لديَّ من الشجاعة ما يكفي لأن أعتبرَ الموسيقار اللبناني فيلمون وهبي "أبا عماد" شخصيةً أسطوريةً مثل دونكيشوت، والجندي الطيب شفايك، وزوربا، وروبنسون كروزو .. لعل الفارق بين الحالتين أن تلك الشخصيات اخْتَرَعَتْها مخيلاتُ المبدعين الكبار سرفانتس وياروسلاف هاشيك وكازنتزاكي ودانيال ديفو، بينما فيلمون شخصية واقعية، حقيقية، أصلية، بسيطة، خالية من الرتوش.
قبل أن أضيء لحضراتكم الجوانب التي أراها عبقرية في شخصية فيلمون وهبي الذي كان يُلَقَّب "شيخ الملحنين" وأحياناً "سَبْع الملحنين"، أرى لزاماً عليّ أن أشير إلى مقالة الأستاذ عبد الغني طليس المنشورة في الحياة 24/3/2010، ومقالة الصحافي محمود الزيباوي في ملحق صحيفة النهار الثقافي، 14 نوفمبر/ تشرين الثاني 2010، ومقالة الصحافي ياسر علوي بصحيفة الشروق 14 شباط/ فبراير 2014، وحلقات من برنامج "وفاء لذكراه" على قناة تلفزيون لبنان الذي عرض مقابلات مع فيلمون أجراها رياض شرارة، والحلقة الخاصة من برنامج "في زمن الكبار" على تلفزيون "MTV 6"، مارس/ آذار 2016. وموضوعات أخرى متفرقة.
ملاحظة تمهيدية:
وصف الباحث والمؤلف الموسيقي الدكتور وليد غلمية ألحان فيلمون وهبي بأنها: إعجاز في بساطتها وتعقيدها. سوف أسجل الآن المعلومات والإشارات والحقائق التي تؤيد فكرتي عن شخصية فيلمون وهبي الأسطورية:
* كان فيلمون واحداً من الموسيقيين الخمسة الذين أرسوا دعائم الأغنية اللبنانية (الأصح: الأغنية الشامية)، وقد أُطْلِقَ عليهم لقب "عصبة الخمسة"، وهم، بحسب أقدميتهم في الولادة: فيلمون وهبي (1914)، زكي ناصيف (1916)، عاصي الرحباني (1923)، توفيق الباشا (1924)، منصور الرحباني (1925).
* كان فيلمون وهبي مهملاً للدراسة، بسبب ولعه بالموسيقى والعزف على العود والغناء، وقد ترك المدرسة، وحمل عوده وانطلق يجوب في البلاد الواسعة (فلسطين - العراق - مصر - لبنان).
* كتب سليم اللوزي في أيلول/ سبتمبر 1955 لمجلة "الكواكب" المصرية متحدثاً عن انتشار الأغاني اللبنانية في بغداد، مثل: "دخل عيونك حاكينا"، و"أبجد هوز اسمع مني لا تتجوز"، و"برهوم حاكيني"، ثم روى حكاية فيلمون وهبي ملحّن هذه الأغاني، وقال: قصته من أحلى القصص، فقد قابلتُه أول مرة في مدينة يافا بفلسطين عام 1944، وكنت يومها أشغل منصب المساعد العام لمدير البرامج العربية في محطة "الشرق الأدنى". انطلق الفنان القادم من قرية "كفرشيما" اللبنانية في مسارح تل أبيب وملاهيها، يفتح أذنيه لكل نغمة موسيقية، ثم يعود مع آخر الليل من تل أبيب إلى يافا مشياً على الأقدام، وهو يغني الميجانا أو العتابا أو أبو الزلف. وعاد إلى لبنان، واشتغل بائعاً متجولاً للألحان اللبنانية التي كان يصنعُها، ويأكل رغيفاً ويضع عليه حبّات من الزيتون في قريته "كفرشيما" القائمة على كتف الرابية التي تطل على بيروت.
* يتابع اللوزي: وكان فيلمون يشعر أن الأغنيات التي يصنعها هي ألحان "بازارية"! تتألف من شوية أنغام مصرية، مخلوطة مع شوية أنغام لبنانية، وأنغام عراقية، إلى أن حدث ذات يوم أن ذهب إلى مبنى دار البريد والبرق في بيروت ليسأل ما إذا كانت هناك حوالة باسمه، أو رسالة، أو خبر يهدّي به معدته ومعدة أمه الصابرة في القرية. وهناك، على أرض مبنى البريد، وجد قصاصةً من ورق الجرائد طُبِعَتْ عليها قصيدة زجلية مطلعها: "على نار قلبي ناطر المكتوب"، فلحنها، وكانت هذه الأغنية أول حجر في مجد فيلمون وهبي الذي أصبح اليوم، خلال الخمس سنوات الأخيرة، ناطحة سحاب!
