ليست هذه دراسة في الوضع الثقافي المغربي، وإن أحاطت بالكثير من جوانبه، ولكنها وثيقة تكشف عن مدى عمق الحوار الذي دار في مؤتمر اتحاد كتاب المغرب وخصوبة دلالاته، وصولا إلى البيان الختامي عبر جدل المشروع في القسم الأول، والإنجاز في القسم الثاني.

البيان الثقافي .. جدل المشروع والإنجاز

عبدالصمد بلكبير

(1)

لم يكن الصراع الوطني ضدا على الاستعمارين الفرنسي والاسباني، ولا الصراع اللاحق عليه بعد الاستقلال... سوى انعكاس في حقيقته. لصراع اجتماعي حول المصالح الاقتصادية، حول الثروة الوطنية ونمط توزيعها بين الوطن ومحتليه، أو بين الطبقات والفئات والجهات المكونة له. وبالرغم من أن إدارة الدولة اضطرت إلى المساهمة في التنمية الاقتصادية، والتعمير والتشكيل الاجتماعي. إلا أنها وظفت ذلك غالبا لخدمة رأسمال الخاص المحلي والأجنبي، وذلك قبل أن تعمد، ومند الثمانينيات إلى الاندماج المطلق، وباندفاع في اقتصاديات ما يوصف بالسوق الحرة والمفتوحة.. والخوصصة وحقيقة الأسعار... الخ، الأمر الذي فقد معه المغرب استقلاله الاقتصادي، وضعف ارتباطه المغاربي والعربي والإفريقي. وأضحى بذلك جزءا لا يتجزأ من بنية اقتصادية رأسمالية عولمية مدّعاة، وماهي كذلك، بل فقط امتداداً متجدداً لنفس الظاهرة الاستعمارية التقليدية السابقة، تسييد الأموال ورؤوسها والأسواق والسلع. وتهميش الإنسان، سواء باعتباره أيدي عاملة أو أفكاراً أو ثقافات.

واليوم هاهو الوطن تهدده حتما، عواقب الأزمة العامة للرأسمالية العالمية. وسيخسر بذلك كل ما استفاده منها مضاعفا، ذلك أن مراكز رأسمال عادة ما تحل أزماتها البنيوية منها أو الظرفية، عن طريق تصديرها نحو هوامشها. وأقل ذلك تراجع مردودية التجارة والاستثمارات الخارجية والقروض والسياحة وجاليتنا العاملة في أوربا. إنها عواقب اختيارات أو اضطرارات، لطالما نبهت القوى الديمقراطية إدارة الدولة المغربية إليها، غير أن مصالح الحكام واستفاداتهم الأنانية والطبقية، من ذلك النمط ومن تلك العلاقة وربما أيضا جهل بعضهم. كل ذلك أدى إلى الورطة الراهنة والقابلة حتما، وهي أعظم وأنكى.

إن الأزمات الدولية للأنظمة الرأسمالية في مراكزها الإمبريالية كما في توابعها الهامشية، هي المنتوج الحتمي لتناقضاتها "الجينية" والبنيوية، وأهم ذلك:

1 ـ التناقض الأصلي والبنيوي الذي لا يفهم وجودها واستمرارها بدونه، ألا وهو الصراع المصيري بين رأسمال والعمل، وذلك بسبب استغلال فائض قيمته، بصورة متفاحشة، ورغم جميع محاولات العلاج والتخفيف من غلوائه، والمكتسبة خاصة نتيجة المعارك النقابية (الضمان الاجتماعي والصحي مثلا) فإن الذي خفف الصراع نسبيا في المراكز. هو ما تعرضت له وتتعرض شعوب الجنوب من استغلال مضاعف، ومن نهب وتبادل غير متكافئ... إلخ.

2 ـ التناقص بله الحرب ضدا على الطبيعة. منتوج الشره، وحتى السفه الاستهلاكي، وما تتطلبه الاستجابة له، من إفراط في الإنتاج والإنتاجية والتي تفرضها المنافسة من جهة، والنزوع نحو الربح الأقصى من جهة أخرى. نتائج ذلك متعددة ومعروفة أخطرها الانبعاث الحراري، وثقب الأوزون. فضلا عما تتعرض له البحار والمحيطات والأنهار والأجواء من تلوثات. وهجوم الصحاري والسكن العشوائي على الغابات والأراضي الصالحة للزراعة. والمجاعات والأوبئة وكثرة تنوع الأمراض الناتجة خصوصا عن فقر التغذية والمخدرات ومن بينها ولعله أخطرها: التدخين.

3 ـ التناقضات بين الرأسماليات الاستعمارية العالمية، والتي غالبا ما تؤدى الشعوب المستضعفة عواقب صراعاتها التي قد تبلغ في أحايين كثيرة، درجة خوض الحروب بالوكالة، كما يحدث اليوم في المغرب العربي، وفي افريقيا بين الإمبرياليتين الأمريكية والأوربية.

4 ـ التناقضات، ومن تم الصراعات العنيفة أحيانا ما بين الرأسماليات في البلد الرأسمالي الواحد. مابين قطاعاتها ومصالحها الموزعة حسب مجالات استثماراتها: المالية ـ الفلاحية ـ الصناعية ـ العقارية ـ التجارية ـ العسكرية... الخ. وما يحدث راهنا هو مظهر من مظاهرها المنحطة.

