تعامل الإنسان مع فكرة الصراع والحرب وصنع تاريخه، فكانت له طقوسه قبل وأثناء وبعد تلك الحروب. كما تلاحظ على مر التاريخ أن رصد الإنسان المصري تلك التجربة الحربية، وهو ما كشف عن تاريخ من البطولات والتضحيات وإعلاء لقيم الانتماء والتضحية والحرية، التي يتحلى بها الجندي المصري.
فيما يعد التراث الشعبي لأمم الحضارات القديمة، ومنها مصر، مرآة صادقة وجلية لجملة الأفكار والمشاعر تجاه تلك التجربة. فبينما تجنح المثولوجيا الهندية (مهاباراتا) إلى مزاج حربى حاد، يمجد الحرب، ويزكى الصراع من أجل انتصار الإنسان؛ كانت الميثولوجيا الصينية تجنح إلى إزكاء السلم، ربما بتأثير التعاليم البوذية المضادة لمفهوم الحرب، كان "كونفوشيوس" يقول: "الجنرال العظيم حقا هو الذى يكره الغزو وليس حقودا انفعاليا". فيما تغلب المسالمة والتسامح بعيدا عن العدائية بمجمل معطيات الميثولوجيا المصرية، لعلها ترجع إلى تعاليم الإسلام التي ترفض الاعتداء وتدعو لرد العدوان، وان جنحوا للسلم فاجنح لها، واللافت أن تلك الرؤية المصرية بدت كذلك خلال عهود المصري القديم، القائم على ضفتي نهر ثرى يكفيه المأكل والمشرب، فلا يعتدى وإن بقى وجهة لعدوان الآخر.
شغلت ظاهرة "الصراع/ الحرب" التاريخ الفكري، وهو ما قال المفكرون فيها: قال "رايت": "هي الأساس القانوني الذي يتيح لجماعتين أو عدة جماعات متعادية أن تحل النزاع في ما بينها بقواتها المسلحة". وقال "مارتن": "الحرب عبارة عن صراع بين الناس". وقال "كلوزفتر": "الحرب عمل من أعمال العنف، يهدف إلى إرغام الخصم على تنفيذ إرادتنا". وقال "بنكر تشك" و"شارل ديبوس" وبرادييه": "الحرب هي صراع بين دول مستقلة ولها صفة دولية". أما "فون" قال: "الحرب هي المعركة التي تشنها جماعة معينة من الرجال أو القبائل أو الأمم أو الشعوب أو الدول ضد جماعة مماثلة أو شبيهه لها". فيما قال "لاجورجيت": "الحرب هي حالة من الصراع العنيف الذي يقوم بين جماعتين أو عدة جماعات من أفراد منتمية إلى النوع نفسه بناء على رغبتهم أو إرادتهم". لا تنتهي التعريفات، ولا نعرف ما الحرب في النهاية.
تتسم التجربة الحربية بالعمومية، كما تعد من أشد التجارب خصوصية، حيث أنها منبه معقد، تتماس فيها قيم الحياة والنزوع إلى البقاء، في مقابل كل العنف المتوقع، في مقابل الهلاك والموت. وبينما الموت في دلالته العامة يعنى ما يعنيه، فهو عند الجندي المقاتل يعني الحافز إلى المزيد من الحرص على الحياة. يقاتل وهو على يقين أنه يسعى للانفلات من الموت. وكم كان الجندي المصري مخلصا لقناعاته في مواجهة العدوان، فكانت بطولاته التي رصدتها القرائح والأقلام الإبداعية على مدى التاريخ المصري.
***
تلك وقفة عجلة مع الحرب قديما وحديثا، لعلنا نتعرف عما جبل عليه الإنسان المصري في النهاية بحب للقيم العليا والفداء، مثلما جبل على حب الحياة.
*قص بطولات فترة المصرى القديم:
تعد معطيات الحضارة المصرية القديمة، من شواهد معمارية وثقافية وعلوم، منجزا بشريا لمعطيات إنسانية أسبق منها، وتمهيدا لأخرى تالية عليها. وكانت أولى المحاولات التي تعرفنا بملامح الإبداع المصري، ما تضمنه كتاب "القصص الشعبية في مصر القديمة" لمكتشف حجر رشيد "ج. ماسبيرو" عام 1882م. وقد علق الكاتب الفرنسي "جوستاف لوفيفر" عليها مؤكدا: "أن القصص في الأدب الإغريقي لم تكن إلا نوعا من سمر الأطفال، بينما كانت في مصر القديمة أعمالا أدبية". قام البعض بمهمة تصنيف القصص منها، وانتهى إلى وجود النمط الفلسفي، كما قصة "الصدق والكذب" حيث تتقابل شخصيتان رمزيتان أحدهما "الصدق" والآخر "الكذب" ويتصارعان لينتصر "الصدق". كذلك النمط القصصي الأسطوري مثل "اله البحر آستارتيه"، كما يوجد النمط الحكائي السردي الذي يغلب عليه الخيال والسرد أكثر فنية. بالإضافة إلى تلك الأنماط التي تهتم بالمعجزات والعجائب والسحر. الجدير بالإشارة أن الأدب المصري القديم تضمن وقفات حكائية سردية للحث على "المقاومة من أجل الحرية". ونقول بما قال به الكاتب الفرنسى الذي درس الآداب القديمة والمصرية منها: "إن الأدب لا يقاس بالنمو والتقدم، لأن الأدب ينساب في نغمة إيقاعية ولا يسير في خط متصل، فلكل من الأدباء وقته وظروفه".
