المقدمة:
لايمكن قراءة النصوص الإبداعية الأدبية والفنية ذات البعد الرقمي فهما وتفسيرا وتأويلا ، أو تفكيكا وتركيبا ، إلا في ضوء مقاربة نقدية جديدة تراعي مقومات الأدب الرقمي وخصائصه ومميزاته ومكوناته وسماته بنية ودلالة ووظيفة. ونسمي تلك المقاربة النقدية الجديدة بالمقاربة الرقمية، أو المقاربة التفاعلية، أو المقاربة الوسائطية[1]، أو المقاربة الميديولوجية (Médiologie). بيد أني أفضل المقاربة الوسائطية التي تسمى أيضا بالمقاربة الميديولوجية؛ لأن هذا المصطلح يركز كثيرا على الوسيط الآلي باعتباره أداة في خدمة الأدب التفاعلي. أي: يقترن هذا المصلح بالوسيط الإعلامي، وبكل وسائل الاتصال والإعلام. ومن ثم، فله علاقة وطيدة بالحاسوب والإنترنيت والكومبيوتر.
المبحث الأول: التعريف بالميديولوجيا:
يقصد بالميديولوجيا (La médiologie)[2]، أو علم الوسائط الإعلامية، تلك النظرية التي تعنى بالوسائط التقنية والآلية والمؤسساتية التي يشغلها الفعل الثقافي. وقد ظهر المصطلح أول مرة سنة 1979م، مع الفرنسي ريجيس دوبراي (Régis Debray) (1940م-؟) في كتابه (السلطة الثقافية في فرنسا)[3]. ويعد كتاب (محاضرات في الميديولوجيا العامة) لريجيس دوبراي الذي ظهر سنة 1991م أول كتاب يعرف بالدرس الوسائطي[4]. بيد أن هذا الكتاب يعتمد على مجموعة من الخلفيات المعرفية التي تحيل على كتابات كل من: فيكتور هيجو (Victor Hugo)[5]، و والتر بنجامين (Walter Benjamin)، وبول فاليري(Paul Valéry)، ومارشال ماكلوهان (Marshall McLuhan)، ووالتر أونج (Walter J. Ong)، وأندري لوروا غوران (André Leroi-Gourhan)، وجيلبير سيموندون (Gilbert Simondon)، وفرانسوا داغونيي (François Dagognet)، وبيرنار شتايغلر (Bernard Stiegler)، وبيير ليفي (Pierre Lévy)، وجاك ديريدا (Jacques Derrida).
وقد نشرت أهم كتابات ريجيس دوبراي حول الميديولوجيا في (دفاتر الميديولوجيا Cahiers de médiologie) ما بين 1996 و2004م، ومجلة الوسيط (ميديوم MediuM) سنة 2005م، ومازالت مستمرة إلى يومنا هذا. ومن هنا، فالميديولوجيا عبارة عن نظرية علمية تجمع بين الثقافة والتقنية. وتحيل الكلمة على علم الوسائط. وبالتالي، يهتم هذا العلم بمختلف الوسائط التي تعنى بنقل الرسائل من ذات إلى أخرى، أو من ذات إلى آلة، أو من آلة إلى أخرى. أي: تدرس وسائل الاتصال والإعلام التي تعتمد عليها الثقافة بصفة عامة، والأدب بصفة خاصة. ومن ثم، يحاول هذا العلم أن يفكك العلامات الرمزية والسيميائية في سياقها الزماني والمكاني والفني والجمالي والبصري.وليس هذا العلم مستقلا، بل يتكئ على الفلسفة، وعلوم الإعلام، ونظريات التواصل.
وتستند الميديولوجيا إلى مفاهيم عدة، مثل: مفهوم الأكوان الوسائطية (Les médiasphères) الذي يهتم بدراسة مجموعة من أنظمة الإرسال والتواصل التي تشتغل عليها الثقافة في فترة زمنية محددة. ويعني هذا أن الكون الوسائطي يحدد المكان الذي يحضر فيه البعد التقني إلى جوار البعد الرمزي والفني والجمالي. ومن هنا، يمكن الحديث عن الكون اللغوي (la logosphère) الذي يعنى بالوسيط الشفوي، والكون الكتابي (la graphosphère) الذي يهتم بالوسيط الكتابي أو الطباعي أو البصري، والكون القرصي ، أو ما يسمى أيضا بكون الفيديو (la vidéosphère)، ويستند إلى فعل الذاكرة التقنية كالصور ، والفيديو...؛ والكون الشبكي أو الكون المتشعب والمترابط (l'hypersphère) الذي يقوم على الشبكات الرقمية. وتخضع هذه الأكوان الوسائطية المختلفة لمنطق التتابع في الزمان من جهة، ولمنطق البرمجة من جهة أخرى. ولكنها لا يصيبها العدم، بل تحضر وتغيب حسب رغبة المشغل وميوله الشعورية واللاشعورية.
وبهذا، يكون ريجيس دوبراي سباقا إلى الحديث عن نظرية العوالم الممكنة من الوجهة الإعلامية أو الوسائطية أو الميديولوجية. والدليل على ذلك قوله بتعدد الوسائط الرقمية، وتعدد عوالمها الافتراضية والإعلامية والوسائطية.
وتستند الوسائطية إلى وجهين أساسيين: الوجه التقني، والوجه التنظيمي أو السياسي أو المؤسساتي. ويضم الوجه الأول كل الوسائل والأدوات والمستندات (الكتاب، الطريق، الدراجة). في حين، يقوم الوجه الثاني على المؤسسات والأمكنة وما هو قانوني وشرعي (البريد، المكتبة، المدرسة، المؤسسة الدينية). ولايعني هذا أن الميديولوجيا خاضعة للحتمية التكنولوجية، بل تهتم بماهو ثقافي أكثر مماهو تقني وآلي (L'effet-jogging).
وتقوم المقاربة الميديولوجية أو الوسائطية على دراسة الثقافة على المستوى الكلي (الدين، والفن، والسياسة، واللغة)، وعلى المستوى اليومي (المواد، والوسائل، والاستعمالات)، مع تحديد الملفات الموضوعاتية (Les dossiers thématiques) التي اقترحتها دفاتر الميديولوجيا أو مجلة الوسيط، مثل: الطريق، والورق، والدراجة، والحركة، والنقود، والحدود؛ أو الربط بين التقنية والثقافة، بالتوقف عند الوطن والشبكات، والإضاءة الرمزية ووسائل الإنارة، وفكرة التضحية والأجيال التكنولوجية، والإرهاب وتقنية الفرجة.
