تعلم امي بأية واحدة تكدر احساسها المرهف لاسيما انها كانت لا توفر فلسا ولو واحدا دون ان تنفقه علينا .
وفي يوم من الأيام جاء صاحبني وأخبرني عن مغامرة لم يسبق لكلينا خوضها : زيارة حي الطرب فخفق قلبي لاقتراحه غير انني لم أتوانَ عن التساؤل عن نفقات الزيارة فأجابني ببرود قبل ان ينصرف :
ــــ دبر نفسك .. سآتيك السبت عصرا ..
وسرعان ما تفتق تفكيري عن طريقة اوفِّر من خلالها اجرة السيارة ذهابا وايابا ومصروفات ليست في البال . ولم اتردد ففي صبيحة الجمعة كنت على سطح البيت أغرْتُ خلالها على قنّ الدجاج وانتزعت اثنتين من أدسم الدجاجات مطوحا بهما عبر الحديقة الى رصيف الزقاق حيث كان صاحبي بانتظاري . وبعد ان انحدرت متسللا الى خارج البيت رحنا بالدجاجتين الى سوق الطيور في البصرة القديمة وبعناهما بسعر زهيد بعد ان تذمر من اشتراهما بأنهما مصابتان بالاسهال !
وفي يوم السبت مساء كنا عند مشارف الحي الشهير، غير اننا وجدنا امامنا مفاجأة مريرة فقد وافق الغجر على استقبالنا على ان لايتعدى ما تقدمه بنات الخيمة الرقص .أصبنا تبعا لذلك بخيبة امل حادة ، حتى انني تمنيت لو انني مكثت في البيت امام التلفزيون الذي يعرض وصلات غنائية راقصة ذات طابع غجري .
وجاءني صاحبي في اليوم التالي ومعه اقتراح ان نزور واحدا من بيوت المدينة السرية فنحظى فيه بما نريد . فخفف اقتراحه بعضا من همي وغمّي .
مع الايام امسيت واحدا من رواد ذلك البيت ولم اكتف بذلك فقد صادقت واحدة من فتياته حتى بلغ بي الامر بأن اعطيها وعدا مني بالزواج منها .
لاحظت امي التناقص المضطرد لأعداد الدجاج فارتابت في جيران البيت الملاصق وتشاجرت معهم قبل ان ينكشف امري على يد ابنهم الذي كان يراقبني على مدار الساعة مطلقا علي لقب ( ابو الكاوليات ) دون ان املك حجة تقنع امي والجيران انه لا صلة لي بذلك الحي . وفي يوم من الايام وفيما كانت تخرج محفظتي كي تغسل بنطالي عثرت على صورة تلك الفتاة السرية فجن جنونها ، وسقطت فريسة للضغط ، ولكنها اخيرا عثرت على حلّ لجميع آلامها وقلقها على مصيري اذ عادت ذات يوم من زيارة لإحدى قريباتها وفي معيتها دجاجة .. كانت تحلف وتتكفر بأنها ستكون افضل دجاجة بـيّاضة في الحي . وتلك كانت الفكاهة الوحيدة المنطلقة من كائن كأمي لم يعرف يوما سبيلا الى المرح ، فقد جاءت بإبنة اختها التي تشبه الدجاجة الى حد كبير وزوجتها لي . وحقيقة الامر ان ابنة خالتي برهنت على كونها غزيرة الانتاج اذ انجبت لنا نصف دستة من الذكور والاناث ، لتنتهي غاراتي على دجاج السطح الى الأبد !
حكاية الليلة التاسعة
حكاية شاعر من شعراء الجنوبات عن ولع ابناء قريته الجنوبية بالسينمات عثر عليها نجم بين اوراقه يبدو انها نشرت في صحيفة محلية ، والمدهش ان كثيرا من قصائد ذلك الشاعر حافلة بالاسى ولكنه من خلال هذه الحكاية الساخرة برهن على براعة في التندر لا يضاهيه فيها امرؤ او طالب للنكتة باحث عنها :
.. ولمشاهدي السينما قديما طقوس خاصة وحب خاص انفردت به ويختلف بين سكان مناطقها القريبة والبعيدة فابن المدينة يكون بإمكانه مشاهدة الأدوار التي يحب بينما لا يستطيع ابن القرية الا مشاهدة الدور الأول دور السابعة مساء لأنه لن يجد سيارة تقله لأهله انذاك . ومن الطريف جدا ان الناس في ابي الخصيب مثلا كانوا يأتون على الدراجات الهوائية وما اكثرها هناك . ولما كانت عبارة ( السينما غير مسؤولة عن سرقة الدراجات ) مقروءة من الجميع ، كانوا يرزمون دراجاتهم تحت الشاشة أمام موقع الدرجة الثالثة ( ابو اربعين فلس ) فتشاهد مئات الدراجات مربوطة بعشرات السلاسل والأقفال ، وحين ينتهي العرض ، تسمع جلبة انعتاقها وتحررها ، ولمن يفكر بالخروج من السينما قبل غيره حال نهاية الفلم كان يوثق دراجته عند احد اعمدة الكهرباء في الشارع العام امام مبنى السينما فترى الأعمدة وقد أوثقت على جذوعها عشرات الدراجات .
ومن الذكريات الجميلة ان قريبين لي كانا مغرمين في مشاهدة السينما انذاك كانت لهما دراجة واحدة من نوع فيلبس 24 وكانا من المعافين في صحتهما طويلين قويين ، إذا أحبا مشاهدة فـلم ، ذهبا الى مصلح الدراجات قبل المساء، لكي يتأكدا من سلامة وصحة دراجتهما وكمية الهواء في الاطارات، وكل ما يخص سفرة الليل ، فيأخذان متاعهما (تمرا وطرحا وكباب طاوة) ويشدان الرحال للعشار حيث السينما التي لا تبعد اكثر من
حكاية الليلة العاشرة
قصة عنوانها (ما زال المطر يسقط) هي من واقع أوراقي التي نجت من القصف والسرقة :
إنعطفا دالفين للساحة البرانية لسينما الوطني التي توقفا قبالتها منهمكين بالتفرج على صور تمثل مشاهد من الفيلم المعروض ، جذبهما نداء بائع التذاكر وهو يستحثهما ان يسرعا قبل ان يقفل شباك التذاكر ، تناول الرجل الصغير السن البطاقتين داسا اياهما في جيب قميصه الملون هاتفا :
ــــ يبدو ان فترة المقدمات قد فاتتنا ...
