هذا نص شيق فريد، يمزج فيه الكاتب المصري الذي وطد بإبداعه المتألق مكانته في أفق الكتابة الجديدة، بين الدراسة والسرد الذي ينفذ بالقارئ إلى جوهر الظاهرة بابعادها الميتافيزيقية والشعبية معا، وصولا إلى طبقات المعاني والدلالات المتراكبة فيها.

في رحاب الصحراء .. مدد يا شاذلي!

أحمد أبو خنيجر

اعرف الله وكن كيف شئت"  

                                                         الشاذلي                                                                                    

العبور إلي الميتافيزيقيا
منذ بدء الخليقة وسعي الإنسان إلي تفسير قوى الطبيعة والسيطرة عليها ظل هاجساً قوياً وملحاً، وقد قطعت البشرية شوطاً بعيداً في ذلك، وعبر دروب مختلفة، كان أحدها هو محاولة الاتصال بهذه القوى والاتحاد بها إن أمكن. على هذا الدرب جاءت فكرة التصوف والتي قام الإنسان بتطويرها وإكسابها ملامح خاصة تخص حضارته ووعيه.

عند مراجعة يسيرة للأساطير وحكايات الزهاد والمتنسكين، والأبناء المولدين بين الآلهة والبشر، سنجد أنفسنا أمام أمثلة باهرة، كانت مهمتها كشف التخبط البشع والظلام الذي يحيط بالإنسان، وبالرغبة الفادحة في العبور إلي الضفة الأخرى من الكون، العبور إلى الميتافيزيقيا، ليس فقط العبور إليها، ولكن أيضاً محاولة امتلاكها والسيطرة عليها، في ظل هذا تأتي الممارسات الطقسية التي تحاول هتك هذا الستار الكثيف الذي يفصل بين الإنسان وقوى الطبيعة، محاولة القدرة علي قراءة المستقبل والقدر، والسيطرة علي الغيب، ألم تكن النبوءات والوحي والأدلة الروحانيين والزهاد، وقراء الكف والفنجان وأوراق اللعب والرمل وغيرهم، سوى أمثلة في هذا الطريق الوعر والصعب والمرغوب فيه؟

لم يكن الإنسان وهو يحاول أن يتخطى طرق الظلمات التي تفصل بينه وبين القوى العليا، الله، الآلهة، على دراية تامة بأن خطواته تلك ستصل إلى غرضها، أو على وجه الدقة تسلك الطريق الصحيح، أم إنها تضرب في عماء البصيرة وحيرة الكون.

هذه الخطوات التي كانت تسترشد بالتعاليم التي تركها الأسلاف، لم يكن هناك يقين يعينها، سوى جهدها الدءوب لردم هذا الصدع الذي يفصل ما بين الآلهة والبشر، ذلك الصدع الناتج من فصم علاقة الجوار بين الرب/ الإله والإنسان الأول بسبب المكيدة وطغيان الجسد وجبروت شهوته.

تقوم فكرة التصوف، إذاً في جوهرها على محاولة إعادة العلاقة بين الله والإنسان، دون وساطة، وذلك عن طريق الإيمان بهذه القوى الغيبية الخارقة (الله مثلا)، وإمكانية إدراكها والاتصال بها عبر الوحي والكشف والتجربة الروحية، ذلك ما يؤكده "ابن عربي" بقوله: "إن بإمكانية اتصال الإنسان بالإله عن طريق الكمال الأخلاقي". وقد قدمت شواهد التاريخ الكثير من المحاولات، المنبئة عن إمكانية تحقيق هذا الاتصال، الاتحاد الفناء. مما دفع العديد من الناس إلى السير في هذا الطريق، وبهذه الرغبة الحارقة في التحرر من عالم أرضى تحكمه أخلاط الجسد ورغائب البشر الفانية، بينما على الجانب الأخر، تكمن الديمومة الخالدة والصفاء النفسي المتوافق مع حركة الوجود في وحدته، ووحدة مشاهداته.

عند المتصوفة تأتى الروح متقدمة على الكلمة، لأنهم يعتمدون على علم الباطن أو الحقيقة أو العلم اللدنى، في تفسيرهم للنصوص المقدسة، متخطين التأويل الظاهري لهذه النصوص، وفي محاولة جادة ومخلصة لاستنباط المعاني الداخلية، وذلك عن طريق التأمل، والصفاء الداخلي وإخلاص المتصوف وقدراته العقلية والباطنية، بهذا الأساس ينشأ الاختلاف بينهم وبين أهل الظاهر، علماء السنة والشريعة، والذي في بعض الأحيان يتخطى الاختلاف إلى العداء السافر بين الطرفين. في ضوء هذا، يمكن قراءة التصوف بطريقة أخرى، يبدو فيها اختيار طريق التصوف هو بحث عن بطولة من نوع خاص، بطولة فردية، أول ما تتصادم، تتصادم مع المعتقد السائد، بالتحديد مع السلطة الدينية الراسخة، إذ تمثل هذه البطولة، خروجاً عليها وقراءةً جديدة وتأويلاً مختلفاً لتعاليم الرسالة وتفسير الكهنة لها. في هذا الإطار قدمت كتب التاريخ والحوليات والطبقات والتراجم الكثير من الأمثلة والشواهد التي أفسحت حقلاً خصيباً أمام مقولة: "لا ولى أو إمام بدون محنة". هذه المحن قد تكون نهايتها الإطاحة برأس هذا الولي.

أيضاً لا يمكن غض الطرف عن ذلك الدافع الذي قاد كثيرين نحو التصوف، ألا وهو الفقر، فدعوة التصوف، وحسب التعاليم، قائمة علي التقشف الشديد والزهد، وبطبيعة الحال، تمجيد الفقر والتكريس له، علي أنه أحد الأبواب السحرية الذي يدخل الروح مباشرة إلي صفاءها النفسي، وسداد أخلاق صاحبها، فذلك الزاهد المتقشف غير الراغب في الدنيا وأوشابها طوعاً أو كرهاً، خير من أولئك الأغنياء الذي يدفعهم ثرائهم إلي التجبر والفساد، لتسقط أرواحهم في مستنقع الدنيا الذي لا فكاك منه إلا بخلع قميص هذه الدنيا اللين في ظاهره، لكن باطنه حتماً أكثر خشونة من رداء الخيش، أو خرقة التصوف. هذا الكلام ليس علي إطلاقه، فالعديد من المتصوفة الكبار أوصوا بعدم ترك الدنيا والتمتع بأطايبها، فهذا أبوالحسن الشاذلي، كان جميل المظهر، غير متزمت في المأكل والمشرب، يحب الخيل ويقتنيها ويركبها في المواسم الدينية، دخل عليه ذات مرة فقير وعليه لباس من شعر، فلما فرغ الشيخ من كلامه، دنا من الشيخ وأمسك بملابسه، وقال: يا سيدي، ما عبد الله بمثل هذا اللباس الذي عليك فأمسك الشيخ ملبسه فوجد خشونة فقال: ولا عبد الله بمثل هذا اللباس الذي عليك، لباسي يقول: أنا غنى عنكم فلا تعطوني، ولباسك يقول: أنا فقير إليكم فأعطوني (لطائف المنن)، في هذا الإطار ذاته يمكن سوق مقولته: "لا تسرف بترك الدنيا فتغشاك ظلمتها، أو تنحل أعضائك لها، فترجع لمعانقتها بعد الخروج منها بالهمة، أو الفكرة، أو الإرادة، أو بالحركة". بقى أن نشير أخيراً إلي أنه يذهب بعض الناس إلي طريق التصوف، كنوع من التعويض النفسي. لما تكون الحياة وممارساتها قد لوثت به النفس ولونتها، مما يجعل الروح عرضة للاضطراب والتخبط الدائم، فالمشكلات الروحية والاجتماعية والتربوية العميقة والمعقدة التي يمر بها الإنسان، لن يجد لها الفرد حلولا داخل يقين الشريعة وتفسيرات الفقهاء وتوجيهاتهم، فهذا اليقين المتولد بعيداً عن الشك الذي تولده الممارسة الحياتية اليومية غير كاف علي إسكان الروح وطمأنتها. من هنا توجب البحث عن طريق أخر يهب هذه الروح سلامها وأمنها.