وهناك مجموعة من الباحثين الذين يهتمون بالميديولوجيا ، مثل: دانييل بونيو (Daniel Bougnoux)[6]، ولوي ميرزو (Louise Merzeau)[7]، وكاترين بيرتو لافونير(Catherine Bertho-Lavenir)[8]، وبيير مارك دوبيازي (Pierre-Marc de Biasi)[9]، ومونيك سيكار(Monique Sicard)[10]، وفرانسوا بيرنار هويث (François-Bernard Huyghe)[11]، وفرانسواز جايار (Françoise Gaillard)، وميشيل ميلو (Michel Melot) [12]،ومارك كيوم (Marc Guillaume)[13]، وجاك بيريول (Jacques Perriault)، وأودون فالي (Odon Vallet)، وبول سوريانو (Paul Soriano)[14].
وهكذا، فالمقاربة الميديولوجية هي مقاربة وسائطية تعنى بدراسة الأدب الرقمي دراسة تشريحية متكاملة المستويات، بالتركيز على الوسيط الرقمي في مختلف تجلياته النصية والترابطية والتقنية والتفاعلية والوظيفية والسيميائية. وذلك في علاقة وطيدة بما هو أدبي وفني وجمالي وموضوعاتي وشكلي.
المبحث الثاني: المستويات المنهجية
تنبني المقاربة الوسائطية أو الميديولوجية (Mediologique) على مستويات منهجية عدة متضافرة ومتجادلة على النحو التالي:
المطلب الأول: مستوى التوريــق:
أول ما يقوم به المتلقي التفاعلي، في أثناء تعامله مع النص الرقمي، هو توريق صفحات ملف الشاشة، بقلب صفحة صفحة، أو ورقة ورقة بغية البحث عن المطلوب والهدف. ومن ثم، فعملية التوريق أول مرحلة يلتجئ إليها مستعمل الحاسوب للتعامل مع النص الإبداعي الرقمي. وبعد ذلك، ينتقل إلى عمليات التصفح والتجوال والإبحار قصد السباحة في الشبكة العنقودية بكل عوالمها الافتراضية الممكنة. ويكون التوريق بالنقر على مفتاح الصفحة بالفأرة المستخدمة للانتقال من ورقة إلى ورقة أخرى، كأننا نتصفح كتابا ورقيا مطبوعا كما يقول سعيد يقطين[15]. وثمة مجموعة من العمليات التي يقوم بها المستعمل المتصفح للتعامل مع النص الرقمي منها: التجوال، والتصفح، والتيهان، والتفاعل، والربط.
فالتجوال (Broutage/Browsing) هو "الانتقال بين العقد بواسطة الروابط لغاية غير محددة. فالمتجول مثل متصفح الكتاب ليس له قصد محدد من وراء عمله، فهو ينتقل من عقدة إلى أخرى. قد يتوقف أحيانا عند عقدة ما، ثم سرعان ما يتجه إلى غيرها. نسمي المتجول المتصفح أيضا، لأنه يكتفي بالتجوال بين الوثائق أو تصفحها[16]".
أما المتصفح (Fureteur)، فهو" القارئ الذي يستحثه القول إلى كثرة التجوال في النص المترابط بدون غاية ملموسة. يترك المجال للصدفة لتجعله يرسي عند عقدة ما. لذلك، يحتاج المتصفح إلى "الخارطة" كي لايكون عرضة للتيهان.[17]"
أما التيهان (Désorientation)، فهو بمعنى أن النص المترابط" بمثابة متاهة لايمكن للمتصفح غير المتعود إلا أن يتيه في مختلف السراديب والجزيرات التي يزخر بها. وعندما لاتكون للمتصفح أو حتى المستعمل قدرة على إعادة إنتاج النص المترابط، والتحرك بين عقده والتحكم في مساراتها، أو خطة محددة للانتقال، فإنه يكون عرضة للضياع والتيهان. يمكن أن يعود السبب في ذلك إلى طبيعة النص المترابط ذاته من جهة، كما يمكن أن يعود إلى المتعامل معه لأنه لايمتلك وجهة محددة، أو لايتذكر الخطوات التي قطعها من جهة ثانية. لذلك، يمكن اعتماد الحافظة للرجوع إلى نقطة انطلاق والمعاودة من جديد[18]."
ويعني هذا أن مستوى التوريق والتصفح أول خطوة إجرائية لقراءة النص الرقمي قراءة استهلالية، ومقاربته مقاربة وسائطية موضوعية.
المطلب الثاني: مستـــوى التشذيـــر:
ويقصد بمستوى التشذير (La fragmentation) توزيع النص الرقمي إلى مقاطع وفقرات ونصوص وروابط وفق آليات سيميوطيقية معينة، كآلية التزمين، وآلية التفضية، وآلية الأسلبة، وآلية التشاكل، وآلية البياض والسواد، وآلية التدليل، وآلية الحضور والغياب. ويمكن تشذير النص الرقمي إلى لوحات أو صفحات أو ورابط أو نصوص أو وسائط معينة، كشذرة النص، وشذرة الصوت، وشذرة الحركة، وشذرة الصورة، وشذرة الرابط. ويعني هذا أن المقاربة الوسائطية هي مقاربة شذرية بامتياز، تعتمد على عمليتي التفكيك والتركيب، أو عملية التقطيع والمونتاج، وعملية العزل والميكساج، وعملية النقل والإلصاق (Copier coller).
ويبدو من هذا كله أن النص التفاعلي أو النص الرقمي هو نص مهجن (Hétérogène) بامتياز، تتداخل فيه مجموعة من النصوص والروابط والوسائط والعوالم. فهناك النص الأدبي، والنص الصوتي المسموع، والنص البصري، والنص الموسيقي، والنص المتحرك، والنص المترابط، والنص التفاعلي، والنص الشبكي، والنص الإحالي ... ويحتاج هذا كله إلى تشذير جزئي وكلي. علاوة على ذلك، يلاحظ أن ثمة نصوص و روابط تسهم في خلق بنية متآلفة (Une construction combinatoire). وأكثر من هذا يتشكل النص الرقمي من مجموعة من الأنساق الكبرى والصغرى والفرعية التي تتآلف فيما بينها اتصالا وانفصالا وتضمنا، وتخضع هذه الأنساق لعملية التشذير عبر مختلف المسارات الرقمية (Parcours) التي تربط بين النصوص والوسائط والروابط الممكنة.