ثم شد يدها مستحثا :
ــــ هيا .. لقد اطفأوا الاضواء ..
تمنعت الفتاة التي كانت ترتدي قميصا ابيض بدا اقرب في الزي لقمصان المدارس على تنورة زرقاء احتشدت بالتجعدات .قالت بصوت ناعم :
ــــ وليكن !
ــــ ماذا تقصدين؟
ــــ ندخل اثناء الظلام .. احسن ..
ــــ خائفة ؟
ــــ ومم أخاف ؟ كلا .. أنا في الحقيقة أخاف الوداع ..
وعادت تسأله :
ــــ هل ستغادر أول الصباح؟
شابت صوته نغمة توتر :
ــــ غدا سأكون في محطة القطار .. وبعد غد سأكون في وحدتي ..
ــــ أين ؟
ــــ في مكان مشتعل من أماكن الجبهة..
شدها من ذراعها على نحو أقوى فانجذب قوامها الأهيف اليه فدلف الإثنان الى الممر ليستقبلهما مصباح يدوي ذو عين متوهجة انارت ممراً ما بين المقاعد فجلسا في مقعديهما .. فقط للحظات لينهضا من جديد فيغادرا الى المقاعد الامامية .
همس الفتى في اذنها :
ــــ نحن محظوظان .. انهم يعرضون المقدمات والفيلم لم يعرض بعد ..
ــــ انت تعرف الكثير عن السينمات ..
ضحك بصوت خافت :
ـــــ كان جدي يطلق علي لقب مجنون السينما الاول ..
ــــ وهل تحبها أكثر مني ؟
ــــ أحبُ كل منكما بشكل مختلف ..
حاول ان يغير دفة الحديث :
ــــ هل دخلتِ السينما من قبل ؟
ـــــ مرة واحدة .. كان ذلك مع خالي ..ولكن ما اسم هذا الفيلم ؟
ــــ زهرة الشمس ..
ــــ لا بد انك شاهدته ..
ــــ ست مرات ..
فيما انطفأت انوار صالة العرض الصيفية ، تسللت نسائم خريفية باردة الى حد ما ممزوجة مع موسيقى بداية الفيلم . بدأ عرض الفيلم .. دقائق .. الا انه سرعان ما توقف لتنار الصالة الصيفية من جديد فبدت السينما شبه فارغة عدا متفرجين لايتعدون اصابع اليد في كل موقع ..
تساءلت الفتاة :
ــــ ماذا حدث ؟
ــــ يبدو انه خلل فني ..
ــــ لكنك شوقتني لأحداث الفيلم ..
ــــ طبعا .. انه فيلم حربي وعاطفي ..
ثم اقترح بعد دقيقة صمت :
ــــ هل تريدين ان أروي لكِ قصة الفيلم ؟
فتحت كيس شطيرتها :
ــــ إفعل .. انا جائعة ومتشوقة في آن واحد ..
ــــ سأفعل ..
ــــ اخشى ان يصيبكَ الملل ..
ــــ كلا .. ولكن ما اسم الممثلة ؟
ــــ صوفيا لورين ..
ــــ والممثل ؟
ــــ مارسيللو ماستروياني ..
ثم قال بعد فترة صمت :
ــــ بالعكس .. سأرويها وكأنها حكاية لأثنين .. في الفيلم امرأة ولدت لكي تعشق ورجل ولد من اجل أن يعشقها : تدور أحداث الفيلم في ايطاليا أيام الحرب العالمية الثانية حيث يتزوج المحبان جيوفانا وانطونيو فيكسبان إثني عشر يوما من سعادة مختلسة ، ومع انتهاء فترة الاجازة يبتكر انطونيو حيلة اخرى لسحبه للجيش ، فيتظاهر بالجنون , ولكن حيلته هذه المرة لا تفلح اذ يعلم انه سيرسل الى الجبهة الروسية فيودعها وملء قلبه لوعة . وتمر الأيام ولا أخبار عن انطونيو ثم يعدّ من المفقودين . ولكن جيوفانا لا تفقد الأمل وتتسلح بحبها الصادق وتسافر الى روسيا بحثا عن زوجها الفقيد . ومثما تدور زهرة عباد الشمس حيثما اتجهت الشمس تخترق جيوفانا حقول تلك الزهرة لتعثر عليه اخيرا وتجد امامها مفاجأة أليمة : انطونيو متزوج من المرأة التي أنقذت حياته وله منها ابنة !
بغتة داعبت الوجوه قطرات مطر خفيف فالتصقت به وهي ترتجف :
ــــ هل تشعرين بالبرد ؟
ــــ قليلا .. ليس من المطر ..
ــــ ربما من القصة ..
ــــ يجوز ..
ــــ هل أواصل أم ننتظر إصلاح بكرة الفيلم؟
ــــ اكمل ..
ــــ واكراما لصدق مشاعرها وعدم رغبتها بافساد حياة ابنة انطونيو بحقائق اليمة تقفل جيوفانا عائدة الى ايطاليا وتعمل في مصنع وترتبط برجل تنجب منه ولدا . ويزورها انطونيو محاولا تبرير زواجه بأنه كان اضطرارا اذ تزوج المرأة التي انقذت حياته بعدما عــدّ مفقودا . ولحظة رحيله يهديها معطف فراء كان قد وعدها بأن يهديه اليها قبل سفره للجبهة ومن ثم يودعها ليمضي به القطار الى حياته الثانية التي لم تدر يوما في خلده وتعود هي الى حياتها مع رجل لا تحبه وهو ما تفعله الحرب بالبشر ..