5 ـ التناقض مابين المراكز الرأسمالية وأطرافها وهوامشها، سواء على صعيد العالم بين الشمال والجنوب، أو داخل الوطن الواحد بين الجهات والأقاليم والمدن والقرى... حسب مدى فائدتها لرأسمال أو العكس، وهو ما يعبر عنه بالتطور غير المتكافئ. أو في حالتنا الوطنية: المغربان النافع وغير النافع. كما أسسه الرأسمال الاستعماري، وحافظ عليه حتى اليوم مغرب الاستقلال.

6 ـ إن المؤهلات العلمية، والمكتسبات التقنية التي بلغتها البشرية اليوم في عمومها، تسمح وأكثر من أي وقت فات، بتوفير شروط حياة كريمة ومرضية لمجموع ساكنة الكرة الأرضية، هذا هو جديد عصرنا الحقيقي. أما قديمة الرجعي والمعرقل، بل المفسد للأوضاع جميعا، فهو تكلم العلاقات الاقتصادية الاجتماعية المختلفة عن الماضي القريب لرأسمال، وللاستعمار خاصة، تلك التي تستطيع إليها العلاقات الظالمة غير المتكافئة، غير العادلة، وغير الديمقراطية، والتي تحكم بشكل متعسف، بل وعنيف في أغلب الحالات. ما بين الدول الرأسمالية الطاغية والاستعمارية في الشمال متحالفة مع ردائفها في دول الجنوب من جهة. ومجموع الشعوب المستضعفة والخارجة لتوها من مرحلة للاستعمار القديم، لتواجه النمط الجديد منه، والمنعوت زوراً وبهتاناً ـ كونه عولمي، وما هو كذلك. بل فقط وأساسا امبريالي من جهة ثانية. والحل يكمن اليوم أساسا في تحرير ودمقرطة العلاقات بين الدول من جهة، وبين الدول والشعوب من جهة ثانية.

7 ـ وأخيرا، وهو ما فجر الأوضاع الرأسمالية مؤخرا ولا يزال، التناقض ما بين قطاعي رأسمال المالي من جهة، ورأسمال المنتج وخاصة منه الصناعي من جهة ثانية، فالأول أضحى مسيطرا ومصطنعا لثروات ضوئية وافتراضية أو إسمية... تتجاوز عدة مرات الاقتصاد الحقيقي أو الفعلي، واتساع الفجوة تلك، وعجز الانتاج عن تجسيرها، هو ما يفسر انفجار الفقاعة المالية الحالي، وبالطبع فإن من سيتحمل مسؤولية ملء الفجوة هو الإنتاج الصناعي والفلاحي الفعلي، ومن ثم بالطبع المنتجون من الشعوب العاملة والكادحة، أي عمليا استغلال فائض القيمة في الغرب والفائض الاقتصادي للجنوب. وهو ما سيحتاج إلى زمن، وأيضا إلى مضاعفة الفقر والتفقير والبؤس والتجويع لدول وشعوب الجنوب خاصة.

ليست الأزمة الرأسمالية اليوم، كما لم تكن بالأمس، أزمة سيولة نقدية، أو أموال، أو تأمين، أو قروض، أو عقار. بل وليست أزمة إنتاج واستهلاك أو تبادل، إنها أعمق وأشمل من ذلك، أزمة نظام في أسسه وعلاقاته ومشروعيته. ولم يعد لذلك قادرا على الاستمرار إلا من خلال معالجات جزئية وظرفية متعاقبة لأزمات متوالية.

لقد انتهت الأنظمة الرأسمالية عن أن تكون، رغم ويلاتها، تقدمية، بالعكس لقد أضحت معرقلة لتقدم الشعوب وتحررها. سر ذلك الأساس، يكمن في التناقص المطرد للربحية في المراكز الرأسمالية، والناتج بالأساس عن تناقص نسبة العمل في الإنتاج، مقابل التقنية والمواد الأولية. الأمر الذي أضحى يفرض أكثر فأكثر على الرأسمالية أن تبحث عن الربحية، من خلال استغلال شعوب ودول الجنوب أساسا من جهة، وأيضا ما يمكن تسميته بـ"اقتصاديات الظلام" من جهة ثانية، خاصة منها: بيع الأسلحة، واصطناع الحروب لتصريفها، وتجارة المخدرات، والقمار، والعهارة، والتهريب، والتبييض، والقرصنة، والإرهاب.

إن حروب الخليج المتعاقبة واحتلال العراق لم تكن في هذا السياق سوى محاولة لتأجيل الأزمة الراهنة. ولقد تمكنت الرأسمالية الأمريكية فعلا من تحقيق ذلك الهدف، وابتزاز دول المنطقة جميعا من خلال تواجدها العسكري الضخم في المنطقة. ولكن أيضا تمكنت من تحقيق هدف آخر لا يقل أهمية، ألا وهو إزالة نظام حكم وطني، كان مقدرا له لو استمر أن ينهض بمهمة قيادة المنطقة وتحريرها، مستفيدا ومنتهزا لحظة أزمتها التي كانت محتملة. واليوم، فإن نفس الرهان لا يزال بعد مستمرا، بالنسبة للشعوب الإيرانية. غير أن بوادر فشله أضحت بادية لعيان الجميع.

إن المؤسسين والمنظرين الأوائل، للنظرية الليبرالية في الاقتصاد حول "اليد الخفية" للسوق، كانوا يفترضون لذلك ويشترطون، التلقائية البشرية، وسلامة الطوية، والحس الأخلاقي الوطني والديني والإنساني. لا الآلية وحدها. أما اليوم فلم تعد للرأسمالية علاقة بقيم الاستقامة والعمل والتعمير والمردودية. بل فقط التخريب والفساد، ثم الفساد على جميع المستويات بما فيها السياسية خاصة. وهو ما يكاد يزكم الأنوف يوميا من أخبارهم جميعا في الصحافة.