المطلب الثالث: المستـــوى الشكلي والفني والجمالي:
يهتم هذا المستوى بالآليات الفنية والجمالية واللسانية التي تتعلق بالأدب من جهة، والوسيط الرقمي من جهة أخرى. ومن ثم، يكون هدف البحث هو التحقق من توفر الوظيفة الأدبية من ناحية، ومدى تحقق الوظيفة الرقمية من ناحية أخرى. ويستند هذا المستوى إلى تجنيس النص وتنميطه. ثم، دراسته وفق جنسه الأدبي، كأن يكون قصيدة شعرية، أو نصا قصصيا، أو قصة قصيرة جدا، أو رواية، أو مسرحية. ويحلل كل نص وفق مكونات الجنس الثابتة، وسماته النوعية التي تحضر وتغيب. وإذا كان النص سرديا، فلابد من التوقف عند الأحداث، والشخصيات، والفضاء، والمنظور السردي، والزمن، والصيغ اللغوية والأسلوبية. وإذا كان النص قصيدة شعرية، فلابد من التوقف عند المستويات الصوتية، والصرفية، والتركيبية، والدلالية، والبلاغية، والتداولية. وإذا كان النص دراميا، فلابد من التوقف عند الحبكة الدرامية، والشخصيات، والصراع الدرامي، والإشارات الركحية، والفضاء الدرامي، والحوار، والأسلوب. وإذا كان النص قصة قصيرة جدا، فلابد من مراعاة أركانه وشروطه، كالتوقف عند الحبكة القصصية، والحجم القصير جدا، والتكثيف، والحذف، الإضمار، والتراكب، والصورة الومضة، والتسريع، والإدهاش، والإرباك وغيرها من المكونات والسمات الأخرى.
ولابد من التوقف عند مختلف الروابط التي تسهم في نقل الأحداث والشخصيات والأفضية في علاقتها بالنص، والصوت، والصورة، والحركة، والوسيط الإعلامي التقني.
ويعني هذا كله أن المستوى الفني والجمالي للنص الرقمي يعنى بما يلي:
u تجنيس النص وتنميطه وفق أدبيته الداخلية والخارجية؛
v تحديد مكونات النص وسماته الأدبية والرقمية؛
w التوقف عند بلاغة النص الرقمي وفنياته وجمالياته؛
xدراسة الأسلبة الأدبية والرقمية؛
y الاستعانة بلسانيات النص الرقمي وتداولياته؛
z الاهتمام بمعمار النص الرقمي ومكوناته البنيوية والشذرية؛
{ دراسة الجمالية الآلية والوسائطية صوتا، وصورة، وحركة، وحوسبة.
المطلب الرابع: المستــــوى الموضوعاتـــي:
يرصد هذا المستوى الموضوعات والتيمات التي يزخر بها النص الرقمي، مع تصنيفها ودراستها ومعالجتها معجميا ودلاليا وسياقيا وتداوليا. وينبني هذا المستوى على العمليات التالية:
u تحديد العقد النصية والرقمية (مواضيع التصفح)؛
v رصد مختلف الروابط الداخلية والخارجية (العلاقات التفاعلية بين الأنساق الرقمية)؛
w استجلاء الأكوان الافتراضية (الكون اللغوي، والكون الكتابي، والكون الشبكي، والكون الخيالي، والكون الرقمي...) ؛
x جرد مختلف الحقول الدلالية الأدبية، والحقول الدلالية الرقمية، والحقول التقنية والوسائطية.
بمعنى أن هذا المستوى يعنى بالموضوعات والمحمولات والقضايا المنطقية ذات البعد الدلالي. كما يتضمن العقد والروابط. و " تستعمل العقدة في النص المترابط أو الوسائط المترابطة للدلالة على المادة التي تتشكل منها المعلومات التي نتعامل معها. إنها تناظر أحيانا صفحة أو كتلة من المعلومات، أو هي الوحدة أو البنية التي نتفاعل معها كقراء باعتبارها وثيقة أو نصا، أو صورة...وكل عقدة تؤدي إلى عقد أخرى بواسطة الروابط التي تصل بينها، أو بواسطة الخارطة التي توجه إلى الانتقال بين شبكة من العقد."[19]
ويكون الهدف من وراء المستوى الموضوعاتي هو تحديد الشبكة الدلالية للنص المترابط، أو النص التفاعلي المتشعب، بغرض التثبت من مختلف المكونات الدلالية التي يتكون منها النص الرقمي. و" يستعمل مصطلح الشبكة الدلالية (Réseaux sémantiques) في العلوم المعرفية للدلالة على مجموع المعارف أو البنيات المترابطة فيما بينها والتي يقوم الشخص بتشييدها وبنائها في مجال خاص. إن كل عنصر من هذه المعرفة أو البنية التي يقوم بتشييدها يسمى عقدة. وكل عقدة يتصل بعضها ببعض بواسطة روابط مشتركة أو دلالة.وتبعا لهذه المقايسة ينظر إلى النص المترابط باعتباره شبكة خاصة والإنترنيت باعتباره شبكة شاملة."[20] ويعني هذا كله أن المستوى الموضوعاتي همه الوحيد هو رصد العوالم الافتراضية الممكنة، واستخلاص الموضوعات الدلالية ، والتمييز بين المعاجم الأدبية والرقمية والوسائطية.
المطلب الخامس: المستوى الوسائطي:
يبحث هذا المستوى في نوعية السند (Support) أو الوسيط (Médium)الذي يوظفه النص أو الأدب الإبداعي في إطار ما يسمى بالوسائط المتعددة (multimédia). و"تستعمل الوسائل المتعددة في المجال السمعي البصري والمعلوميات للدلالة على استعمال الأصوات والصور والخطاطات ومقاطع الموسيقا وتوظيفها جميعا في آن واحد."[21] ومن هنا، يستعين الأدب الرقمي بمجموعة من الوسائط الأساسية : النص، والصوت، والصورة، والحاسوب. بالإضافة إلى الجمع بين الحرف والرقم، والمزج بين ماهو كتابي وماهو صوتي، أو التأليف بين الأنساق الموسيقية والغنائية والبصرية والأدبية والرقمية. بمعنى أن هناك تعددية في الوسائط المستخدمة.
ولابد من التوقف عند وسيط النص لدراسته طباعيا وكاليغرافيا وخطيا ورقميا، ودراسة وسيط الصوت في مختلف ذبذباته الفيزيائية وإيقاعاته الهمسية والجهرية، ودراسة وسيط الصورة بمختلف مؤشراته السيميوطيقية والأيقونية والرمزية، والتوقف أيضا عند مستوى التحريك أو طبيعة الحركة الحاسوبية. ثم، دراسة الوسيط الموسيقي في علاقة بالنص الرقمي. دون أن ننسى مختلف العمليات الهندسية الأخرى، كالبرمجة، والترقيم، والتحسيب، والتحكم، والربط، والاستعانة بالوسائط المتعددة...ويتم هذا كله في ارتباط وثيق بالجهاز التقني الإعلامي.
