أفرك عيني وأنا أحث جسدي المنهك على النهوض فتؤلمني ويعاندني النشاط. أستسلم للحظات سكون لعلني أتحرك، فتتحرك ذاكرتي وتنشط، هو ذلك الفيلم بالتأكيد الذي تسمرت من أجله أمام الشاشة ليلة أمس، أثار عواطفي، إنسانيتي، دموعي، والذي حصد سبع جوائز سيزار. ليس بيني وبين(سيرافين) وجه شبه لا شكلا، لا مضمونا او حياة، تلك الخادمة ـ التي جرفها عشق مزج الألوان وريشة أنامل إبداع تزهر، لتتجسد على أقمشة خام في وحدة قاتلة،جوع، برد،عزلة،شهرة مؤقتة- قادتها الى الجنون، لكننا نتشابه في ذات العشق (الرسم) هي أتقنته، وأنا توقفت عند حدود التذوق لهذا الفن الراقي والبديع، لأتقن فنون الحياة الارستقراطية ـ الصورية ـ بأن أجيد كل شيء ولا أجيد شيئا..!
ميولي منذ الصغر اتجهت نحو الفن بكل أنواعه، حلمتُ أن أكون راقصة بالية، مطربة ذات
صوت مخملي، ممثلة على خشبة مسرح، مذيعة،رسامة، عارضة أزياء، سياسية بارزة تناكف الحكومات، كابتن طائرة، أو حتى مضيفة، المهم ان أكون فوق السحاب مكانة و شهرة..! ولم أكن لأجد معارضة من أهل أو مجتمع، لكن أحلامي أخذت منحنى آخر، فبت أقف في طابور المتفرجين أمتع نظري وأغذي روحي بكل مدهش من تلك الفنون.
أنهض متثاقلة فيومي حافل، لا مجال لاستعادة الذكريات والأمآل التي تبددت مع الايام، والواقعية هي ما يعايشني ويلتصق بي رغم خروجي عن المسار وتمردي في كثير من الاحيان. أمشي على رؤوس أصابعي كي لا أزعج أصحاب البيت، فهناك من ذهب باكرا إلى العمل، وهناك من يستعد للنهوض. أدخل المطبخ، أعد فنجان قهوتي العربية، أفتح باب الحديقة، أشعل سيجارة، وأقف لاسحب نفسا وأتجمد من الصقيع، الضباب يغطي الحديقة الشاسعة وخلفها اراض زراعية تختفي تحت بساط من بياض زائر الشتاء الناصع، فالقوانين هنا تحظر التدخين داخل المنزل، وأنا كضيفة علي الالتزام بكل لوائح الممنوعات والمحظورات ومراعاة واجب الاقامة في منزل يفتح لي بابه بالحب والترحاب.
على المائدة ألمح ورقة بيضاء تشمل قائمة مأكولات علي اعدادها لضيوف المساء وبعض الاعمال المنزلية ـ التي لا اجيدها بحكم الدلال الذي أنعم به ورفاهية الخدمة ـ فيها كلمة لو سمحتِ، مذيلة بشكرا..!
أتنهد بصوت عال وأقول يا فتاح يا عليم، ربنا يسترمع بداية هذا النهار، فأنا احتاج الصبر، الهدوء، والقوة ولا املك سوى عشرة أصابع وساقينن.! لعن الله اليوم الذي تعلمت به فن الطهي والمطبخ مكرهة ومرغمة كي أكون امرأة كاملة المواصفات في عين الاسرة، المجتمع، وأجاري المظاهر البراقة. زادها النفسُ الطيبُ على الطعام و الذي جعلني أشهر من ـ الشيف رمزي ومنال العالم ـ في محيط العائلة والأصدقاء.