إن ما يعانيه شعبنا ووطننا وعلى جميع مستوياته، هو منتوج وانعكاس لهذا الواقع للنظام الرأسمالي الذي أضحى عولميا. إننا نستورد منه سلعه وأمواله. ولكن أيضا قيم العنف، وأخلاق الجريمة، والشره، والسفه، والرشوة، والمخدرات.. إلخ. وهذا مصدر أزماتنا الحقيقي. وضع التبعية والتضاؤل المستمر للاستقلال، وتناقص الاعتماد على الذاتية، والتعاون مع المماثلين والوحدة مع الأشقاء.

علينا في هذه المناسبة أن نتذكر أمثولات الرواد. إن قادة الحركة الوطنية الذين ناضلوا ضدا على النمط التقليدي للرأسمالية الاستعمارية. هم أنفسهم الذين ساهموا في إعادة تأسيس الدولة المغربية المعاصرة واقتصادها الوطني. ومنذ الانطلاق عملوا على بناء اقتصاد وطني متكامل ذاتيا، ومعتمد على الإمكانيات والطاقات الوطنية، وأولها إدارة الدولة، فضلا عن مشاركة الناس، وما أنجزوه، وبدأ التفريط فيه عن طريق تفويته وخوصصته، هو الذي مازال يصرف على الشعب المغربي أجورا وخدمات وميزانيات، حتى اليوم. إن العبرة اليوم، هي في العودة إلى تلك الروح التي أسسها الرواد المؤسسون للاستقلال الوطني. الاستقلال الذاتي اقتصاديا والاعتماد على النفس وتشغيل إدارات الدولة للتنمية الشاملة، والحل العادل لقضايا الأرض والسكن وتعميم التعليم، وإشاعة الحريات وبناء المؤسسات الديمقراطية المقررة والمراقبة للإدارة وللمجتمع، والتفكير شرقا وجنوبا وغربا لا شمالا فقط.

إن المصالحة مع الماضي، وطي صفحته، لا تكون سوى بذلك. أما الاعتقالات والمنافي والشهواء، فلم تكن سوى عواقب سياسية فاسدة وظالمة، لتلك الشروط التي يجب اليوم تجاوزها وطي صفحتها، ذلك لأنه إذا استمرت نفس السياسات، وأن بإخراج آخر لها، فإنها ستنتج نفس المآسي، والتي ستحتاج لاحقا لهيئات إنصاف ومصالحة أخرى لمعالجة عواقبها، وهكذا في دوامة من العبث بدأت مؤشراته منذ الآن.

*     *     *

في مقابل جميع ذلك، ماذا يقدم لنا الغرب الرأسمالي من وعود غير تصدير أزماته وأداء فواتيره المادية منها الأخلاقية.

يقترح جوابين:

1 ـ حوار الحضارات و/أو الأديان، بديلا عن صراعاتها المتوهمة أو المصطنعة في حقيقتها.

جواب الشعوب العربية المستضعفة، ومثقفيها العضويين على ذلك يكمن باختصار في الآتي:

أ ـ ثمة في الأطروحة إياها خلط مقصود غالبا، بين ما هو عام ومشترك تاريخي بين الإنسانية جميعا. لا يفهم الاختلاف والتجاذب إلا في إطاره. وهو ما يعبر عنه عادة بمصطلح الحضارة. وثمة خصوصيات (أكثر منها هويات) داخل العام المشترك، تفرضها الجغرافيات الطبيعية والبشرية والاقتصادية. والحوار بين الخصوصيات الثقافية للبشرية يجري بصورة دائمة ومستمرة، وبشتى الأشكال والصيغ، وهو لا يعاني لذلك من أزمة، وإن كان يحتاج إلى دعم وعناية دائمين. أهم وسائطه اليوم الإعلام والصحافة والكتاب والشبكة العنكبوتية والسياحة والهجرات... إلخ.

ب ـ إن حقيقة الصراع بين الجبهتين، لا يكمن بحال في جوانب الثقافة، وأحرى منها الدين، على هذا المستوى ثمة تواشج وتداخل لا صراع. موضوع الصراع إذن، يكمن في المعاش والمصالح الاقتصادية والمطامح و/ أو المطامع السياسية للأطراف المتصارعة.

الصراع إذن هو بين قوى تستهدف الهيمنة، وأحيانا السيطرة، وأخرى تشرئب إلى الحرية والتحرر والاستقلال، ومن ثم السيادة الكاملة على مقدراتها ومصائرها جميعا.

إن الثقافات المحلية أو الوطنية وكذا التأويلات الإيديولوجية للأديان. لا تحددها بحال الجغرافية وحدها. بل كذلك وبالأحرى مصالح الطبقات الاجتماعية، وهذه لا حدود جغرافية بينها. بل تداخل وتكامل وتمفصلK بل وتطابق في العديد من الحالات، ومن ثم فلا صراع على أسس جغرافية، بل اجتماعية بين نفس الطبقات في مختلف الجغرافيات. شمالية غربية كانت أو جنوبية ـ شرقية. إن القيم الثقافية وأخلاقيات الطبقات الرأسمالية في الغرب، تجد صدى لها لدى أمثالها في الجنوب، أكثر مما تجد تلك الطبقات تجاوبا معها، لدى محيطها الشعبي المحلي أو الوطني، ما عدا الفولكلور، وهذا ليس ثقافة.