ويعني هذا كله أن الباحث يتوقف عند العناصر التالية بالتحليل والدرس والوصف والتقويم:
u مواصفات الوسيط النصي؛
v مواصفات الوسيط الصوتي؛
w مواصفات الوسيط الديجيتالي (الصورة)؛
x مواصفات الوسيط الحركي؛
y مواصفات الوسيط الحاسوبي.
المطلب السادس: المستوى التقني:
يهتم هذا المستوى بما هو مادي وتقني وآلي. وهنا، نتحدث عن برامج آلية أوتوماتيكية تسهم في توليد النصوص الرقمية وتحريكها. ويعني هذا أن القراءة التقويمية للنص الأدبي لابد أن تعتمد على المعيار التقني، والمعيار السيميوطيقي، والمعيار التفاعلي. ولابد كذلك من استحضار البعد الجمالي إلى جانب البعد التقني. أضف إلى ذلك ضرورة التثبت من جمالية البعد المادي والتقني للواجهة النصية الرقمية. علاوة على الجمع بين الصورة البلاغية والصورة المادية. وغالبا، ما يعتمد البعد التقني المادي على الوسائط المتعددة المرتبطة بالحاسوب، وهندسة التحكم، وبرمجة الجهاز.
وقد أثبت مارشال ماكلوهان (Marshall Mc Luhan) أن الرسالة هي الوسيط[22]. ويقوم هذا الوسيط الآلي على مفاهيم السبرينتيقا (cybernétique)، والاتصال(Connexion)، والتدفق (Flux). ويعني هذا كله أن الباحث يرصد مختلف التقنيات التي تسهم في توليد النص الأدبي الرقمي وهي على الشكل التالي:
u تقنيات النص الرقمي؛
v تقنيات الصوت؛
w تقنيات الصورة؛
x تقنيات الحاسوب؛
y تقنيات الحركة؛
z تقيات الشاشة .
المطلب السابع: المستوى المرجعـــي:
يعنى بدراسة السياق الرقمي الافتراضي بمختلف عوالمه النصية والمرجعية والتداولية والذهنية. ويحيل أيضا على الفضاء الشبكي الذي يعني" فضاء التواصل الذي يتم عبر الاتصال العالمي المتحقق بين الحواسيب من خلال شبكة الإنترنيت.وهذا الفضاء التواصلي يختلف عن مختلف الوسائط الموظفة للتواصل بين الناس. استعمل هذا المفهوم لأول مرة الروائي وليام جيبسون في روايته (Neuromancer) سنة 1985. وانتشر استعمال هذا المفهوم للدلالة على فضاء الإنترنيت، وكل ما يتجسد من خلاله."[23] ويعني هذا أن النص الرقمي يتضمن مجموعة من العوالم والمراجع والفضاءات، كالعوالم الافتراضية الممكنة، وعوالم الشبكة، وفضاءات النوافذ ، والمراجع الترابطية المختلفة والمتنوعة.
ويمكن اختزال ما قلناه في العناصر المنهجية التالية:
u تحديد المرجع النصي الداخلي؛
v تحديد المرجع النصي الخارجي؛
w إبراز مختلف العوالم الافتراضية الممكنة؛
x تعيين السياق النصي التلفظي والتداولي؛
y الإشارة إلى المراجع الترابطية والتناصية والتفاعلية والتعالقية؛
z استجلاء مختلف العوالم الشبكية ومراجعها الرقمية والحاسوبية والفضائية.
المطلب الثامن: المستــــوى التفاعلـــي:
يهتم هذا المستوى بالعلاقات التفاعلية الموجودة بين الكاتب والمتلقي الرقميين، أو بين السارد والقارئ الحاسوبي المفترض . و" يعتبر التفاعل في الإعلاميات- حسب سعيد يقطين- بمثابة عملية التبادل أو الاستجابة المزدوجة التي تتحقق بين الإمكانات التي يقدمها النظام الإعلامياتي للمستعمل، والعكس. ويمكن التدليل على ذلك من خلال نقر المستعمل على أيقونة مثلا للانتقال إلى صفحة أخرى، كما أن الحاسوب يمكن أن يطلب من المستعمل فعل شيء ما، إذا أخطأ التصرف من خلال ظهور شريط يحمل معلومات على المستعمل الخضوع لها لتحقيق الخدمة الملائمة. وهناك معنى آخر للتفاعل أعم، وهو ما يتمثل في العمليات التي يقوم بها المستعمل وهو ينتقل بين الروابط لتشكيل النص بالطريقة التي تفيده. وهو بذلك يتجاوز القراءة الخطية التي يقوم بها قارئ الكتاب المطبوع. ولقد ظهرت أعمال أدبية ـ، الرواية مثلا، أو فنية (الألعاب، أو الدراما...) تقوم على الترابط بين مختلف مكوناتها، وهي تنهض على أساس التفاعل أو القراءة التفاعلية."[24] وفي إطار عملية التفاعل، يمكن الحديث عن التفاعل الرقمي الداخلي، وعملية التناص، والترابط المتشعب.
ويلاحظ على المستوى التفاعلي، أن القارئ لايمكن أن يغير طبيعة الكتاب الورقي، ولا يستطيع أيضا تغيير نظام هندسته، أو الإخلال بترتيبه ونسق مقاطعه وفقراته .في حين، يستطيع أن يغير النص الرقمي بالتصغير أو التكبير، بتقديم مقطع على حساب آخر، أو قراءته وفق منظورات مختلفة ومتنوعة. ويمكن أن يسهم في بنائه من جديد عبر ملاحظاته، وتعليقاته ، وانتقاداته، وتقويماته، وتصويباته، واقتراحاته، ومشاركته في تشييد النص الإبداعي مناصفة أو جماعيا. ويبدأ التفاعل الرقمي بواسطة التصفح والتوريق والإبحار، والتوقف عند النص الرقمي لقراءته في إطار سنده أو وسيطه الإعلامي، مع استحضار مختلف روابطه ومرفقاته الأخرى، كالصوت، والصورة، والموسيقا، والحركة. وبعد ذلك، تأتي عملية التفاعل الرقمي الحقيقي، بإعادة قراءة النص مرات متعددة، وبناء النص رقميا وقرائيا، وتطعيمه بالمعلومات والملاحظات والتعليقات الممكنة ، و استكمال ما نقص منه جزئيا أو كليا.