كما لو انه استيقظ من رقاد ثقيل، ألفى نفسه في صالة السينما الصيفية وإذْ تلفت لاحظ ان المراوح العمودية التي ركبت على جوانب الصالة قد تحولت الى طواحين هولندية. لماذا طواحين.. لماذا هولندية؟! لم ينتظر اجابة عن تساؤله فقد انتبه الى أنها أمالت رأسها الى حضنه وغفت غير عابئة برذاذ المطر الذي لم ينقطع طيلة عرض الفيلم. وحين اشرأب بعينيه الى الأعلى لاحظ ان الشاشة أمست شاشتين يتوسطهما صدع متعرج عميق الغور، وكانت صورتها على الجزء الايمن من الشاشة .. بروفيل لوجهها يملأ الشاشة وسط أرضية محتشدة بأزهار الشمس .أما النصف الايسر للشاشة فقد امتلأ ببروفيل آخر لوجهه وسط أرضية محتشدة بالدبابات . فهل عرضوا الفيلم اثناء غفوتهما تلك، وهل كان نائما حقا؟ من المؤكد ان الجمهور كان غادر الصالة لحظة هطول المطر .
عداهما أمست الصالة مهجورة تماما !
تغير المشهد الذي انزرع طويلا على الشاشة مع انهمار مطر اقوى : طائرة تقاسم نصفا الشاشة هيكلها تنقض على أهدافٍ أرضية ممطرة إياها بالصواريخ .
كانت صاحبته قد استيقظت لتغمغم متسائلة :
ــــ أين نحن ؟ ! أين صرنا ؟ !
رد عليها ملاحظا :
ــــ استيقظي .. انظري .. ما زال المطر يسقط .........
القسم السادس
بعد الذي كان
(1)
محاصر بالوجوه .. أهرب منها واليها .. تتسرب اليّ من كل اتجاه : من ثقوب ذاكرتي .. من مدخل الملجأ .. من لوحات المرسم .. من مانشيتات صالة العرض الخارجية بواجهاتها المطمورة بغبار شرخ ألواحها الزجاجية ..
انحدرت الى مقهى الصالة.. سحبت كرسيا متهالكا وأوصيت على شاي وشطيرة باذنجان مقلي.. رغبت في مجالسة شافي لكنه كان منهمكا في جدال ديني مع منذر عواد..
مفاجأة !
وقع بصري على صابر .. لم اصدق عيني .. لم نلتق منذ عشر سنوات او اكثر ..
تحجرت كمن يخضع أسيرا لميدوزا دقائق قبل ان استيقظ وأعتاد فكرة وجوده معنا.. بدأ تعارفنا في المرحلة المتوسطة وسرعان ما دعاني للبيت كي اطلع على مالديه من كتب ..كان يوما غير عادي .. أردفني على سلة دراجته الهوائية التي يتأرجح من سكانها مذياع بطارية ثقيل ..كانت المرة الأولى التي انصت باهتمام الى صوت ام كلثوم وهي تغني ( انت عمري ) .. مع انتهاء ذلك الحلم العذب وصلنا جائعين الى بيته ــ ربما لتناوبنا سياقة الدراجة ـــ وفي غرفة الاستقبال وقفت مبهورا بصفوف كتبه . تناولنا وجبة روبيان وغادرنا البيت لمشاهدة احد افلام سينما الحمراء ..
مع الايام توطدت صداقتي بصابر، ومن خلاله عرفت فتيانا آخرين كانوا جميعا مولعين بالسينما .. بيد اننا كنا نكتفي نحن الاثنين بارتياد دور السينما تحاشيا لضجيج العدد الزائد :
ــــ اذا زاد العدد عن اثنين صرنا في سوق الهرج .. !
ذات امسية اطلعني صابر على سر :
ــــ لقد انتميت للحزب الشيوعي ..
زمان كنا نلتقي في مقهى صغير بأحد ازقة البجاري متخذين منها مقرا لنشاطنا السينمائي بعد ان انضم الينا ضياء علوان وهو شاب ذو ثقافة شفاهية عالية . كان ضياء من المولعين بالسينما والمسرح ويحرص على اقتناء كتب لا يتحمل أثمانها واقعه الاقتصادي المتواضع فقد كان حارسا بمدرسة ابتدائية براتب هزيل كان يكفيه بالكاد رغم انه كان وحيدا الا من اخت عانس بيد ان ايجار البيت كان يلتهم ثلثي ذلك الراتب .كما انضم لنادينا كل من مهدي وشافي لشغفهما بعالم السينما . كنا نطلق على مهدي لقب (مكتبة النادي) لمقدرته العجيبة على تذكر أي فيلم يأتي أحدنا على ذكره فيخبرنا بمن مثل دور البطولة فيه ومن أخرجه وكل ماله صلة بإنتاج الفيلم من الألف الى الياء . وكان إضافة لذلك ذا وجه قريب في الملامح من وجه شارلز برونسون عدا العينين فقد كانتا مستعارتين من بيتر أوتول تظللهما جمة شقراء كتلك التي كانت تتوج رأس جيمس دين . هذه المواصفات شجعتنا على ان يقوم النادي باخراج فيلم قصير كبداية . كما ان مرح شافي الذي التحق بالنادي ولو في وقت متأخر ولأسباب غير سينمائية أتاح له ان يمثل ولو احد الادوار الثانوية في فيلمنا التجريبي الاول الذي حمل عنوان ( البائس) ، والذي لا ادري حاليا مكان ايداعه ومع من أودع . كان فيلما قصيرا لا يتجاوز عشر دقائق طولا وبالأسود والابيض نظرا لمحدودية إمكاناتنا المالية .
بلقاء صابر كنت في حاجة لبعض الوقت كيما أدرك ان مجيئه كان حقيقة وليس حلما.. ومع ظهور مهدي الذي روى لي حكاية غيابه الطويل في الأسر أتيح لنا اعادة شمل النادي ولو بنصف اعضائه على الرغم من غياب ضياء الذي اصبح كاتبا مسرحيا شهيرا ثم انه غير موجود في العراق حاليا ومقتل عماد الفاجع على ايدي عصابة من المراهقين تسللوا الى بيته من جهة السطح وحين حاول مقاومتهم أطلق عليه النار فتى قاصر من اعضاء العصابة المغيرة فأردته قتيلا .. للأسف !