* ويشرح اللوزي: وقامت منافسة فنية واسعة بين صنّاع الألحان اللبنانية، كالأساتذة نقولا المُنَى وسامي الصيداوي ووديع الصافي، وكان فيلمون بطل الساحة، فقد انتشرت ألحانُه كما تنتشر بقع الزيت فوق الأمواج. كان يضع اللحن، ويعطيه لمن يطلبه مقابل دعوة متواضعة إلى الغداء، مثلاً، وفي آخر الليل، يذهب إلى الملاهي ليستمع إلى ألحانه وهو واقف على الباب، لأنه ليس في جيبه ثمن بطاقة الدخول والشراب.
* على الرغم من الفقر المزمن، عاشَ فيلمون وهبي حياته الفنية بعقلية "المختار" أو الزعيم الشعبي المتواضع. كان، بحسب ما يروي في مقابلة تلفزيونية، شبيهاً بجده عبدو وهبي الذي كان يخرج لخدمة الناس مرتدياً الطقم الكحلي! فكان الناس يطرقون بابه ويقصون عليه معاناتهم، فيذهب معهم إلى المحاكم والدوائر الحكومية لمساعدتهم في إطلاق سراح موقوف، أو الحصول على رخصة صيد، ويجد في ذلك متعة لا تضاهى، والمهم أنه، كما صَرَّحَ، لم يكن يقبل أن يمد العون لمعتدٍ أو ظالم أو متبطل.
* وعن موضوع حبه لفعل الخير، يسأله الإعلامي رياض شرارة: هل صحيح أنك تلحن بمستويات مختلفة من حيثُ الاهتمام؟ فيجيب تلقائياً كمن ينفي عن نفسه تهمة ظالمة: لا والله، أبداً، أنا لا أعطي لحناً لأحد من المطربين إلا إذا كنتُ راضياً عن مستواه الفني. ويضحك ويستدرك: وحتى اللي ما بيدفعوا لي تمن اللحن كنت ألحن أغانيهم بنفس السوية. ويحكي، بهذه المناسبة، طرفة، وهي أن مطربة وعدته أن تدفع له ثمن اللحن، وذات مرة ذهب إلى بيتها ليستلم المبلغ المتفق عليه، فإذا بها جالسة تبكي بجوار والدتها المريضة، وقالت له إنها لا تمتلك ثمن الدواء، فحن قلبه عليها، ووجد في جيبه خمس ليرات قدمها لها!
* قدم رياض شرارة ملاحظة مهمة، وصحيحة في الوقت نفسه، وهي أن فيلمون غزير الإنتاج، ومع ذلك فهو لم يقع في "التكرار". وسأله: أنت كيف بتلحن؟ فقال فيلمون: بلحن أنا وماشي، أنا وبالصيد، أنا وبالبيت، أنا وقاعد، أنا وعم إشرب سيجارة، لما بتجي الغنية الواحد بينعبط وما عاد يعرف كيف يسجلها. وأما حينما "يقرر" أن يلحن فإنه لا يستطيع ذلك.
* وللتأكيد على صعوبة الغناء "بقرار" يروي فيلمون الحكاية التالية: قلت مرة لـ أم عماد: الليلة بدي أسهر وأعمل لحن كبير. وسهرت وشربت حتى دخت وتفنجروا عيوني، وبعدها (فقعت موال بغدادي) مما أحفظ، ونمت!
* لَحَّن فيلمون مئات الأغاني لكبار المطربين والمطربات، من دون أن يدرس الموسيقى وقراءة النوتة. روي عنه أنه عندما يفرغ من قراءة القصيدة التي تُقَدَّمُ له يضع الورقة جانباً ويتناول العود ويدندن باللحن الأساسي الذي يطلع معه بأول "سليقة". هو يقول إنه لا يحب أن يلحن لمطرب واحد بل يوزع ألحانه على الجميع. لذلك، حينما أراد موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب أن يعزي بوفاته سنة 1985، قال:
- إنني لا أعزّي بموت فيلمون وهبي العظيم، إنما أعزي الأصواتَ التي كانت تنهل من نبعه الغزير.