محاور الأديب المصرى القديم:
1: التغني بالبطل المنتصر.
من السمات البارزة في أدب المصري القديم من أجل تعريف الناس والأجيال الجديدة بنجاحات وانتصارات أبطالها، في مواجهة الخطر الداهم. تعد قصة "فتح جوبى" أو "الاستيلاء على يافا" من أشهر تلك النماذج القصصية، تلك التي تتميز بالحيوية السردية والجاذبية. تتغنى بالقائد "دجهونى" أو قائد جيش تحتمس الثالث. عرف عنه الدهاء العسكري، وهو ما جعله يتمكن من فتح المدينة، فمنحه الحاكم: كأسا من الذهب (يوجد الآن بمتحف اللوفر بفرنسا).
كانت حيلة القائد فى إخراج أمير المدينة "جوبى" إلى خارج أسوارها، ثم إرسال الكثير من الجنود إلى داخل المعسكر في سلال كبيرة. (وقد تكررت هذه الحيلة في التاريخ، كما فعلها "الزبير" لدخول حصن بابليون، وأيضا خدعة حصان طروادة الشهير. وربما بدت رائجة في حواديت الف ليلة وليلة، وخصوصا حكاية (على بابا والأربعين حرامى). جزء من النص يصف الخدعة: "وأسرع دجهوتى بإحضار المائتي سلة التي سبق له أن صنعها، ووضع بداخلها مائتي جندي زودهم بالحبال والأوتاد. وزود دجهوتى جنوده بتعليماته قائلا لهم: عليكم بتخليص زملائكم من السلال المختومة حال دخولكم المدينة، والقبض على جميع الرجال بها، وتقييدهم في الحال."
2: الحنين إلى الوطن..
سمة شفيفة في أدب الحرب المصري القديم، حيث العواطف ولوعة الفراق مع الجزع من الغربة والابتعاد عن أرض الوطن، حيث تزكية الانتماء الذي هو عتبة كل دعامات أدب التعبير عن التجربة الحربية. قصة "سنوحى"، وقد أجمع علماء المصريات على أن تلك القصة أفضل ما يمثل الأدب المصري القديم، وقد أدخلها العالم المفكر "كيبلينج" ضمن آثار الأدب العالمي. وشخصية "سنوحى" ليست خيالية، وللقصة قسط من الحقيقة في الشخصيات والأحداث وهو ما دفع البعض لتسجيلها فنيا. ترصد القصة الحرب مع اللوبيين، حيث كان "سنوحى" تحت قيادة ولى عهد مصر، أما وقد توفى الملك ورحل ولى العهد لتولى شئون البلاد، ارتحل سنوحى الى سوريا حيث أقام وتزوج وجعلته إحدى القبائل شيخها. وبعد سنوات طويلة تصله أوامر ملك مصر بالعودة إلى مصر ومتابعة قيادة الجيش. ويبدو أن هذا ما تمناه سنوحى، فترك سوريا عائدا إلى مصر كي يدفن في ترابها وقد حارب من أجلها.
3: التغنى بالانتصارات الكبرى "ملحمة قادش":
وهى المسماة خطأ بقصيدة "بنتاور"، تعبر عن أهم الانتصارات في التاريخ العسكري المصري القديم لـ"رمسيس الثانى" على "الخيتا" وحلفائها (وهم الحيثيين من سكان آسيا). لكن الروايات المختلفة التى رويت بها مبعثرة على جدران معظم المعابد (المبعثرة). ولا يوجد لها متن يجمع شتاتها (حتى الآن). إلا أن "سليم حسن" حاول جمعها بجهد فريد. أما التفسير الوحيد لتشتت تواجدها في الكثير من المعابد، هو الاعتزاز بها. ترجع أحداث تلك الحروب إلى أن تحتمس الثالث أسس مملكة كبيرة، وضعفت سيطرة مصر عليها مع مقدم "اخناتون" (الذى اهتم بالجانب الديني) أو بثورته الفكرية. حتى جاء رمسيس الثانى لإعادة سيطرة مصر عليها.
فى السنة الخامسة من حكمه، تقدم بجيشه، فاستولى على فلسطين حتى يأمن جانبهم. لكن جيوش رمسيس كانت متباعدة، وفوجئ بالأعداء يعسكرون في قادش. تقدم نحوهم حتى تمكن من اختراق قواتهم، ثم انتصر عليهم بعد هزيمة مبكرة لجيشه، استطاع أن يحولها إلى انتصار، طلب الأعداء من بعده الهدنة. فيما أكد الباحثون على تواصل المعارك بين بعض حكام مصر وأولاد "الخيتا" بعد معارك قادش. يقول "سليم حسن"، أنه بتأمل الأمثال والقصص والشعر المصري القديم، نرى أن الهدف عند الكاتب لم يكن من أجل جمع المال والحصول على وظيفة وغير ذلك. كان الهدف الأسمى والشائع فى هذا الأدب أنه يرمى الى معان نبيلة، ومقاصد أنبل، ترفع من شأنه (وشأن قومه). وهذا هو مقصد هذه الدراسة، حيث أدب التجربة الحربية فى السرد المصرى القديم، هو أدب مواجهة الذات لتصفيتها من المثالب، ومواجهة الآخر العدواني بكل السبل، بل وتعبيرا عن الفداء من أجل الوطن.