وفيما كنت اقلب مع صابر ذكريات الأمس أخبرته ان سيناريو الفيلم الذي كتبته ما زال في حوزتي فرغب في قراءته . ناولته المخطوطة فانشغل بقراءتها وهو يغمغم بين الفينة والفينة ثم وضع المخطوطة جانبا وقال :
ـــ عمل مدهش ويصلح ان يتحول الى فيلم ناجح مائة بالمائة .. سيكون مشروعي القادم بالتأكيد ان لم ترغمني الظروف على الهجرة من جديد ..
ثم قال قبل ان ينصرف :
ـــ عليك ان لا تنسى ان الفن يأتي بعد الرغيف دائما .. الفن البورجوازي ليس خبز المسحوقين بل نبيذهم المعتق
(2)
عشرة أيام بلياليها انقضت منذ اندلاع الاطلاقة الأولى من فوهة غاضبة بحي شعبي من أحياء المدينة لينهمر مطر الكلاشنكوف مدرارا مصحوبا برنين الهاون وصداع النمساوي . وكلما تعالت حدة الاشتباكات ، ساد الصمت أرجاء القاعة تتخلله أحاديث مقتضبة او غمغمات غير مفهومة وازداد الملجأ عزلة سوى نفرا ضئيلا يتقاطرون قادمين من الخارج كنواقيط حِب. وعلى قلة عددهم صاروا مبعث اشباع لفضول اللائذين والذين يتعذر عليهم الخروج ، فهم يزودونهم بما يستجد من اخبار : صحيح .. مبنى المحافظة سقط وسقطت معه المقرات الحزبية .. قطعات الحرس الجمهوري وسواها من قطعات تتمترس بالقرب من كلية الاداب .. في الحيانية .. في الجمهورية .. في المعقل .. في كل مكان .. ثمة من يصدق الاخبار وآخر يكذبها وثالث يعدها مبالغات ما بعدها مبالغات .. ضفاف أنهار المدينة المحملة بمياه المجاري تكدست بالجثث ، وفي الخاصرة الغربية للمدينة يتواصل تدفق الجنود المتقهقرين ممن اخطأتهم طائرات التورنادو وهم يعبرون جسر الزبير المتحفر قصفا الى مدخل المدينة ، ليبدأوا رحلة هلاك اخرى في مسالك العودة الى مدنهم التي باتت تئن من القصف الاطلسي الشامل وإنْ بدرجة اقل ، ليلاقي بعضهم حتفه عند حافات المياه وعلى امتداد طرق الامداد اللوجستي.. يقودك السأم الى التسلي بالتحديق في أشباح الصالة من نساء ورجال وصغار تشبعت ثيابهم بروائح حبيسة او ابخرة حرائق آبار النفط التي تدفع بها رياح الجنوب سحبا مثقلة تتوغل في اهاب الاثواب والمسامات الجلدية ومآقي العيون الهاملة والخياشيم المتحشرجة من اثر انسداد. وكالعادة يتجمع جمهور من المصلين وراء الملا منذر وهي تلهج بأدعية تشوشها ارتجاجات القصف لترفع من اصواتها في هزيج جماعي تتردد اصداؤه في ارجاء الصالة:
الله اكبر .. الله اكبر .. متضرعة الى من تتوجه اليه الضراعات ان يقود أمة ضالة الى عتبات الفراديس .. وكلما مرت الساعات وعـنّ لك الخروج من غرفتك ترمق المزيد من المصلين والمصليات ، ويرمقهم عصام ججو بعينين باردتين ، وآخرون فضلوا احتلال تخوت مقهى عياف متشاغلين على نحو فاتر بألعاب دومينو خرساء او اراجيل شبه منطفئة مصدرين اقل قدر من الهمهمات والغمغمات تعكس وجوههم الشاحبة مخاوف مكتومة مما سيحدث في قادم الساعات .
كان الوقت أول الصباح حين رددت جدران الصالة اصداء زغاريد لثلاث من النسوة إعتدن المجازفة بالخروج فجر كل يوم والعودة ببضاعتهن من منتجات الألبان والخضروات متسللات عبر أزقة العشار الخلفية عائدات خفية الى الملجأ :
ــــ ابشروا .. ابشروا .. لقد توقفت المعارك !
وعلى الرغم من ان بعضا من نسوة المكان جارَين المتسللات الثلاث في زغاريدهن ، إلا ان الصمت عاد لينشر ظلاله على اركان الصالة ليستيقظ راقدو الليل متسائلين عن سر تلك الجلبة فاركين أجفانهم المتقرحة ساكبين مياه الجرادل على وجوههم بعد طول رقاد. وسرعان ما تلاشى الابتهاج الذي انهمر على الموجودين مثل دش بارد ليتربع على عرشه قلق غامض من القادم المتوقع او غير المتوقع من الأحداث , ومع احتفاظهم بآمال المغادرة والعودة من حيث جاؤوا ،علموا بأن قطعات الجيش حسمت امر الاشتباكات واستعادت السيطرة على المدينة وهو الخبر الذي لم يكن مدعاة لسرور قسم من المختبئين فمع انه يعني اغلاق صفحة المعارك لكنه ينذر بفتح صفحات اخرى ستكون حملة الاعتقالات التي تستهدف أقرباءهم في طليعتها ، هذا بغض النظر عما سيكون في استقبالهم من اخبار غير سارة تتعلق بسلامة أهلهم ومصائر من رفعوا السلاح بوجه السلطة وسيكونون في أغلب الأحوال مطمورين تحت طمي أنهار المدينة او مقتادين الى سجون المدينة او مفقودين في أقل تقدير .
خلال ساعات الظهيرة من ذلك اليوم صار بالإمكان ملاحظة تناقص أعداد المقيمين الى اكثر من النصف بعد ان غادروا تباعا اثر سماع تلك الاخبار مصحوبين بصرر من قماش وحقائب واكياس نايلونية ضمت قدورا وآنية وملابس في حين اكتفى بعضهم بالرحيل تاركين ما لديهم من مقتنيات وراءهم .
تناول نجم بضع لقيمات من ثريد حساء العدس عاصرا عليهما ليمونة وكسرات من خبز الشعير حين قدم منذر عواد وقذف بهيكله المكدود لصقه ومكث صامتا فسأله نجم عن سر صمته فرد بوجه ممتقع مكفهر :
ــــ لا جدوى .. ضاع كل تعبي ..