ت ـ إن ذلك الطرح للحوار مغلوط، ذلك لأنه لا يفترض الحوار، إلا بإلغاء أو نفي الصراع والعكس. وهذا مخالف للمنطق وللتاريخ وللواقع. ذلك أن أحدهما لا يلغي الآخر ضرورة. بل إن الحوار قد يقتضي الصراع من أجل مضاعفة مردوده وإنتاجيته. لا يجوز بحال أن نتصور الصراع كعنف دائما، خاصة على المستوى الثقافي ـ الفكري. وإذن فإن الاختلاف لا يحل بالحوار وحسب، ولنقل أيضا إن الحوار لا يتم بالتوافق بين المثقفين، بل بالجدال والمقارعة بالكتابة، كما في الحياة العامة كما تعيشها الشعوب يوميا ومصيريا.

ث ـ وأخيرا، فإن مردودية أي حوار حول أي موضوع وبين أي طرفين أو أطراف يشترط توفر حدود دنيا من التكافؤ والتوازن والندية. أما إذا كانت الموازين مختلفة ومختلّة، والعلاقات ظالمة، والنظرة عنصرية استكبارية واحتقارية، وموضوعات الحوار مفروضة، والمحاور محتل للأرض و/أو للاقتصاد وللإدارة... إلخ فليس ثمة حوار، بل قمع وعدوان وسيطرة من جهة، وإرادة تحرر وتحرير واستقلال في الجهة المقابلة. عنف عادل ردا للفعل، في مواجهة عنف ظالم ليس إلا.

2 ـ تحالفات سياسية وشراكات اقتصادية. وأفضل وآخر ما قدم لنا منها اليوم هو مشروع "الاتحاد من أجل المتوسط" بديلا وترميما لأوفاق برشلونة غير المأسوف على فشلها بعد عقد من الزمان.

تبدو هذه الشراكة الوليدة في مظاهرها البارزة إيجابية. خاصة وأنها تعتبر وتنطلق من أسس موضوعية ـ جغرافية (بحيرة الأبيض المتوسط) ذات العلاقات التاريخية العريقة والمستمرة، بعكس "اتفاقية التبادل الحر" المصطنعة سياسيا. وأيضا فهي تهتم بقضية حيوية بل ومصيرية اليوم، ألا وهي مسألة البيئة، إنها من أجل المتوسط، هذا البحر الذي تضرر أكثر من غيره بفعل الصناعات الرأسمالية لدول الشمال... الخ.

غير أن واقع الحال ليس كذلك للأسف:

أ ـ فهو مبادرة أوربية بقيادة فرنسا في سياق صراعها الاقتصادي ـ السياسي مع غريمها في المنطقة، الولايات المتحدة الأمريكية. وليست أساسا من أجل شعوب ودول الجنوب. وهذا ليس عيبا في حد ذاته، بل قد يكون امتيازا، شرط أن يتذكر التاريخ المجيد للمواقف الأوربية (الفرنسية بخاصة) في هذا الصراع. الأمر الذي لا تؤشر عليه بداياته حتى الآن؟!

ب ـ يعفي على التناقضات الكبرى للمنطقة، عوض إبرازها لمعالجتها حسب الشرعة الدولية وحسب المصالح المشتركة البعيدة المدى، خاصة من ذلك حقوق الشعوب في الاستقلال والحرية (فلسطين) أو في الوحدة الترابية (المغرب/ سوريا). إن "الاتحاد" يهتم بتوفير شروط التطبيع مع كيان استعماري محتل، أكثر مما يهتم بحق الشعب الفلسطيني في الاستقلال والسيادة.

ت ـ في الوقت الذي يحافظ فيه الاتحاد الأوربي على انسجامه وعلى وحدته وهذا حقه، فإن "اتحاده" مع الجنوب يتم على حساب وحدته. ليس باسرائيل وحدها أو سبتة ومليلية... بل أيضا بتعميق تفتته، وفصل مغربه عن مشرقه، افريقيه وآسيويه. والحال أن ما يجمع العرب إلى الوحدة فيما بينهم، هو أقوى وأكثر أولوية ومصيرية مما يجمع بعضهم إلى أوروبا، التي لا تفكر سوى في مصالحها الأنانية الخاصة والاستعمارية.

ث ـ لا يهتم "الاتحاد" بالبعد الاجتماعي والثقافي، مقارنة بالسوق وتجارتها وأرباح البائعين فيها، إن للشعوب حقوقا يجب أن تراعي في أي "اتحاد"، واهم ذلك مصالحها المعاشية، وحقوقها في الشغل والصحة والتعلم والسكن... وأيضا بالأحرى في خصوصياتها الثقافية اللغوية والأخلاقية.

(2)

بالرغم من مرور أكثر من خمسة عقود على الاستقلال الرسمي لبلادنا، فإن الوحدة الثقافية لمدنه وقراه، لجهاته وطبقاته وفئاته لذكوره ونسائه وأجياله وأيضا وبالأحرى للغاته. لم تتحقق بعد طبق المطلوب. وذلك من خلال ميثاق معنوي روحي وقيمي يخترق الأذهان والعواطف والمشاعر... وأكثر من ذلك يعيد صياغة الذاكرات الوطنية الموروثة بما يؤهلها لتحفيز الوعي وإطلاق الخيال وشحذ الإرادات الفردية والجماعية الخيرة في الوطن والمواطنين لبناء مستقبلهم وتقرير مصيرهم. إن أدنى مقارنة بين ما أنجزه مغرب الاستقلال، بتركة جيل الاحتلال وما قبله من ماضي عريق ووسيط، تظهر البون الشاسع بين منجزات أولئك القادة والرموز العظام في السياسة والثقافة والمعرفة والعلم، وبين واقعنا اليوم، عدا استثناءات، وتكفي حجة على ذلك، واقع الأمية اليوم ونسبتها مقارنة إلى واقعها لدى المغاربة، إلى حدود أواخر القرن 19.