أبوالحسن الشاذلي "ساحر الصحراء"
هو علي بن عبد الله بن عبد الجبار، ينتهي نسبه إلي الحسن بن علي بن علي طالب، ولد بقرية غمارة القريبة من مدينة "سبته " المغربية سنة 593هـ ـ وبها درس العلوم الدينية، غير أن نفسه الطموحة والمتطلعة نحو عالم الغيب، لم تكن تكفيها هذه العلوم، فخرج من بلاد المغرب منقباً عن قطب زمانه، الذي سوف يهديه إلي جادة الطريق، طاف بكثير من البلاد حتى أنتهي به المطاف إلي بغداد، التي كانت في هذا الوقت مقصداً لطلاب الدنيا والدين. وهناك أجتمع بأبي الفتح الواسطي ـ تلميذ أحمد الرفاعي ـ وغيره من الأولياء، لكن ليس بينهم القطب الذي يبحث عنه. وكأنما في رواية سوف تكتب بعد ذلك بتسعة قرون في نهاية القرن العشرين، يكتبها روائي برازيلي هو "باولو كوهيليو" سوف يسميها "الخيميائى" يسال الشاذلي أحد الأولياء عن القطب بعد فشله في العثور والتعرف إليه، فأجابه الولي: "إنك تبحث عن القطب بالعراق إن القطب ببلادك، أرجع إلي بلادك تجده". (درة الأسرار ص 23).

يعود إلي المغرب إلي "غمارة" وهناك يلتقيه "القطب عبد السلام بن بشيش" الذي علي يديه سوف يتعلم، ويبدأ في مجاهداته وارتياد الطريق، وعندما يستوفي علومه يرحل إلي قرية بها تسمى "شاذله" ومنها سوف يكتسب اسمه ولقبه، ويأخذ في الدعوة ويتكاثر حوله الأتباع. ثم يرحل إلي تونس، وهناك تكون محنته مع السلطة ومع ابن البراء قاضي القضاة، أو قاضي الجماعة الذي أخذ في الدس له عند السلطان، فكان أن نفاه السلطان إلي الإسكندرية 642 هـ ـ التي ظل بها، يدعو إلي الطريق، متنقلاً بينها ـ الإسكندرية ـ القاهرة والصعيد، حيث في مصر سيرث القطابة، كما أخبره أستاذه "بن بشيش" ويتكاثر الأتباع حوله، ويقودهم للجهاد ضد الصليبيين في المنصورة، تحت قيادة شيخ الإسلام العز بن عبد السلام. في أواخر حياته يفقد بصره، لكنه يظل على حركته الدائمة، وإصراره علي الذهاب إلي الحج، حتى تأتي سنة 656 هـ، وهو في طريقه إلي الحج توافيه المنية وهو بقلب الصحراء فيدفن فيها، ويكون مقامه.

مقام الولي
مهتدياً بخطواته العمياء باحثاً عن المكان الموعود، المكان الذي بشر به عبر إلهامه الخاص ومكاشفاته الشفيفة، قاد "أبوالحسن الشاذلي" خطوات حوارييه في رحاب الصحراء، المكان الأكثر حسماً وأهمية لدى الأنبياء والزهاد والمتنسكين وأقطاب التصوف. كانوا يتبعونه فقط دون مقدرة منهم علي مراجعته، أو حتى إخباره بأنهم علي وشك الضياع في تلك البقاع البعيدة عن أي عمار، هذه التي لم تطأها قدم بشر قبلهم. كان قبل خروجه من دياره أوصى خادمه أن يحمل معه، ضمن عتاد الرحلة: فأسا، ومقطفا وكفنا. وكما يليق بخادم ومريد تام الطاعة، فعل دون أن يسأل وإن ظل السؤال هاجساً مسيطراً عليه. فهذه الأشياء مجتمعة تنذر بشؤمٍ تام، شؤم سيصيب أحدهم لا محالة، لكن من هو؟ تقدم وجلاً من سيده خاصةً بعد أن جابهته الصحراء بأتساعها وتشعب دروبها وخطوات الإمام التي تأخذهم إلي طرق غير مألوفة، لم يسر عليها قبل ذلك. لم يكن متشككاًَ في بصيرة سيده التي ستقودهم حتماً إلي الدرب الصحيح، لكن قلق السؤال، وفضول المعرفة هو ما دفعة لسؤال الشيخ، قال الإمام دون أن يكون معنياً بالتحويرات التي ستصم إجابته، وتدفعها نحو السجع والتقفية قال: "في حمثيرا سوف ترى". ذلك ما قام به الأحباب والمريدون، كي تسير الجملة علامة قاطعة علي قطبية الإمام، وأيضاً كي تصبح الجملة أكثر سهولة وأقرب إلي الحفظ والترديد. "في حميثرا، سوف ترى" أجاب دون إضافة، ومرهفاً سمعه وبصيرته وجميع حواسه التي تقودها الإشارات الإلهية الغامضة وتحدد الطريق أمامه بدقه ووضوح فبعد أن راغ سهم الشهادة منه أثناء جهاده ومحاربته للصليبيين في واقعة المنصورة الشهيرة التي انتهت بأسر لويس التاسع، كان قبلها قد دعا الله أن يهبه الشهادة، يقول "من ثبتت ولايته من الله لا يكره الموت". وأي موت أكرم من الاستشهاد في سبيل الله، لكنه خرج من المعركة سليماً، فعاد وأبتهل إلي الله أن يموت ويدفن بأرض لم يعص الله بها، يريد أرضاً بكراً، لم تمسها قدم بشر، وكانت الصحراء الملاذ الأول والأخير للأولياء.

مع بدء الحملات الصليبية قطع طريق البحر أمام الذاهبين لحج الأراضي المقدسة، فتحولت القوافل إلي الطرق البرية، ونشأت عبر الصحراء الإسلامية دروب جديدة، ستعرف فيما بعد بدروب المغاربة، تقود مباشرةً إلي مدن الصعيد التي ستزدهر في هذا الوقت، خاصة مدينة قوص، كانت الدروب تقود إليها وإلي مدينتي أسوان وأخميم، ومن هذه المدن تأتي دروب الحج والتجارة في صحراء مصر الشرقية والتي تقود مباشرةً إلي ميناء عيذاب ـ القصير حالياً ـ علي ساحل البحر الأحمر والمواجه لمدينة قوص، كان الإمام الشاذلي يستغل ذلك لملاقاة أحبابه ومريديه ويقود الذاهبين منهم إلي الحج معه.