ــــ هل فقدت مالا ؟
ــــ ياليت !
ــــ ماذا حدث بالضبط ؟
ــــ دخان في دخان .. كل مواعظي وخطبي أمست هواء في شبك ..!
ــــ وكيف ذلك ؟
ــــ عادت حليمة الى عادتها القديمة .. ما ان ورد خبر توقف المعارك حتى عاد القوم لموبقاتهم . قام قسم منهم بكسر محال شارع الوطن وعادوا وملء احضانهم سلعا مسروقة ، وهناك من عادوا بجيوب متخمة بالمال .. دنانير ودولارات .. ذهب وجواهر .. لقد اقتحموا اكبر مصارف الشارع .. شافي عاد منتشيا مترنحا .. لابأس .. دعنا منه .. ولكن ماذا عن الذين تابوا علي يدي وواظبوا على الصلوات الخمس وصلاة الخوف والفزع .. وها أنا ذا ألقاهم قبالتي يرقصون ويعربدون ؟!
ــــ هل تعرف عددهم ؟
ــــ طبعا لا .. ليسوا بالقلة على اية حال .. ابو جميل الحلاق عاد لبيع حبوب الكبسلة وام نغم للقوادة وتلك الفتاة .. لا اعرف اسمها .. لا ادري .. استأنفت مهنة بيع جسدها وعشرات آخرون لا أعرف اسماءهم ..
حاول نجم أن يهدئ من روعه :
ــــ انها من طبائع البشر منذ ان عرفتهم الأرض . فيهم النقي والملوث والشهم والغادر . والمهم انك أديت ماعليك .. اترك كل شيء للخالق .. نـمْ ناعم البال ..
ــــ وكيف افعل وأنا أتوقع أن أُعتقل في أية لحظة .. ؟
ــــ لماذا ؟ هل لديك أعداء ؟
ــــ لم أعد أعرف الصديق من العدو .. ولهذا يجب أن أغادر ..
ــــ إلى أين ؟
رد بتردد حذر :
ــــ لا اعرف ..
ابتعد متعثرا في سيره ميمما صوب غرفة نومه ، وفي غمرة انهماك نجم بتطورات الأوضاع غفل عنه .. نسيه أو كاد..
(3)
بمرور الوقت ومع الحركة المعكوسة المتمثلة بمغادرة أكثرية الملتجئين مندفعين الى الخارج ، فرغت الصالة باستثناء عدد قليل فضّـل التريث قبل ألخروج أما من حذر طبيعي او اماكن سكناهم البعيدة عن مركز المدينة . وعقب توجهه إلى المقهى لتناول الافطار فوجئ نجم بأنها لم تعد موجودة فعربة المطعم اختفت وكذلك اسطوانة الغاز واللوكس والتخوت والكراسي السابقة وتلك التي أهداها جبار لعياف .
قدم عياف وألقى في احضاننا قنبلة :
ــــ جبار !
ــــ ما به ؟
ــ في يوم من الأيام كنت على وشك طرده من المكان .. اليوم العكس هو ما قد يحصل ..
سأله نجم :
ــــ ماذا تقصد ؟
ــــ علمت بطريقة ما ان جبار هو المالك الحقيقي لدار السينما ..
ندت شهقة من نجم فيما استأنف عياف قوله :
ــــ ليس هذا فقط .. بل تبين انه يمتلك كل ما يحيط بالدار من ساحات ومحلات .. هل تصدقون ؟ إنه يمتلك نصف شارع الوطن.. وسأعذركم ان كذبتموني !
راح طائر الصمت يحلق فوق الرؤوس !
ختم عياف أخباره الطازجة بالقول :
ــــ سمعت بأنه سيهدم مبنى السينما ويشيد مكانه عمارة سكنية ..
اكتفى نجم بالقول :
ــ كل شيء جائز .. انه يذكرني بفيلم (سينما باراديسو الجديدة ) .. شاهدته في التلفزيون ..يوم استبدلوا مبنى السينما بمرآب للسيارات ..
القسم السابع
نزهـات السـيدة
(1)
لم يعد بقائي في السينما ـــ الملجأ ذا معنى .. لملمت اوراقي والضروري من اشيائي وغادرت المكان الى بيت الاهل القريب الذي طال القصف الغرفة الاخيرة والفناء الخلفي منه ، ما حدا بي للنوم في مدخل البيت حيث الجزء السليم . كنت اعلم ان مبيتي سيكون مؤقتا .. لا مناص من الالتحاق بالأهل .. ولكن اين يقيمون حاليا ؟ لا ادري .. لا بد من السؤال .. سيستغرق امر الوصول اليهم أياما لا يمكنني التكهن بعددها ..
19/3
دفعني السأم والفضول للخروج اكثر من مرة بل ان الليل كان يرغمني على النوم في بيت مهجور موحش مقصوف .. مررت بمبنى السينما فهالني ان أجدها موصدة بالسلاسل والاقفال ..
فعلتها يا جبار مشتت ؟ !
من المؤكد ان اللائذين قد غادروا ذلك الجحر المحنط .. كل الى وجهته ..
ولكن الفضول وجرعة ضئيلة من القلق جعلاني افكر في مصير خالتي ومنذر عواد وفرزدق وصابر وشافي ووسيلة وآخرين ..
12/ 3
أخبار صادمة بالجملة .. علمت من عياف الذي أصبح حارسا لمبنى السينما المهجور وبائعا للشاي على رصيف قريب من أرصفة شارع الوطن ان منذر عواد تمكن من التسلل الى الأراضي الايرانية اذ ان له اقرباء في عبادان .. ابو صارم اختفى وسأسمع بعد شهور انه سيسكن في قرية من قرى السليمانية ليصبح بعدها لاجئا سياسيا في دولة اوربية . اركان عثر عليه جثة هامدة وقد انغرزت سكين في قلبه .. الخبر الأكثر ايلاما تمثل بمصرع قربيي فرزدق محترقا في شقته بشارع الوطن ويقال ان زوجته وعشيقها هما اللذان استغلا استغراقه في السكر والتدخين فسكبا عليه كمية من الكيروسين وأضرما في جسده النار ثم هربا الى مكان مجهول ..