دقائق تمر، يدخل ذلك الشاب اليافع مسرعا يعانقني، يلف ذراعه حول خصري، يلقي تحية الصباح، يحمل حقيبة تتناسق مع ملابسه الرياضية الانيقة ويسرع بالخروج، من المؤكد انه بعد سنة او اثنتين ستلاحقه الصبايا في كل مكان فهو وسيم وطلته تشبه نجوم هوليوود. يليه صوت الأميرة التي القبها بالليدي ديانا، تخرج من غرفتها مسرعة، لتقبلني وترفض الفطور فقد تأخرت عن درس الموسيقى، تركض كالغزال نحو الباب، ترشق كلمات أسمع منها سأعود متأخرة، الاحقها بقراءة المعوذات والدعاء، بأن يحفظها من شر فتنة أولاد الحرام ورفاق السوء في بلاد الغربة.
كلما نظرت اليها أجد مراهقتي وبراءتي وحيويتي وذلك التفاؤل في الاقبال على الحياة دون خوف او مسؤولية سوى مسؤولية التحصيل العلمي والفوز بكرسي في الجامعة على نفقة الحكومة. ترى من بقي في البيت سوى الملاك الصغيرابنة العامين؟
أتنقل بين الغرف، أرتب الاسرة بدقة كما رتبت حياتي، أطوي الملابس أعلقها كما طويت جراحي وعلقتها في دولاب الزمان. أهو الهدوء، الصمت، الدفء، البعد عن الضجيج في هذا العش الانيق مايعيدني لنبش الذكريات بتروٍ دون احساس باللألم او الندم ؟ ولمَ اندم على ماض فات، تعلمت منه كما يتعلم من يدخل مراحل الصفوف المدرسية، ينجح،يرسب، يفشل، يتفوق، يخطيء ويصيب لكن يبتعد عن ارتكاب الذنوب فالخطأ بالامكان اصلاحه أما الذنب فقد تمر سنوات لا يغفره ضميرك ويبقى يتبعك كظلك رغم كل حسنات مسارك فلا تملك حذفه بسهولة اقترافه بحق نفسك،حق من حولك متعمدا او عن سوء ادراك لعواقب وخيمة.
وانا بسطت يدي صالحت الماضي لم أعد أتحسر، أغضب، ألعن الظروف،وصالحت نفسي ضمدت الجروح، اخفيت الندوب، تناسيت، تغاضيت فغدت أيامي تسير بسكينة قلبي الذي كان يشتعل ويلتهب لابسط الاسباب..!
رنين الهاتف يعيدني الى حيث أقف، صوتها يأتي برجاء، نسيت الغسيل وملابس لم تكوَ، مع اضافة طبقين فقد زاد عدد القادمين، دون سؤال أو تعليق أغلق الخط..!
التقط الغسيل قطعة قطعة أنشرها ملونة على حبل الغسيل حمراء، صفراء، خضراء، سوداء، رمادية، ولتجف كجفاف كاد يزهق روحي، لكنها،تمازجت، تلونت، طعّمت سنوات عمري بآمال تحققت،أخفقت،ومرت!
منذ متى لم امسك المكواة .. لعله دهرٌ..!؟
أمشي بها فوق الثياب وكأني امشي في دروب الثنيات والتجاعيد في وجه زماني،في كل ثنية قصة، وكل تجعيدة حكاية، أحداث خالطتها دموع، ضحكات، تضحيات، وتنازلات..! انظر نحو عقارب الساعة، أتبعثر بين دقائقها وثوانيها، سرقني الوقت بين ماضٍ وحاضرٍ. وصوت البراءة من غرفة بعيدة يعلن حالة التأهب لشقاوة ستبدأ، لابدأ معها نمطا جديدا من المطاردة، الملاحقة، المتابعة واللعب مع الطفولة العذبة.
تعانقني، أضمها الى صدري، وبخطوات راقصة أطير بها نحو المطبخ فتتطاير حروف نصفي الآخر امامي.
رسالة أثيرة هدهدت الشوق، قربت المسافة، بددت الخوف، حضنت القلب، مثله مغرمة بالفن، المسرح، الموسيقى، الكتب، تجتمع افكارنا، هواياتنا، اهتماماتنا حول تلك الثقافة وذلك الابداع فتتوطد عرى المحبة وتزيدنا التصاقا..