في شهر ذي القعدة 659 هـ تحرك خارجاً من قوص، قاصداً عيذاب/ القصير باتجاه الشرق مباشرةً، لكنه في منتصف الطريق غير اتجاهه نحو الجنوب، طلباً لأرض ميعاده، تلك الأرض البكر التي لم تدنسها أقدام البشر، فمع البشر تسير دائماً الخطيئة وتحط بركابهم. هذا التحول نحو الجنوب هو ما سيربك المؤرخين، وكتاب السير والتراجم والطبقات والمتصوفة المحدثين أيضاً، فجهلهم الفادح بالجغرافيا والأماكن، جعلهم ـ بلا استثناء ـ ينسبون وفاته إلي صحراء عيذاب، بينما توفي بمنطقة حميثرا التي تبعد حوالي 300 كيلو متر جنوباً من عيذاب وقوص، تقع حميثرا تقريباً شرقي مدينة أسوان، تبعد عنها حوالي 115 كيلو متر شرقاً ويفصل بينها ـ حميثرا ـ وساحل البحر الأحمر حوالي 85 كيلو متر أيضاً. المكان، وادٍ منبسط مغلق تحده الجبال من جهات ثلاث، من الجهة اليمنى، الغرب، يقف "حميثرا" بشموخه ووعورته، وهو جبل متوسط الطول، شديد الانحدار، من علي قمته يمكن الإحاطة بالوادي كله، هذا الوادي الذي يأخذ في الاتساع جنوباً، غير أن "حميثرا" يلتف بصرامة ليغلق الطريق أمام هذا الاتساع، ثم يلتف شرقاً، ليحد الوادي من الجهة اليسرى، وإن كان طوله قد أخذ بالتناقص والاعتدال قليلاً، بقلب هذا الوادي، توجد البئر التي سوف يطلق عليها "بئر شاذلي".

أورد صاحب المفاخر العلية: فلما كان بين العشاءين، قال لي: املأ لي إناء من هذا البئر، فقلت له: يا سيدي ماؤها مالح والماء عندنا عذب، قال: ائتني منها فإن مرادي غير ما تظن، قال: فأتيته منها بالماء فشرب منه، ومضمض فاه، ومج في الإناء، ثم قال لي اردده إليه فرددته إليه، فحلى ماء البئر وعذب وكثر ماؤه بإذن الله تعالى. في هذا الوداى، سيحط الشاذلي رحاله، ويصنع كراماته الأخيرة ويحدث مريديه، ويوصيهم بحزبي البر والبحر، وبإتباع "أبي العباس المرسى" من خلفه، ثم يأمرهم بالذهاب للنوم ويختلي بصفيه "المرسى" ويسر إليه بأنه سيقبض الليلة، سيموت، أو بتعبير الصوفية، سوف يحجز، فولي الله لا يموت، أنما حجز، ويخبره أيضاً بأنه سوف يأتي شخص ملثم يعاونهم في إجراء الطقوس الأخيرة، من غسل وتكفين وصلاة علي الميت ثم الدفن، وعلي المرسى أو أي واحد من الأتباع ألا يسأل هذا الملثم أي سؤال، ثم يقوم ويأخذ المرسى من يده ويحدد مكان القبر الذي سيدفن به، ثم يأمر المرسى بالانصراف.

يدخل الشاذلي إلي خيمته التي يجلس علي بابها الخادم متسمعاً إلي همهمة ومناجاة سيده، حتى يسكت الإمام، فيظن الخادم أنه نام، عند الفجر يدخل ليوقظه فيجده قد مات، علي الفور يتذكر حمله: الفأس والمقطف، والكفن. يسري الخبر بين الجميع، يتبعه البكاء والانتحاب، في هذه اللحظات يقدم عليهم الملثم، والذي ينظر إلي المرسى، ويدخلان إلي خيمة الشاذلي ويأخذان في تجهيزه للدفن، طوال الوقت والفضول يأكل المرسى، يريد أن يعرف شخصية الملثم، لكن تحذير أستاذه يرده ويردعه، في الختام بعد الانتهاء من مراسم الدفن والتي أمهم للصلاة علي الشاذلي، ذلك الملثم الغامض، حاول الانصراف غير أن المرسى تعلق به وسأله أن يزيح اللثام أو يكشف عن شخصيته، الملثم يذكره بتحذير معلمه. لكن ما العمل والشوق إلي المعرفة يفوق أي حذر؟! ألم نسمع ونقرأ في كثير من الحكايات أن المنع والتحذير هو أول الأسباب لخرق هذا الممنوع وانتهاكه! هكذا المرسى، مخلصاً لكل أسلافه، سيصر علي المعرفة، ويمد يده لينزع اللثام، فيجد أن أستاذه الشاذلي، هو ذاته الملثم، وقبل أن يفيق من هول الصدمة يخبره الشاذلي: بأن عقاباً سيقع عليه، هو أن يدفن بعيداً عن قبر حبيبه وأستاذه الشاذلي.

بجوار البئر يكون قبره، مقامه، الذي سيبقى في حراسته، خادمه، هناك، بهذه الصحراء، البعيدة عن أي عمران، وأرجل البشر الخطاءين، هؤلاء البشر هم الذين سيحاجون، خاصة المتشددين منهم، في عصور تالية، بأن مقام الشاذلي هو ما دنس هذه الأرض الطاهرة، الأرض البكر، ألم يكن تواجده بهذا المكان، دعوة للبشر بالقدوم إلى هنا، خاصة الدراويش، ومن تابعهم وجاء للاحتفال بالمولد، فالموالد دائماَ يسير في ركابها طلاب الدنيا، وهؤلاء أنفسهم سيدنسون هذه الأرض التي كانت بكرا، قبل قدوم الشاذلي. لن يسكت المتشددون ومن شايعهم، بل سيزدادون قسوة سيقولون: لو كان ولياً حقاً، إذن لكان باستطاعته إبعاد كل تلك المآثم عن هذه الأرض وبالقرب من قدميه، على مرأى ومسمع من مقامه.