تمكنت من الاتصال بالاهل الذين وافوني بخبر أليم آخر : وفاة خالتي المريضة بالزهايمر على رصيف من أرصفة ساحة أم البروم .. صابر عاد الى مقر اقامته بالخارج مفلتا ببراعة من مصائد المخبرين والوشاة وكتّاب التقارير ..
أجلس الآن كعادتي وحيدا على مسطبة مقهى مقفل بشارع الوطن .. شارع اللذائذ الهاربة .. أبحث عن مدينة لم تعد ووجوها طمرتها معاول السنين .. المدينة .. المدينة التي أشهر الغرباء المعاول في وجهها ذي الثغر الباسم .. الثغر الباسم ؟ ياللمفارقة !
يرن في رأسي مقطع اغنية في فيلم هندي نسيت احداثه .. يقول مطلع الأغنية :
القلب والزجاج سيتكسران ذات يوم !
أخرِج من حقيبتي الجلدية المتهرئة والتي ورثتها من ابي والتي تضم مذياعه الاثري المتقشر الصغير ايضا.. اخرج حزمة اوراق وأشرع بقراءة سيناريو فيلم لم تمنحني الحروب فرصة لإخراجه.. وما زال في الروح بقايا من أمل.. أشرع بقراءته ..
(2)
مخطط أولي لسيناريو فيلم مرشح للتنفيذ
تايتل الفيلم : نزهات السيدة
القياس : 16 ملم اسود وأبيض
المدة : 32 دقيقة
الكاتب : نجم ابراهيم يعقوب
مشهد تأسيسي :
[ لقطة بعيدة لبيت شناشيل يظهر عليه تايتل الفيلم وبقية الاسماء . لقطة متوسطة لصبي يرتقي درجات سلم البيت بخطى متسارعة . يتوقف لاهثا امام باب احدى الغرف وقد أُغلق بخشبيتين بشكل علامة ضرب . يتناول قطعة خشبية مرمية على الأرضية ويقرع بها باب الغرفة مناديا ] :
ــــ جدتي .. يا جدتي ..
لا أحد يرد..
يعاود القرع والمناداة :
ــــ جدتي فاطمة ,, انا عزام .. !
[ لقطة متوسطة لباب غرفة مجاورة يشرع ليطل رجل ذو لحية شائكة وعينين محمرتين بالملابس الداخلية . لقطة كلوزــــ أب لانطباع غاضب على وجه النزيل ]:
ــــ أنت لا تدعنا ننام .. ماذا تريد في هذا الصباح ؟
ــــ ام البيت .. جدتي فاطمة .. انها تسكن هذا الطابق ..
ينظره النزيل بلا مبالاة مرددا :
ــــ أيها الابله .. انت نائم ورجلاك في الشمس .. جدتك لم تعد تسكن هنا ..
يوصد الباب بوجهه بقوة . تعلو الدهشة وجه الفتى . يكتفي بالوقوف امام باب الغرفة والمناداة . يفتح باب غرفة على اليمين . لقطة مكبرة لذراع تمسك فردة نعال قاذفة اياها نحو الصبي ولكنه يحيد عنها :
ــــ ايها الطبل المزعج !
يفتح باب الغرفة الأبعد . يخرج شاب قصير وخط الشيب قليلا شعر رأسه :
ــــ من انت وما ذا تريد ؟
ــــ اسألك عن جدتي .. انها صاحبة هذا البيت ..
ــــ ومن هو أبوك ؟
ــــ إبنها داود ..
ــــ لا بد انك عزام ..
ــــ وكيف عرفتني ؟
ــــ لأن جدتك هي جدتي .. وجدة هؤلاء اللصوص الجاحدين !
لقطة كبيرة للنزيل الشاب وهو يشد عزام اليه ويأخذ في معانقته :
ــــ لقد كبرت يا ولد.. وأصبحت رجلا .. ولكنك لا تعرف أخبار الجدة .. جدتنا .. أنا اعرف السبب .. كان أبوك وما زال زعلانا عليها وتوقف عن المجيء .. ـ لكن ليس أنا ..
ــــ أنا نشأت في حضنها وكانت تغرقني بالهدايا وحلويات ( العمبر ورد) .. ولكن اين هي الان ؟
ــــ مرضت فأخذهوها للمستشفى ثم أودعوها في دار العجزة ..
ــــ من يسكن غرف البيت ؟
ــــ أو لاتعرفهم ؟! انهم أولاد أشقائها .. أولاد أعمامك ..
ــــ هل يدفعون إيجارا لجدتي ؟
ـــــ اطلاقا .. بل أنهم أتوا بمن هب ودب وأجّروا غرف الطابق التحتي لقاطنين غرباء على المدينة .. وكل ما يدفعه هؤلاء ينزل في جيوبهم وأم البيت صارت نسيا منسيا ..
ــــ يقول ابي انها ما زالت تملك البستان الذي يتوسطه هذا البيت ..
ــــ كانت .. باعوا البستان قطعة قطعة عن طريق التزوير والاحتيال ..
ــــ وماذا عنك ؟
ـ أرادوا ان يقذفوا بأثاث الغرفة التي تؤويني الى الشارع.. لولا قطرة الدم التي تجمعنا.. هل تفهم ما أقول ؟
ــــ لم اتوقع ان يصل بهم الجشع لهذه الدرجة ..
ــــ معنى ذلك انك ما زلت على نياتك ! تعال وتناول معي باقلاء واستكانة شاي..
يبتعد عزام قائلا بنغمة اعتذار :
ــــ ما عندي أدنى شهية .. الى اللقاء !
[ لقطات قريبة للصبي وهو ينحدر من درجات السلم مغادرا البيت ]
تلاشي
[ لقطة متوسطة لجسر مكتوب بالفحم على حافته ـ جسر الغربان . لقطة متوسطة لعزام وهو يتجه الى بيت عتيق الطراز تعلوه لافتة .لقطة كبيرة للافتة تقول ( دار رعاية المسنين ) . يبحث في ركن البوابة عن جرس يقرعه فلا يجده . يتجه الى الجهة المقابلة ويقتعد كومة من الأحجار . تخرج امرأة تنظره باستغراب هازة يدها في تساؤل عما يريده . ينهض متجها نحوها ]:
ــــ جئت اسأل عن جدتي .. انها امرأة كبيرة في السن ..