***
قص بطولات فترة الحملات الصليبية:
لقرابة قرنين من الزمان كانت تلك المعارك التي إن هدأت هنا، قد اشتعلت هناك. فقد أقيمت الإمارات الأوروبية (أو المستعمرات الاستيطانية)، كما استولوا على الحصون والقلاع، وتمكنوا من مقاليد الأمور. بدت تلك الفترة بكل ما فيها من ألم، تعد من أنضج الفترات التي أنتجت فيها القريحة العربية العديد من المعطيات الفكرية والأفكار الإيجابية. فلم يكن الشعر والنثر هما أهم ما أنتجته تلك الفترة، كان المنجز العقلي مع الفقه وعلوم الشريعة، وفى القضاء. يبدو أن تلك الأزمة حفزت الهمم، ليس لمواجهة الأعداء فقط، بل لمحاربة كل عوامل القهر والانهيار.
قرر علماء الإسلام، الانتباه لكتابات اليهود والمغرضين والرد عليها. فكتب "ابن قيم الجوزية": "هداية الحيارى من اليهود والنصارى" و"اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية". كما يذكر أن بعض العلماء ذهب إلى أرض المعركة حبا في الاستشهاد مثل "الإمام يوسف الفندلاوى المالكى"، والشيخ الزاهد "عبدالرحمن الحلحول". كما كتب "عبدالرحمن بن عبدالله" كتابه "المنهج المسلوك في سياسة الملوك" يحث على الجهاد، وتدبير أمور الجيوش، قال: "إن الله تعالى فرض في الأصل على كل مسلم أن يقاتل عشرة مشركين. ثم إن الله حرم على كل مسلم أن ينهزم من مثليه إلا لأحد أمرين، إما متحرف لقتال فيأوي للاستراحة أو لمكيدة ويعود لقتالهم، وإما أن يتحيز إلى فئة أخرى ليجتمع بها على قتالهم".
الغريب الطريف أن ينشر ذاك الكتاب الفكه الذي جمع النوادر التي حدثت .. مثل حكاية تلك المرأة التي تخرج سافرة من باب بيتها وتشير إلى أحد جنود الإفرنج، وما أن يسير خلفها إلى داخل بيتها، حتى يخرج عليه الرجال لتمزيقه إربا!
يوميات أسامة بن منقذ:
أما والبحث عن بطولات الجندي المصري وجيشها، فلا أجدى من الاطلاع عما كتبه وزير صلاح الدين ومرافقه في كل معاركه، لما تتمتع به من خصائص حكائية وغلبة القص عليها. تلك المواقف والاخبار والاحداث التي رصدها بصياغة حكائية بسيطة وجاذبة "أسامة بن منقذ" (488 – 548 هجرية)، هو فارس من فرسان المعارك ضد الصليبيين، وقد عاش عهود الحكام الثلاثة (عماد الدين، نور الدين، وصلاح الدين) ولكل منهم مواقفة البطولية. ففى كتابه "الإعتبار"، دون أن يدرى أضاف شكلا غير مسبوق إلى النثر العربي. فقد عمد في عرضة على تسجيل اليوم وأحداثه تفصيليا، فأصبح رائدا في فن كتابة اليوميات، وقد شاع هذا الشكل من بعده.
لقد تعرض "أسامه" فى كتابه "الاعتبار" إلى مرحلة طفولته، وأنه من المقاتلين ومحترفي الصيد ولا يترك المصحف من بين يديه حتى أثناء فترات الراحة خلال رحلات الصيد. أما الجانب الحربى ورصده للصراع العسكري مع الفرنجة، يلاحظ القارئ أنه لم يتحدث عن نفسه. كل ما جمع عن بسالته وبطولاته العسكرية يمكن أن يعرفها القارئ من كتابات الاخرين عنه. ففي كتاب "الروضتين" لكاتبه "أبوشامه" قدم وصفا وسرد أحداثا حول شجاعة "أسامة" أثناء حصار قلعة "حارم". وضح فى كتابه "الاعتبار" قدر تقدير "أسامة" لصلاح الدين. يتحدث عن أفضاله فيقول:
"نادانى إليه مكاتبة مولانا ناصر الدنيا والدين، سلطان الاسلام والمسلمين، جامع كلمة الايمان، رافع علم العدل والإحسان، محى دولة أمير المؤمنين. فاستنقذنى من أنياب النوائب برأيه الجميل، وحملني إلى بابه العالي الغامر الجزيل، وجبر ما هاضه الزمان منى، ونفق على كرمه ما كسد عنه سواه".
لعل مجمل ما يمكن الإشارة إليه .. تخلو اليوميات من النرجسية وتفضيل الذات عكس الكثير من السير. سمة الصدق والشجاعة وقول الحق يغلب أي اعتبار غير موضوعي، حتى أنه وعلى ما في تجربته من قسوة مع الفرنج، إلا أنه لم ير فيهم أبالسة وشياطين كما قال البعض من معاصريه. بل ناقش أفكارهم وسلوكهم. ولا يبدو منفعلا شديد البأس إلا عندما يسرد المعارك.