* يحكى أن إحدى الإذاعات اللبنانيّة أرادت أن تتقصى حال الجمهور مع أغاني فيروز، ففتحت الهواء لأصوات الناس يعبرون عن حبهم لفيروز، وإذا بأكثر الأغاني التي اختارها المتصلون بالإذاعة هي من تلحين فيلمون وهبي. والغريـــب أن الإذاعة نفسها لم تنتبه، ولم تُشِرْ الى أن الأغانـي المختارة كانت من صنع فيلمون وهبي، لأن الكلام كان يجري على قيمة الأعمال "الرحبانية" نصوصاً وألحاناً بصوت فيروز.
* سؤال من رياض شرارة إن كان فيلمون، بعد ذيوع الأغنيات التي لحنها لـ صباح (وعددها 75، بحسب تقرير تلفزيون لبنان، وأما فيلمون فيقول إن عددها 200)، وتعلق الناس بها، يجد أنه كان بالإمكان أن تكون أفضل من ذلك؟
يجيب فيلمون: هذا أكيد .. وأنا بعرف، والمختصين بيعرفوا إني لما أنا بلحن بعمل فَتْح جديد في اللحن، سكة جديدة.
* بدأ فيلمون وهبي حياته الفنية مغنياً، ثم انتقل سريعاً إلى التلحين، واشتهر بألحانه الشعبية منذ مطلع الخمسينيات، كما عُرف كصوت كوميدي محبّب في العديد من البرامج الإذاعية. في حديث يعود إلى الثمانينيات (قبيل وفاته)، يذكر فيلمون وهبي أن أول عمل أعدّه لفيروز في الإذاعة اللبنانية كان اسكتش "زيت وزيتون"، وأنه قدّم اسكتشات عديدة في بداية انطلاقة فيروز، وهي كانت تقوم بدور "فهيمة" التي يصطاد لها هو العصافير، وأحياناً بدور "وردة".
* حول الفكرة التي ذكرها سليم اللوزي، القائلة إن فيلمون اشتغل بائعاً متجولاً للألحان اللبنانية. هناك سكتش يكون فيه فيلمون واقفاً وأمامه "بَسْطة"، فيأتي ثلاثة شبان ويقولون له: بدنا شي قطعة كويسة، ع ذوقك. فيقول: على عيني (ويفتح الدفتر ويشرح): في عنا غنية ضَيَان، جنس أصلي، لميعة، فرعاتا قوية ومنيحة. يطلبون منه أن يسمعهم إياها، فيغنيها أمامهم، وهم يساعدونه بالعزف والإيقاعات. تقول:
الموال: أوف أوف ياباي، من جور بغداد جيت الشام لأقضي العمر، ورصاص زخ المطر وسيوف تاخد عمر.. (هنا يبدأ التنويع والتفريد على كلمة: ورصاص) ما لقيت لي وليفاً يشاركني بطول العمر، يابا يابا يابا..
الأغنية: تري لي لي لي لَيْ، تري لي لي لي لَيْ، طير الأزرق حد المي، راح شوي، ورجع شوي، كرمال الله حنوا علي.
تري لي لي لي لَمْ، تري لي لي لي لَمْ، إنتي وردة وأنا بشم، حبيتي وصار عندك هَمْ، ضحكوا عليكي أهل الحي.
تري لي لي لي لُوه، تري لي لي لي لُوْه، راح الليل وما سألوه، جبنا راس بطيخ أكلوه، ما خلولي منو شوي.
تري لي لا لو لي، تري لي لا لو لي، هويدا هويدا لك يا هويدا ويدا لي، إذا مش بتحبيني إلي، انشالله توقعي في المي.
* هناك اسكتش قروي مسجّل باسم فيلمون عنوانه "بابا نويل"، تشارك فيه فيروز مشاركة متواضعة، فتغنّي في مقدمته وفي ختامه: يا ميت هلا يا ميت هلا، هلا، الماشي عَيَّد وانشرحْ، باب الهنا بوجّو انفتح، وقلبنا غنّى الفرح، بالهمّ ما عاد ابتلى. وتمثل فيروز دور "مدموازيل فهيمة" في اسكتش مدته نصف ساعة يُعرَف باسم "بارود اهربوا"، ويقتصر الغناء فيه على جمل معدودة للغاية، وهو واحد من سلسلة اسكتشات "بو فارس وسبع ومخول" التي اشتهرت في الخمسينيات.
