لم تتوقف الى اليوم حركة الشارع المغربي المتضامن مع حراك "الحسيمة"، بل امتد التضامن كي يشمل، دعم المعتقلين ومساندة "حق الشعب في التعبير عن رفضه لجميع السياسات اللاشعبية". يعاد طرح نفس السؤال، على المثقف المغربي، في خذلانه، وصمته اتجاه اتخاذ مواقف صريحة ومتضامنة مع مطالب المحتجين.

المثقف والحراك السياسي والاجتماعي

خصام أم مسؤولية: «نيران صديقة» بين أصدقاء الثورة

عبدالحق ميفراني

محمد برادة، عبداللطيف محفوظ، محمد اشويكة، خالد الريسوني، عبدالدين حمروش، منير الإدريسي.. يجيبون على سؤال الحراك ودور المثقف اليوم.

 

تقديم الملف:

لم تتوقف الى اليوم حركة الشارع المغربي المتضامن مع حراك "الحسيمة"، مدينة تقع شمال المغرب، بل امتد التضامن كي يشمل، دعم المعتقلين ومساندة "حق الشعب في التعبير عن رفضه لجميع السياسات اللاشعبية" .. صدى هذا الحراك، الذي انطلق كمسيرة احتجاجية ذات طبيعة اجتماعية ومطالب محددة ما لبتت أن تحولت الى حركة احتجاجية أمست تحمل شعارات سياسية تطالب بالتغيير والقطع مع الريع..، وجد صداه، ولو متأخرا نسبيا، في الوسط الإعلامي وداخل فضاءات الوسائط الاجتماعية. يعاد طرح نفس السؤال، ويوجه نفس الاتهام الى المثقف المغربي، "في خذلانه، وصمته اتجاه اتخاد مواقف صريحة ومتضامنة مع مطالب المحتجين". بل ذهبت بعض الآراء، الى تحميل المسؤولية الى المثقف المغربي، هذا في وقت تراجع فيه السياسي الى الخلف.

الحراك الاحتجاجي الأخير، أعاد مفهوم الحركات الاحتجاجية في المغرب الى الواجهة. فهذا البلد الذي راكم وعبر سنوات طوال، جزء مهما من النضالات والمسيرات والحركات السياسية والحقوقية، غير مفهوم "الاستثناء" بل وأعاد مفهوم المصالحة، التي رسختها السلطة في المغرب مع الشمال، الى واجهة الأسئلة. ومع ظهور أي أزمة سياسية أو قيام حركات احتجاجية، يتم تحميل المسؤولية للمثقف المغربي ومطالبته الخروج من حالة الصمت.. كما لوحظ تغير نسق الحركات الاحتجاجية في المغرب، مما يستدعي الأمر مراجعتها ومقاربتها سوسيولوجيا، هذا في الوقت الذي لازالت فيه الدولة تكرس منطقها الخاص في التعامل السياسي..

لقد اعتبر الباحث جليل طليمات، أن الحراك اليوم في المغرب هو "استئناف للخيار النضالي السلمي لحركة 20 فبراير ضد الفساد والاستبداد ضمن معطيات سياق سياسي جديدة لما بعد "الربيع العربي" إنه تعبير سلمي حضاري بسقف مطلبي لا يتغيا غير ما يطالب به الشعب المغربي من مطالب ترتبط برفع مختلف أشكال الحيف والتفقير والحرمان من الحقوق الأساسية..". اللافت في النموذج المغربي اليوم، هو ظهور مقولات جديدة خارج سياق الزمن النضالي للحراك، إذ بدأت تواجه هذه الحركات ب(التخوين والانفصال، التشيع، التحريض..) وهي انزلاقات يرى الباحث طليمات ضرورة تجاوزها لأنها ستؤدي بلجوء الدولة إلى الخيار الأمني. أما الشاعر طه عدنان فيعتبر أن ما يحدث اليوم من حراك اجتماعي، هو نتيجة ومآل ل"تنصيب حكومة "خُدّام الدولة" الفاقدة للمصداقية"، ليظل الحل مرتهنا في رأيه ما بين استثمار "الدولة في البناء الديمقراطي واحترام إرادة الناس تؤصِّل للتدافع من داخل المؤسسات المنتخبة، أمّا حين تستثمر في الوصولية والانتهازية والجهل.."، والمطلوب اليوم في رأي الشاعر طه عدنان هو "إبداع صيغةٍ جدّيةٍ يُنتدَبُ لها فاعلون حقوقيون ونقابيون واقتصاديون وجمعويون وثقافيون ذوو حدٍّ أدنى من النزاهة الفكرية والاستقلالية السياسية والمصداقية الأكيدة للعب دور الوساطة بين الدولة والمجتمع.. مع أنّ المصالحة الشاملة لا تتمُّ إلا عبر إرساء دعائم الديموقراطية والعدالة الاجتماعية واحترام إرادة الشعب باعتبارها الضامن الوحيد للاستقرار والإسمنت الضروري لبناء صرح العيش المشترك..".

