تنظم جامعة عبد المالك السعدي كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان ومركز الدكتوراه في الآداب والعلوم الانسانية والترجمة ومختبر التأويليات والدراسات النصية واللسانية، مؤتمرا علميا السنة القادمة حول موضوع "الحاجة الى التأويل"، الندوة العلمية التي نقدم هنا أرضيتها تدعو جميع الباحثين الى المساهمة ببحوثهم وأوراقهم ومداخلاتهم، في أفق أن يشكل هذا المؤتمر العلمي محطة لاستقصاء لحظة معرفية بامتياز.

في الحاجة إلى التأويل

لا بأس- قبل الحديث عن الضرورات التي تدعونا اليوم إلى التحصّن بالتأويليات بوصفها ممارسة معرفية لا محيد عنها في الوسط الأكاديمي أو غيره من مناحي الحياة- من إثارة بعض القضايا المتّصلة بالتأويل، والتي نعُدُّها ممهِّدة لما نرومه في هذا الملتقى من مقاصد، ونعُدُّها مبادئ ترسم الآفاق التي يتوجّه عملنا صوبها في مختبر "التأويليات والدراسات النصيّة واللسانيّة ".

إذا لم يكن التأويل قد كُرَّس بوصفه علمًا؛ فهو على الأقلّ يُعَدُّ صناعة يُجدَّل داخلها بين فنّ مهاريّ في استنباط المعنى وتدبير تسويغه وبين المعرفة مُتعدِّدة المشارب والحقول؛ ولن نُطنب في تحديد موضوعه، ونكتفي بالقول إنه يتّخذ له مهمّة أساسًا تتمثّل في الكشف عن المعنى الذي تسعى النصوص إلى تبليغه، والخروج به من منطقة عدم التحديد إلى منطقة التحديد؛ ويتمّ هذا الصنيع بوساطة التضافر بين عمليتي الفهم وأطره والتفسير وشروطه، ومراعاة الشسوع النصّيِّ، وكيفية تدبير التلاؤم بين أجزاء القول داخل كلٍّ من المعنى منسجمٍ غير متنافر أو مضطرب. وقد لا نجانب الصواب إذا نحن عددنا مجال التأويل ماثلًا في الحياة والعيش معًا؛ ومعنى هذا أنّه ممارسة يوميّة، يستحيل من دونها التفاهم بين البشر وإنجاز التبادلات والمنافع بينهم. وقد يحدث سوء الفهم المفضي إلى المهالك نتيجة إساءة التأويل، أو خرق أطر الفهم التي لا بد من التجديل بينها والاجتهاد الشخصيّ. وربّما كان اللسان نفسه تركيبًا ودلالةً وتداولًا مبنيا على ضرورات تأويليّة أو تسهيل فهم العالم، واستضمار العلاقات المؤسِّسة للمعطيات التي يتكوَّن منها. إنّنا لا نُنتج الأقوال ونتلقّاها إلّا وفقا لكفاءات تأويليّة، ويقاس حجم نجاح التواصل بين الناس بحجم استضمار قواعد تأويلية محدَّدة مكتسبة عبر تقاليد استعمال اللسان داخل مجتمع ما أو تقاليد رطانة ما داخل جماعة معيَّنة.