* يذكر منصور الرحباني في كتاب "طريق النحل" الحادثة التالية: كنا نستعد لتسجيل أول اسكتش لنا "بارود اهربوا". كنت أنا أمثل شخصية "مخول"، وعاصي يمثل شخصية "بو فارس"، وأعطينا شخصية سبع لشاب كان يغنّي معنا في الكورس، ولم أكن مرتاحاً لأدائه التمثيلي لأن شخصية "سبع" كانت مميزة وطريفة وتتطلب طواعية في التمثيل لم تكن موجودة لدى ذاك الشاب الذي أصلاً ليس ممثلاً محترفاً. يوم التسجيل شاءت الصدفة أن يمرض ذاك الشاب ويتغيب عن الإذاعة. تفتقت فجأة فكرةٌ في بال عاصي فسألني: شو رأيك نجرّب فيلمون للدور؟ وهكذا كان. وإذا بموهبة كوميدية هائلة مذهلة تنفتح أمامنا مع فيلمون خلال التمرين على شخصية "سبع"، وشخصية أخرى مستمدة من شخصية فيلمون نفسه. ومنذ ذلك الحين بدأنا مع فيلمون تعاوناً فنياً طويلاً. وقد نقلنا تينك الشخصيتين معنا إلى المسرح والتلفزيون والسينما والكثير من أعمالنا الفنية اللاحقة. وأشهد أن شخصية "سبع" انزرعت في شخصية فيلمون حتى اختلطت الشخصيتان، فذاب فيلمون نفسه بشخصية سبع حتى في حياته الشخصية والعامة. ومرات كثيرة كان ينسى نفسه في المجتمع، فيبقى "سبع" حتى خارج التمثيل، وعاش في هذه الشخصية طوال حياته.
* يقول منصور الرحباني لرياض شرارة: تعودنا على بعضنا نحن وفيلمون، وصرنا نحس كأن نحنا واحد، فبيكون دايماً إله لحن من ألحان فيروز، وهو دائماً ما بيخيب الظن، بيجي لحنه في الطليعة. لا شك أن فيلمون ملحن لبناني شعبي صادق بيعبر عن روحانية هالبلد بألحانه الحلوة، وفي بلحنو حنين وشجو، ومطرح ما بيروح بيحمل معه سطيحات "كفرشيما"، فيلمون في طليعة الملحنين اللبنانيين.
* تحت عنوان "فيلمون وهبي الأب الشرعي للأغنية اللبنانية"، يروي المؤرخ الموسيقي إلياس سحاب القصة الشهيرة لعاصي الرحباني عندما سأل والدته عقب انتهاء عرض مسرحية "المحطة" عن أفضل لحن أعجبها، فقالت له بعفوية: تقبرني أحلى شي أغنية "يا دارة دوري فينا".. وهي لا تعرف أنها لحن فيلمون وهبي!
* كلام إلياس سحاب حول أن فيلمون وهبي هو الأب الشرعي للأغنية اللبنانية صحيح، بدليل أن منصور الرحباني قال لفيلمون في مقابلة نادرة على شاشة التلفزيون السوري: كان بيي فاتح محل في أنطلياس، وكنت أنا عمري طنعشر سنة، وجيت أنت، ودلونا عليك، كنت أنت بوقتا شاب وإلك شوارب، وصرت تتفلسف علينا لأن نحن بوقتا ما كنا منعرف شي بالموسيقا!
ملاحظة: إذا صح كلام منصور فهو يقصد سنة 1937، منصور مواليد 1925 وعمره 12، وفيلمون مواليد 1914، عمره 23 سنة.
* قالت فيروز مخاطبة فيلمون الغائب (في ذكرى رحيله): اللي تركتُن اشتاقوا لك، وكل الـ جايين راح يحبوك.
* قال منصور لفيلمون: أنت مخلص بفنك وبتشتغل من قلبك، ليش أحسن ألحانك هي اللي بتعطيها لفيروز؟
رد فيلمون: فيروز صاحبة صوت عظيم، مع هالصوت بيطلع الواحد "جوابات" وبينزل "قرارات". مين بيقدر يغني متل فيروز؟ أنت بتحسن؟
كان فيلمون، في عام 1937، مغنياً يردد المواويل البغدادية والأدوار القديمة وألحان "سليم الحلو". عاد من فلسطين إلى لبنان، ودخل "راديو لوفان"، أي إذاعة بيروت، وفيها راح ينشد من ألحان ميشال خياط ونجيب الشلفون، واستمر في الغناء أربع سنوات. ثم سافر، مرة أخرى، إلى فلسطين "يافا" ليعمل في محطة "الشرق الأدنى"، وهناك بدأ بالتلحين بتشجيع من محمد الغصين وأحمد الجرار، وكان لحنه الأول "على مهلك يا مسافر"، ولحنُه الثاني "حملتني فوق الألم" بصوت مطربة تُدعى حنان، وتبعهما لحن "بابا ما دريش بي" بصوت نجاح سلام، ثم كرّت الألحان، ودخل معها فيلمون إلى جميع الإذاعات العربية.