وبعيدا عن النموذج المغربي الصرف، كيف يتم تعامل المثقف مع أي حركة نضالية، سواء ذات طبيعة سياسية أو اجتماعية أو حقوقية؟ الى أي حد كان المثقف في مقدمة أي حراك اجتماعي وسياسي في الدول العربية، ومنها المغرب؟ وكيف يرى المثقف هذا التحول اليوم في ظل تسارع الأحداث السياسية التي يعرفها العالم العربي والغربي؟ كيف تظهر مسؤولية المثقف مباشرة في التموقف المبكر من هذه الحركات؟ كيف يمكن قراءة هذا المشهد اليوم في المغرب، مثلا على ضوء الحراك الأخير التي شهدته الحسيمة، خصوصا عندما تختلط مفاهيم "المواطنة" و"العلم" و"المقدسات" و"الوطن" و"التخوين"؟

هنا آراء مجموعة من المثقفين المغاربة، حول الحراك ووظيفة المثقف، تحاول أن تقربنا من صورة مسارين يسعيان الى "الثورة"، كل من منظوره الخاص.

 

الكاتب محمد برادة: المثقف أصناف واتجاهات متباينة في الانتماء الفكري والايديولوجي
درجت الصحافة ووسائط الإعلام عندنا، كلما وقعت أحداث لافتة، أن تطرح تساؤلات عن "غياب" المثقفين وكأنهم وحدهم مَنْ يملكون حلولاً لمشكلات مجتمعهم. والحال، أن المثقفين لا يتوفرون على مؤسسة تجمعهم وتنشـر رأيا واحدا يمثلهم، بل هم أصناف واتجاهات متباينة في الانتماء الفكري والإيديولوجي، ومنهم من يساند الدولة والمخـزن (أي الدولة العميقة بمـمارستها العتيقة)، ومن يساند المجتمع المدني والتطلعات إلى بناء نظام ديمقراطي,,, ونتيجة لذلك، قلما تهتم الصحافة بـمراجعة كتابات المثقفين ومواقفهم من أحداث وانفجارات حصلت في الماضي القريب أو الأبعد، وكانت لها أسباب وعواقب متشابهة مع ما نعيشه اليوم. وإذا كنا نقصد بالمثقف المناضل الواعي المتملك لرأي في الفكر السياسي، فـإن عددا كبيرا منهم يوجدون في الأحزاب والجمعيات، ومواقفهم تابعة لهذه المؤسسات المدنية والحكومية، ومن ثم فهم ليسوا غائبين أو صامتـيـن. أما فئة المثقفين الذين لهم القدرة على الكتابة والتحليل، فإنهم يكتبون وينـشـرون، منذ عقود وعقود، لكن صوتهم لم يعد يصل إلى الرأي العام ولا إلى الساسة والحاكمين، لأن هناك "طــلاق" بين الـثقافي وَالسياسي نتيجة لاختلافات جوهرية، منذ طُـرحت مسألة الديمقراطية وبناء مجتمع منصف، عادل، ما جعل أصحاب الـحـل والـعقد يـعرضون عن آراء المثقفين وكتاباتهم...

من الطبيعي أن يلجأ المجتمع إلى أشكال جديدة للمطالبة بحقوقه والاحتجاج على سياساتٍ، منذ الاستقلال، لم تنجح في أن تضع قـطار التـنمية والتعليم والتشغيل والصحة...، على السكة الصحيحة.

وهـو تـحول طـبيعي وفــعال، لأن الأحزاب لم تستـطع الاضطلاع بوظيفتها المتـمثلة في تـرجمة تطلعات مجتمع الأغلبية، وانتـقاد السلطوية والوصاية الفوقية، والحرص على تطبيق الديمقراطي تطبيقا مـنصفا للفقراء والمعوزين، ومُشــرِكـا لـقوى الشباب في بناء مؤسسات تـبـتـكـر وتـمهّــد لمستقبل أفضل. وهو أيضا تحول ضـروري لأن المخزن يـعوق تطبيق الديمقراطية ويـستــفـرد بالسلطة، ويعمل على تـدجيـن الأحزاب. لذلك لم تعد هناك "وسـاطة" بين الجماهير ومؤسسات الدولة، وأصبح وجود الأحزاب مثل غيابها، فـفقـَـد المواطنون الثقة ولجئوا إلى الـحراك...

اتـخاذ موقف مبكر من لـدُنِ المثقفين، لا يـحلّ المشكل، لأن الماسكين بالسلطة لا يعيرون وزنا لصوت المثقفين، ولأن الأحداث والمشكلات عندنا لا تـرافقها الشفافية والمعلومات الدقيقة؛ ومن ثم لا بد من فترة زمنية حتى تتضح بعض معالم الأحداث وخلفياتها؛ وليس من المجدي أن يبادر المثقف إلى الإدانة والكلام وهو لا يـتوفر على عناصر تُـفــيــدُ في التحليل وتعميق النقاش,,,

الحراك في الحسيمة يـنـطوي على أبعاد "تاريخية" إلى جانب السياق الظرفي المتصل بـإهمال الدولة لمطالب مشـروعة تتصل بمقومات العيش والتعليم والصحة... ومن ثم، تكتسي أحداث الحسيمة طابعا "مُـركــبـا" إذ هناك الجرح القديم، خاصة منذ أخطاء الحسن الثاني وهو ولي للعهد، وموقف تجاهل الدولة لتجربة ثورة الريف ضد الاستعمار على يـد محمد بـنعبد الكريم الخطابي...وعلى رغم وجود مبادرات إيجابية تجاه الحسيمة في عهد محمد السادس فـإن مسار تلك المبادرات اصطــدم بـعقلية المخزن ومـنطق الـسلطوية والمراهنة على ربح الوقت. وقد تـبين أخيرا، أن مطلب إنشاء مستـشفى للسرطان، سـبَـق أن استجاب له الملك، وبُـنـيَ في عهد وزير الصحة "بـيَـدِ الله" سـنة 2005، لـكن المسـتـشفى "اختفى" أو تـلاشى، حسب ما كشفه مشـرف على برنامج للحوار في القناة الأولى. والواقع أن حراك الحسيمة يكشف عن وجود بـ"الـقوة" لـحراكات مماثلة في مناطق أخرى من المغرب. ذلك أن "الداء" الذي يـتهدد المغرب كثيرا ما يتم تجاهله، وهو يتمثـل، أساسا، في استفحال الفوارق الطبقية والاقتصادية وتدهور التعليم...