رواية "الحروب الصليبية":
للكاتب "أمين معلوف"، نشرت عام 1983م باللغة الفرنسية، ثم ترجمت إلى العربية بقلم "د.عفيف دمشقية". وهى واحدة من إنتاج الروائي الذي رهن قلمه لكتابة الرواية التاريخية. لعل الهام هنا هو تركيز الروائي على إبراز العلاقة بين الشرق والغرب في كل أعماله، وما أحوجنا الآن كي ننتبه إلى أنفسنا وإلى الآخر. وقد وعى الكاتب تلك القضية حتى أنه بالمقدمة يقول: "أنا لا أقدم كتابا آخر في التاريخ قدر ما هو رواية حقيقية عن الحروب الصليبية، وعن هذين القرنين المضطربين اللذين صنعا الغرب والعالم العربي، ولا يزالان يحددان، حتى اليوم، علاقاتهما." كأننا نقرأ في تلك السطور القليلة أحداث نعيشها الآن! أما روايته حول الحرب الصليبية، فتشغل نفس زمن فترة تلك الحروب (قرنان)، أي منذ 1089م حتى نهاية وجود الصليبيين بالمنطقة في عام 1291م . ومع ذلك فالقول بالتزامه العلمي بالحقيقة التاريخية لا يلغى الالتزام بأطر عامة لفن الرواية كما في توفير عنصر التشويق والإثارة.
يعرض الروائي وجهة نظره، ثم يسجل مقولات المؤرخين، وقد يعلق من بعد، وهكذا يقطع ويمزج، ويضيف بشكل متتابع وهو قابض على جوهر فنية الرواية وفكرتها، مع ذلك كثيرا من كان يبدأ (الفصل أو الفكرة الجديدة) برصد التاريخ. كما فعل في"ديسمبر 1089" حيث يقول: "اجتاح الصليبيون بلدة أبى العلاء. أما المؤرخ العربي أسامة بن منقذ – الذي ولد في مدينة قريبة قبل ثلاث سنوات من هذه الأحداث – فقد عاش تلك الفترة كاملة وأرخ لها، وحدث في إثنائها لون من الوان التعاون بين إمارة عربية في دمشق، وأخرى صليبية في القدس، وهو يتحدث حديثا طويلا عن جهلهم بالطب وهمجيتهم، ويشمئز من كثير من مسالكهم. ثم يوجز خبرته بهم: "إذا خبر الإنسان أمور الإفرنج رأى بهائم فيهم فضيلة الشجاعة والقتال لا غير، كما في البهائم فضيلة القوة والحمل"!
وهكذا حتى نهاية الرواية، ما بين التنصيص والتعليق وما يمكن أن نطلق عليه "المونتاج". بحيث اكتسب العمل نكهة خاصة. وهو ما جعل الرواية وثيقة تاريخية/ فنية حول الحروب الصليبية، ولم تخل الرواية من بطولات حقيقية للجندي (المصري والعربي).
***
قص بطولات مواجهة الغزو التتري:
تعد تجربة معركة "عين جالوت" من التجارب الحربية الهامة في التاريخ العربي، ليس فقط لكونها معركة انتصر فيها الجندي المصري، بل لكونها قادت نحو نزع غلالة الإحباط والغفلة التي كانت تعيشها المنطقة في حينه. وقعت المعركة عام 1260م (في منطقة عين جالوت" بفلسطين) بين الغزاة التتار بقيادة "كتبغا" (وهو المعلم الأكبر لهولاكو)، وبين العرب بقيادة "قطز" حاكم مصر ورفيقه (الذي قتله فيما بعد وتولى الحكم) "بيبرس"، انتهت المعركة بانتصار العرب.
قبل تلك المعركة (عين جالوت) بعث "هولاكو" إلى ملك مصر (الشاب الصغير المنصور) وقبل بهيمنة التتار على مصر، اعترض "قطز" ورفاقه، وتولى الأول حكم البلاد، ثم قرر الخروج إلى التتار. وقبل خروجه أجرى العديد من الإجراءات التي يمكن أن تسمى الآن "إعداد الدولة للحرب" بتوفير المواد التموينية، والسلاح، وجمع الضرائب اللازمة للإنفاق على الجيش واستعداداته، بالإضافة إلى التهيئة النفسية الواجبة لكل المصريين. لم تكن المعركة هي بداية التصادم، سبقتها الحرب النفسية ضد التتار، حيث كانت حيلة خبيثة وشهيرة، وطريفة أيضا. فقد تقدمت بعض الأفراد أو الجنود المصريين ممن يطلق عليهم بالعيون أو القوات المتقدمة، عددهم مائة، وهو نفس العدد من قوات الصليبيين (حيث علم بيبرس بالاتفاق بين الصليبيين والتتار على التشاور للتعاون معا، وهى مهمة المائة صليبي الذين قاتلهم بيبرس) ثم أمر "بيبرس" باستبدال ملابسهم بملابس الصليبيين، وتقدموا حتى دخلوا معسكر التتار بالترحاب الواجب!، فكانوا النواة التي عملت على إحباط الروح المعنوية للتتار، والعيون التي تبعث بأسرار الأعداء إلى ملكهم "قطز".