الطريق إلى المقام:
مع أواخر شهر ذي القعدة يأخذ المريدون والدراويش وراغبو الزيارة في التوافد على المقام، يأتون من كل البقاع. القادمون من الدلتا والمدن الشمالية سوف يسلكون الطريق الساحلي الموازى للبحر الأحمر حتى مرسى علم، ومنها يتجهون غرباً إلى سيدي سالم، أيضا القادمون من وسط الصعيد وشماله سيأخذون طريق قوص ـ مرسى علم ويتوقفون عند سيدي سالم والقادمون من الجنوب طريقهم ادفو ـ مرسى علم، والتوقف عند نقطة العبور الرئيسية: سيدي سالم. التي سيتجه منها الجميع نحو الجنوب، حيث المقام. من أول سيدي سالم وأنت تتقدم عبر صحراء شاسعة شديدة الجدب، عالية الجبال، بامتداد 140كم وعينك لا تلتقط أي خضرة، حتى بعض النباتات الصحراوية أخذت لون الرمال والصخور، على استحياء أحيانا، يقطع عليك الطريق جمل صحراوي أو تراه واقفاً، كأنة قطعة من صخر، شكلها الزمن على مهل وبتأن شديد. تبدد الوحشة والصمت قليلاً، تلك العربات. الذاهبة والعائدة تكاد تطير بركابها أحباب السيد، والقادمين بأشواق ومآرب أخرى، باتجاه المقام أو عائدة من جواره، ذاهبة إلى الأهل والديار للحاق بعيد الأضحى الذي بدأت بشائره تنبت في كل مكان. عربات أعدت خصيصاً لتناسب الصحراء والرحلة ومدة إقامة أهلها عند المقام، كأنما أصبحت منزلاً متنقلاً، تحمل كل ما يحتاجه المنزل من أدوات لإعداد الطعام والمشروبات والذبائح ـ خراف غالبا ـ والغطاء وجراكن الماء والوقود اللازم للعربة. عربات نصف نقل، كبيرة أو صغيرة، نصبت على أركانها عروق الخشب، وثبتت بحبال إلى جسم العربة، وشد على العروق القماش القوى السميك والملون بألوان زاهية يغلب عليها الأحمر والأخضر والأسود، بعض العربات اللوارى الكبيرة تحديداَ قسمت إلى طابقين الطابق الأعلى للنساء والبنات والأطفال، بينما الأسفل للشباب والرجال، لكن أغلب العربات ذات طابق واحد، تضم الجميع رجالا ونساءً وأطفالا وأجدادا وجدات، والذبائح، فالجميع عائلة واحدة.

في مقدمة العربة ركبت مكبرات الصوت، تصدح بالذكر والإنشاد الديني، قاطعة بذلك صمت الصحراء وجلالها، تتغنى الأصوات بأشعار: ابن الفارض، وابن عربي، والشيخ الجنيد، ورابعة العدوية، كبار المتصوفة، أشعار يسيطر عليها الشوق الإلهي، والرغبة العارمة لنيل وصاله والاتحاد به أو الفناء فيه، تتوسل في ذلك بالنبي (ص) "جد كل ولي"، ورجال الطريق الأعلام الأقطاب. أيضاَ ستسمع أشعار رجال الطريق الشاذلي، المتغنية بمناقب الإمام وخصاله وترديد الأوراد والأذكار الشاذلية. أصوات يغلبها الحنين ويحرقها الشوق، بعض هذه الأصوات محترفة لمشايخ ومداحين ك: ياسين التهامي، أمين الدشناوى، العطوانى، الرواجحى... وغيرهم، غالباً ما تصاحب أصواتهم الموسيقى، موسيقى هادئة وبسيطة، لكنها قادرة على سرقة الروح، والتحليق بها بعيداً في رحاب المحبوب. وستسمع أيضا أصوات غير محترفة، وهى الغالبة، هي أصوات الدراويش ومريدي الطريق الشاذلي، ستميز فيها أصوات لـ: أطفال ورجال، وأحياناً نساء، هذه الأصوات تعتمد على الترديد، دون أن يعنيها هم التطريب، والحفاظ على وحدة الإيقاع، لكن بها رنة فرح مميزة وشديدة الصفاء.

أثناء تقدمك على الطريق، تجد بعض العربات قد توقفت، ومنها نزل الجميع، وأخذوا في الإعداد لوليمة، أو لبعض الإنشاد، أو للراحة، أو ليقضى البعض حاجته خلف الصخور العالية، الأطفال جرهم اتساع المكان حولهم إلى الجري واللعب. مستغلين ارتخاء قبضة أوليائهم، حين يغادر الجميع المكان، ستجد أثراً ما يدل عليهم، خاصة تلك الأسماء التي دونها أصحابها فوق الصخور، لم يكتفوا بكتابة الأسماء، بل زادوا عليها أسماء البلاد التي جاءوا منها، بعضهم زيادة في التأكيد ترك عنوانه كاملاً مزيلاً برقم الهاتف أو الموبايل، سيملؤك العجب من هذا النوع الهائل للاماكن التى جاءوا منها، ستلاحظ أنها تكاد تغطى البلاد كلها. في البداية كان الطريق درباً صحراوياً، مدقاً عبدته أقدام البشر والدواب ويحتاج الكثير من الوقت والمشقة والتحمل لقطعه، ولذلك حاول كثير من البشر العجولين قطع دروب أخرى توفيراً للوقت، وتلك كانت حجتهم، لم يكن معهم أدلة صحراويين، فقط ما يملكونه من نوايا طيبة، ورغبة صادقة في اختصار الوقت، ومعرفة بسيطة ومشوشة عن طريق بديلة، قطعها بعض الرجال في الأزمنة القديمة، والحال هذه تكون النتائج مروعة، الكثير منهم لم يعثر عليه، والبعض عثر على بقايا جثثهم، لكن المؤكد أن أحدا لم ينجُ، فللصحراء قانونها والذي لا يتقنه أهل الريف والحضر، وأول مراحل الخسارة أن تكون غير عارف بقوى الخصم وتستهين به.

كان اسمه "يوسف الشاذلي" أحد أشهر مصوري الفوتوغرافيا بأسوان، أصطحب معه أحد أصدقائه وحفيده الصغير، وذهب لحضور المولد، في طريق العودة قرر اختصار الطريق وكانت النتيجة التيه بالصحراء والموت. في حكاية أخرى ذات دلالات مفرطة، قامت جماعة من الدراويش بأخذ درب الحج القديم، القادم من أسوان إلى كوم أمبو، ثم مروراً بوادي النقرة، ثم وادي الخريط الصحراوي الذي بدوره سيضعهم بمحاذاة وادي الشاذلي، عقب عدة أيام تبين للدراويش السائرين بدون دليل، اللهم إلا شوقهم للزيارة والتبرك بالمقام وصاحبه، أنهم تائهون، وكان الليل قد جن عليهم، بعد صلاة العشاء أخذوا في التضرع إلى الله والتوسل بصاحب المقام كي يتدخل وينقذ أحبابه ومريديه من الفناء المحتوم. عند الفجر استيقظ الجميع على رائحة طيبة تشبه المسك تهل عليهم من أحد جوانب الوادي، جروا باتجاه الرائحة التى قادت خطواتهم الضالة نحو مقام الشاذلي.