إن القصور وتعثر العمل العام السياسي لإدارة الدولة في بلادنا... آت في جزء منه عظيم... من التصور على هذا المستوى. ذلك لأنه إذا كانت السياسة تقتضي بطبيعتها النزاع والصراع بحكم تعبيرها ضرورة عن مصالح اجتماعية متناقضة ومتعارضة، فإن ذلك لا يحصل بشكل منتج ودون خطر الوقوع في العبث أو الفوضى وحتى الفتنة، إلا إذا وحدت الثقافة ووحدت رموزُها، حدود ميدان الصراع ذاك. وهو ما لم يحصل بعد في شروطنا المعاصرة والراهنة.

لا يعني ذلك البتة، مناهضة ما، للتعدد (اللغوي أو الجهوي أو الديني) ولا بالأحرى للتنوع (الاجتماعي الطبقي). ولكنه يعني أساسا:

1 ـ تكافؤ فرص الجميع في التمتع وفي الاستفادة وفي الوصول إلى القيم الثقافية والمنتجات الروحية وذلك بحد أدنى مشترك ومتوفر للجميع.

2 ـ الاعتراف المتبادل والاتفاق المبدئي على الحد الأدنى المشترك الواحد والموحِّد. ولكنه القابل في نفس الوقت لاستمرار البحث العلمي والحق في التأويل والتنافس في إعادة إنتاج الذاكرة والتراث لمصلحة الراهن ولمصلحة المستقبل المشترك ضرورة هو أيضا.

إن يوبا الثاني والقديس أوغسطين وجامعتي ابن يوسف والقرويين وطارق ابن زياد وابن تاشفين وابن رشد وعياض وصومعة الكتبية ومعركة وادي المخازن وأبو العباس السبتي وقبور السعديين وإصلاحات المولى سليمان وإدارة الحسن الأول... وحتى الخطابي وعلال الفاسي والمختار السوسي والمسيرة وعويطة... كل أولئك وغيرهم كثير هو ما يشكل ذاكرتنا المشتركة جميعا. وحدودنا الثقافية والوجدانية الوطنية بل والأساس الروحي والمعنوي لما يعتبر الدولة والشعب المغربيين.

إن معيد إنتاج والمسؤول عن التوزيع المجتمعي لكل ذلك وغيره، هو بالأساس المدرسة والجامعة والإعلام والمسجد، وهي قنوات إيصال ومكبرات صوت المثقفين والأدباء والفنانين... إلى جماهير شعبهم في المداشر والقرى والمحترفات والأحياء في المدن من هوامشها إلى قصورها فضلا عن جالياتنا في المهاجر. غير أن المؤسسات إياها، هي اليوم وأكثر من أي وقت فات، في حاجة إلى إصلاح بل إصلاحات جذرية وشمولية، اتصل الأمر بالتعليم بجميع أسلاكه ومستوياته وأنواعه... أو بالإعلام أو بالفكر والممارسة الدينيين. وأهم ذلك إصلاح اللغة العربية بما يؤهلها لاستيعاب مستحدثات العصر من جهة، وإعادة إنتاج وحدة كيان الدولة والمجتمع من جهة ثانية. ولا يتم ذلك بدون مشاركة المثقفين والكتاب أفرادا أو من خلال هيئاتهم وتنظيماتهم المهنية والثقافية. وإننا لنعتبر بالمناسبة أن ما هو مستعجل من ذلك، هو الإسراع بتأسيس أكاديمية اللغة العربية تنفيذا للقانون الصادر بشأنها.

*     *     *

إن مسؤولية الدولة وإدارتها ثابتة على هذا المستوى، ولا شك أن العديد من إخفاقاتها التنموية والديمقراطية بل وعلى مستوى الوحدة والسيادة نفسيهما، هو ما يفسر أيضا هذا الإخفاق في ميدان الثقافة والتربية والتعليم والإعلام، وأسوأ مظاهره حتى اليوم النسبة المرتفعة للأمية، والهذر والفشل الدراسي، والقلق والضياع والنزوح نحو الهجرة، بشتى أشكالها لدى شبيبتنا جميعا، هجرة الأرض أو الهجرة عن الزمن المغربي بالمخدرات أو العوالم الافتراضية أو الإيديولوجيات (الأصولية، السلفية والماضوية)... الخ.

إلى حدود نهاية القرن الماضي، احتكرت طبقة اجتماعية بعينها مقاليد السلط جميعا، ولأنها كانت، وربما لا تزال تفتقر إلى شروط الاستقلالية، وبالتالي إلى إرادة الاستقلال ومن تم السيادة بجميع مظاهرها وعلى جميع مستوياتها، فلقد أوكلت قيادها الثقافي ـ اللغوي إلى آخر، آخر في الزمان وآخر في المكان.

1 ـ إلى الماضي العربي الإسلامي مؤولا تأويلا محافظا، يخدم مصالحها ويستجيب لحاجياتها في الاحتكار والاستبداد من جهة، وإلى الرضى والخنوع من قبل المجتمع. إنه الحكم باسم الله، وباسم رسوله ورموز الدين، واحتكار ذلك حصرا لإدارة الدولة ومؤسساتها الإيديولوجية المختصة إنتاجا وإشاعة وتوزيعا. أهم ذلك التعليم والإعلام والمسجد.

