في ثلاث نصوص قصيرة تلتقط الكاتبة الفلسطينية ظلال الحياة الحقيقية المختبئة خلف التكنلوجيا في الأولى –الصور- وهي تكشف ما يقف خلف صورة الشخصية المنمقة في وسائل التواصل الاجتماعي، وما يكمن خلف الاستسلام للقدر وظروف القسر في الحياة الاجتماعية العربية تحت عنوان –سنة الحياة-، وما يتجلى من تسامي لحظات ما قبل الرحيل على تفاصيل الحياة.

الصور وقصص أخرى

ميس داغر

الصُوَر

قبل العاصفة الشمسية التي أعادت البشر ألف عامٍ إلى الوراء، كان بوب وفيفي (اسماهما على الشبكات الإلكترونية) يعشقان صور بعضهما على الفيسبوك والإنستغرام. الصور المُعدة جيداً في إضاءتها وزوايا التقاطها، التي تُظهر النضارة، والأناقة، والاتزان وتشابه الذوق المفتعل بين العاشقين. الصور المُسقَط منها، بعناية ونية مسبقة، كل الاختلافات التي قد يكرهانها في بعضهما، مثل مزاج فيفي المتخبط، الكفيل بتشتيت أي حالة حب، وأنانية بوب التي يزاحم بها الوحوش الكاسرة.

بعد العاصفة الشمسية التي أعادت البشر ألف عامٍ إلى الوراء، أصبح باجس وتفيدة (اسماهما الحقيقيان) يُطالعان بعضهما وجهاً لوجه، من فوق بلاطتين جرداوين، عاريين إلا من وريقات شجرٍ يستران بها عورتيهما، دون أن يجدا من الورق ما يكفي لستر ما اعتادت ستره كاميرات الزمن الغابر. يجلس كلٌ منهما قبالة صاحبه، يحدجه بنظرةٍ ملؤها خيبة الأمل، ثم يشيح بوجهه عنه متنهداً بملل، ليس لديه ما يقوله.

 

سُنّة الحياة

اعتادت جامعة عالمية إرسال عدد من طلبتها إلى بلادنا لتعلّم العربية الفصحى والعامية. وكان أحد المترجمين مكلّفاً بمرافقة الطلبة إلى أماكن زياراتهم، لمساعدتهم وإرشادهم. وفي مرة، كان الطلبة في زيارة لحيّ شعبي، تقطعه الكثير من النسوة والأطفال جيئةً وذهاباً، ويتشمس جمعٌ آخر منهن مع أطفالهن على أرصفة شارعه. لفت نظر الطلبة أنّ عدداً كبيراً من النسوة، حتى من يبدو الكبر على وجوههن، يحملن أطفالاً في أحضانهن. فالداخل إلى الحي يُهيّأ له أنّ السماء تمطر أطفالاً، والأشجار تورق رضّعاً.

دخل الطلبة في حوارات مع النسوة، وقلّما احتاجوا إلى مساعدة المترجم، فقد كان لديهم مخزون لغوي جيد من العربية العامية. وقد ركزوا في تساؤلاتهم عن الأسباب التي تدفع هؤلاء النساء إلى إنجاب الكثير من الأطفال على الرغم من أنّ هذه المهمة وحدها بإمكانها أن تستغرق حياة المرأة من الشباب إلى المشيب. فكانت النساء المجعدة وجوههن، المريضات بالروماتيزم والضغط والسكري، يضحكن لدى سؤالهن ويُجبن: سُنة الحياة.

تفاجأ الطلبة بأنّ عديداً من النساء، وبخاصة صغيرات السنّ منهن، يحملن شهادات عليا في العلوم واللغات والهندسة، وأبدوا قدراً أكبر من المفاجأة عندما علموا أنّ معظم هؤلاء الخريجات لم يعملن في حياتهن قط، أو عملن أشهراً قليلة منذ وقت التخرج حتى إنجاب الطفل الأول. وعندما كانوا يسألوهن عن السبب الذي يدفعهن للتخلي عن طموحاتهن المهنية تماماً، من أجل التفرّغ لإنجاب قافلة الأطفال، كانت تجيب الزوجات الصغيرات بوجوه صفراء وابتسامات ذاوية مترددة: سُنة الحياة.