 

الناقد عبد اللطيف محفوظ: الأحزاب السياسية لا تعير المثقف اهتماما
من الصعب أن نحكم على المثقف المغربي، أو حتى على الكاتب المغربي، بأنه غير معني بما يجري بوطنه أو بالعالم العربي وقضاياهما المصيرية. كما أنه من الصعب عده غير مشارك في السجال، وبناء الأفكار، لأن الأمر نسبي. نسبي من جهة الفعالية، ومن جهة كم ونوع المشاركة. يبدو لي أن التعميم مجحف، لأن هناك مثقفين وكُتابا ينخرطون بأشكال مختلفة في السجالات (النقاشات)، في حين أن هناك أغلبية لا تشارك، أو أنها تعبر عن مواقف مقتضبة وعابرة بشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، أو الرسائل الآنية. بيد أنه من الملاحظ، بناء على التحفظ السابق، أن الكتاب ذوي الرأي ينقسمون إلى ثلاث فئات: الأولى تزعم أنها حكيمة، وتكتفي بتشخيص منمق جاهز، لا يختلف عن تشخيص الصحافة، وهو تشخيص يعيد كل حراك إلى احتجاج مشروع على سياسات الدولة اللاشعبية، وإلى سيادة الفساد في أغلب المجالات.. والملاحظ أن هذا التشخص يعود إلى أفكار سطحية، لا تقوم على معرفة بالتاريخ، وبآليات إنتاج القرارات السياسية، إضافة إلى كونه يرتهن بالوضعية الاقتصادية والسياسية الراهنة للدولة، في تفاعلها مع الإرغامات الدولية. ولا يعني ذلك، بالضرورة، وفي كل الأحوال، أنها تحليلات زائفة، فقد تكون صائبة لكنها بدون عمق يساهم في تنمية وعي الجماهير المشاركة في الحراكات، أو المتعاطفة معها.. إن خطورة هذا الصنيع، الذي يغري الأغلبية، من أجل تسجيل اسمها ضمن المنتمين لقضايا العامة، التي ينتمون إليها بحكم مستوى عيشهم، تكمن في مضاعفة حس غامض لدى الجماهير بأنها مظلومة، ومن ثمة تتعالى على كل الشروط الموضوعية، وترفع سقف المطالب التي تقتضي السحر وليس القرارات..

وفئة تساهم في النقاش، انطلاقا من الوعي بالتطور التاريخي للمجتمع، وبتدبير السلطة للشأن العام، وبحقيقة تصورات المؤسسات الحاكمة والوسيطة المتمثلة في الأحزاب والنقابات والجمعيات الكبرى، وأيضا بالقضايا الثقافية واللغوية، وبالسيكولوجية الاجتماعية غير المتوازنة.. وهي فئة قليلة تحاول تجاوز الموضوعات المباشرة الماثلة في المطالب المرفوعة من قبل متزعمي الحراك، لكي تنتقل إلى محاولة فهم الموضوعات الدينامية لكل حراك، أي الأسباب الحقيقية العميقة، فتعمل على الحفر في أصل السياسة التي أفرزت الاختلال الذي أصبح مناط المطالب. ولعل من بين نماذج هذه الدراسات، في الآونة الأخيرة، تلك التي تبحث، مستحضرة الظرفية الخاصة والعامة، في الثابت والمتحول في سياق تعامل الدولة مع أشكال الحراك ميدانيا وإعلاميا وأيديولوجيا..، وفي الثابت والمتحول الذي يطول محركي الحراك، وأسباب التحول من حراك تقوده قوى سياسية شرعية ذات تمثيلية فكرية واجتماعية، إلى قوى تنكر المؤسسات وتدعي، موقنة أو مدعية، أنها صوت الشارع، وكيف أن المنطق المتعالي عنها، يفرض عليها زعامة غير متمرسة، وغير مسلحة بتصور واضح، الشيء الذي يربك التوافق في ظل العقل الموضوعي.. إن مقاربات هذه الفئة أكثر موضوعية، وهي الأقدر على المساعدة في إنضاج الحلول الفعالة، الآنية والمستقبلية، التي من شأنها أن تجعل الحراك إيجابيا لجميع مكونات الدولة، السلطة والمؤسسات الوسيطة، والمواطنين.

أما الفئة الثالثة فصامتة تقريبا، لأن بعضا منها يدرك أن تأثيره غير فعال، لأن القرار ليس بيد المثقف أو الكاتب، بل بيد السياسي الذي ليس من الضروري أن يكون مثقفا أو كاتبا. ذلك أن التجربة السياسية أثبتت، لحد الآن، أن الأحزاب التاريخية الكبرى (حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي على سبيل المثال لا الحصر) كانت تضم فئة من أبرز المثقفين والمفكرين، الذين كانوا يهندسون البيانات الثقافية لأحزابهم، لم تظهر أسماؤهم في التشكيلات الوزارية التي شاركت فيها أحزابهم. وذلك دليل قاطع على أن الأحزاب نفسها لا تعير المثقف أهمية.. وبعضا آخر يدرك أن الخوض المتعجل في حراكات عابرة يُعَدُّ مجرد دعم أو تقويض غير مبني، لأن ذلك يستدعي وقتا للتأمل والفهم..، ويقتضي التعرف على الخفي الذي ليس بمكنة المثقف أن يحدس به..