في تعليق سريع على الحكاية، أخبرني أحد الدراويش أن الرائحة التى أخذتهم نحو المقام، هي رائحة العطر الذي كان الشاذلي يتطيب به، فقد كان ـ رحمه الله ـ محباً للطيب والعطور. في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، جرى مد الطريق الإسفلتي من سيدي سالم إلى مقام الشاذلي، وأيضاً إعادة رصف الطريق الرئيسي مرسى علم/ ادفو، جرى ذلك إبّان اهتمام الدولة، في ذلك الوقت بمد الطرق عبر الصحراء الغربية والشرقية على السواء. لكن دراويش المتصوفة لن يدعوا الأمر يمر هكذا، بل يجب أن تكون له حكاية، وحكايته تقول: الشيخة "زكية عبد المطلب" واحدة من مريدات الشاذلي، جاءت حسب رؤية رأتها، وقررت الإقامة بصورة دائمة بجوار المقام، وكانت سيدة صاحبة كرامات، ولما سمع بذلك محافظ البحر الأحمر، وكان محباً للدراويش ورجلاً طيباً، جاء لزيارتها، عندما قابلها أخبرته بأن المقام في احتياج إلى طريق إسفلتي يربطه بالعمار، وعددت الأسباب التي منها بالضرورة: خدمة المقام، والحد من حالات التيه والموت في الصحراء. ضحك المحافظ، ثم تعلل بقلة الاعتمادات وأن الخزانة ليس بها مليم واحد، ولكن الشيخة زكية وضعت يدها في جيبها وأخرجت ثلاث قطع معدنية، ثلاث شلنات صفراء وجديدة، وأعطتها للمحافظ، هكذا كانت عادتها، وقالت له: ابدأ بهذه. لم يستغرب المحافظ الطيب، وإنما تقبل الشلنات برضي وتسليم كامل، وحين عاد إلى مبنى المحافظة، وجد في انتظاره شيكاً بمبلغ ثلاثة ملايين جنيه، وذلك للبدء في مد الطريق إلى المقام ورصفه.

الولي المغربي
كأي مولد تدخله، ستجد النشاط الدنيوي مستعراً وقائماً جنباً إلى جنب النشاط الديني، فالباعة وأصحاب الألعاب، وغرز الطعام والمشروبات منتشرة على جنبات الطريق، وبين سرادق للذكر وساحات المتصوفة المتعددة، هذا ينادي على بضاعته ويزينها في عين المارة، وهذا يبتهل للرحمن بصوت ملؤه الخشوع والرهبة، وهذا يُرغِّب والحماس يغمر الجميع، فالموسم مواتٍ للكل والكل حريص على اصطياد الزبائن والمريدين، والأسماك تعوم في بحر الأصوات والضجيج المتسارع والآخذ في الهياج مع اقتراب الليلة الكبيرة، الليلة الختامية، ليلة وقفة عيد الأضحى. في قلب كل هذا يقف حميثرا، الجبل، شاهداً عليه، ومرجعاً تلك الأصوات كلها دون تفرق في صدى واحد، لا يمكن عزل أي صوت، أي نغمة وحدها، فالكل متناغم ومتجانس مع العرق والتراب وأصوات الحيوانات مكوناً جوقة شديدة الاحتراف، تعزف وتغنى كل الأصوات، ومن مختلف المقامات، تحت قيادة حكيمة تفرض سطوتها على الجميع، قيادة المكان والمناسبة، الآن وهنا فقط.

لكن لا يمكن للعين أن تخطئ قوة الحياة ونبضها الدافق وسط هذه الصحراء، فالمولد نعم المولد، وما أدراك ما المولد، حيث الناس كتلة معجونة بالتوهج، والتفجر، والألم، والشبق، والمودة، والتربص، والانجذاب، والاحتيال، والبساطة، والتوتر، والبجاحة، والانزواء، والاستعراض، والادعاء، والاطمئنان، والروائح، والجوع، والشبع، والقهر، والفقر، وكافة المظاهر الإنسانية بدرجاتها المتباينة. فوق كل هذا تحلق سحابة من حنين، من شوق تجر الناس سنويا إلى هذه الصحراء، وتدعوهم للاحتفال بهذا الولي، أو بالأحرى الاحتفال بأنفسهم متعللين بحوائجهم وأشواقهم ومواجيدهم: شاذلي يا أبوالحسن. تتبدى الآن وهنا معجزة الشاذلي الأساسية، ألا وهي إنبات الحياة بهذا الوادي القفر، مكان غير ذي زرع كما جده إبراهيم عليه السلام. ألم تكن مكة قرية صغيرة تجاور البيت الحرام، جاعلة من زمزم بئر الماء مركزاً لها، وازدهارها التام وتألقها وقوتها يأتي فقط في أيام المواسم، خاصة أيام الحج، وهكذا أيضا هذه القرية الصغيرة التى نبتت بالقرب من المقام وحول البئر، بئر الشاذلي ويكون عرسها وذكرها في ظل غمار الاحتفال السنوي بهذا الولي المغربي، وفي الأيام التي تسبق موسم الحج مباشرة.

ليس هذا وجه التشابه الوحيد، فالقرية الصغيرة التى عمرها بعض الرعيان وعربان الصحراء والقادمون من الوادي وأماكن مختلفة وبأغراض مختلفة، والمريدون والمتصوفة الذين أقاموا الساحات للدراويش الذين قرروا أن يختموا حياتهم بجوار المقام، أيضا عابرو الطريق وأبناء السبيل، هذا الخليط من البشر سوف يطور من عقيدتها لجلب المزيد من الناس لزيارة المكان، والدعوة مفتوحة للإقامة الدائمة، وخاصة للفقراء من المتصوفين والذين يأتون في أوقات متفرقة من العام فمن خلال الممارسات والمعتقدات الشعبية ستقوم بإجراء طقوس تناظر طقوس الحج المكي، كفريضة صعود الجبل، والوقوف علي حميثرا، والطواف بالمقام، والارتواء من البئر، ولاستحمام إن أمكن، والسعي بالوادي، ورمى بعض الحصوات من فوق الجبل، ونحر الذبائح خاصة من المقتدرين، الذين قدموا بذبائحهم، وإطعام الرائح والغادي من البشر، فالمعتقد يقول: "من أتى الشاذلي في مولده سبع مرات فإن ذلك يعدل حجة للبيت الحرام بمكة". لم تكن تلك معجزة الشاذلي الوحيدة بالمكان، فيبدو أنه اتفق مع الصحراء لفرض حس التقشف الشديد على كل ما بالمكان، خاصة مسجده، ومقامه الضيقين والفقيرين معمارياً بالنسبة لولي لديه من الأتباع والمريدين هذا القدر المتزايد كل عام.

كأنما الصحراء وجوهر التصوف أبعدا الفخامة المعمارية الموجودة بمساجد أقرانه من كبار المتصوفة، كالبدوي والدسوقي والرفاعي والقنائي و... وغيرهم، حتى على الأقل مسجد تلميذه أبو العباس المرسى الكائن بمدينة الإسكندرية، الآن يمكن قراءة العقاب الذي طبق على المرسى، وذلك لتجرئه وكشفه للثام أستاذه الشاذلي، كنوع من المكافأة وذلك للإصرار على المعرفة مهما كانت العواقب ولو كانت الخروج من جنة القرب. أيضاً الإهمال والتقشف يطول البئر ـ بئر الشاذلي ـ ذا المياه المالحة غير مستساغة الشرب، كأغلب مياه الصحراء التى تفتقد العذوبة، لكنها تجد إقبالاً عليها متزايداً طلبا للبركة فالبعض يحرص على ملئ بعض الجرار والجراكن لأخذها معهم إلى ديارهم، كي يسقوا منها جيرانهم وأحبابهم لتوسيع دائرة البركة، فماء البئر لما شرب له. على امتداد الجوار، جوار البئر والمقام، قامت الساحات الصوفية والتي بدأ العمل في إنشاءها في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الفائت، مع بداية العمل في مد الطريق الإسفلتي نحو المقام، هذه الساحات الفقيرة أيضا، هي أماكن المريدين من كل الطوائف الشاذلية التى تصل إلى سبعين طائفة تقريبا.