حاول الطلبة قدر إمكانهم عدم الاعتماد على المترجم. فكانوا كلما التقطوا مفردةً جديدة يتشاورون فيما بينهم، ويحاولون تخمين معناها من سياق الحديث مع الناس. وإذا ما اتفقوا على معنى مفردة ما، دوّنها كلٌ منهم في مفكرته الصغيرة. لكنهم كلما رنّت عبارة "سُنة الحياة" في مسامعهم، كانوا يظهرون قدراً من الارتباك.

خاف المترجم أن لا يكون المعنى الحقيقيّ لعبارة "سُنة الحياة" قد وصل إلى أذهان الطلبة الأجانب. فمال برأسه إلى أحدهم، وكان يابانيّاً بعينين تفيضان دهاءً، وفروة شعر ناشزة كجيش مسامير، وسأله في أذنه إن كان أدرك معنى العبارة.

فكتم الطالب الياباني ابتسامة ماكرة، وأجاب بحماسة: Yeah yeah”". ثم رفع مفكرته الصغيرة أمام نظارة المترجم مهجئاً له المعنى الذي دوّنه لـ "سُنة الحياة":

“It is the life of misery, that women used to consider it their normal life”.

 

عناية فائقة

مريضات السرطان الأربع المستلقيات على أسرّة العلاج في الغرفة نفسها، يتنافسن في المحافظة على صورهن المحترمة أمام بعضهن بعضاً؛ فعلى الرغم من أنهن أمضين حتى الآن ما يزيد على عشرة أيام مع بعضهن في الغرفة ذاتها من المستشفى، فإنهنّ يتحفظن حتى النخاع عن سرد تفاصيل حياتهن الخاصة، ويكتفين بإبداء ملاحظات بسيطة حول العلاج، والتذمر من الألم والإرهاق بين الفينة والأخرى.

وحدها أم فتحي، عاملة التنظيف في المستشفى، لا تتحرّج أبداً من بث لواعج قلبها كلما دخلت بأدوات تنظيفها الغرفة.

ترشق دلو الماء على الأرضية، ثم ترفع كفّيها إلى السماء تجأر إلى الله بالدعاء، وتستحلفه بحبه لنبيه وملائكته، وبما أنزل من البيان والحكمة، أن يسخط أبا فتحي ويقصف رقبته، فأم فتحي مؤمنة بأنّ الله يقف إلى صفها في دعواتها.

تحوس بالممسحة المبتلة بلاط الغرفة، وتتأفف من كل منغصات الحياة، وما أكثرها. تقشط الماء القذر عن الأرضية، ثمّ تتوقف لتتذمر من قلة راتبها، وتنفث قهر قلبها على أعضاء إدارة المستشفى فرداً فرداً، فتحرق من تحرق منهم وتلعن عمر الباقين.

تتبادل المريضات الأربع، في كل مرة تزورهن أم فتحي، الابتسام الهازئ مرة، ونظرات الازدراء مرات أخرى، ثمّ تعود كل واحدةٍ منهنّ، بعد خروج عاملة التنظيف، إلى التحديق في سقف الغرفة والحنين إلى طعم الحياة، بسكّرها وملحها، وشايها وقهوتها، وسرورها وعبثها، خارج أروقة المستشفى، فيطلقن التنهّدات العميقة. وتجدد كل واحدة منهن، في الوقت ذاته، نيتها المضمرة بالإبقاء على صورتها المحترمة أمام الأخريات.

 

وحدها تخرج أم فتحي من الغرفة بعد أن تنهي عملها، يبرد عرقها المتصبب فتمسحه بطرف منديلها المعقوص خلف رقبتها، وتستغفر الله مؤمنة أنه سينسى، كما هي تنسى، كل ما سبق. ثمّ تغذّ الخطى إلى مطبخ الشغالات لترتشف مع زميلاتها كاسة الشاي براحة بال وصحّة، غير عابئة أبداً بصورتها المُزدراة.