 

الناقد السينمائي محمد اشويكة: تدخل الدول العربية بالغ الأثر في إضعاف المثقف لأنها تهابه بشكل مفارق
تغيرت أدوار المثقف بشكل جذري بفعل التطورات المتوالية التي لحقت المجتمع المغربي، وكذا بالمسؤوليات التي صار يتحملها؛ إذ لا نكاد نعثر على مثقفين متفرغين لمشاريعهم الثقافية، وبالتالي، فغالبيتهم تدور ضمن دائرة طاحنة لا تترك للبعض منهم هوامش كثيرة لبلورة أفكار ذات طابع عمومي "
Public" من شأنها أن تسهم في تغذية الوعي العام بما يحتاجه من أجوبة تخص الممارسة الاجتماعية والسياسية والحقوقية. وهكذا، نجد طفرة على مستوى المشاريع الفردية التي تنتصر للعلمية والموضوعية، ولكنها تسعى للفهم أكثر من أي شيء آخر. أعتقد أن أهم مشكل يجعل المثقف في معزل عن مجتمعه الصغير (القُطْرِي) والكبير (العربي) هو اشتغاله داخل مجتمع الأميين، وضعف التكوين لدى فئة عريضة من المتعلمين. هؤلاء يعاكسونه ويهدرون وقته، ويسفهون مشاريعه قبل أية جهات أخرى، ولذلك فظهوره يتم من خلال مشروعه الفكري أو الثقافي أو الإبداعي أو الفني (لا أقصد الفنون الجماهيرية) الذي يجعل اسمه متداولا بين النخب، ومنفصلا عن الناس، غَيْرَ مُؤَثِّرٍ فيهم.

بالرغم من قدرة المثقف، اليوم، على إيصال صوته إلى أكبر عدد من الناس عبر مختلف الوسائل التواصلية الراهنة، والتي تشكل التكنولوجيا أُسَّهَا إلا أن أنواع التفكير الأخرى المضادة مَيَّعَت كل شيء بفعل بروز أشخاص يَدَّعُون التخصص – ويتحدثون في كل شيء - تحت يافطات عدة ("رجال دين"، "دعاة"، محللون، مؤطرون، مدربون، "كوتشينغ"...)، ولذلك فالمثقف لم يعد بِمُكْنَتِه التدخل في كل شيء بحكم الطابع العقلي والنقدي للممارسة الثقافية، وكذا بالعمل الوظيفي التراكمي الذي ينجزه داخل المجتمع. إلى زمن غير بعيد كان ينزل كبار الفلاسفة والمفكرين الملتزمين من أمثال برتراند راسل وجون بول سارتر وغيرهما إلى الميدان لقيادة الجماهير وتوجيهها، ولنا في سقراط خير مثال على مر التاريخ من حيث القدرة على قول الحقيقة ومواجهة الجماهير داخل الفضاء العمومي الذي كان يحتكمه الصراع الفكري ولا تتحكم فيه أية أجهزة بعيدة عن دوائر وآليات الحجاج.

كان لتدخل الدول العربية بالغ الأثر في إضعاف المثقف لأنها تهابه بشكل مفارق: تريده ولا تريده، تستمع إليه وتنفر منه.. ومن الانعكاسات الوخيمة لذلك ظهور أصوات غريبة تستطيع التأثير بسرعة في الناس، بسيطة التفكير، مندفعة، لا مرجعية لها، شعبوية، متناقضة، "مبادئها" مهتزة، لا تعترف بالحوار.. وغالبا ما يؤدي الصراع معها إلى التصادم أو العنف ضدا على آليات التفاهم والتسامح والعقلنة والتعايش التي يميل إليها خطاب المثقف، ولنا في "الحِرَاكَات العربية" خير دليل، وفي جُزْءٍ من خطاباتِ "حراك الريف" ما يشخص الحالة بكل وضوح. فها نحن في مواجهة التقوقعات الجهوية أو الإثنية أو الدينية أو الطائفية أو الدعوات الانفصالية أو المفاضلة بين الداخل والخارج أو بين أبناء الوطن الواحد ضدا على الوحدة الوطنية وإنتاج خطابات إنسانية، فهل أنتجت الثورات والحركات التحررية الكبرى التفرقة وتركت لنا مصطلحات ومفاهيم شعبوية أكثر مما أنتجته الحراكات العربية؟!