تنقسم الساحات غالبا إلى طابقين: الأول لعامة المتصوفة وفقرائها، وهو مكان إقامة حلقات الذكر والحضرات وإعداد الطعام والشراب والنوم. بينما الطابق الثاني، والأكثر نظافة وفرشا وأطعمة وأشربة وترتيبا، فيخص شيخ الطائفة، وخلفائه، وكبار الضيوف، الذين يقدمون للمكان. أشهر هذه الساحات: الحامدية، والشيخة زكية عبد المطلب، وأبناء الشيخ يوسف عبد السلام، والجوهرية، والسمانية و... أيضا ساحة الأوقاف التى لها الصفة الإشرافية، وحراسة صندوق النذور، الذي يقوم عليه جنديان يتبعان الشرطة التى تفرض هيمنتها على المكان، وهى قائمة في مواجهة المقام والبئر. صندوق النذور القائم داخل المقام، وكما أوضح الكثيرون من مشايخ الطوائف، تذهب حصيلته لوزارة الأوقاف، ولا يصرف منه على المكان وإعماره، وتوسعة المسجد، ومد الخدمات اللازمة للمكان خاصة المرافق العامة، فالمكان في احتياج شديد لها، ذلك في ظل نصف مليون زائر يأتون لزيارة المكان من بداية الأيام الأخيرة لذي القعدة حتى أيام عيد الأضحى.

شاذلي يا أبوالحسن
من أمام هذه الساحات وطوال النهار تنطلق جماعة من الدراويش يحملون البيارق ينشدون بإيقاع مؤثر "شاذلي يا أبوالحسن" تصاحبهم بعض الآلات الإيقاعية، ينطلقون فيما يسمى "بالدورة"، حيث الطواف بأرجاء المكان وذهابا إلى مقام الشاذلي ثم العودة منه إلى الساحة التى تخصهم. أمامها يقيمون حلقة الذكر. ما تلبث "دورة" بالذهاب حتى تهل أخرى، أحيانا تصادف أكثر من "دورة" قادمة نحو المقام أو عائدة منه، والهتاف الدائم "شاذلي يا أبوالحسن". أمام الساحة الرفاعية ذات المشرب الشاذلي، توقف حاملو البيارق الملونة بالأسود والأصفر والأخضر مكونين دائرة واسعة قلبها فارغ، دخل إليها حملة السيوف والعصي، وصار الجميع يرقص، تحديدا يحجل على حواف الدائرة الداخلية، بالقرب من الناس الذين اصطفوا للمشاهدة. يرقصون بالسيوف والعصي والبيارق يلوحون بها، يتمايلون على الإيقاع الهادر الذي تطلقه الطبلة والنقارة الكبيرة والكاسات الآخذة في الصهللة، والجمع واقف صامت، يرقب في جلال ما يجري أمام عينيه. أطفال وشباب ورجال وشيوخ يتبارون لإظهار المهارة والقدرة على الصبر والتحمل، أيضا إظهار طاقات الجسد الكامنة، والتي تتفجر الآن عبر التجلي والسلام الداخلي الذي يغمر النفوس، ويحلق فوق الحلقة معلقا بتميمة الحشد والإيقاع "شاذلي يا أبوالحسن".

الحضرة آخذة في الاتساع والاشتعال. الابتهاج واضح فوق الوجوه التي كساها العرق، وأكسبها بريقا لطيفا، واحد من الدراويش تأخذه النشوة، فيقع متخبطا، جسده يرتجف ويده ترفرف، وزبد خفيف يتناثر حول فمه، تسرع الأيدي إليه، وتحمله بحنو كبير إلى خارج الحلقة التى تدخل إلى سحرها الأسطوري. رجل يرتدي الملابس السوداء ضخم الجثة، طويل الشعر يصل حتى كتفيه، تهامس البعض: المغربي، المغربي. للحظة كأن الإيقاع توقف، ثم عاد إلى الانتظام لكن أكثر سخونة، ودمدمة تتصاعد من كل الأجساد تردد وتتمايل وفق الإيقاع الجديد الذي أحدثه دخول الرجل، وهو يرفع يديه مزيدا من المهابة التى تجلله ولا يمكن للعين إغفالها، بدا كأنه يمتلك سحرا خاصا أو كأنه أنتقل توا من قلب حكايات السحرة وألف ليلة إلى قلب الحضرة المشتعلة. يمسك الرجل بإبر حديدية طويلة طول الواحدة يتعدى 30 سم، كان يرقص بها كأحسن ما يكون رقص الرجال، معبرا، وموحيا، وفاتحا لأفق متسع، يتوسطه الشوق والمحبة المتجددة وغير المحدودة، رقصة بديعة تجعلك تذهل لقدرة هذا البدن الضخم على امتلاك الخفة والليونة التى تجعله يؤدى رقصته على أطراف أصابعه، في لحظات يصلك إحساس بأن الرجل لا يمس الأرض. رقصة كانت بقلب الدائرة هو مركزها، باقي الأجساد تقترب وتبتعد منه كأنه محور جذب لها، كان يمد يده إلى أحد الراقصين حوله، ويبدأ في غرس الإبر التى بيده في جسد المريد، يغرسها في أحد الخدين لتخرج من الخد الأخر، دون ألم، دون نقطة دم، دقات الطبول تزداد ضراوتها، والإبر يتوالى غرسها في الوجوه، والآذان، والأنوف، والأذرع. وحملة السيوف يرفرفون بها فوق رؤوس الجميع، وشاذلي يا أبوالحسن صارت تميمة أو تعويذة ترددها الأفواه، وعلى إيقاعها تتمايل الأجساد في نشوة بالغة.

عندما فرغت يده من الإبر التى كان يحملها وأصبحت الآن منغرسة في أجساد المريدين الذين يرقصون في حبور واضح عاد هو إلى رقصته الخاصة، رافعا يديه إلى أعلى كأنما يمدد سلطانه على كل الواقفين للفرجة، فقد أسرهم المشهد وجمدهم وصاروا بالفعل تحت سطوته، النساء كن يطلقن الزغاريد حينما يقترب منهن واحد من دراويش الحلقة أو حملة البيارق. الدور الآن يخص حملة السيوف، بدأوا يتخلصون من ثيابهم، ليبقوا بسراويلهم الطويلة، حلقة صغيرة يدورون فيها حول المغربي الذي كان يمد يده ويأخذ سيفا من واحد منهم، والذي يسارع بالارتماء على الأرض، فوقه على الجزء العاري الظهر، البطن، الصدر، يضع المغربي السيف على حده ويرفع قدمه ويضعها فوق السيف، ثم يرفع جسده ليستوي واقفا فوق السيف، ثم يأخذ بالسير دون اهتزاز أو اضطراب، وأيضا دون أن يصاب بأذى هو أو أحد الراقدين المتتابعين، والذي يقف بعد أن ينتهي المرور عليه شاهرا سيفه ويرقص وهو يترنم "شاذلي يا أبوالحسن".