* تزوج فيلمون في تلك الحقبة من مطربة شقراء "جانيت خوري"، التي عرفت باسم "تغريد الصغيرة"، غنّت على المسارح وعرفت النجاح. نرى صورتها على غلاف مجلة الإذاعة اللبنانية في تموز/ يوليو 1948، ونقع على خبر من عام 1949 في المجلة نفسها يقول: عادت من بغداد المطربة الحسناء تغريد، وزوجها الملحن السيد فيلمون وهبي بعد أن عملا في مسرح روكسي ببغداد مدة ثلاثة أشهر متواصلة، وأذاعا حفلات غنائية أسبوعية طوال هذه المدة من محطة الإذاعة العراقية.
* يقول فيلمون وهبي إنه كثير الإعجاب بالخُلُق العراقي وبالفنانين العراقيين الذي تعاون معهم أثناء وجوده هناك، وأن بغداد قدّرته فنياً أكثر من أي بلد آخر، وكان يودّ البقاء في العراق لولا أن زوجته حامل، وقد رغبت في أن تضع مولودها البكر في كفر شيما، مسقط رأس السيد وهبي.
(بالمناسبة: كفر شيما قرية رائعة بدليل أنها سمت شارعاً باسم "فيلمون وهبي"، وهو ما يزال على قيد الحياة).
* في حوار مع فيلمون وهبي (1962)، يتحدث عن رحلته إلى مصر، ساخراً كعادته، فيقول: سجّلتُ أغنياتٍ بصوتي لإذاعة القاهرة، وعندما سمعها الناس لعنوني ولعنوا الذي كان سببي. وصارت الإذاعة تُدرج أغانيَّ بعد ما ينام المستمعون ويشخر المذيعون.
* يتذكر فيلمون وهبي في حواره (1962): لاقت أغنية "برهوم حاكيني" نجاحاً منقطع النظير، فقد رددها عشرون مليون مصري بعد إذاعتها الأولى على "مسرح التحرير"، وطار صيت نجاح سلام، كما تضخم صيت محسوبكم فيلمون.
وقال: استمر تعاوني مع نجاح سلام بعد زواجها من محمد سلمان، وقدمنا أعمالاً كثيرة، ولكننا لا نملك جدولاً مصنّفاً بتلك الأعمال.
* في الخمسينيات، غنّت نجاح سلام من ألحان فيلمون "طل علينا"، و"قالوا لي عاشق وديبلوماسي"، و"يا ألله شو اشتقت لك"، وسجلت في "ظريف الطول" من كلمات عبد الجليل وهبي في "ستوديو بعلبك"، و"الشختورة" و"ودّيلو سلامي"، ومن كلمات مارون نصر غنت "يا تسلملي ما أحلاك"، وفي أرشيف الإذاعة المصرية ثمة أغنية وطنية عروبية من زمن الوحدة كتبها محمد سلمان، عنوانها "أنشودة النصر".
* صعد فيلمون مع الأخوين رحباني إلى مدرج بعلبك، وشارك عام 1960 في "موسم العز" فغنّت صباح من ألحانه "يا أمي طلّ من الطاقة". بدأ تعاونه الفعلي مع فيروز في عام 1961، فلحّن لها "يا كرم العلالي" التي غنّتها في بعلبك ضمن "البعلبكية"، ثم في معرض دمشق الدولي. تكرر اللقاء بين شعر الأخوين رحباني وألحان فيلمون عام 1962 في مسرحية "جسر القمر" بـ"جايبلي سلام"، وغنّى نصري شمس الدين في هذا العمل المسرحي "هدّوني هدّوني" و"نقلي نقلي". في عام 1964، قُدّمت "بياع الخواتم" في الأرز ثم في دمشق، وفيها غنّت فيروز "يا مرسال المراسيل"، وغنّى نصري "ع العالي الدار". في العام نفسه، غنّت صباح "أنا ما سكّرت الباب" في فيلم ليالي الشرق. قُدّمت "دواليب الهوا" في بعلبك عام 1965، وفيها غنّت صباح "عِنّي يا منجيرة"، "عتيمة عالعتيمة"، "يا أمي دولبني الهوا". عام 1966، غنّت فيروز "كتبنا وما كتبنا" في دمشق، وبين "جايبلي سلام" و"كتبنا"، تحضر أغنيتان يصعب تأريخهما بشكل دقيق، وهما "عالطاحونة" و"يا كرم العلالي".