وغالبا، ما يحمل النص الرقمي التفاعلي أجوبة عن مختلف أسئلة المتلقي المتصفح أو المتجول أو المستعمل (Utilisateur). ومن هنا، فالبنية التفاعلية مهمة جدا في مقاربة النص الرقمي، باستحضار أربعة أطراف أساسية هي: الكاتب، والنص، والحاسوب، والقارئ المتلقي. وتتخذ هذه الأطراف كلها طابعا رقميا.
وإذا كان النص الأدبي الكلاسيكي، ولاسيما السردي منه، خاضعا للترتيب الكرونولوجي والسببي والخطي والتعاقبي، فإن النص السردي الرقمي والتفاعلي غير خاضع لهذه الضوابط القرائية، فيمكن للمتلقي أن يبعثر هذه الخطية بشكل كلي أو جزئي، ويخلخلها على مستوى التصفح والإبحار والتجوال من أجل بناء خطية جديدة، كأن تكون خطية أفقية أو عمودية أو وسطية أو شذرية أو دائرية أو مبعثرة.
ويعني هذا أن المتلقي له الخيارات المتعددة كلها لقراءة النص الرقمي. وله أيضا الحرية الكاملة في اختيار موقع أو منظور أو رابط معين لإعادة قراءة النص الرقمي قراءة متعددة ترابطية، وبنائه وفق تصورات تقنية جديدة. كأن يقرأ النص، مثلا، في الشاشة الحاسوبية، أو يقرؤه في شاشة الهاتف، أو يحمله في قرص مدمج، أو يحافظ عليه في الذاكرة التخزينية، وقد يقرؤه في مختلف الوضعيات القرائية المتنوعة.
ومن ثم، تختلف القراءة التفاعلية من النسخة الرقمية (version numérique) إلى النسخة الورقية (la version papier). ويعني هذا أن الخطية القصصية أو السردية تتغير من النص الورقي إلى النص الرقمي، وتخضع للتغيير والتصرف والتحوير الرقمي. وأكثر من هذا فالنص التفاعلي هو نص مهجن بامتياز، يتداخل فيه المبدع، والقارئ، والنص، والحاسوب، والصوت، والصورة، والحركة. ولا يقتصر التفاعل على عملية القراءة ، بل هناك أيضا ما يسمى بعملية التناص (intertextalité) التي تقوم على أساس وجود نصوص مضمرة وصريحة في النص الرقمي الأصيل، يستدعيها المبدع ، في نصه الرقمي، بطريقة واعية أو غير واعية، كأن يستخدم المستنسخات النصية بمختلف أنواعها، أو يتفاعل مع نصوص خارجية تاريخية، وسياسية، واجتماعية، واقتصادية، وثقافية، وحضارية، ودينية، وأدبية، وفنية ، وعلمية...أو يستثمر المعرفة الخلفية بمدوناتها، وخطاطاتها، وإحالاتها، وسيناريوهاتها. أو يعتمد على التضمين والاقتباس والاستشهاد، أو يوظف النص الموازي بمختلف عتباته الفوقية والمحيطة. وهنا، يمكن الحديث عن عوالم افتراضية رقمية داخلية، وعوالم نصية خارجية، وروابط رقمية مختلفة ، كالمواقع(Sites)، والمدونات والمنتديات الشخصية والغيرية والخاصة والعامة، والشبكات الرقمية، والصفحات الرقمية.
وبهذا، يمكن الحديث عن نظرية العوالم الممكنة في سياقها الإعلامي والرقمي؛ تلك العوالم التي تتوازى وتتماثل مع العالم الواقعي المادي المحسوس. ومن جهة أخرى، قد تخضع عملية الإبحار التفاعلي لعامل السرعة، أو عامل الحركة، أو عامل البطء والتريث، أو عامل القفز والحذف والإضمار.
المطلب التاسع: المستـــوى اللوغاريتمـــي:
يبحث عن علاقة الحرف بالرقم، ويدرس مختلف عمليات الرقمنة الهندسية التي تسهم في إنتاج النص الإبداعي.إنه بمثابة مستوى توليدي إنتاجي بامتياز، يرصد مختلف العمليات والمراحل التي يمر بها النص الأدبي من العمق نحو السطح. وأكثر من هذا يفسر الخطوات الإجرائية التي يخضع لها النص الأدبي الرقمي عبر عمليات الترقيم، والهندسة، والضبط، والبرمجة، والتحكم، والتحسيب، والربط، والتحويل...إلى أن يصبح النص الأدبي نصا رقميا ، يتكون من مجموعة من الوسائط النصية والبصرية المترابطة. ومن هنا، يخضع المستوى اللوغاريتمي للتحسيب من جهة، والترقيم من جهة أخرى. فالتحسيب " عملية نقل النص أو الصورة أو ما شاكل ذلك من الوثائق من طبيعتها الأصلية التي توجد عليها (نص مطبوع أو مخطوط مثلا) إلى الحاسوب، والمقصود بذلك عملية ترقيمها [25]."
أما عملية الترقيم ، فهي" نقل أي صنف من الوثائق من النمط التناظري إلى النمط الرقمي. وبذلك، يصبح النص والصورة الثابتة أو المتحركة والصوت أو الملف...مشفرا إلى أرقام لأن هذا التحويل هو الذي يسمح للوثيقة أيا كان نوعها بأن تصير قابلة للاستقبال والاستعمال بواسطة الأجهزة المعلوماتية."[26] إذاً يعنى المستوى اللوغاريتمي بالعمليات الرياضية والمنطقية والهندسية التي تتحكم في توليد النصوص الأدبية الرقمية المتشعبة.
المطلب العاشر: المستوى الترابطي:
يهتم هذا المستوى بالعلاقات الترابطية التي تكون بين النص الأدبي ومختلف الوسائط الإعلامية الأخرى حتى يستوي نصا أدبيا رقميا أصيلا. ومن ثم، يرتبط النص الأدبي بوسائط أخرى ، في إطار عملية التقطيع (Découpage) أو التركيب (Montage)، كأن يرتبط ، مثلا، بالصورة، والصوت، والإطار، والموسيقا، واللوحة التشكيلية. ومن هنا، "لا يقف النص المترابط عند حد الربط بين النصوص المكتوبة، ولكنه يمكن أن يتعدى ذلك ليشتمل إلى جانبها على الصورة، والصوت، والحركة منفردة أو متصلة. وكلما كان إمكان الربط بين هذه المكونات جميعها فإننا نغدو ليس أمام النص المترابط فقط، ولكننا نتعداه إلى الوسائط المترابطة حيث تغدو كل عقدة كيفما كان نوعها مرتبطة بغيرها، تماما كما نجد في أي نص مترابط."[27] ومن هنا، يتميز المستوى الترابطي بعقد صلات ترابطية بين النص وباقي النصوص والنوافذ الرقمية المتشعبة الأخرى.