ــــ كلهن طاعنات في السن .. ما اسمها ؟
ــــ فاطمة ..
ــــ ليتك جئت في اول النهار .. لأنها غافلتنا وخرجت ..
ــــ ماذا افعل ؟
ــــ حاول ان تأتي غدا ولكن في وقت مبكر ..
ــــ هل يمكن ان توصلي لها هذا الكيس ؟
ــــ كيس؟
ــــ جلبت لها زجاجة ماء لقاح ..
ــــ هاته ..
[ يناولها الكيس ويأخذ بالابتعاد باتجاه الجسر.. يسمع صوت سنابك خيل. تعبر الجسر عربة يجرها حصان هزيل. يتوقف أمام دار الرعاية لاسعا الحصان بسوط خفيف]:
ــــ عزام ..
لقطة كبيرة لعزام وهو يغادر الجسر عائدا باتجاه العربة :
ــــ كيف عرفتني ؟
ــــ من أحاديث جدتك .. روت عنك حكايات ..
ــــ بحثت عنها في كل مكان ولم اجدها ..
ـ ركبت معي هذا الصباح وطلبت مني ان آخذها للكورنيش .. هي تحب نزهات الصباح على الشط ..
ــــ هل تذهب الى هناك كثيرا ؟
ــــ مرة او مرتين في الاسبوع .. انها تعشق تأمل الماء الجاري .. وحين تتعب تطلب مني ان اعود بها الى الدار ..
ــــ هل تذهب الى اماكن اخرى ؟
ــــ أين مثلا ؟
ــــ بيت الشناشيل .. بيتها مثلا ..
ــــ انها تسألني في كل مرة ان أوصلها للبيت وحين اسألها عن اسم المحلة تعجز عن تذكرها .. كل مرة هكذا .. احيانا تستيقظ ذاكرتها .. او هكذا يخيل إليها .. تذكر اسما فلا أدع شارعا ولا زقاقا الا ودخلناه وما من جدوى !
ــــ وإذا اصبتما بالارهاق ؟
ــــ نعود لدار المسنين .. وأحيانا تسألني ان أمضي بها الى ضفة شط العرب ..
ــــ لكي تشاهد المراكب ؟
ــــ لم تعد هنالك مراكب ..الزوارق فقط .. انها تجلس على صخرة غارقة في الماء .. تمكث هناك لساعات احيانا .. ذاهلة عن كل شيء .. تحط النوارس بجوارها ويتصارخ الصبية وهي لا تشعر ..
ــــ في اول الصباح ؟
ــــ ليس دائما .. أعالي الضحى هو وقتها المفضل لديها ..
ــــ هل تستطيع ان تأخذني اليها ؟
ــــ ليس قبل ان أريـح الحصان ..
ــــ سأكون سعيدا بلقائها ..
[ لقطات كبيرة لعجلات العربة وهي تقطع شوارع المدينة متزامنة مع قرع سنابك الحصان . لقطة لعزام وهو جالس في العربة يطل بوجهه من وقت لآخر . لقطة للمرئيات وهي تندفع الى الوراء في الوقت الذي تندفع العربة الى الامام] :
ــــ هل وصلنا يا عم؟
[ لقطة قريبة للعربة وهي تتوقف فجأة عند ضفة النهر . لقطات لاندسكيب لضفة النهر وأخرى للضفة المقابلة حيث الأفق . مقطع من اغنية ( صوت السهارى) لعوض دوخي. يلتفت الحوذي الى الوراء حيث عزام ] :
ـــــ ليست هناك .. مع ذلك جرب النزول عن طريق درجات المسناة .. احيانا تكون متوارية خلف الحاجز الاسمنتي ..
[ لقطة قريبة للصبي وهو يغادر العربة منحدرا عبر الدرجات الى اول الماء . لقطة متوسطة له وهو يدير رأسه للوراء ] :
ــــ لا أثر لها يا عمي ..
ــــ مستحيل .. انها لا تغير مكانها في العادة .. تمعن جيدا ..
ــــ انني افعل .. ولكن ! اين راحت ؟
ــــ غير معقول .. هل تحولت الى تمثال او جزء من صخور الشاطئ ؟ أخشى ان يكون المد قد جرفها ..على كل حال تعال لنمشط ضفاف الكورنيش بقعة تلو اخرى ..
[ لقطات مختلفة الزوايا والابعاد للعربة وهي تسير ببطء على امتداد الشاطئ دون جدوى . لقطة قريبة لعزام وهو يركب العربة ولقطة كلوز ــــ أب له وهو يلهث ] :
ــــ تعبنا !
[ العربة تبتعد متوغلة في احد شوارع المدينة ]
تلاشي
لقطة متوسطة للحوذي وعزام وهما يتناولان افطارا مؤلفا من شطيرة فلافل وشاي. ينهض الحوذي فجأة مدخلا قميصه تحت كمر بنطاله حاكا رأسه :
ــــ دقيقة .. نسيت المكان الأخير الذي يمكن ان تذهب اليه ..
ــــ اين ؟
ــــ تعال معي .. هيا اركب ..
[ تنطلق العربة في طواف جديد وبشكل متسارع الى ان تقترب من ساحة مسيجة تعلوها لافتة : كلوز أب للافتة مكتوب عليها : مقبرة الأطفال ] :
ــــ لقد اخبرتني جدتك اكثر من مرة برغبتها في ان تدفن في هذا المكان ..
ــــ غير معقول .. لماذا في هذه المقبرة المخصصة للصغار؟
ـــــ ما عندي فكرة .. لكن .. الآن تذكرت .. اخوها الصغير الذي كان سيصبح عمي الاصغر لو انه لم يمرض مدفون هنا ..
ــــ لعل كلامك صحيح .. كنت على الدوام أتصورها طفلة صغيرة ..