هل التأويل خاصٌّ بالعلوم الإنسانية؟ سؤال كان المحرِّك الأساس لسجال أُسِّست بموجبه بداياتُ الدراسات التأويليّة، وربّما ما زال حاضرا إلى يومنا هذا. وقد كان الاختيار حاسما في جعل التأويل فرضًا للتعيّن داخل مجرى معرفيّ محدَّد؛ أي حصره في مجال الإنسانيات، واتّخاذه عنوانًا أساسًا لتمييز هذه الأخيرة من العلوم الصُّلبة. ويضادّ هذا الحسم النظريّ الأصل في الأشياء: كلُّ الحياة تُعَدُّ نتاج التأويل. والسبب في إقامة التمييز المذكور آنفًا عائدٌ- في جانب كبير منه- إلى المضمر المعرفيّ الذي كان وراء الخصام بين منظري التأويليات والعلوم الصُّلبة، وليس هذا المضمر التعارض بين الموضوعي والروحي فحسب، بل أيضًا التعارض بين التعدّد والوحدة؛ والحال أنّ العلوم الصُّلبة نفسها لا تنفلت من التأويل، وبخاصّة التي تستدلّ على استنباط الحقيقة بالاعتماد على الأعراض symptômes(الطبّ مثلًا). وكلُّ معرفة تقبل السجال لا يُمْكِنها أن تنفلت من فاعلية التأويل؛ إذ تكُون مرغمة على اللجوء إليه بغاية تحقيق التفاهم حول موضوع ما لم يصل القصد منه إلى الوضوح المطلوب، وإخراجه من العتمة نحو النور. والمعرفة العلميّة ليست استثناء في هذا النطاق؛ فهي معرضة للسجال بدورها، بما يعنيه هذا من نزوع حول التفاهم. ويبقى الاختلاف كامنًا في درجة الاتّفاق حول المعنى المؤوَّل؛ فهو الفاصل بين التأويل في العلوم الإنسانيّة والعلوم الصُّلبة؛ إذ يكُون اتّفاقًا نسبيًّا متحرِّكًا في التاريخ في الأولى، وفي غير حاجة إلى مراعاة الإجماع عليه، لأنّ الموضوع يتغيّر وتتبدّل سياقاته في الزمان، بينما ينحو الاتّفاق حول المعنى المؤوَّل في العلوم الصُّلبة صوب الإجماع، ويتميَّز بالاستقرار لمدّة من الزمان، وما أن يصير عديم الجدوى يُهجر نهائيًّا. ما نريد وضعه موضع نقاش- هنا- هو مدى إمكان تعميم التأويل ليشمل كلَّ المعارف- سواء أكانت إنسانيّة أم صُلبة، حتّى نتبيّن الحاجة إليها في عصرنا هذا بغاية فهم جيِّد للوجود، وتحسين الشرط الإنسانيّ في كلّ مناحي الحياة؛ فإبعاد العلوم الصُّلبة من مجال التأويل يُفضي إلى فصلها عن الحياة، والتفاهم حول المنافع والتبادلات في ما بين الأفراد والمجتمعات. وإذا كانت الغاية من كلِّ معرفة ماثلة في تحسين شروط الحياة فإنّ السعي إلى تحقيقها لا يُمْكِن فصله بتاتًا عن تحسين ممارسة التأويل نفسه.

إذا كان التأويل الأساس الذي تُبنى بموجبه الحياة السليمة، وكان كامنًا في صلب كلّ معرفة مع تفاوت في طبيعة ممارسته والطرائق التي يحدث بوساطتها من حقل إلى آخر فإنّ كلّ تأويلية عامّة تسعى إلى أن تكُون موحَّدة في الاشتغال والأدوات مصيرها الإخفاق. ولهذا لا بدّ من الحرص على بناء تأويليات خاصّة مرتبطة بنوعية الحقول التي تتمّ فيها. فالتأويلية التاريخيّة غير التأويلية الأدبيّة، لأنّ الأولى هي شبيهة بعلم الطبّ؛ إذ لا يُمارس المؤرِّخ تأويل المعنى التاريخيّ إلّا استنادًا إلى مصادر ووثائق وأرشيف وروايات شفهيّة لمن عاصر الحدث التاريخيّ، ولا بدّ أن يُراعي في عمله شروطًا بحثيّة محدَّدة؛ وهو غير معني بالرموز وتعدّد المعاني، بل لا يقف إلّا على ما يُدعِّم وضوح الحدث. بينما المؤوِّل الأدبيّ يهتمّ بالمعنى المضمر غير الظاهر، وما يُعَدُّ مُلغِزًا في الإنسان، ولا يقف عند الزمان من حيث هو ترتيبات إرادوية تتّصل بحياة مجتمع، بقدر ما يقف عند الزمان من حيث هو ظاهرة أنطولوجيّة تعكس التوتّر بين المثالي والواقعي. كما أنّ المؤوِّل الأدبيّ يهتمّ بالرموز وحياتها الممتدَّة في الزمان، وتفكيك السُّنَن codes التي تعمل بوساطتها بغاية مغالبة الالتباس الذي يُحيط بها. وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة إلى التأويليتيْن: التاريخيّة والأدبية فإنّه يصدق على كلّ التأويليات الأخرى المتّصلة بمختلف حقول المعرفة.