ما يثير الانتباه في مثل هاته الحراكات، وما يفاجئ فيها، ويدعو إلى كثير من التأمل، هو بروز أشخاص يدعون الاستقلالية، وبأنهم ليسوا مؤطرين إيديولوجيا وسياسيا، وغير ممولين ماليا، ولكن قدراتهم التنظيمية واللوجيستية والتوجيهية والتأثيرية تطرح ركاما من الأسئلة: كيف يستميلون الناس؟ هل الحرمان الاقتصادي والاجتماعي كفيل بدفعهم نحو ممارسة السياسة دون وعي مسبق؟ هل تستطيع الانتفاضات العفوية أن تدوم لشهور وشهور؟ هل يمكن أن نفهم "الزعيم" خارج سياق الممارسة السياسية؟ هل كل حراك اجتماعي "عفوي" و"ساذج"؟

أعتقد أن المثقف المتسائل، الشكاك، الناقد والمنتقد، لا يمكنه أن يتفاعل بسهولة مع موجات الاحتجاج بدعوى أنها صدى لما هو اجتماعي واقتصادي دون أن تكون له لبوسات سياسية واضحة مهما ادعى القيمون عليه، فالسوسيولوجيا وعلم النفس الاجتماعي يمكنها أن تفكك مثل هاته الظواهر لمحاولة فهمها ضمن سياقها الداخلي والجيوسياسي خاصة إذا كانت تحتمي بالسلمية، وتطمح للتفتيت والانقسام، والمعلوم أنه لا رغبة للنظام الدولي الجديد في صعود منافسين اقتصاديين في مناطق استراتيجية كالمغرب. وعليه، فالخروج من عنق الزجاجة يتطلب معالجة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية للحد من الفوارق التي فضحتها وسائل التواصل الاجتماعي بشكل يذكي على الانتقام والانتفاض، والعمل على جعل المؤسسات عاكسة لهموم الناس وإرادتهم، وليست فوقية أو جبرية.

لا يمكن للمثقف أن يميل لمناصرة الظالم كما لا يمكن أن يشجع على العنف، إنه شخص يناصر الحق ويدافع عنه بطريقة عقلانية وسلمية إلا أنه لا يُمْكِنُ أن يتهافت بشكل متسرع وراء حاملي الشعارات التي قد تحمل في طياتها مفردات وعبارات تصنيفية وعرقية لا يمكن للمثقف أن يتبناها؛ إذ سرعان ما يستبطنها العقل الجمعي وتصير منه، فتتحول مع مرور الوقت إلى واقع، ولنا في تاريخ التحولات المغربية ما يكفي من النكت والإشارات القدحية تجاه بعضنا البعض: قد تمر عبر الضحك، ولكنها تلخص وعيا يتسم بالسلبية للأسف.

ما هو مطلوب اليوم من الدولة، هو تحرير طاقات المثقف، وتشجيع البحث العلمي في مجالات العلوم الإنسانية والفنون لكي تكون جهوده بوصلة لاتخاذ القرارات واستباق الحلول قبل التفكير تحت الضغط وأثناء الأزمة.. هكذا، فلابد من الإشارة إلى أن الحديث عن مفهوم المثقف ملتبس في مجتمعنا، فهو ليس كل حامل لشهادة ولا هو من التكنوقراط، بل ذلك الذي له خلفية معرفية كبيرة ومتنوعة تسعفه في إدراك العَالَم من حيث القدرة على فهمه، ومعرفة طرائق تنظيمه واشتغاله، والذي يمكن لمعرفته تلك أن تساعد الآخرين على فهم العَالَم أيضا.. وهنا لابد من التركيز على الدور التوعوي الذي يمكن أن يقوم به هذا الشخص ضمن شروط تضمن له الاستقلالية في البحث والإنتاج والرأي لترويج معرفته ومواقفه داخل مجتمعه دونما الخضوع لأية رقابة مسبقة من شأنها أن تضايقه وتعيق وصول فكره للآخرين. فإذا كان صوت السياسي والمتحزب والنقابي مختنقا أو مدجنا فكيف سينفلت المثقف؟!

 

الشاعر والناقد عبدالدين حمروش: حراك الريف والحاجة إلى إصلاحات جذرية
من الحكمة أن تهدأ الحسيمة الآن، بعد أن أعلنت عن مطالبها الاجتماعية، بقوة الاحتشاد في المسيرة الأخيرة. لا ينبغي أن تنسى الحسيمة، وهي تشهر دفتر مطالبها، أن هناك مناطق أخرى في المغرب أسوأ منها حالا، على أكثر من صعيد... في الدار البيضاء، وسطات، وخريبكة، وطاطا، وبركان، وطرفاية، وسيدي قاسم، إلخ. لقد نجحت المسيرة بالتنبيه إلى حاجات محددة، وبخاصة بناء المستشفى المأمول لعلاج أمراض السرطان، وغير ذلك.

كما أنه ليس من العقل، بالنسبة لجميع أهلنا في الحسيمة، استمرار "الآحاد" منهم في محاولة "كسر العظم": المغرب مغربنا في نهاية المطاف، وهو واحد بالنسبة لجميع مواطنيه. أما الدولة، فينبغي لها أن تقترب من المواطنين، بالاستباق إلى تلبية حاجاتهم. هناك بؤر جد هشة في البلاد، وفي أية لحظة يمكن أن تنفجر، نظير ما يقع بالحسيمة اليوم. إضافة إلى ذلك، ينبغي لعقل الدولة أن يستوعب أن مسيرة ديمقراطية، بمؤسسات ديمقراطية تمثيلية حقيقية، يمكن أن تشكل أهمّ "بارشوك" لصدّ الكثير من الارتجاجات الاجتماعية.

إن "الحسيمة" ليست قضية "الريف" بمفرده، وإنما هي قضية المغرب بشكل عامّ. ها هنا، تبدو أهمية أن يكون للحراك نتائج إيجابية، على سكان الريف وعلى المغاربة جميعا. ولذلك، ليس بوسعنا غير الحرص على نجاح الحراك، في إطار ما يمكن أن يتمخَّض عنه من دينامية إصلاحية جذرية. كلما بدأت الدولة تهن وتشيخ، بفعل تمكُّن البيروقراطية والانتهازية والاستبداد، إلا وقُيِّض لها "من" يجدد لها حياتها، ويبعث فيها الأمل: الأمل في حياة مواطنية جديرة بالمغاربة قاطبة.