2 ـ إلى الحاضر الأوربي، الفرنسي خاصة. عمليا إلى الفرنكوفونية، والتي لا تعني بحال اللغة الفرنسية وثقافتها العظيمتين. بل أساسا توظيفهما المحرف بغاية الاستصغار والاستتباع، بل والعدوان على اللغات والثقافة الوطنية، ضدا على الوظيفة الحق لهما في التواصل، والتلاقح، والتعاون، والحوار. وبالطبع فإن ذلك اقتضى ويقتضي الكثير من التشويه لتراثهما العظيم في تأسيس وترسيخ قيم الحرية والتحرر والتحرير وحقوق الإنسان والمواطن والأوطان.

هذا التلفيق الذي تفسره حاجة الطبقة السائدة إلى الحكم المستبد، هو منسجم مع ذلك من حيث وظيفته المزدوجة على مستوى إدارتي الدولة والمجتمع، إنها علاقة تكاد تمسى عضوية بين إدارة غير ديمقراطية، غير أنها عصرية ضرورةً، لأنها لا يمكن أن تسير، بثقافة الماضي الموروث، أبناكها ومصانعها وإداراتها، خاصة منها الترابية؟! وإدارة للمجتمع، تقتضي الضبط والربط، والخنوع الذاتي أو الإرادي للأفراد والجماعات، وهو ما يوفره التأويل الإيديولوجي للموروث الديني، وللتراث الأدبي الضخم المتوفر لدى فقهاء السلطان، والمبذول من قبلهم للاستعمال في الحاضر حسب الحاجة. لا تناقض عند الممارسة والتوظيف بين الإيديولوجيتين إذن. المستوردة منها عن الآخر الرأسمالي الأوربي، هنالك في الشمال الأوربي خاصة، أو عن الآخر الإقطاعي وحتى العبودي أحيانا، هنالك في ماضينا العظيم في شروطه، المؤول بل والمشوه لأجل إعادة التوظيف في شروطنا المختلفة.

إن الوجه الآخر للفرنكوفونية إذن هو التقليدانية، والعكس أيضا صحيح، ولا يتصور تحرر من أحدهما دون الآخر. إنها جدلية سلبية، فاسدة وعقيمة وغير متكافئة. الطرف المتحكم في جدليتها القاتلة هو الفرنكوفونية، وذلك بكل ما تعنيه من تبعية ونزوعات استعلائية وفردانية وعدمية وانتهازية وشكلانية وتقنوية بمعنى ضد إنسانية. ولأن إدارة الدولة تقترف كل تلك الجرائر وتعمد فضلا عن ذلك إلى تزكيتها جميعا باستعمال الدين والتراث تسويغا ودفاعية وحتى نفاقا أحيانا، فإن المجتمع من جهته لا يتردد عن الرد وإن بنفس الأسلحة المغلولة، فتتضاعف بذلك المعضلة الثقافية ومعها اللغوية، وذلك بتبني نزعات دفاعية، رجعية، ماضوية وشعبوية... تكرس التأخر وتأبد التبعية، وذلك من حيث كونها تربك الصراع، وتخلط بين أطرافه، وتسيء ترتيب أولوياته، فتجمع بين ما لا يستقيم الجمع بينه. وتؤكد على الحق في الاختلاف في الذي قانونه المنتج هو الحق في الوحدة، والعكس أيضا حين تصطنع الصراع بين ما المطلوب فيه التآزر والتكامل (العربية المعيار، الدارجة والأمازيغيات مثلا).

أخطر نتائج كل ذلك وغيره على مستوى الشخصية الوطنية المغربية.

1 ـ نزوعها العام نحو الإنعزالية والانسحاب والعزوف وحتى مقاطعة المجتمع والدولة، وأكثر مظاهر ذلك يتجلى اليوم في ظاهرة التصوف (الرسمي المستحدث والشعبي الموروث).

2 ـ الازدواجية: وذلك على جميع المستويات بما في ذلك مساكننا وملابسنا وتنعكس على المستوى الثقافي ـ النفسي، في أنواع من انفصام الشخصية ومن تم ميولاتها اللاأدرية والفوضوية وحتى العبثية... وذلك من حيث افتقادها المعنى وافتقادها البوصلة والهدف وتقطع الارتباطات والتضامنات بما فيها الأسرية.

ثقافتان إذن، بل ومجتمعان، في وطن واحد، لا يحسد المثقف فيه على موقعه وبالتالي موقفه المتمزق بينهما، يسعى إلى التحديث ولكن دون تبعية، ويعمل على الارتباط بشعبه وبذاكرة وطنه ولكن دون شعبوية ودون ماضوية. فلا يجد لذلك من يتجاوب معه أو يستجيب لخطابه ونداءاته. ترى هل هي مؤشرات لفتنة نائمة ؟ إن حالة الجوار منا، منذرة في هذا الصدد والمنحى، والعاقل من يتعظ.

*     *     *

في مواجهة جميع ذلك وغيره، لم يتوان المثقفون المغاربة، والكتاب منهم خاصة، عن القيام بواجباتهم في المناهضة والفضح والتقدم بمشاريع أفكار واقتراحات، تم ذلك بصيغ فردية أو جماعية، من خلال الهيئات والمنظمات التي انخرطوا فيها، وفي المقدمة عنها جميعا اتحادهم.