حميثرا.. حميثرا
هو علم المكان وعلامته الثابتة، ثبتته كلمات الشاذلي وجعلته خالدا، إنه "في حميثرا سوف ترى!" هكذا قال في زمانه تاركا للأيام من خلفه أن تنسج الحكايات حوله، بهدوء ودون تعجل، ففوق قمته جلس وتعبد مختليا حتى فاضت عيناه، وهكذا أصبح حميثرا ركنا مكينا بالنسبة للزاهد المتعبد، الراغب في الوصال، وشرطا مهما كي يتدرج المريد في سلوك الطريق، كي يصل إلى الدرجات العلى. هكذا استطاعت الأقدام المتعاقبة للمريدين والزوار، والراغبين بالتفرج من عل، والزهاد، أن تعبد طريقا شديد الانحدار للصعود إلى قمته، كأنما هذه الوعورة والمشقة تحاكي مجاهدة العروج، معراج الروح وجهادها الطويل والشاق كي تحصل على سلامها الداخلي، وتنعم بهبات القرب.

للصعود متعة خالصة، خاصة عند الغروب، فالشمس المائلة للاختباء خلف الجبال العالية تلون الأجواء بالأرجواني وتصبغ الوادي بحمرة خفيفة تحت سماء شديدة الصفاء والجفاف وقريبة المنال خاصة عند هبوط المساء الساحر الذي بذر النجوم الوضاءة والمتلألئة في قطيفة السماء ناصعة النعومة، لن يمكنك مشاهدتها بهذا البهاء اللطيف في أي مكان أخر، يخيل إليك أنك لو مددت يدك إلى السماء سوف تقبض على حفنة من النجوم. فوق القمة ستجد الكثير بداية من النسمات الخفيفة التى تغمر المكان، تجعل الصدور والوجوه في حالة من النشوة والانشراح، ستجد أن البعض: يتعبد، يصلي، يبتهل، يرقص طربا، يتناول حصوات من الأرض ويلقيها على أحد الصخور، ستجد الساكن المتأمل، والصاخب المستعرض، ستجد بعض الباعة، وعيال صغار يمرحون بين الصخور، سترى العيون التى تتودد للعيون، وستسمع كلمات غزل صريح يرميها بعض الشباب على مسامع الفتيات، الكل موجود ومن مختلف الأعمار، فوق الصخور المنعزلة سترى الأحبة المتساندين، جالسين متوحدين ومذهولين عما يجري حولهم أو في الوادي هناك تحت أقدامهم.

عرائس السيد
زفة صغيرة انطلقت من قلب المولد، من أحد الخيام الكثيرة المعدة على عجل، سيدة تحمل فوق رأسها صينية مليئة بالحناء على حوافها نصبت الشموع، يلتف حول السيدة مجموعة من البنات والنساء، البنات بملابسهن الملونة، بينما السيدات الأكبر سناً يرتدين الثوب الأسود المميز لنساء القرى غالبا. في هذا المكان لن تجد واحدة ترتدي الملابس التى تميز نساء المدن، سوف تصادف بعض الأعرابيات بملابسهن الدالة عليهن، حول الجميع يتلف مجموعة من الأطفال الذين يتابعون الزفة بحماس وبهجة.

واحدة من النساء تمسك بطار تدق عليه وينطلق صوتها بالغناء، اللازمة الأساسية هي تعويذة المكان "شاذلي يا أبوالحسن". تردد وراءها البنات والنساء بالغناء والتصفيق والزغاريد والرقص. كان الجمع الصغير يتزايد أفراده حماسة وهو يتقدم صوب مقام السيد الشاذلي، أغلب المنضمين إلى الزفة من النساء والبنات والأطفال بينما يقف المارون من الرجال والشباب يتابعون الزفة بعيونهم حتى تمر من أمامهم ثم يعودون إلى نشاطهم السابق. كنت كمن يرى أمامه إحدى زفات الحنة لواحدة من العرائس التى سوف تكون جلوتها الليلة، استعدادا لليلة دخلتها غدا، دخلت إلى قلب الزفة حيث السيدة التى تحمل الحناء فوق رأسها، سألتها أن تعطني قليلا من الحنة، قالت: عند المقام الكل يتحنى. سرت إلى جوارها قلت ممازحا: هذه حنة عروسة هي فين؟ قالت دون أن تلفت نحوى: كلنا عرايس السيد. توقفت مندهشا من عفوية الإجابة وسرعة الرد، لكن الحشد المتحرك بقوة وحماس دفعني للتحرك تحت "شاذلي يا أبوالحسن" التى تلف الجميع.

السوق
تنشط حركة البيع والشراء خاصة البضائع الرخيصة في هذه الصحراء: كالأطعمة والحلويات والسوداني وصور الأولياء والحرم المكي والمدني والقدسي وحميثرا. يقبل الناس على شراء تلك الصور الموضوعة داخل أطر رخيصة وبأحجام مختلفة، تلك التى سوف يرجع بها الزوار كدليل على زيارتهم للمقام، أيضا شرائط الكاسيت التى تمدح النبي عليه السلام، أو تلقى أشعار المتصوفة الكبار والمغناة بأصوات مشاهير المشايخ ك: ياسين التهامي، الدشناوي، الرواجحي، العطواني صاحب البردة، حنان النيل السودانية ذات الصوت الصحراوي القوى شديد التأثير، أيضا شرائط الأغاني الشبابية الحديثة، وأغاني الكف والربابة والسيرة الهلالية. أكثر البضائع هنا الحلي وأدوات التزين كالخواتم والحلقان والأساور غير أنها فالصو، حين سألت البائع: ألا يوجد فضة؟ تبسم في وجهي وهو يقول: مين المجنون اللي يجيب فضة ولا دهب في الجبال دي! وأنت في السوق بين الخيام والساحات وفي الطريق الرئيسي ستجد باعة الأقمشة وأدوات المطبخ وغرز الشاي، وسترى أيضا أصحاب المراجيح والنشان ولعبة القوة، لكن دون ألعاب الملاهي والسيرك الشعبي والشيكوبيكو، ولا الغرز الخلفية التى تقدم المشروبات الأخرى خلاف الشاي والقهوة والحاجة الساقعة فكل هذا لا وجود له هنا في قلب هذه الصحراء ذات الفتنة الآسرة.