* عام 1968، صُوّر فيلم "بنت الحارس"، وفيه غنّت فيروز "طيري يا طيارة". افتُتحت عروض "الشخص" في دمشق في نهاية الصيف، وتواصلت في بيروت في شتاء 1969، وفيها لعب فيلمون دور المحامي وغنّت فيروز "فايق يا هوى". بعدها، لعب فيلمون دور "نعوم الهبيلة" في "جبال الصوان" وغنّت فيروز "صيّف يا صيف" في بعلبك وفي دمشق. في المقابل، تواصلت الشراكة الفنية بين "صباح" وفيلمون طوال تلك السنوات، وأثمرت مجموعة كبيرة من الأغاني.
* في 1960، ظهر فيلمون على الشاشة مع الشحرورة في فيلم "معبد الحب" وغنّى برفقتها مطلع "دقّ الباب افتحتلو". وفي 1961، غنّت الشحرورة من نظم مارون نصر "دلّو يا دلّو عادربي دلّو". وتوالت الأغاني، وغالبيتها كما يبدو من كلمات توفيق بركات: "واقفة عراس الطلعة"، "قوم تنلعب باصرة"، "جوزي ما بيلفي عالبيت"، "السمكة علقت بالصنارة"، "جنينة حبيبي"، "راجعة على ضيعتنا"، و"بلّوطاتك بلّوطة" التي صارت بعدها "ستّوتة يا ستّوتة". ومن شفيق المغربي "يا ربّ تشتّي عرسان" و"يدوم عزّك". ومن عبد الجليل وهبي "يا طالعين عالجبل". ومن توفيق العطار "يا زحلاوية". ومن مارون كرم "محبوبي جندي بالجيش".
* يمثل إنتاج السبعينيات استمراراً لهذا العطاء. مع الأخوين رحباني، مثّل فيلمون دور "شبلي" البوهيمي في "يعيش يعيش" عام 1970، ولحّن لفيروز "ليليّة بترجع يا ليل". عام 1971، غنّت فيروز "لو فينا ننقّي حبايبنا" في دمشق ضمن عروض "ناس من ورق"، وغابت هذه الأغنية عن عروض المسرحية في بيروت عام 1972 لأسباب مجهولة. عام 1973، لعب فيلمون دور البدوي في "المحطة" وقدّم لفيروز "يا دارة دوري فينا". بعدها، غنّت السيدة "على جسر اللوزية" ضمن برنامج "قصيدة حب" في بعلبك. عام 1974، عُرضت "لولو" في بيروت ثم في دمشق، وفيها برزت "من عزّ النوم بتسرقني". عام 1976، غنّت فيروز في معرض دمشق الدولي "أنا خوفي من عتم الليل"، وهي آخر الأغاني التي جمعت بين صوتها وشعر الأخوين رحباني ونغم فيلمون.
* من جهة أخرى، تضمنت معظم مسرحيات صباح لحناً لـ"شيخ الملحّنين". عام 1972، في مسرحية "مين جوز مين"، غنّت من كلمات توفيق بركات "روح تجوّز يا عبدو". وفي عام 1973، غنّت من كلمات الشاعر نفسه "عندي بستان يا سعدى" في "الفنون جنون". في 1974، قُدّمت "وتضلو بخير" في بعلبك، وفيها غنّت من شعر طعان أسعد أغنيتين منسيتين: "تعا عيش هوانا يا هوى" و"كرجي يا غالي كرجي". ثم غنّت لأحمد شعيب "عيني يا عيني" في "ستّ الكل". عُرضت "حلوي كتير" في عام 1974، وتضمنت "روحي يا صيفية" من شعر طلال حيدر، و"تغندري يا مغندرة" لجورج خليل. تنتهي هذه السلسلة مع مسرحية "شهر العسل" عام 1978، وفيها من كلمات توفيق بركات "شو اسمك" و"شرفي وأرضي".
* طلبت سميرة توفيق من فيلمون لحناً فوعدها بأن يعطيها أغنيةً تعيش إلى ما لا نهاية، فكانت أغنية "يا هلا بالضيف" من كلمات عبد الجليل وهبي. ولحن لها، في ما بعد "ضربني وبكى"، "يا أسمر يا ناسينا"، "لولا ما بحبّك"، ومن شعر توفيق بركات "حبّك مرّ".