"مع لوحات رينوار الذي رسم السعادة، أبعثُ لكِ بعض موسيقى شوبان كي تصاحبك أثناء جولتك معه، وأنا الف ذراعي حول خصرك الرقيق، أشرح كيف استطاع رينوار أن يرسم السعادة مقطرة، وأن عري بعض نسائه ليس اثارة، وانما الرغبة في الحب والعطاء، فأي امرأة أنت اليوم في لوحات ذلك الفنان ؟.. أشتاقك..!! لا تنسي مشاهدة فيلم «افاتار» فيه خيال علمي وهو مرشح كما تعلمين لجائزة الاوسكار."
وبدلا من افاتآر كنت قد رافقت بعض الاصدقاء مع اطفالهم لمشاهدة فيلم «الاميرة والضفدع» وغفوت أثناء العرض..! أضحك، أثرثرمع الصغيرة المربوطة في كرسيها تتناول الطعام، أسألها: ماذا لو رآني رينوار أقطع أنواع الخضار،أضيف الملح والبهار، لكان حتما كسر الفرشاة، ألقى الألوان وعاف المدرسة الانطباعية، الرسم والنساء وأتخذ مهنة اخرى..
أما شوبان صاحب الافتتاحية الرابعة والعشرين، السيمفونية التي عرفت بملكة الافتتاحيات، عبق البطولة البولندية، تُعزف في جميع المناسبات والحفلات الرسمية، فذاك شأن آخر من المؤكد انه لو علم اني اسمع عزفه في صفير طنجرة البخار، أمرر السكين على اللحم صعودا وهبوطا مع دو ري مي السلم الموسيقي، أراقص الدجاج على مفاتيح البيانو، أعزف السيمفونية الملوكية على تقليب الملوخية لحطمه واعتزل..!
اداعب مُدللتي، أنقلها الى قفص الألعاب، دمى، مكعبات، مربعات، أصوات تعليمية لم تكن متوفرة في ايامنا ولم نكن لنحصل عليها، تجذب النظر وتود لو عدت طفلا تتمتع بكل تلك المنتجات البديعة باشكال جذابة، تختبر الذكاء، تنمي الوعي، الادراك، التركيز،تحرك المخيلة وتشغل عن الاذى، حتى أفلام الكرتون اختلفت لم تعد توم وجيري فقط هناك فضائيات متخصصه في توجيه الطفل وتعليمه من سنته الاولى، وهاهي شخصيات دورا، ماني، وشارلوت تخطف انتباه صغيرتي فتهلل وتقفز فرحا..
أسارع لاستكمال اعداد السلطات والمقبلات على ألحان ادندنها، أتمايل معها لاخفف من سرعة أفكاري وهواجسي المبهمة..
يعم الهدوء فجأة ويُغلفُ جدارن البيت صمت رهيب،تسكت الاصوات والصغيرة تشير الى التلفزيون، لاجد التيار الكهربائي انقطع بسبب الرياح القوية، يتدفق الدم الى راسي ويمتلكني شعور الغضب والذي أحاول منذ الصباح تجاهله، فهذا المنزل والذي اسميه بفضل التكونولوجيا الحديثة وبرغم جماله وروعته ـ سجن خمس نجوم ـ كل مافيه يتوقف وتُعزل عن العالم الخارجي بكبسة زر من الريموت حتى وأنت في سريرك، الابواب، النوافذ، الاثاث،الحاسوب،التدفئة، الأضواء، ادوات المطبخ، المايكرويف، الفرن و الغاز...
يا الله الغاز الطعام .. ماذا افعل؟ لا يوجد من يهب لنجدتي في هذه المنطقة الريفية النائية المحاطة بالغابات،لا جيران، أهل يهبون بلحظة لمساعدتك، لا مواصلات هنا الا لمن يملك سيارة او دراجة، كم صعبة الحياة في هذه البلاد رغم حضارتها .