وهكذا وطيلة العقود الخمسة المنصرمة تمكن الكتاب المغاربة من الانتظام والعمل الموحد والفاعل في الشأن الثقافي الوطني والعربي والإنساني، مدمجين بشكل جدلي بين المعركتين الثقافية، ومعركة شعبهم وقواه الحية، من أجل التحرير والديمقراطية والتنمية، ويحق لهم اليوم بدافع من ذلك، أن يعتزوا بمنجزاتهم على هذين الصعيدين، حيث أثبتوا جدارة مشهودة، ومردودية معاينة، واعتبارا يستحقونه، محافظين في نفس الوقت، وهي حالة أضحت نادرة، على وحدة أداتهم، وانتظام مؤتمراتها الوطنية، وجموعها الفرعية المحلية. لم يكن الهدف من جميع ذلك فقط، تمكين الاتحاد، ومن تم أعضاؤه من صفة المنفعة العامة التي يستحقها، والتي بقيت شكلية حتى الآن، بل أساسا تمكين الشعب المغربي من حقه في انتقال سلمي ومتوافق عليه نحو الديمقراطية.

وهكذا فلقد اعتبرت الأغلبية العظمى، أن دستور 96 المعدل، وحكومة اليوسفي مؤشران قويان، على الشروع في انجاز ذلك المشروع الوطني والتاريخي المنشود. واليوم، وبغض النظر عن حالات ومواقف تقييم المنجز من برنامج الانتقال إياه، وما إذا كان متعثرا أو متوقفا أو مجهضا، فإن نصيب المسألة الثقافية فيه يكاد يكون صفرا، وإذا استثنينا البناية الجديدة للمكتبة الوطنية، وقطاع السينما خاصة، فلا شيء يدل في الملموس، على أن الهم الثقافي، أدمج لدى الأطراف المتعاقدة على الانتقال الديمقراطي في برامجها. وربما صح العكس، لم يحصل انتقال ديمقراطي في الحقل الثقافي، إلا إذا كان ذلك بالمعنى السلبي للعبارة، عناوين ذلك الكبرى:

1 ـ وضعية الأمية الالفبائية المستمرة لدى نصف المواطنين والمواطنات.

2 ـ وضعية الكتاب والمجلة المغربيين، ومدى إنتاجهما، ورواجهما في السوق العربية والوطنية أو الأجنبية (بالترجمة وغيرها).

3 ـ التراجع عن المؤسسات الوطنية والجهوية المقررة والاستشارية في المسألة الثقافية (المجلس الوطني للثقافة).

4 ـ وضعية التهميش وحتى التحقير للثقافة والمثقف وخاصة للكتاب المغربي في التعليم والتكوين بجميع أسلاكهما، في الإعلام العمومي، في التنمية (القطاع السياحي مثلا) في الدبلوماسية الوطنية، في إعادة التربية والتأهيل (السجون، ومراكز الشرطة)، في دور الشباب والثقافة، في السكن وفي الحياة العامة (وضعية المكتبات العامة والتجارية، الجوائز)... الخ.

لقد ارتفعت فعلا ميزانية الوزارة الوصية، غير أن المرجعية المعتمدة في الأصل كانت تافهة، فضلا عن أن المسألة الثقافية لا تخص وزارة بعينها، بل تهم جميع الوزارات تقريبا، الأمر الذي لم يحصل. ربما كان من أسباب هذا المآل للمسألة الثقافية، الطابع الضيق وشبه السري، الذي حصل فيه التوافق حول الانتقال، الأمر الذي انعكس سلبا على نصيب الثقافة والكتاب والكِتاب في برنامجه، وها نحن اليوم نعاقب على ذلك، فالإنتاج الأدبي وفير نسبيا، والتضحية من أجل إصداره متوفرة من قبل الكتاب، غير أن استجابة الدولة والسوق مؤسفة جدا بل ومزرية حتى بالمقارنة إلى الوضع الذي كانت عليه قبل مشروع الانتقال.

*     *     *

في هذا الصدد والمعنى، وفي إطار إشارة نقدية للذات، لا يجوز بحال، تبرئة اتحادنا أيضا من مسؤولية هذه العواقب المؤسفة والمؤلمة لنضال مجيد خاضه اتحادنا طيلة تاريخه، وكان له إسهامه الخاص، في بلوغ لحظة التوافق على الانتقال تلك. لقد تصورنا، وبحسن نية غالبا، أن حلفاءنا في المعركة الديمقراطية، كفيلون بالنيابة عنا في انجاز مطالبنا ومطامحنا الثقافية الوطنية والديمقراطية. والحال أن القاعدة العامة تقتضي بأن لا أحد ينوب عن غيره في تحقيق برنامجه. لقد أضعنا البوصلة، وعندما تغيرت الأجواء وأضحى الديمقراطيون مشاركين في الحكم، لم نعرف كيف نعيد صياغة العلاقة معهم في الوضع الجديد، بما يتطلبه ذلك من الحفاظ عن الاستقلالية، وإعادة إنتاج جدلية العلاقة مع السياسي بما يتوافق وينسجم مع الوضع الجديد، فحصن الثقافة، وماء المثقف، هو المجتمع دائما وأبدا، وكان على نضالنا الثقافي لذلك ألا يتوقف، خاصة وأن أصدقاءنا أضحوا مشاركين في السلطة. والدعم الحقيقي لهم، يكمن في الضغط على حلفائهم فيها، لا في مسايرتهم، والسكوت على تنازل أو إهمال يصدر منهم، تهاونا أو اضطراراً.