* لم يأخذ وديع الصافي من فيلمون سوى عدد محدود من الألحان، وهي "بترحلك مشوار"، "حلوة وكذّابة"، "صبية يا صبية"، "يا ريت قلبي"، "رايح عبيروت"، "هالدلعونية"، و"تبقو اذكرونا". ولكن، لاحظوا أنها من أكثر أغاني وديع رواجاً وعذوبة ورشاقة. وغنّت وردة الجزائرية أغنيتين مجهولتين، "على شو" من كلمات عبد الجليل وهبي، و"بحب الأسمر" لميشال طعمة.
* جذب هذا النوع من الألحان الشعبية المطربة المصرية شريفة فاضل، فاتجهت إلى فيلمون وهبي الذي لحن لها "حبيبي نجّار" و"يوم الأحد"، وعرفت هاتان الأغنيتان انتشاراً واسعاً. قال وضاح شرارة لفيلمون: أنت أول واحد يخلي مطربة مصرية تغني باللبناني. فقال فيلمون: تعال أبوسك. والله صحيح. وأضاف:
قالت لي بدي غني شي من ألحانك.
قلت لها: الغناء المصري على راسي، بس تعي أعمل لك شغلة باللبناني.
قالت لي: حَ ألفظها ازاي دي "حبيبي نجار"؟ قلت لها: بتتعلمي. وطبعاً ما كان الأمر صعباً، وغنتها بقوة وكأنها واحدة من الجبل.
* من الأصوات المنسية التي غنّت لفيلمون سامية كنعان "جارتنا يا جارتنا"، وأدّت الشقراء رندة عدة أغان، منها "ترلم" من كلمات توفيق بركات. وكان لهالة الصافي، شقيقة وديع، بعض الألحان. ولسعاد هاشم "لا وعيوني ما نسيتك"، ولشقيقتها نهى "أنا فقيرة".
* من الجيل الثاني، خصّ فيلمون كلاً من ملحم بركات ومروان محفوظ وغسان صليبا بمحموعة ألحان. وكل هذه الأغاني تحتاج إلى من يعيد اكتشافها.
* لو أن عبقرية فيلمون وهبي تحتاج إلى أدلة إضافية لقلنا إنه، وعلى الرغم من اشتهاره بالأغاني الشعبية، والأدوار الهزلية، فقد لحن قصيدة عمر أبو ريشة "عروس المجد" التي أنشدتها المغنية السورية "سلوى مدحة". وأصبحت من الأغاني الخالدة.
ملاحظة 1- كانت سلوى مدحة من أهم المطربات السوريات في الخمسينيات، وكانت لها تسجيلات كثيرة في إذاعة دمشق، ولكنها حينما تزوجت قررت سحب تسجيلات أغانيها وإتلافها. وافق مدير الإذاعة على ذلك مشترطاً إبقاء "عروس المجد" في أرشيف الإذاعة باعتبارها أغنية وطنية.
ملاحظة 2- يحكى أن فيلمون وهبي كان يزور دمشق، ذات سنة، في أواخر إبريل/ نيسان، وبينما هو يتناول طعامه مع أصدقائه في شلالات "أبو شفيق" بالربوة، كان الراديو يبث أغنية "عروس المجد"، ولا سيما المقطع الطربي الجميل الذي تقول فيه:
كم لنا من ميسلونٍ نفضت، عن جناحيها غبارَ التعبِ
وإذا برجل جالس إلى طاولة مجاورة، التفت إلى فيلمون وهبي وقال له: أستاذ فيلمون، أنتم اللبنانيين ليش بتركزوا ع الأغاني العاطفية وما بتهتموا بالأغاني الوطنية؟ اسمع هاي القصيدة تبع سلوى مدحة قديش حلوة. فرد فيلمون ممازحاً كعادته:
مو كل اللبنانية متل ما عم تقول، أنا بلحن أغاني وطنية، هاي اللي عم تسمعها تلحيني.
* ياسر علوي: يمكن القول إن فيلمون وهبي هو زكريا أحمد لبنان. فهو يمثل التقليد الشعبي الصرف، المتدفق بألحان ذات نكهة شرقية حاسمة، ويمزج بين التلحين الموسيقي وتلحين المونولوجات.