بعد أن أعد "قطز" العدة، بدأ بيبرس في المناوشات الصغيرة، والمعارك المحدودة. وعرف عن تلك الفترة، نجاح "بيبرس" في التعاون مع الفلسطينيين بل ومشاركتهم، والبدء في إعداد قوات منهم، للمشاركة في المعارك الفاصلة. بالإضافة إلى الاستعانة بهم في توفير الشئون الإدارية للقوات المصرية المتقدمة. بدأت المعركة الفاصلة على مراحل. المرحلة الأولى بدأت بتحييد الصليبيين، وضمان عدم مشاركتهم للتتار. ثم بدأت المناوشات مع قوات التتار عند نهر "العاصي". أما وقد بلغت القوات (حوالي 477الفا) من الجنود المصريين والفلسطينيين والسوريين، بقيادة "قطز"، عسكروا عند النهر حتى يعد حاجزا ومانعا طبيعيا لحماية القوات، حتى جاء 3سبتمبر عام 1260م وبدأت المعركة الكبرى. بدأت بقذف معسكر التتارية بالمنجنيقات من كل جانب،
ردت القوات التتارية بهجوم عاصف حتى اخترقوا جيش القوات العربية، إلا أن الخطة العسكرية المسبقة، أعطت لهذا الاحتمال الاحتياطات الواجبة. وبالفعل تعاملت الأكمنة العربية مع قوات الأعداء، بل أطبقت القوات على الغزاة بالجانب الأيمن والأيسر. فيما تابع الأهالي الفلسطينيين المحليين وغير المشتركين في القوات المتحاربة، قامت بمطاردة القوات الفارة والشاردة.
رواية "وا إسلاماه":
في رواية "على أحمد باكثير"، يسعى القائد التترى "بلطاي" وراء "سلامة" مستشار السلطان المقتول الذى هرب مع الأميرة "جهاد" أو جلنار وريثة العرش والأمير "محمود" أو "قطز"، حيث يقوم سلامة ببيع محمود وجهاد كرقيق حتى يمكن إنقاذ حياتهما. ينتهى بهما الأمر بمصر، إلى أن تصبح جهاد جارية في قصر الملكة شجرة الدر، ومحمود قائد المماليك مع الأمير عز الدين أيبك. يلتقى سلامة أخيرًا بجهاد ومحمود الذين ينمو الحب بينهما، تبدأ سلسلة من المؤامرات على عرش مصر، وتنتهى بزواج الأمير "أيبك" من "شجرة الدر" التي تقتله عندما يحاول أن يجردها من سلطاتها.
وتقتل شجرة الدر على يد أرملة السلطان عز الدين أيبك، ويصبح عرش مصر خاليا في الوقت الذى يحاول فيه التتار مهاجمتها. يهب محمود لجمع كلمة الشعب من أجل الدفاع عن مصر، ويتولى عرش مصر ويقرر محاربة المغول، مع صديقه الظاهر بيبرس وينتصر محمود/ قطز وبجانبه جهاد على التتار. خصوصا بعد أن شاركه الامير الظاهر بيبرس بجيشه او جنوده المدربين جيدا. وكان الانتصار الهام على التتار في معركة "عين جالوت".
***
قص التجربة الحربية المعاصرة:
تعد جملة الأحداث في القرن التاسع عشر مخاضا لمولد متغيرات اقتصادية وسياسية فضلا عن كونها مخاضا اجتماعيا وثقافيا. فمنذ أن اعتلى "محمد على" كرسي الحكم، وقد زلزلت الحملة الفرنسية قبله رواسخ بالية متكاسلة، بدت العلاقة بالآخر (العثماني ثم الأوروبي) في تتابع ما بين الشد والجذب. وكان فك رموز حجر رشيد والبعثات العلمية إلى أوروبا، ثم التوسع في التعليم المدني، وإنشاء المدارس العليا التخصصية (للطب والهندسة والطب البيطري وغيرها) إلى جانب دخول المطابع إلى مصر وإصدار الصحف، كلها تضافرت معا لتخلق مناخا ثقافيا جديدا.
لنا أن نشير إلى تجربتين حربيتين مرت بهما مصر خلال تلك الفترة، الأولى: أحداث الثورة العرابية ومعاركها مع القوات الإنجليزية التي سيطرت على مصر لمدة اثنين وسبعين سنة، كما جرت أحداث الحرب العالمية الأولى ونالت مصر بسببها ما نالت.
عبرت رواية: "فتاة الثورة العرابية/ يوسف أفندي حسن صبري"، و"عذراء دنشوى/ محمود طاهر حقي" عن تلك الفترة المبكرة. الأولى تتناول أحداث الثورة العرابية، والثانية تتناول أحداث الاحتلال ومظاهر الصراع بين المحتل والفلاح المصري. تعد النشأة الأولى والمخاض للسرد الفني الحديث، مرتبطا بالموضوعات الرومانسية. غلفتها مسوح الوعظ والإرشاد، عن نزعات عاطفية ودينية وتعليمية، وهو ما يتوافق مع النزعات الاجتماعية العامة. كما لم تؤكد "الرواية" تواجدها الفاعل بين العامة والخاصة إلا بفضل بعض النصوص القصصية التي تناولت تجارب مقاومة/ حربية، وكأنها كتبت للتعبير عما يجيش به صدر المصري من محبة وانتماء لوطنه. ما أرى معه أن ميلاد ورواج جنس الرواية في مصر لم يتحقق إلا لارتباطه بقضايا المقاومة في مواجهة العدوان الخارجي والقهر والاستبداد الداخلي مع مقاومة الاحتلال الإنجليزي في حينه.