المطلب الحادي شعر: مستـــوى التحريك:
يهتم مستوى التحريك (Animation) بتحريك النص الرقمي تحسيبا وترقيما وتفاعلا وتشعيبا، ويتم بالانتقال السريع من نافذة إلى أخرى، ومن صفحة إلى أخرى، بطريقة سريعة وديناميكية. وإذا كان النص الورقي نصا ثابتا وساكنا وستاتيكيا، فإن النص الرقمي نص حركي ديناميكي خاضع لمجموعة من الديناميكيات: ديناميكية في التصفح والإبحار والتوريق، وديناميكية في البحث عن المعنى، وديناميكية في الانتقال من فضاء إلى فضاء آخر، وديناميكية التفاعل والترابط والتشعيب والتناسل والتوليد.
المطلب الثاني عشر: المستوى التناصي:
يعد التناص من أهم آليات التفاعل الرقمي. ويتخذ بعدا أدبيا وفنيا وجماليا من جهة، وبعدا رقميا وتقنيا من جهة أخرى. ومن ثم، فهو من أهم المفاهيم النقدية التي اهتمت بها الشعرية الغربية وما بعد البنيوية والسيميائيات النصية؛ لما له من فعالية إجرائية في تفكيك النص وتركيبه، والتغلغل في أعماق النص ولا شعوره الإبداعي. وإذا كان التناص مصطلحا نقديا تسلح به النقاد العرب الأقدمون تحت تسميات عديدة، مثل: السرقات الشعرية، والتضمين، والنحل، والانتحال، والأخذ، والتأثر، فإن النقاد والدارسين الغربيين ابتعدوا عن مفهوم السرقة (Plagiat) القدحي، فعوضوه بمصطلح التناص بديلا منه، واهتموا بالجانب الإيجابي فيه، والذي يتمثل في البحث عن أصول الإبداع، ومكوناته الجننينية، وعلاقات التفاعل والتأثر والتأثير. ويتخذ التناص، في الأدب الرقمي، بعدا ترابطيا وتفاعليا متشعبا يدرس في ضوء الثقافة الرقمية والإلكترونية والحاسوبية.
المطلب الثالث عشر: المستـوى الوظيفي:
يركز هذا المستوى الوظيفي، في دراسته للأدب الرقمي، على الوظيفة الأدبية أو الجمالية (La fonction poétique) من جهة، والوظيفة الرقمية (La fonction numérique) من جهة أخرى. ونعني بالوظيفة ( (Functionذلك الدور الذي يؤديه عنصر لغوي ما داخل ملفوظ ما، أو داخل نص أو خطاب ما ، مثل: الفونيم (الصوت)، والكرافيم ( الوحدة الخطية)، والمورفيم (المقطع الصرفي)، والمونيم (الكلمة)، والمركب(العبارة)، والجملة، والصورة البلاغية، أو ذلك الدور الذي يؤديه العنصر السيميائي من رمز، وإشارة، وأيقون، وصورة، ومخطط داخل سياق تواصلي ما.
وهكذا، فالفاعل النحوي له دور معين داخل الجملة، وله أيضا وظيفة نحوية. والفعل له وظيفة محددة، والمفعول به له وظيفة كذلك، والحروف والظروف لها وظائف معينة. بمعنى أن كل عنصر لغوي له وظيفة ما داخل وضعية تواصلية معينة. وقد تهيمن وظيفة محددة على باقي الوظائف الأخرى داخل جملة أو نص أو ملفوظ ما.وهنا، نتحدث -إذاً- عن الوظائف الأساسية والوظائف الثانوية. ومن ثم، فقد ارتبط الاهتمام بالوظيفة في إطار المدرسة اللسانية التشيكية براغ (Prague)، والمدرسة اللسانية البنيوية الوظيفية. ومن أهم اللسانيين الوظيفيين: رومان جاكبسون (Roman Jakobson)، وتروبتسكوي (Nicolaï Troubetskoy)، وكارشفسكي (Sergei Karcevski)، وفندريس (J.Vendrysès)، وبنيفنست (E.Beneveniste)، وأندري مارتينيه (A.Martinet)، وتانيير (L.Tesnière)، وكوجينحايم (G.Gougenheim)، وبرون(L.Brun).[28]
ويستند التواصل اللساني حسب رومان جاكبسون إلى ستة عناصر أساسية[29]، وهي: المرسل، والمرسل إليه، والرسالة، والقناة، والمرجع، واللغة. وللتوضيح أكثر، نقول: يرسل المرسل رسالة إلى المرسل إليه، حيث تتضمن هذه الرسالة موضوعا أو مرجعا معينا، وتكتب هذه الرسالة بلغة يفهمها كل من المرسل والمتلقي. ولكل رسالة قناة حافظة، كالظرف بالنسبة للرسالة الورقية، والأسلاك الموصلة بالنسبة للهاتف والكهرباء، والأنابيب بالنسبة للماء، واللغة بالنسبة لمعاني النص الإبداعي.
ويعني هذا أن اللغة ذات بعد لساني وظيفي، وأن لها ستة عناصر، وست وظائف: المرسل ووظيفته انفعالية، والمرسل إليه ووظيفته تأثيرية، والرسالة ووظيفتها جمالية، والمرجع ووظيفته مرجعية، والقناة ووظيفتها حفاظية، واللغة ووظيفتها وصفية وتفسيرية. ومن ثم، فإن الذي وضع هذا النموذج اللساني الوظيفي التواصلي هو الباحث الروسي ذي الجنسية الأمريكية رومان جاكبسون، وقد أثبته في كتابه (اللسانيات والشعرية) سنة 1963م[30] ، حيث انطلق من مسلمة جوهرية أساسها أن التواصل هو الوظيفة الأساسية للغة، وارتأى أن للغة ستة عناصر أساسية، ولكل عنصر وظيفة ما:
- عناصر التواصل ووظائف اللغة-
أرقام العناصر والوظائف |
عناصر التواصل |
مصدر التواصل |
الوظيفة |
1 |
المرسل |
الرسالة |
انفعالية |
2 |
الرسالة |
الرسالة |
شعرية |
3 |
المرسل إليه |
الرسالة |
تأثيرية |
4 |
القناة |
الرسالة |
حفاظية |
5 |
المرجع |
الرسالة |
مرجعية |
6 |
اللغة |
الرسالة |
وصفية |
وقد تأثر جاكبسون، في هذه الخطاطة التواصلية، بأعمال فرديناند دوسوسير (Ferdinand. De Saussure ) ، والفيلسوف المنطقي اللغوي جون أوسطين ( John L. Austin). وعليه، فكثير من النصوص والخطابات والصور والمكالمات الهاتفية عبارة عن رسائل يرسلها المرسل إلى مرسل إليه، حيث يحول المتكلم رسالته إلى نسيج من الانفعالات والمشاعر والأحاسيس الذاتية، ويستخدم في ذلك ضمير المتكلم. ومن ثم، يتخذ المرسل بعدا ذاتيا قوامه التعبيرية الانفعالية. بمعنى أن الوظيفة الانفعالية التعبيرية هي التي تحدد العلائق الموجودة بين المرسل و الرسالة. وتحمل هذه الوظيفة، في طياتها، انفعالات ذاتية، وتتضمن قيما و مواقف عاطفية و مشاعر وإحساسات، يسقطها المتكلم على موضوع الرسالة المرجعي. أما المرسل إليه، فهو المخاطب الذي توجه إليه رسائل المتكلم بضمير المخاطب بغية إقناعه، أو التأثير فيه، أو إثارة انتباهه سلبا أو إيجابا. ومن هنا، فإن الوظيفة التأثيرية هي التي تقوم على تحديد العلاقات الموجودة بين المرسل والمتلقي، بتحريض المتلقي، وإثارة انتباهه، وإيقاظه عبر الترغيب و الترهيب. وهذه الوظيفة ذاتية بامتياز، مادامت قائمة على الإقناع والتأثير.