* عبد الغني طليس: كان أسلوب فيلمون وهبي في تلحين المقدمات الموسيقية الغنائية يعتمد على نوتات قليلة ترتفع أو تنخفض بحركة تبدو غاية في العفوية، وغاية في التدرُّج المنطقي المألوف لسير الجملة اللحنية، لكن طبيعة النوتات القليلة والقريبة من بعضها البعض وخروجها هي نفسها على المألوف أو المسموع كان هو سرّ فيلمون في تلك المقدمات الموسيقية. أما عندما كان يبدأ تلحين كلمات الأغاني، فالأمــر كان يشبه الدخول في غابة أو حديقة بكــل ما فيها من مفاجآت، وكان التغيير بين نغمـــة وأخرى في شكل غير منتظر، يُحَمِّلُ الجملة الشعرية أبعاداً فاتنة، ويحمل صوتَ فيروز رسائلَ أدائية عميقة. هو إذن، السهل الممتنع الذي كان حالة رحبانية أيضاً في أغلب ألحان المسرحيات.
* تقديراً لعطاءاته الفنية المميزة حاز الفنان فيلمون وهبي العديد من الجوائز والأوسمة، منها وسام الأرز ووسام الاستحقاق من لبنان، وعدة أوسمة من الجيش اللبناني، الى جائزة سعيد عقل والعديد من الأوسمة العربية.
* قال سعيد عقل: (في تأبين فيلمون) مات فيلمون. غابت الضحكة، وانكسر سيف. كان تلاتة: النفحة الشعبية اللي قلال بيبدعوا متلها، والضحكة، والطلة العملاقة اللي بتملّي مسرح ووطن.
* يستغربُ بعض المتابعين من أن يكون ملحن "عروس المجد" و"إسوراة العروس" و"من عز النوم" هو نفسه الرجل الفكاهي المرح الذي يؤلف الأغاني الهزلية ويلحنها ويغنيها ويرقص بطريقة مضحكة أثناء ذلك. هذا الاستغراب مبني على نظرة خاطئة للفنون الفكاهية، والقول بأنها ليست ذات أهمية.. هنا يجدر بنا أن نقول إن أقدر الناس على الإبداع هم أولئك الذين يجيدون الضحك (الجاحظ)، وبحسب تعبير علي بن أبي طالب: من كانت به دعابة يبرأ من الكِبر "الغرور". ونقول أيضاً إن السمة الأساسية للمبدعين الكبار هي التواضع وليس "المنفخة"، ولكم أن تتخيلوا أن المبدع الكبير منصور الرحباني وافق ذات مرة "في السبعينيات" على أن يلعب دور المذيع، ليجري مقابلة مع فيلمون وهبي، خلال إحدى زيارات فرقتهم لدمشق.
* كثير من الناس يحفظون مطلع أغنية فيلمون وهبي التي تقول: عندي دوا للذكا، ومعبى بظروف، حبة بياخدها الـ ما بيفهم، بيصير فيلسوف. والحقيقة أن فيلمون له أغنية أخرى على القافية نفسها، والمضمون نفسه، تقول:
وحياتك يا بو لطوف، عندي دوا لو بتشوف، لو تسقي منو الغنمات، العنزة بتخلف خاروف.
يا عيني ع هالدوا، حير أهالي الهوا، شربوا منه المختلفين، واصطلحوا ومشيوا سوا.
اشرب لك شي كباية، ووقف ع المراية، بتخاف تعمى تقـ..، وما بتعود تشوف.
* يتفنن فيلمون باستخدام التاء المفتوحة مكان المربوطة، فيقدم لنا ما يسميه: أُغْنِيَتْ جَدِيْدَتْ تتألف من موال وأغنيتْ:
الموال: خط القلم ع جبينك ألف لام مين، بيي سعيد وعمي سليم وخالي حليم، وتجوزتي يا لطيفة وأخدوكي وخطفوكي وارتحنا منك والله كريم.
الأغنية: اللي بتحبو لطيفة، مهيوب وخلقة نضيفة، من كتر ما بتحبه، راحت معه خطيفة.
لطيفة ما في متلا، وكل العالم شهدتلا، واللي انخطفوا من قبلا: وطفة وكحلا، عبلا ونهلا، أسما وبسما، وسعد ودعد ورعد وبعد، نجمة وحلا وعفيفة.
قولوا الله يحميها، ورب السما يخليها، شباب الـ حكيوا فيها، يوسف بطرس مرقص حنا حنا أحمد أسعد خيا لظريفة.
لطيفة حبت لطوف، وعينك يا حبيبي تشوف، إلهن يومية خناقة، ضرب وقتل وعياقة، رفس ودعس وضرب ودفش ولطم.. ويا دلك يا لطيفة.
جوز لطيفة قد الغول، في يوم تروق كيس فول، أكل المعجن والخبزات، أكل القدرة والطبخات، وزلع المقلي والبيضات، لو نتفة أكل الولاد، والغسالة والبراد، والصابونة والليفة.
عن (ضفة ثالثة)