الحمد لله الموبايل يعمل لأجري اتصالا سريعا تاتيني توجيهات، ادخُلي المخزن تفقدي المفاتيح ان كانت مرفوعة يكون الخلل خارجيا عليك عبور الحديقة الى ناصية الشارع هناك صندوق لساعة المنزل ارفعي الازرار! بهذه البساطة وأنا أغلي!؟ أركض دون شال او معطف في عاصفة ثلجية،هواء ينخر العظم وقدمي العارية تغرز في البساط الابيض يكاد يصل الركبتين أرفع المفتاح ليعود التيار للمنزل، وينقطع عن جسدي المرتجف،المتصلب من الصقيع و الذي يحتاج صدمة، وصعقة كهربائية بفولتٍ عالٍ تعيد دمائي للجريان ورئتي للتنفس.
لماذا انا..؟ ولماذا تلاحقني الهموم وتستهدفني المتاعب حتى في اجازتي؟ تعاودني لحظات التمرد، تتملكني الثورة العارمة، أمسك الاطباق أحيلها شظايا على ارضية المطبخ، أهم أن أصرخ..أصرخ فتتكسر الصرخة على شفتي وتقف امام تدفق شلال دمع خلته لن ينضب.
رفيق الدرب من أحتاج اليه في تلك اللحظة، كلماته، هدوؤه، حنانه، صوته يهمس في اذني تمهلي لا أسمع ما تقولين، كلمة، كلمة، تمالكي أعصابك، هدأي من روعك، لكل مشكلة حل والوقت يقف في صفك،لا تفسدي ما تبقى من نهارك،لا تدعي التعب يؤثر فيك وأنت ما اعتدت على أداء تلك الاعمال المنزلية، ومازالت امامك مهمة استقبال الضيوف، استلقي قليلا، رافقيني في الخيال لمسرحية، أوبرا، اشتهي لقمة من اصابعك يا (دلع)..!
كلمات سحرية منمقة تخدر أعصابي، فأمسك المكنسة أجمع الزجاج المكسور ألوم عصبيتي ماذا لو مشت ملاكي حافية وأدمت قدميها هل كنت سأغفر لنفسي هذه الحماقة..!؟
السيارات تتوقف تباعا، سباق جريٍ نحو الباب المشرّع للاستقبال، معاطف، قبعات، احذية، مظلات تتكوم، وأجساد تبحث عن الدفء والراحة بعد دوام عمل شاق وهي تتجه نحو المائدة بين الشموع المضاءة و الورود المعطرة في الزوايا.
تنهال على وجهي القبلات، كلمات الاطراء والاعجاب مع تذوق الاطباق، ونظرة امتنان تتبعني من عيون أحبائي تذيب قلبي، وتدمع عيني.
يمر الوقت بين ضحكات وأحاديث لا تنتهي، فانسحب دون ضجيج مع صغيرتي لادع الشباب يتركون المقاعد الوثيرة ويفترشون الارض ليستمتعوا بامسية جميلة.
قبل أن تنام تطلب مني الغناء chante، chante وسرد حكاية، لاأكاد ادندن ـ نامي يا صغيرة نامي ـ حتى تغط في سبات عميق.
مابين باب الحمام وباب بركة السباحة الداخلية ألمح في المرآة انعكاس لوحة لوجه امرأة مليحه رشيقة القوام، انيقة الهندام تشع عيناها حنانا ودفئا، تزينها ابتسامة رضى رسمتها يد الخالق دون رتوش، انامل موسيقية دون طلاء تحررمشبك الشعرلتسدله، بالوان طبيعية هادئة متناغمة لا تشبه الخادمة (سيرافين) ولا نساء (رينوار) امرأة مجبولة بالتضحية، الحب، معجونة بالامومة تعطي دون حد، تكتم ألما، وجعا، ليشب طفل جاءت به الى العالم ليسعد.
بخفة لاعبة جمباز فتيه، اسحبني من يدي، أدعوني للرقص، نقفزالى حوض السباحة الارستقراطية والأم معا، نغوص تحت الماء، وبحركة الفراشة ندور، نتعانق، نتصافى، نودع يوما كان مختلفا و نغسل التعب.
كاتبة من الأردن