رواية "عذراء دنشواى" للروائي "محمود طاهر حقي":
ربما أهم ما يمكن أن يقال حول هذه الرواية، هو بالضبط ما سجله الكاتب "يحي حقي"، في مقدمته للرواية للطبعة الثانية عام 1963م (نشرت للمرة الأولى عام1909) .. قال: "لك الحق إذا قرأت هذه الرواية التي صدرت أول طبعة لها في شهر يوليو سنة 1909م، أن تسأل نفسك في شئ من التعجب: " لماذا يعاد طبعها سنة 1963م؟" هل باعتبار أنها من خزائن المكتبة العربية المندثرة التي ينبغي أن تبعث من جديد ليعرفها الجيل الحاضر ويدخلها في تاريخ نشأة الفن القصصي وتطوره في بلادنا؟ ستؤخذ بأن الجانب القصصي المعتمد على الخيال في هذه الرواية جد ضئيل، وأن جهد المؤلف يكاد لا يتجاوز تسجيل قضية دنشواي كما حدثت.
لم يصطنع أشخاصه اصطناعا، بل أخذهم بأسمائهم ومواطنهم ومهنهم من واقع الحياة، فوصفه هو وصف صحفي أو وصف المؤرخ على أحسن تقدير. إنه روى لنا على الترتيب: كيف وقعت الواقعة في قرية دنشواى؟.. ثم دخل بنا إلى قاعة المحكمة المخصوصة لنشهد الجلسة ونرى القضاة، ونسمع شهادة الشهود ومرافعة النيابة والدفاع. ثم صحبنا إلى ساحة التنفيذ لنحضر بشاعة أحط جريمة ارتكبها الاحتلال البريطاني.
تعد عذراء دنشواى أول رواية مصرية مؤلفة تباع منها آلاف مؤلفة من النسخ فور صدورها. وقد أعيد طبعها عدة مرات في فترة وجيزة. لقد حدثنا الكاتب عن حب ساذج برئ بين فتاة وفتى من أبناء القرية، هما "محمد العبد" و"ست الدار" وبحكاية حبهما بدأ الرواية. أفنقول: إنه من عجيب الصدف أن يظهر الفلاح لأول مرة في أول رواية تهز وجدان الشعب؟ أم نقول: إن هذه الظاهرة ليست وليدة الصدفة وحدها، بل هي نتيجة منطقية محتومة للتلاقي بين مخاضين طويلين محجوبين في صمت باطني: مخاض ولادة الرواية، ومخاض ولادة وحدة الشعب في المحنة، وعثوره على نفسه وحاجته إلى التعبير عن هذه النفس. ينبغي الاعتراف بأن رواج رواية "عذراء دنشواى وقت صدورها لم يكن مرجعه قيمتها الفنية، بل ركوبها موجة من الشعور المتقد الذي بثته قضية "دنشواى" في نفوس المصريين من مشاعر الاحساس بالظلم والرغبة فى مواجهته.
"فتاة الثورة العرابية" للروائي "يوسف أفندي حسن صبري:
تقع الرواية في تسعة فصول، ويبدو أن الروائي التزم بما أشار إليه في "التمهيد" بالالتزام (غير الفني) بالأحداث التاريخية والشخصيات وحتى الأسماء.(نشرت الرواية عام1932م). الفصل الأول "أدب المغفور له الخديوي سعيد باشا مأدبة بقصر النيل دعا إليها العلماء الروحانيين وأعضاء العائلة الحاكمة وأعاظم رجال الحكومة ورجال العسكرية. بعد تناول ما لذ وطاب نهض سعيد باشا بين تهليل القلوب ورقص الأفئدة وقف بين صفوف الإجلال والرهبة والقى هذه الكلمة والتي كانت أول صيحة في مصر بطلب الحرية والاستقلال: "أيها الأخوان، إني نظرت في أحوال هذا الشعب المصري من حيث التاريخ فوجدته مظلوما مهانا. وحيث أنى أعتبر نفسي مصريا فوجب على أن أربى أبناء هذا الشعب وأهذبه تهذيبا حتى أجعله صالحا."
ويشير الروائي إلى أن أحمد عرابي كان ضمن الضيوف، وسعيدا بما سمع. لكنه يشرد في معسكره ولا ينام، يتساءل؛ فيدور الحوار الكاشف عن أحوال المصريين في الجيش بينه وبين جندي الحراسة الخاصة به. ذاك الجندي نفسه يضع بداية خط درامي مواز للخط التاريخي المباشر، حيث يطلب أجازة من عرابي للعودة إلى قريته "قويسنا" ليشارك في عزاء عمه المتوفى، وليرعى ابنة عمه "خديجة". وبدأ الجندي "إبراهيم دسوقي" رعايته، ثم تزوجها.
الفصل الثاني: توفى المغفور له جنتمكان محمد سعيد باشا، وتولى الأريكة الخديوية سمو إسماعيل باشا ولاية مصر فأمر بجمع العساكر وترتيب الآلايات فكان أحمد عرابي قائمقام على آلاى البيادة السادس ولم يكن غيره من العنصر المصري بهذه الرتبة. ثم يعرض الروائي لبعض المؤامرات التي حاقت بعرابي. وفى الجزء التالي يعرض لتطور العلاقة بين خديجة وإبراهيم. أخبرته أن ابن العمدة يترصدها، فأقنع زوجها "عرابي" بضرورة القبض على الشاب اللاهي. بينما الجنود في طريقهم للقبض على ابن العمدة، إذا به مصادفة يذهب إلى خديجة ليعرض عليها الزواج!، بل يحاول الاعتداء عليها .. يدخل إبراهيم لإنقاذها.