ليست هناك قراءة وطنية أخرى، لا تلتقي مع بعض أو كثير مما سلف من أفكار وملاحظات. وإذ من عادة المرء (المواطن) استهجان كل خطاب حول "الوطنية" مغلق، إلا أن بعض الإشارات والتصريحات الواردة من ساحة الحراك بالحسيمة، لا شك في أنها تستدعي غير قليل من الحذر والتوجُّس. ولعل في مقدمة تلك المؤشرات والتصريحات، غياب رفع الأعلام الوطنية، بمحاذاة الأعلام الجهوية (الثقافية)، إلى جانب "خرجة" أبرز وجوه الحراك، في سياق وصف "شريك" في الوطن بـ"الاستعمار العروبي".

لقد عاش المغرب أكثر من حراك، في أكثر من مدينة. والمفارقة أنه لم يكن لأحد الجرأة في "تحفيظ" هذا الحراك أو ذاك باسم هذه الجهة أو تلك. إن أية قوة لحراك الحسيمة، إنما تنبع من أهمية الجمع بين الدعوة إلى تلبية مطالب أهلنا بالريف الاجتماعية والثقافية، والدعوة إلى تدبير سياسة عمومية ديمقراطية عادلة.

إن مغرب ما بعد 20 فبراير ليس هو مغرب ما قبله، وبخاصة في ظل انتشار وسائل الاتصال الحديثة، وقدرتها الكبيرة على التحشيد الجماهيري. ليست لنا جنسية أخرى، غير المغربية... في بلادنا نحيا وفيها نموت...لذلك، اتركونا نعِشْ بسلام.. ويبدو أن أول خطوة إلى السلام، تبدأ بالحفاظ على جمرة المعنى في هذه البلاد: المعنى في ممارسة المواطنة، المعنى في مزاولة السياسة، المعنى في تقاسم خيرات البلاد، المعنى في الحياة بكرامة.

ظل اليسار يجتذب النخب الثقافية، داخل المغرب وخارجه، بحكم القيم المثالية التي ظلت تشكل هويته. ذلك أن الانتصار إلى فكرة "الإنساني"، علاوة على فكرة "العدالة الاجتماعية"، جعل معظم تلك النخب الثقافية تنحاز إلى صف اليسار. في اللحظات التاريخية الصعبة، التي تتسيّد فيها السلطة على إرادة المواطن وحقوقه، غالبا ما كان النظر يتجه إلى "المثقف"، للوقوف في وجه هذه السلطة المستبدّة. والواقع أنه كثيرا ما كان البعض يبالغ في "حجم" السلطة الرمزية، التي يمكن أن يمتلكها المثقف لمُناكفة السياسي/ صاحب السلطة المادية. أتصور أن، في هذا الإطار، نشأت تلك المفارقة الجدلية بين "الثقافي" و"السياسي"... وقد عشنا، في مغرب الستينيات والسبعينيات، جزءا من النقاش حول طبيعة العلاقة بين الطرفين.

من جهة أخرى، إن كان هناك من فكر، يمكن أن يلائم المثقف لممارسة "حقيقته " الثقافية، فهو فكر اليسار، باعتباره حضنا للقيم النقدية (الجدلية، النسبية) . ومن الطبيعي القول، والحال على هذا النحو، بأن ليس هناك مثقف يؤمن بالجاهز من الأفكار/ المعتقدات، ضدا على ذاك "المثقف" المُتشكك والقلِق داخله.

المناسبة تستدعي، هنا، الإشارة إلى أن معظم قادة اليسار كانوا من كبار المثقفين، بالصورة التي اندمج فيها البعد الثقافي بالبعد النضالي (الاجتماعي) اندماجا عجيبا. من ناحية أخرى، أولى اليسار عناية كبيرة بالمثقف، إيمانا بالدور الذي يُفترض أن يضطلع به داخل المجتمع. لا يمكن تصور نهضة اجتماعية- اقتصادية، في هذه الحالة، في غياب نهضة ثقافية. التماهي بين "الثقافي" و"الاجتماعي"، كثيرا ما أدى بمثقفين يساريين كبار، من قبيل أنطونيو غرامشي، إلى الاعتقال في السجون سنوات طوالا.

 

المترجم خالد الريسوني: هوامش بصدد الحراك والتنمية وأشياء أخرى
إن المثقف المغربي -والكاتب والشاعر والناقد باعتبارهم جزء ضمن هذه الفئة- معنيٌّ بكل ما يحدث في وطنه، يجب أن يكون منذ البداية في صلب الأسئلة والنقاشات التي تؤطر وتوجه مسار الحركات الاحتجاجية السياسية منها والاجتماعية حتى لا ينعزل عن المجتمع الذي ينتمي إليه، وحتى يساهم بشكل فاعل ومسؤول فكريا في رسم المسارات والاستراتيجيات التي يجب أن تصل إليها هذه الاحتجاجات وهذا الحراك، قد يشعر المثقف -الكاتب والشاعر والناقد- أن الخيارات المهيمنة تتجاوزه أو تحت السقف الذي يراهن عليه، لكن ذلك لا يمنعه من التموقف سلبا أو إيجابا من النقاشات الدائرة، بما في ذلك الحق في إصدار بيان أو موقف، حتى وإن كان أحيانا محرجا لذاته أو لغيره، أنا أعي جيدا أن تخوف الكتاب والشعراء مبرر لأن كل هذه الورشة تؤدي غالبا إلى خطاب التخوين والنعت بالتخاذل والاستسلام والانهزامية التي يبرع فيها المتقمصون للأدوار السياسية وللزعامة، وهم المزايدون الذين ينتهزون الفرصة للتصعيد ولإبراز أصواتهم الثورية المفرطة في ثوريتها، وإن كان رهانها "الثوري" كلما أفرط في التصعيد كلما اقترب من الأبواب المسدودة.