تُفضي مسألة التأويليات الخاصّة إلى مسألة أخرى لا تقلّ عنها فائدة، وهي أنّ أيّة تأويلية خاصّة مرتبطة بحقل معرفيّ معيَّن لا بدّ لها من أن تكُـون مؤسَّسة غيـر متروكة سائبة حرّة. وحتّى يكـون هـذا واردًا لا منـاصّ من مراعـاة شرطيْن: أ- إعادة تأسيس الحقل المعرفيّ وفق ضوابط علميّة وعمليّة، بما يسمح بتنظيم الفعل التأويليّ فيه، وتحصين ممارسته من الاضطراب، ومن الاستخدام غير العلميّ لأغراض تتنافى مع الغايات منه. ب- إعادة صياغة ممارسة التأويل وفق اقتضاءات الحقل المعرفيّ ومجال اشتغاله، وتخليصها من التعميم الذي قد يُسقطها في التعسّف والتمحّل والشطط في تدبير المعنى. ويكتسي كلٌّ من الشرطين المذكورين اليوم أهمّية كبرى في تدبير علاقتنا بالذات والغير والعالم والطبيعة والمجتمع، وبخاصّة في عالمنا العربيّ، وفي كلّ الحقول (السياسية، والثقافية، والتاريخية، والدينية...الخ)؛ فلا مخرج لنا اليوم من التسيّب الذي يطول كلّ الحقول المعرفيّة من دون استثناء، وبخاصّة الحقل الدينيّ، إلا بتأسيس هذه الحقول وفق التأويل وشروطه، وتأسيس الممارسة التأويليّة في ضوئها. وتكمن الغاية من التأسيسين المذكورين في عدم ترك الممارسة التأويليّة الخاصّة بمختلف المعارف في متناول غير أهلها، والقطع مع الممارسات التأويليّة غير التامّة وسط الحقل المؤسَّس. ولعل المصائب التي يعيشها العالم العربيّ اليوم هي ناتجة في معظمها عن ترك أبواب التأويل الدينيّ مفتوحة امام الجميع من دون جعلها مرتهنة بالحقل الخاصّ بها؛ الشيء الذي ترتّبت عليه فوضى لا نظير لها في تأويل النصّ الدينيّ. قد يحاجّنا البعض فينكر علينا هذا التأسيس بدعوى انّ الممارسة التأويليّة هي من صميم الحياة- كما قلنا في بدابة هذه الأرضية-؛ ومن ثمّة ينبغي أن تكُون ديمقراطيّة متاحة أمام الجميع، لكن حجّة من هذا القبيل تسقط ما أن نفصل بين الممارسة التأويليّة الطبيعية المتعلِّقة بممارسة الحياة والممارسة التأويليّة المعرفيّة التي تجعل من الأولى موضوعًا لها. أمّا الجانب الديمقراطيّ للتأويليّة فعليه أن يأخذ بعين المراعاة أنّ التحلي بالديمقراطية سلوك منظَّم، وخاضع للمأسسة، وليس ممارسة تقوم على الفوضى.

تقتضي الحاجة الملّحة إلى التأويل اليوم إلى مطارحة قضية لها أهمّيتها البالغة في تحسين الممارسة التأويليّة، وتتّصل هذه القضية بشرط الحرّية، وهي ماثلة في الدعوى القائمة على تجنّب الهاجس المنهجيّ في التأويل بمبرِّر أنّ المنهج متّصل بالعلوم الصُّلبة ومحاكاتها في مراميها وأدواتها. لكنّ دعوى من هذا القبيل- على الرغم من طابعها الاستراتيجيّ الماثل في اقتراح عناوين مفتوحة- تُفضي إلى مأزق الافتقار إلى دليل العمل الذي يُنظِّم الفعل التأويليّ، ويجعله بمأمن من التعسّف في استنباط المعاني، ويُمكِّنه من تحسين التعلّم المهاريّ الذي هو في نهاية المطاف الغاية الأسمى من التأويل. ومن ثمّة لا مناصّ في التأويل من عمل منهجيّ قائم على آليات وضوابط. وينبغي فهم العمل المنهجيّ- هنا- بوصفه شبكة من المعايير والمبادئ التي تنظِّم الممارسة، وتجعلها مسؤولة أمام اختياراتها وتطبيقاتها. وينبغي إقامة نوع من التجديل بين منهجية التأويل والممارسة التجريبية من طريق التصويب الذاتي؛ حيث يضطرّ المنهج التأويليّ إلى تحسين أدائه بتقبل مبادئ وضوابط جديدة والتخلي عما لم يعد ملائما، وبخاصة الاتفاق على أطر الفهم وآلياته.