يخرج من بين القبور الصغيرة رجل قصير أشيب يحمل مجرفة [ لقطة قريبة له وهو يهز رأسه ] :
ــــ انا الحارس .. هل لديكما طفل ميت ام جئتما للزيارة كي أدلكما ..
[ الحوذي يتوقف هازا يده بالنفي ] :
ــــ لا لهذا الغرض ولا لذاك ...
ــــ اذن ؟
ـ جئنا نبحث عن امرأة عجوز [ يقرب يده اليمنى من رأسه خاضا اياها بطريقة اراد ان يوحي للحارس بأنها مختلة العقل ] :
ـ اعرف هذه المرأة تقريبا .. ولكنها لم تعد تأتي حتى ظننت انها ماتت .. [ لقطة قريبة له وهو يهز رأسه متأسفا ] :
ــــ يالها من مخلوق مسكين !
[ يلتفت الحوذي جهة القبور .. لقطة بان للمقبرة .. زوم لأحد القبور يعلوه بيرق اخضر .. لقطة كبيرة للحوذي وهو يشير للصبي ]:
ـــــ احترت في امر هذه العجوز .. ترى اين هي الان ؟
( لقطة لسرب من الطيور يحوم حول المكان )
ــــ هيا بنا نمضي لسبيلنا ..
[ الاثنان يركبان العربة التي تغادر المكان الى البعيد ]
تلاشي
[ لوحة من ثلاث كلمات تملأ الشاشة تقول : بعد عدة سنوات
. لقطة قريبة ليد تمسك فأسا تهوي بها على جذع نخلة الى ان تهوي محدثة دويا وعاصفة غبارية تعتم المشهد . لقطة اخرى لجذع النخلة وقد تحول الى قنطرة على جدول تعبرها السابلة جيئة وذهابا ]
اختفاء تدريجي
[ صوت سنابك خيل يبدأ خافتا ثم ما يلبث ان يتصاعد . تسمع اغنية صوت السهارى ثانية. تقترب عربة الحوذي من بعيد ]
قطع
[ لقطة كلوز اب لوجه فتى نائم يبدو عليه انه مستغرق في حلم او كابوس ].
خارجي
[ العربة وهي تقترب ]
[ لقطة زوم من سطح بناية للعربة المتوقفة ولقطة اخرى مقربة للحوذي وهو يلجم الحصان كي يتوقف . عزام جالس بالقرب منه وهو يلتفت نحو الحوذي مستفهما . الحوذي يهز رأسه بالنفي . تواصل العربة سيرها مبتعدة ]
اختفاء تدريجي
[ مشهد بانورامي لراجمات وصواريخ تنهمر كالمطر في سماء المدينة مخلفة دمارا كبيرا في ابنيتها ]
قطع
[ لقطات متنوعة للعربة وهي تخترق شوارع مدينة اشباح . تتوقف فجأة . ينزل عزام . هو الان شاب في مقتبل العمر . يغادر العربة متوجها الى جدار وهو يحمل حزمة اوراق وعلبة فرشاة . لقطة متوسطة لعزام وهو يلصق احدى الاوراق على الجدار . لقطة كلوز اب : / فقدت امرأة قصيرة القامة تميل الى البياض . تمشي على عكاز وتحمل بيدها حقيبة يد سوداء . الرجاء من يعثر عليها الاتصال بشرطة البلدة او مركز الدفاع المدني وله الأجر والثواب /
عزام يعاود ارتقاء العربة مومئا للحوذي بمغادرة المكان . يتعالى قرع سنابك العربة فيما تبتعد ليتلاشى شيئا فشئ ]
قطع
[ لقطات متسارعة لنساء يخترقن شوارع مكتظة بالناس . لقطة لعزام وهو يتمعن في وجوه ذابلة لمتسولات يقتعدن أرصفة متثلمة ويضعن امامهن صحونا او مناديل تتوسطها اوراق نقدية من فئات صغيرة مثقلة بالحصى . يهز عزام رأسه بالنفي وبإيماءة يأس ليدنو من العربة ويرتقيها فتنطلق الى البعيد متحولة الى نقطة صغيرة في آخر المنظور ]
قطع
منظر خارجي
[ عزام يقف امام هيكل بيت عتيق يبدو اشبه ببناء شبحي تخترقه شتى اصناف المركبات جيئة وذهابا . لقطة لعلم متهرئ مثبت أعلى البيت ]
لقطة قريبة لكتابات بالفحم على جدار البيت من بينها جملة مكتوبة بخط ردئ :
خرجت ولم تعد !
اختفاء
[ لقطة كلوز ـ اب ]
النهــايــة
المؤلف في سطور
- من مواليد البصرة 1947
- بدأ النشر في الصحافة البصرية والبغدادية اواسط الستينات
- خريج قسم اللغة الانكليزية ـ كلية التربية ـ جامعة البصرة 1969
- له ثلاث مجموعات قصصية : العين والشباك ـ الكويت ـ مطابع الرسالة 1985 ، الآن أو بعد سنين ـ بغداد ـ دار الشؤون الثقافية 2005 ، اتبع النهر ـ البصرة ـ اتحاد ادباء البصرة ـ ط1 ـ 2010 ، بغداد ـ دار الشؤون الثقافية ـ ط2 ـ 2013
- جوائز ادبية : جائزة ملحق جريدة الجمهورية 1966عن قصة ( شوك لا يخرق ) ، جائزة مجلة مرآة الأمة ـ الكويت 1984 عن نص ( الانطفاء ) ، جائزة ملحق جريدة الرأي العام ـ الكويت 1985 عن نص ( خيول البحر )
- يمارس الترجمة منذ اواسط الستينات . ترجم عددا كبيرا من النصوص الشعرية والسردية في الصحف والمجلات الادبية المحلية والعربية والعالمية . ترجم رواية ( اردابيولا ) للشاعر الروسي يفغيني يفتوشينكو ـ دار تموز ـ دمشق 2013 .
- مهنيا مارس تدريس اللغة الانكليزية في العراق ـ الكويت ـ الاردن ـ ليبيا بين 1970 و2009
- عمل في الصحافة الادبية في الكويت والاردن والعراق .
- يعمل حاليا كمحرر في احدى الصحف المحلية في البصرة .