*     *     *

واليوم وغدا...

فإن مطالب الإصلاح واطلاق الحريات والانتقال الديمقراطي، لا زالت تتصدر جدول أعمال إدارتي الدولة والمجتمع المغربيين.

وحيث الحاجة ما تزال ماسة للإنقاذ واستدراك التعثرات، وتأهيل الآليات التقريرية والتنفيذية العلمية. فإنه من غير المستساغ بحال، الاستمرار على وضعية التهميش التي طالت وتطول بإجحاف دور الثقافة والمثقف، ومن تم دور اتحادنا، في المساهمة بالرأي والاقتراح في جميع الأوراش المفتوحة للإصلاح، أو تلك التي يمكن أن تفتح أو يعاد فتحها مجددا. نقصد من ذلك بالذات:

1 ـ الأوراش السياسية والمؤسساتية، ونقصد من ذلك بالذات التعاقد الدستوري والحريات العامة والمؤسسات الديمقراطية وحقوق الإنسان...

2 ـ أوراش إصلاح المنظومة التعليمية والتكوينية بمختلف أسلاكها وأنواعها وكذلك الإعلام العمومي والخاص.

3 ـ إصلاح الإدارة العمومية خاصة منها الترابية والقضاء والسجون والشباب...

4 ـ قضايا الأسرة والأم والطفل... وتخليق الحياة العامة.

5 ـ الدبلوماسية الشعبية وحماية الوحدة الترابية للوطن.

6 ـ المسألة اللغوية وقضايا إصلاح الحقل الديني والأخلاقي للمجتمع.

إن اتحاد كتاب المغرب الذي اثبت أهليته وجدارته ووطنيته، خلال مسيرته التاريخية الجليلة، ليؤكد مجددا، ومن موقعه الثقافي بالذات، استمرار استعداده للمساهمة المخلصة والمفيدة، في جميع تلك الأوراش الإصلاحية، وبالتالي في استئناف مسيرة الانتقال الديمقراطي، ولا يتم ذلك في نظره، بغير اعتبار الثقافة والمثقفين عنصرا حيويا ولازما فيها. وذلك بانتقال ديمقراطي كذلك للحقل الثقافي بإصلاحه والنهوض به حيثما مست الحاجة إليه، للمساهمة، خاصة وأن الثقافة في عصرنا وأكثر من جميع العصور السابقة، أضحت تتقاطع وتتمفصل أو حتى تتطابق... مع جميع حقول النشاط البشري الأخرى بما في ذلك الاقتصادية التنموية.

ويعتبر لذلك أن الدعوات "الثقافية" أحيانا، والتي تدعي خطأ، نهاية دور الخطاب الثقافي الدعوي، وبداية الفعل التقنوي العملي، لا تختلف بحال في مضمونها الإيديولوجي المغرض وفي وظيفتها السياسية الاحتكارية، عن تلك الدعوات التي تهمش السياسي وتقصيه، لمصلحة التقنوي، أي عمليا تهمش الشعب وتصادر إرادته وتسفه الديمقراطية لمصلحة إعادة إنتاج استبداد مطلي بصباغة تقنوية مدعاة لإدارة الدولة، وتصوف مثقوب الذاكرة، لإدارة المجتمع.

وأيضا فإن اتحاد كتاب المغرب يهمه مجددا، أن يعيد التأكيد على ضرورة التمييز الواضح بين الثقافة الفلكلور.لا احتقارا لهذا الأخير، وإنما لأهمية التمييز بين الحقول والوظائف الاجتماعية والتاريخية لوظائف الطرفين. إن الجوهري في كل ثقافة اجتماعية كانت، أو وطنية، هو الدور المتميز للوعي فيها، ومن تم طليعيتها على جميع المستويات، وأيضا وبالأحرى بعدها الإنساني الذي يخترق حدود الأمكنة والأزمنة. ويعتبر مجمل ذاكرة الإنسانية الحرة والخلاقة والديمقراطية ذاكرة له.

يستهدف المثقف، باعتباره كاتبا للمجتمع، غايات التنوير والإصلاح والتغيير دوما وأبدا. في حين يستهدف الفلكلور وكتاب الدولة كذلك، الاستقرار والمحافظة والثبات.

*     *     *

لأجل ذلك وغيره، يوصي المؤتمر قياداته المحلية الوطنية بالعمل على:

1 ـ عقد مناظرة وطنية مشتركة مع الهيئات المختصة والمهتمة بما في ذلك الرسمية، حول المسألة الثقافية راهنا، ومعضلاتها وإشكالاتها وأدوارها في التنمية وفي الديمقراطية.

2 ـ المطالبة بإعادة الحياة والفعل، إلى المجلس الوطني للثقافة والمجالس الجهوية، بما قد يقتضيه ذلك من إصلاح للقانون المنظم لها، ولكن من خلاله هو نفسه، حسب آخر تشكيلة له.

3 ـ خوض حملة وطنية ومحلية، حوارية واقتراحية واجتماعية، لمصلحة الكتاب والمجلة المغربيين، وذلك في اتجاه التنبيه لأوضاعهما المزرية، والعمل على إنقاذهما وإشاعتهما والاحتفاء بهما، وذلك تحت لافتة أنه: لا كيان حقيقي لدولة مستقلة وذات سيادة بدون الكتاب، وبدون النهوض بمستلزمات إنتاجه وإشاعته، كتابة وإصدارا ومقروئية.

المؤتمر الوطني السابع عشر
الرباط في: نونبر 2008م