وممّا يُثار في مجال التأويليات اليوم مسألةُ التعدّد في بناء المعنى المؤوَّل، وارتباطه بما بعد الحداثة وأصولها المعرفيّة والفلسفية. فهل يحقّ لنا- ونحن نربط ما يحدث في عالمنا العربيّ بالحاجة إلى التأويل- أن نتبنّى تصوّرًا تأويليًّا من هذا القبيل؟ لسنا ضدّ التعدّد، وإنّما نحن ضدّ لا نهائية المعنى، والمغامرة به خارج أطر الفهم المتّفق عليها مرحليًا من داخل التأسيس التأويليّ. وإذا قبلنا بالتعدّد فلأسباب تتعلّق بعدم جعل الممارسة التأويليّة مغلقة على نفسها، ولها عواقب غير محمودة على المستوى السياسيّ؛ فتصير مدعِّمة للرأي المستبدّ. لكنّ قبول التعدّد هذا ينبغي أن يكُون منظَّمًا، ومسوَّغًا منهجيًا، ومستندًا إلى حجج مبدئيّة؛ وفي مقدّمتها مراعاة أطر الفهم الضابطة المتّفق عليها، ومنها بخاصّة تسويغ اقتراح التعدّد نفسه بوصفه احتمالات للمعنى. كما ينبغي- في هذا الإطار- مراعاة الآخر المختلف، وعدم تجاهل تاريخية المعنى. ولم نقبل بـ"لا نهائية" المعنى، لأنّها تتحوّل- في نهاية المطاف- إلى مسوِّغ للجنوح ببنائه نحو تعميق التباسه بدلُا من المساهمة في الاقتراب منه، ولأنّها قد تسمح بتبرير كلّ أنواع المغالطات؛ والحال أنّنا أحوج اليوم في العالم العربيّ إلى الوضوح في كثير من حياتنا.

ونقترح في نهاية هذه الأرضية محاور كبرى للمؤتمر المزمع عقده يومي 25- 26 أبريل 2018 بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان- جامعة عبد المالك السعدي.

في الحاجة إلى التأويل

تأويل التراث في ضوء حاجات الراهن،

إشكالية الراهن وتأويل النص الديني،

موضعة التأويل في النص الأدبي،

تأويل النص التاريخي،

التأويل والنص القانوني،

التأويل والنص العرفاني،

مناحي التأويل في البلاغة،

حدود التأويل الفلسفي،

أخلاقيات التأويل.

جامعة عبد المالك السعدي

كلية الآداب والعلوم الإنسانية

تطوان

مركز الدكتوراه في الآداب والعلوم الانسانية والترجمة

مختبر التأويليات والدراسات النصية واللسانية

مؤتمر "في الحاجة إلى التأويل"

لجنة الإعداد والتنظيم

مصطفى الغاشي، مدير مركز الدكتوراه

محمد الحيرش، منسق المختبر

أحمد مونة

عز الدين الشنتوف

عبد الرحيم الإدريسي

لجنة الإعداد الأدبي والعلمي

مصطفى الحداد

عبد الرحيم جيران

سعيد غردي

رشيد برهون

عزيز بوستا

يحيى بن الوليد

لجنة التواصل والمتابعة الإعلامية

عبد الحكيم الشندودي

عبد السلام دخان

محمد العناز

محسن الزكري

عماد الورداني