إذاً، يتحول الخطاب اللفظي أو غير اللفظي إلى رسالة ، وهذه الرسالة يتبادلها المرسل و المرسل إليه ، فيساهمان في تحقيق التواصل المعرفي و الجمالي. وهذه الرسالة مسننة بشفرة لغوية ، يفككها المستقبل، ويؤولها بلغته الواصفة. وتتجسد هذه الرسالة ذات الوظيفة الشاعرية أو الجمالية بإسقاط المحور الاستبدالي على المحور التأليفي، أو إسقاط محور الدلالة والمعجم على محور التركيب والنحو انزياحا أو معيارا. ويعني هذا أن الوظيفة الجمالية أو الشعرية هي التي تحدد العلائق الموجودة بين الرسالة و ذاتها. وتتحقق هذه الوظيفة بإسقاط المحور الاختياري على المحور التركيبي، عندما يتحقق الانتهاك و الانزياح المقصود بشكل من الأشكال.
كما تهدف الرسالة عبر وسيط القناة إلى الحفاظ على التكلم، وعدم انقطاعه: (آلو ... آلو ... هل تسمعني جيدا؟). أي: تهدف وظيفة القناة إلى تأكيد التواصل، واستمرارية الإبلاغ، وتثبيته أو إيقافه، والحفاظ على نبرة الحديث والكلام المتبادل بين الطرفين. وللغة كذلك وظيفة مرجعية، ترتكز على موضوع الرسالة باعتباره مرجعا وواقعا أساسيا، تعبر عنه تلك الرسالة. وهذه الوظيفة في الحقيقة موضوعية، لا وجود للذاتية فيها، نظرا لوجود الملاحظة الواقعية، والنقل الصحيح، والانعكاس المباشر.... وثمة وظيفة أخرى مرتبطة باللغة ، وتسمى بالوظيفة الوصفية أو الوظيفة الميتالغوية القائمة على الشرح والوصف والتفسير والتأويل ، وتهدف هذه الوظيفة إلى تفكيك الشفرة اللغوية، بعد تسنينها من قبل المرسل. والهدف من السنن هو وصف الرسالة لغويا، وتأويلها وشرحها وفهمها، مع الاستعانة بالمعجم أو القواعد اللغوية و النحوية المشتركة بين المتكلم والمرسل إليه.
ومن باب التنبيه، هنا، نحتكم إلى القيمة المهيمنة (La valeur dominante) كما حددها رومان جاكبسون؛ لأن نصا ما قد تغلب عليه وظيفة معينة دون أخرى، فكل الوظائف التي حددناها سالفا متمازجة؛ إذ نعاينها مختلطة بنسب متفاوتة في رسالة واحدة، حيث تكون الوظيفة الواحدة منها غالبة على الوظائف الأخرى حسب نمط الاتصال . ومن هنا، تهيمن الوظيفة الجمالية الشعرية على الشعر الغنائي. في حين، تهيمن الوظيفة التأثيرية على الخطبة ، وتهيمن الوظيفة الميتالغوية على النقد الأدبي، وتغلب الوظيفة المرجعية على النصوص التاريخية، وتهيمن الوظيفة الانفعالية على النصوص الشعرية الرومانسية، وتغلب الوظيفة الحفاظية على المكالمات الهاتفية.
وعليه، لايمكن الحكم على الأدب أو النص الرقمي بالأصالة والجودة والخاصية الإبداعية إلا إذا توفرت فيه الوظيفتان الأساسيتان ألا وهما: الوظيفة الأدبية والوظيفة الرقمية. ومن جهة أخرى، لايمكن تقويم الأدب الرقمي إلا في ضوء ثلاثة معايير أساسية هي: المعيار التقني، والمعيار السيميوطيقي، والمعيار التفاعلي.
المبحث الثالث: المصطلحات النقدية:
تستند المقاربة الوسائطية إلى مجموعة من المفاهيم والمصطلحات النقدية الإجرائية التي يمكن حصرها في ما يلي:
الشاشة- التصفح- الإبحار- الإنترنيت- التجوال- التحسيب- الرقمنة- التفاعل- التيهان- الذاكرة- الخارطة- الشبكة - الرابط- النص المتشعب- الشبكة الدلالية- الفضاء الشبكي- العوالم الافتراضية- المتصفح- المستعمل- الموقع- النص الشبكي- الواجهة- الواقع الافتراضي- الوسائط- الوسائطيات- الاتصال- التحكم- البرمجة- القراءة الرقمية- النص الرقمي- البيئات الرقمية-السياق الرقمي- الكائنات الرقمية- الشخصيات الرقمية- الفضاء الرقمي- الحدث الرقمي-الخطية واللاخطية-الويب- عملية الربط- عمليات الاتصال وفك الاتصال- الثقافة الرقمية- المرجع الرقمي- الطابع التفاعلي- النقر- الانتقال النقري- المسارات الرقمية - المعنى الرقمي- اللوغاريتمية- التسجيل- المعلومات- البيانات- المعطيات- الداتا- الموسوعة الثقافية- الإعلام- الأرقام- الرياضيات- الآلية-التقنية- الحاسوب- الإنتاج الرقمي- التمثيل الرياضي للعالم-القيم الرياضية- المحيط الرقمي- الكون الرقمي- اللوائح والملفات الرقمية- الرابط الترابطي- العلاقة الارتباطية- عملية النقل والإلصاق- التناص-الطابع الوسائطي المتعدد- المزج - التعددية- التهجين- الملفات الحاسوبية- السند- النوافذ- النص المترابط- المواقع- المدونات- البرنامج- السبرينيتيقا- التحكم الآلي- العقد- الروابط- الحقول المعجمية الرقمية- الذكاء الاصطناعي- التفاعل- النص الفائق- النص المتعالق- الوسائط الإلكترونية- المكتبة الإلكترونية- المعلوميات- الفأرة- الوحدة المعلوماتية- خرائط التصفح- المعالجة- التنشيط الرقمي- الملفات الرقمية- البلاغة الرقمية-الوسائط المتشعبة- المستندات- الوثائق- السيرفر (الخادم)- المستندات المحمولة- الأبعاد الثنائية والثلاثية- نظام ويندوز- الحاسبات- الطابعات- ماكينتوش- الفوتوشوب-الجهاز- معالج النصوص (Word)-الماسح الضوئي(السكانير)- البرنامج- الشذرة- المنتديات- المكتبة الناطقة- التخزين- القص- واللصق- وإعادة الاستعمال- الملف النصي- المبرمج- المصور- السيناريوهات- الخطاطات- المدونات- المعرفة الخلفية- الاستنساخ.