الفصل الثالث: بعد مضى يومان على هذه الحوادث، الضابط حسين أفندي يحاول دخول السجن الحربي وقد تمكن من ذلك. "وهو المحور المعبر عن الحياة العسكرية في تلك الفترة. فقد تعمد الضباط الشركسي تصيد الأخطاء التي قد يقع فيها "عرابي" لإزاحته ولأن يحلوا محله. كما يعرض الفصل ما كان مع ابن العمدة. وكيف أن عرابي ظالما بالمعاونة في القبض على ابن العمدة. وصل الخبر إلى الخديوي عن طريق ناظر "الجهادية"، فيغضب ويقول: "آه أنا لا أعتقد بأن هناك مخلوق شرب من ماء النيل وأكل من خيرات مصر يسعى في تأخرها."
وتتوالى الأحداث الحربية الهامة والمتمثلة في بدايات الثورة، لقد برزت على خط متواز مع أحداث الثورة العرابية التاريخية المعروفة، ولا تنتهى قبل عرض الكثير من معارك عرابي حتى التل الكبير، ثم اعتقاله ورفاقه وترحيله خارج البلاد. لتكون الفقرة الأخيرة في الرواية أثناء تنفيذ "عرابي" الحكم عليه بالنفي خارج البلاد: "وبينما عرابي باشا يلقى آخر نظرة على شواطئ وطنه المحبوب. ذاهب إلى منفاه. كان الملازم إبراهيم أفندي (وهو جندي الحراسة لعرابي وزوج خديجة) يضع قبلة على فم زوجته خديجة. فسلام لك أيها البطل العظيم جهادك. وسلام لك يا إبراهيم بابنة الثورة."
***
قص بطولات الجندى المصرى فى القرن ال20
لن يدهش الراصد للمنتج السردي بالقرن العشرين، أن القص رصد وعبر عن مجمل التجارب الحربية التي مرت بها مصر، وعبر عن صمود وبطولات الجندي المصري. بداية من الحرب العالمية الأولى وما بعدها. يكفى الإشارة إلى أحداث ثورة 1919م التي باتت من أهم الأحداث في العديد من الروايات. وقد برزت الأسماء الهامة، منها: طه حسين، توفيق الحكيم، سعيد العريان، يحيى حقي .. وغيرهم. كما برز مؤسس الرواية العربية المعاصرة ورائدها الفني "نجيب محفوظ" إلا بعد أحداث الحرب العالمية الثانية. أما جيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، هم الذين رسخوا الفن القصصي والروائي، وأصبح إنتاجهم فيها هو البناء الفني للرواية، منهم: "يوسف الشارونى- يوسف السباعي- يوسف إدريس- فتحي غانم- أمين ريان- محمد صدقي – عبد الحليم عبد الله ... وغيرهم".
ثم كانت نكبة 1948 في فلسطين، والتي بدأت ولم تنته، وأصبحت معينا للكثير من المبدعين. ثم كانت معارك العدوان الثلاثي على بورسعيد في 1956م، وقد كانت سببا في مولد أول روائية مصرية وربما عربية بالمعنى الفني "لطيفة الزيات" وروايتها "الباب المفتوح". بعد تلك الحرب في 56، شهدت الرواية المصرية/ العربية طفرة لم تشهدها من قبل. ربما يرجع هذا إلى جملة المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها مصر. نشير إلى بعض أسماء: "إدوار الخراط، حسن محسب، ثم جيل الستينيات (علاء الديب، عبدالحكيم قاسم، محمد البساطي، مجيد طوبيا، بهاء طاهر، يوسف القعيد ... وغيرهم). كما كانت تجربة حرب اليمن ذات لها بصماتها من خلال: رواية "رجال وجبال ورصاص" لفؤاد حجازي، ورواية "حرب اليمن" لصبري موسى، التي نشرت في مجلة "روز اليوسف" ولم تنشر في كتاب.
أما وقد حدثت النكسة في عام 1967م، ثم كانت حرب الاستنزاف بعد تهجير سكان مدن قناة السويس، ثم معارك أكتوبر 1973م وكلها تكفلت بجيل كامل بدأ معها ومازال يعطى على الساحة الأدبية وقد رسخت أقدامه، منهم: "فؤاد حجازي- إبراهيم عبد المجيد- علاء مصطفى- محمد الراوي- فتحي إمبابى- سمير عبدالفتاح- مصطفى نصر- فؤاد قنديل- سعيد بكر- أحمد حميدة– قاسم مسعد عليوه- محمد عبدالله عيسى- سيد الوكيل- ربيع الصبروت- حسن نور- السيد نجم .. وغيرهم).
ملامح قص التجربة الحربية:
ذهب "رولان بارت" إلى القول: "إن الرواية عمل قابل للتكيف مع المجتمع، وأن الرواية تبدو كأنها مؤسسة أدبية ثابتة الكيان. لعله يعنى أن الرواية قادرة على التعبير عن الجماعات وأنها بالتالي من أكثر الأشكال الأدبية يملك صفة "الاجتماعي". لقد شارك القص (القصة القصيرة والرواية) في التعبير عن الذات الجمعية .. فالمتابع لتقنيات وأشكال القص حتما سيتوقف أمام تلك التعددية والثراء التي أصبحت عليه. وقد عدت العوامل التي أعادت تشكيل الرواية المعاصرة بأربعة عوامل، هى الحرب العالمية الثانية .. الحرب التحريرية الجزائرية.. إكتشاف وإستخدام السلاح الذرى .. غزو الفضاء. (في نظرية الرواية- بحث في تقنيات السرد/ د.عبد الملك مرتاض/ "عالم المعرفة، العدد240) لاحظ أن ثلاثة من أربع عوامل لها علاقة مباشرة بالتجربة الحربية.