إن المغرب السياسي والثقافي يتجاوران بشكل حتمي، ومن تم فنحن معنيون مباشرة بأسئلة مجتمعنا لكن أحيانا تكون هناك حراكات تُسيِّج منذ البداية الفضاء وتعلنه مجالا محرما إما بإلباسه ثوبا قبليا أو إثنيا أو دينيا أو إقليميا يصعب معه على المرء، مثقفا كان أو غير مثقف، أن يدافع عن برنامجه، بل يصير الانزلاق في الدفاع عنه قاتلا على المدى القصير والبعيد، فأنا لا يمكن أن أدافع عن برنامج قبلي أو إثني أو ديني يكون موجها ضدي، يصنفني أنا وغيري في لوائح تشبه لوائح الغيستابو، وينعتني بأبشع النعوت مثلما حدث مع خطاب لأحد زعماء الحراك في مدينة الحسيمة، عندما اعتبر أحد المكونات الأساسية للمجتمع المغربي وهو المكون العروبي مجرد استعمار، فالعربُ غزاة ومستعمرون، بل إنه وصف هذا الاستعمار -على حد تعبيره- باستعمار أبشع من الاستعمار الإسباني، علما أن هذا الأخير قصف المنطقة بالغازات الكيماوية للقضاء على مقاومة الريف بزعامة محمد بن عبد الكريم الخطابي، نحن لا نرغب في خطاب مثل هذا، ولذلك كان من واجبنا كمغاربة أحرار وشرفاء مستقلين عن كل الجهات الرد عليه بهدوء، مبرزين مزالقه الخطيرة التي تستغلها الدولة من جهة لتنعت الحراك بالانفصال، ولتجد كل المبررات للتدخل ميدانيا بالقوة القمعية مبررة ذلك بالدفاع عن وحدة البلاد، بل وتجد دعما كبيرا من فئات واسعة تؤيدها في سياسة قمع المتظاهرين السلميين وسن القبضة الحديدية من خلال اعتقال النشطاء وإصدار أحكام جائرة ضدهم، ويمكن لمثل هذا الخطاب أن يُستغل من طرف جهات أخرى لتأكيد على هشاشة وحدة المغرب وشعبه، ومن تم يصبح للجميع الحق في أن يطالب باستقلاله وتقرير مصيره، عدا أن مثل هذا الخطاب تحث على الحقد والكراهية والتناحر بين مكونات الشعب الواحد، وهو ما لا يخدم في شيء برنامج المطالب التي تم رفعها في البداية والتأكيدات على أن الحراك ليس له هدف انفصالي، هنا تكمن خطورة مثل هذا الخطاب... إن الحديث مثلا عن الأمازيغية والاستعمار العروبي يغفل جانبا مهما وهو أن الشعوب التي عبرت هذه المنطقة متعددة لدرجة استحالة الحديث إثنية خالصة إلا من باب محاولة دعم الحضور الثقافي لمكون أساسي ما من مكونات الهوية المتعددة لمغربنا الحالي، فليس كل من يتكلم اللغة الأمازيغية ويحتضن العادات والتقاليد الأماريغية أمازيغي الإثنية، لأن اللغة والثقافة بما فيها العادات والتقاليد المتوارثة ترتبط بمفهوم الاكتساب وليست طبيعية في الإنسان... إنها متاهة حقيقية عندما يلمس الحراك نقطا حساسة تجعلك خارجه... فما معنى أن يكون العنصر العروبي استعمارا في خضم الحراك؟ علما أن شعوبا كثيرة استقرت هنا، وتركت بذرتها: الفنيقيون والرومان والوندال والأفارقة ذوو الأصول الزنجية والأندلسيون ذوو الأصول الإسبانية والعرب والأمازيغ الذين كانوا سابقين على كل هؤلاء، ولا توجد دراسة دقيقة تحدد من أين أتوا قبل يستقروا في هذه البلاد...

 

الشاعر منير الإدريسي: شروط تأثير المثقف غير متوفرة إطلاقا في مجتمعنا
بصراحة وبكلّ أسف، المثقف لم يكن يوماً مرجعاً للتغيير. لا بالنسبة للحركات الاحتجاجية ولا بالنسبة للأحزاب ولا الدولة؛ فعن أيّ مسؤولية نتحدث إن كان مُغيّباً في الأصل؟. أعتقد أنّها دعوات مصدرها المحيط الثقافي نفسه، فبعض الأشخاص لم يقتنعوا بعد أنّ المثقف خارج الفعل. لعلّه مجرّد حنين إلى أمس ما، إلى لعب الدور على الطريقة السارترية.