في المقام
دخلنا إلى المقام المفروشة أرضه بالسجاد الأخضر وسط زحام المتدافعين والجالسين على الأرض، والمتعلقين بالأستار، الذي يبكي بصمت، والذي يبتهل، والذي يتمتم بقراءة غير واضحة، والذي يترنم بقصيدة، والذي تأخذه المواجيد فيصرخ وسط المقام فيقع مغشيا عليه. أيضا النشالون يمارسون عملهم هنا بهمة عالية تحت أعين الجند الواقفين للحراسة، حراسة صندوق النذور على وجه التحديد. تدخل من الجهة اليمنى وتدور حول المقام وتخرج من الباب القائم في الجهة اليسرى، الضريح بخشبه وتعشيقاته وسيطرة الأخضر عليه، يشبه أى ضريح لأي واحد من الأولياء أو آل البيت، لكنك رغم ذلك تشعر بالرهبة والجلال وأنت داخل هذا المقام. في حرم الضريح من الخارج استراح بعض الناس ليكونوا جزءا من الزحام العام الذي يعصر المنطقة كلها حول المقام وأمام المسجد، واحدة من النساء كانت جالسة تمشط شعرها وتضع لمسات خفيفة من الزينة كالكحل وأحمر الخدود والشفاه أمام مرأى الجميع.

خرج رجل من الضريح يحمل طفله الصغير فوق يديه، الطفل يبدو عليلا، نظرة عينيه ولون الوجه المخطوف، وسكونه فوق يدي والده، كانت الدموع تغمر وجه الأب والقلق واضح على محياه، اقتربت منه أساله عن الوليد، أراح الطفل على كتفه وهو يقول: والله يا أستاذ دورنا بيه على حكما الدنيا، يقصد الأطباء، وكان وهو يريح الطفل قد انكشف ذراعه من داخل كم الجلباب الصعيدي الواسع والعريض، رأيت وشم الصليب على رسغه فبان الاستغراب في وجهي، ابتسم الرجل وهو يحاول أن يدارى دموعه قال: أولياء الله، مشايخ، قدسيين، رجال ربنا، وربنا لا يفرق بين عبيده. هززت رأسي مستفهما، قال: بتوع ربنا لا يهم كونهم مسيحيين ولا مسلمين، المهم إن ربنا أختارهم، وجعلهم سبب لطرح البركة. حاولت أن أعلق لكنه تسرب وسط الزحام، وأنا تلقفني جيش من الشحاذين المتكأكئين أمام باب المقام، شحاذون من مختلف الأنواع والأعمار لكن الغلبة دائما للنساء وحاملات الأطفال على أكتافهن، ومهما تكن قوة ردعك سيكون إصرارهم فهذا موسم وتلك بركات ما إن تتخلص من واحد حتى يصطادك أخر، لن يكون لك طريق للنجاة إلا بالابتعاد عن المقام بسرعة وبقوة حسم.

مساء الأسئلة وسيادة الإيقاع
ما أن يحل المساء حتى يغرق المكان في الأضواء والألوان والأصوات، فالسرادقات وساحات المتصوفة تحولت بعد صلاة العشاء وتناول طعام العشاء إلى حلقات من الذكر وقراءة الأوراد بصوت جماعي يشبه دوى النحل، سرادقات اكتفت بأبناء طائفتها يقودون حلقة الذكر ويوجهون الإيقاع، وساحات جاءت بكبار المنشدين فكان نصيبها من الحضور مرتفعا، أبناء الطائفة بالإضافة إلى الجمهور العاشق لصوت هذا المنشد أو ذاك. الليلة الختامية ليلتنا، ليلة وقفة عرفات، حركة البيع والشراء على أشدها والعربات بمكبرات الصوت "شاذلي يا أبوالحسن" بين قادم للحاق بالليلة الكبيرة ومنصرف ليدرك عيد الأضحى بين ذويه، في قلب هذا يصلك الصوت أسمها: الحاجة سعدية فوق الستين، ترتدي ثوباً أسود، وطرحة بيضاء وفي يدها كيس، عقلها بيتوه شوية، اللي يشوفها... ويضيع الصوت بين الأصوات الأخرى. لكن السحر هو ما تصنعه الموسيقى، تحديدا الإيقاع، فما أن تدخل إلى سرادق أو ساحة حتى تعلق بالبهاء وتبقى غير قادر على المفارقة، تنهال عليك المشروبات كالشاي أو القرفة أو الينسون، تشربها وروحك تتشرب الموسيقى وقوة الصوت وصفاؤه.

حركات الذكر وتقلباته بين حسيني وملفوف وخلوتي تدور هنا وهناك، سترى بعض النساء وقد دخلن إلى ساحة الذكر يتمايلن كما الرجال وفقا للإيقاع والبعض منهن وقفن على الأجناب مكتفيات بالفرجة والتمايل مكانهن، ورغم الأعداد المتكاثرة للمتصوفات من النساء والمريدات والمحبات إلا أننا لن نصادف أبدا وعلى مر التاريخ، طريقة صوفية تحمل اسم امرأة، وكأنه شيء ذكوري خالص، لم يكن منهن أقطاب أو صاحبة طريق وطريقة، فمثلا الشيخة زكية عبد المطلب وهى واحدة من مريدات الشاذلي الكبار ولها ساحة كبيرة يأتي إليها أحبابها وأحفادها ولها مجموعة من الكرامات التى يحيكها مريديها كانت كافية لو أمتلك واحد من الرجال ثلثها لتحول إلى قطب وولي كبير.

وإذا كان يحمد لأهل التصوف الحفاظ على الموسيقى وتراثها من الاندثار والضياع إبان عصور الاضمحلال والانحدار وهو ما يضعهم في مواجهة حادة مع أهل الظاهر/ أهل السنة الذين ينظرون إلى الموسيقى على أنها مزامير الشيطان والفاتحة لأبواب الشهوة والجسد والهوى، بينما ينظر لها المتصوفة/ أهل الباطن على أنها نفحة من نفحات الجنة نزلت مع آدم لتخفف عنه قسوة العقاب وبالتالي هي رابط أساسي يربط بين السماء والأرض كأنها خيط موصول على العابد المتدرج أن يتمسك به إن أراد العروج بروحه إلى السماء ليحلق في رحاب الملكوت. سحر الموسيقى الذي يسيطر على الجميع يعتمد أساساً على الإيقاع ووحداته التى تتوافق عليها حركات الذاكرين، دبة أقدامهم، دقة قلوبهم، نبض الدم الساري في العروق، الأنفاس التى تدخل الصدور وتخرج محملة بشوق الروح وتوقها لنيل الوصال المرغوب، إغماض العين عن الدنيا وعلائقها والتودد إلى المحبوب، القريب، البعيد، الغائب وكأنه حاضر، الآن وهنا، تطويحة الايدى والأذرع، مطلقة ارتباطاتها الأرضية، والاستعداد للحظة تحليق ورفرفة، قادمة لا محالة.

فوق كل هذا ينهمر الشعر بصوت جميل مؤثر، قصائد لكبار المتصوفة ومحدثيهم، ويا لائمي في الهوى، والهوى قدر...

وشربنا على ذكر الحبيب مدامة سكرنا بها من قبل أن تخلق الكرم

وأدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني

وغيرها الكثير من الأراجيز والمووايل الشعبية والقصص التى تحكي كرامات الأولياء بشكل شعري.

الليل يأخذ في التقدم والبهاء يعم على المكان حتى طلوع الفجر والذي مع ارتفاع صوت المؤذن يأخذ الجميع في الذهاب إلى الصلاة أو الرحيل والكل يمنى نفسه بعودة في العام المقبل.


حميثرا ـ أسوان
ذي الحجة ـ ربيع أول 1424هـ
فبراير ـ مايو 2004م