الخاتمة:
وخلاصة القول، هذه هي أهم المبادئ التي ترتكز عليها المقاربة الوسائطية، بمختلف مستوياتها المنهجية الإجرائية التي تتمثل في مستوى التصفح، ومستوى التشذير، والمستوى التفاعلي، والمستوى التقني، والمستوى الوسائطي، والمستوى الموضوعاتي، والمستوى الفني والجمالي، والمستوى المرجعي، والمستوى الوظيفي، ومستوى التحريك. وتلكم كذلك أهم المصطلحات النقدية التي تعتمد عليها هذه المقاربة الميدولوجية الوسائطية أجرأة وتنزيلا وتطبيقا.
[1] - " الوسائط جمع وسيط وهي تكنولوجيا الكتابة، وحفظ، ومعالجة ونشر المعلومات.والمقصود بالكتابة هنا كل ما كان ليس في المستوى الأول للواقع.فآلة التصوير هي كتابة للصورة، والصورة ليست هي الواقع. إنها واقع ثان نجم عن عملية الكتابة.وتستعمل الوسائط أيضا للدلالة على أدوات أو وسائل التواصل بين الناس مثل الجريدة، والمذياع، والأسطوانة، والكتاب، والتلفزة، والإنترنيت،...وهناك استعمالات أخص للوسائط حين تكون موصولة بالمتعددة أو التفاعلية أو الوسائط المترابطة." سعيد يقطين: من النص إلى النص المترابط ، ص:266.
[2] -" اختصاص جديد ساهم في وضع لبناته الأساسية الباحث والمفكر الفرنسي ريجيس ديبريه، وهو يعنى ليس بالوسائط في حد ذاتها كما نتحدث عنها (الوسائط المتعددة مثلا)، ولكنه يعنى بنوع خاص وهو الوسيط الذي بواسطته تتحول الفكرة إلى قوة مادية. يتكون المصطلح من كلمتين : الوسيط (Medio) مجموع وسائل نقل ونشر كل ماهو رمزي من المعلومات.أما اللاحقة " يات" (Logie) فدالة على الاختصاص.مايزال هذا الاختصاص متصلا بريجيس دبري الذي أصدر عدة مقالات وكتب وهي ذات طبيعة فلسفية وتاريخية للفكر. يمكن الإفادة من الوسائطيات في حقل الوسائط المتفاعلة إفادة جليلة لخلفيتها الفكرية والذهنية العامة." سعيد يقطين: من النص إلى النص المترابط ، ص:268.
[4] -Régis Debray, Cours de médiologie générale. Bibliothèque des Idées, 1991, 395p ; Manifeste médiologique. Gallimard, 1994, 220p ; Introduction à la médiologie. PUF, Collection Premier Cycle, 2000 ; Vie et mort de l'image, une histoire du regard en Occident, Gallimard, 1992.
[5] - Victor Hugo, Notre-Dame de Paris, Livre V, chap. 2 (« La presse tuera l'Église… L'imprimerie tuera l'architecture »).
[6]-coordinateur des Cahiers de médiologie n°1 « La Querelle du spectacle » (1996) et n°15 « Faire face » (2002).
[7] -coordinatrice des Cahiers de médiologie n°6 « Pourquoi des médiologues ? » (1998).
[8] -coordinatrice des Cahiers de médiologie n°5 « La bicyclette » (1998) et n°17 « Missions » (2004)
[9] -coordinateur des Cahiers de médiologie n°4 « Pouvoirs du papier » (1997) et producteur de l'émission Le Cercle des médiologues sur France Culture (2001-2002).
[10] -coordinatrice des Cahiers de médiologie n°10 « Lux, des Lumières aux lumières » (2000)
[11] -coordinateur des Cahiers de médiologie n°13 « La scène terroriste » (2002).
[12] -coordinateurs des Cahiers de médiologie n°7 « La confusion des monuments » (1999).
[13]- coordinateur des Cahiers de médiologie n°12 « L'automobile » (2001)
[14]- rédacteur en chef de MédiuM, coordinateur du n°16-17 « L'argent maître » (2008).
[15] - سعيد يقطين: نفسه، ص:136.
[16] - سعيد يقطين: نفسه، ص:258.
[17] - سعيد يقطين: نفسه، ص:263.
[18] - سعيد يقطين: نفسه، ص:259.
[19] - سعيد يقطين: نفسه، ص:262.
[20] - سعيد يقطين: نفسه، ص:262.
[21] - سعيد يقطين: نفسه، ص:267.
[22] -Mc LUHAN Marshall, Understanding Media. New-York : Mc Graw-Hill, 1964.Traduction française : Pour comprendre les médias, Paris, Le Seuil, Coll. Points, 1968.
[23] - سعيد يقطين: نفسه، ص:262.
[24] - سعيد يقطين: نفسه، ص:259.
[25] - سعيد يقطين: نفسه، ص:285.
[26] - سعيد يقطين: نفسه، ص:259.
[27] - سعيد يقطين: نفسه، ص:266-267.
[28] - Jean Dubois et autres : Dictionnaire de linguistique, Larousse, Paris, 1991, p : 388.
[29] - JAKOBSON, R. Essais de linguistique générale, Paris, Éditions de Minuit, 1963.
[30]-JAKOBSON, R. : « Linguistique et poétique », Essais de linguistique générale, Paris, Minuit, 1963, p. 209-248.