أظنّ أن شروط تأثير المثقف غير متوفرة إطلاقا في مجتمعنا. صحيح أنّه ليس بعيدا عمّا يجري، مثله مثل الغاضبين قد ينزل أيضا إلى الساحة، لكن فقط كفرد أعزل من الفكر والنقد، كوجه يضيع في الوجوه، بلا هوية رمزية وبلا ثقل، ولن يحدث فرقا على الإطلاق. لن ينتبه أحدٌ إلى ما يُمثله أو يكونه. إنّه مُحاصرٌ بالجهل. لن يكون في هتاف الاحتجاجات أكثر من لحم ودم معزولا بحزن وخيبة عن أفكاره. وأضعف حيلة يرشي بها توازنه هو أن يكتب مقالا أو تدوينة على الفيسبوك قد تجلب عليه بعض سخط القراء الأصدقاء إذا كان منسجما مع فكره غير راغب في استرضاء أحد.

لا قيمة رمزية للمثقف في مجتمعنا وهذه هي الحقيقة. لن يكون المثقف في وقت كهذا وفي شروط كتلك معادلة صعبة أو ثقلا مؤثراً، فإن لم يكن وقوداً للتغيير وزيتا مضيئا في طريق هذا التغيير فلن ننتظر الشيء الكثير منه. إن لم يكن مرجعاً فلا أهميّة لهذا الكلام. لا يملك مثقفونا وزنا في هذا الحراك أو في غيره، ولا تأثيراً مباشراً فعليّاً لهم في ملعب أزماتنا السياسية. إنّ ذلك بالقياس إلى واقع مجتمعنا ضربٌ من التمنّي. أمّا ما يملكونه على النحو الأكيد فهو أبلغ من ذلك، إنّ الحركة الإنسية وعصر التنوير هما من صنعا قوّة أوروبا ونظامها الحديث. هذا دليل على أنّ المثقف في واقع الأمر يملك قوّة رهيبة للتغيير لا تعمل عملها إلاّ بالاشتغال على الفكر والكتابة في وجود جهات دعم قويّة، مُحبّة ومحتضنة، تسعى لصنع إنسان جديد لوطن جميل كالدّعم التاريخي الذي قدمته الطبقة البورجوازية في أوروبا للثقافة والفنّ. لكن مادام الدعم غير متوفر من أيّ جهة، ومادامت شعوبنا لا تقرأ، وتعليمها رديء فيما جهلها مؤسّس، فلا يمكنها أن تستمدّ قوّة ثورتها من الفكر لتجديد نفسها من الداخل، بل من العاطفة وتجييش العاطفة فحسب.

شعوبنا ودولنا تتجاهل المثقف، لأنّها تتجاهل أسئلته المحرجة التي قد تقوّض بناءها، يصدمها الضوء الذي يسلّطه على عين العقل لأنّها ألفت الظلام. لن تقبل بسهولة أفكاره التي تدعو بشكل مباشر أو غير مباشر مثلا إلى مراجعة التراث ونقده؛ هذا التراث الذي يراه المثقف معيقا كبيراً أمام الديمقراطية والحكم المستنير. شعوبنا لا تقرأ تراثها لتعرف المشكلات التي ترسّبت عليها سلطتنا وثقافتنا، فيما دولنا تساعد على هذا الكسل. ممّا يبعد عنّا بسنوات ضوئية تحقيق نهضة حضارية على أسس متينة.

يبقى أن نقول بخصوص سؤال متشعّب كهذا علينا أن نجيب عنه بكلّ جرأة ونقد وبلا عقد نفسية ودون اعتبارات ضيقة قد يأخذ بها من يمارسون السياسة أو من يسترضون الناس من المثقفين أنفسهم، أن التظاهر والاحتجاج الذي يعرفه المغرب اليوم وضع صحيٌّ جدّاً. مواطنون –وليس هذا حكرا على الريف وحده- تمرّدوا بعفوية على "الحكرة" التي مسّتهم، على التهميش والفقر، في غياب حوار مُسعف. وفي وقت أفرغت فيه الأحزاب من مناضليها الحقيقيين، فيما انغمس بعض قادتها في فساد الدولة. لذلك لابدّ من الانتباه بحذر إلى الفراغ السياسي الذي تعيشه البلاد والمتمثل في انعدام التمثيل الحقيقي لمطالب الشعب، وفي وجود متحكمين في سياستها، المتمتعين بثرواتها على حساب صحة وتعليم وثقافة وكرامة المغاربة. الدولة مُطالبة بتغيير فلسفتها في النظر إلى الأمور، أو أنّها ستستمر في خيانة أفق انتظار المواطن بقمع الاحتجاجات والذهاب بالمغرب إلى نفق مظلم؛ الخروج منه قد يغدو مكلّفا جدّا.

قد يخيّل إلينا أنّنا نعيشُ في قلب فرص ممكنة لتغيير هادئ. بتحديث النظام المغربي ليواكب التطور والتحديات في عالم مضطرب ومُبلبل. لكني متشائمٌ كبير إزاء نية الدولة في سلوك هذا المسلك المتعقّل والمستنير، وإزاء استعداد جزء كبير من الشعب أيضا، فليس هناك رغبة أكيدة في الفصل بين السلط، حتى توقف السلطة السلطة، ولا فصل الدين عن الدولة. مع أنّها الحلول المثلى لخلق نظام عصري متقدّم. بل ستفعل الدولة ما بوسعها لتهدئة الأمور فحسب، بالتنويع على أسلوبها المعتاد والعزف على ذات الأرغن الذي نعرف.