نماذج إبداعية ترصد بطولات الجندي المصري المعاصر:
"المعركة أو القاهرة 51" للروائي أمين ريان (تجربة مقاومة الإحتلال)
كتبت حتى عام 1951م، ثم نشرت في عام1956م. تنقل صورة شريحة "الفنانين التشكيليين" خلال فترة الكفاح السياسي والعسكري ضد الاحتلال الإنجليزي (قبل ثورة52). خلال فترة ما قبل الثورة 1952م، نشطت مجموعات الشباب المصري في مجموعات من الأعمال الفدائية ضد معسكرات الانجليز. وقد عرض ذلك فنيا بلا صوت زاعق ولا توظيف المصطلحات الايديولوجية. فخرج العمل إنسانيا، مخلصا لقيم الإنسان العليا في الحرية والسلام.
"غريب" و"هالة" رسامين متحابين، انشغلا مع الرسامين الآخرين في إعداد لوحات يلزم تقديمها إلى مسابقة فنية. لكن غريب يعلم نفاق أخيه "إمام" الصحفي الذي قال أن خطوط رسم الملك (الطفل) خطوط عبقرية! بينما هناك من يدعو إلى الثورة والجهاد ضد المحتل. الضابط "علاء الدين" أحب هالة، بل وزج في السجن من يقترب منها، أو حتى يدفعه إلى العمل المنافق المربح (كما فعل مع الرسام أنور). حل "غريب" مشكلة حيرته بالانضمام إلى صديقه "يعقوب" في "اللجنة الوطنية"، وبدأ التدريب العسكري مع الفدائيين في معسكر حي العباسية.
في بور سعيد بدأ العمل الفدائي، كما قرر أن يكتب قصة حبه مع هاله، تلك الأنثى الرمز أو الأمل. ولعلها مصر. استبدل الخيال بالواقع، وفشل في كتابة الرواية كما فشل في الارتباط بهالة، ربما لأسباب أخرى غير الحب، لأسباب اجتماعية. مع ذلك التقيا في الحياة ثانية، والمفارقة أن التقيا في تهمة الاشتراك في حريق القاهرة عام51 وهو ما يعنى أن الكفاح والصراع الجمعي جمع بين المتناقضات، وحقق ما لم يستطع الحب وحده أن يحققه.
وان بدأ الفنان فكرة الصراع .. بأن الرسم بالفرشاة نضال وصراع أيضا ضد المحتل، فقد انتهى به الأمر إلى الصراع الفعلي المباشر بالاشتراك في العمليات الفدائية. أما أن تكون لوحة "الجيرنيكا" حاضرة بإلحاح في كثير من المواقف، ليس إلا إزكاء لفكرة المقاومة.. وهى اللوحة الشهيرة حول موضوع الحرب التي رسمها "بيكاسو" عن الحرب الأهلية الإسبانية.
"الباب المفتوح" للروائية لطيفة الزيات (تجربة حرب1956م)
ارتبطت قضية تحرير الوطن بحركة التنوير منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، فكانت قضية "المرأة" هي بؤرة التنوير، ولا عجب أليست المرأة بؤرة الحياة. وقد مرت قضية المرأة بالعديد من المراحل والدروب، منذ رفاعة رافع الطهطاوي حتى الآن. وتعد الروائية "لطيفة الزيات" من الرائدات في العمل العام والإبداعي في الأدب وخصوصا في فن الرواية. وقد وظفت الكاتبة التجربة الحربية عام 1956م أثناء العدوان الثلاثي على مصر، توظيفا فنيا (ذكيا). حيث انتهت الرواية مع الحرب، ولم تبدأ بها ولم تكن في متن الأحداث تفصيليا. ما أفضى إلى دلالة هامة، لخصت مجمل ما يمكن أن يكتب ويقال في آلاف الصفحات.
"ليلى" فتاة متمردة وطموحة. تعترض ناظرة المدرسة الثانوية، لأن الأخيرة ترفض قيامها بالمظاهرة (مثل الأولاد) لمهاجمة الإنجليز أو المحتل الأجنبي في تلك الفترة (تدور أحداث الرواية ما بين عام 1946 حتى بداية العدوان الثلاثى عام 1956م). كما ترفض التفرقة في المعاملة داخل الأسرة بينها وبين شقيقها (محمود). ويبدو هذا التمرد مع أول علاقة عاطفية للبنت الصغيرة، وتلقى العنت والرفض. تزداد حيرتها، وتعلن قلقها وغضبها: "أمهاتنا كانوا فاهمين وضعهم، أما احنا ضايعين لا إحنا فاهمين إذا كنا حريم ولا مش حريم" ص71 وتصبح التجارب العاطفية هي التنقلات النفسية والفكرية، والحيلة التي توظفها الكاتبة للوصول إلى ذروة الحدث والدلالة التى تعنيها من أكثر من مائتي صفحة مليئة بالأحداث. فها هي ذي تحب الجار كما كل المراهقات ولا تستطيع تفسير تلك المشاعر مع وعيها ورغبتها في التمرد. ثم تحب أستاذها بالجامعة وقد انتقلت إلى مستوى أعلى من الدراسة والمشاركة الحياتية، لكنه حب عن النضج ولم ينجح.
وفقت الكاتبة أن جاء الحب الناضج من خلال الممارسة الحياتية لتحويل الشعارات إلى أفعال، أفعال من أجل تحرير الوطن. تتعرف على المهندس "حسين" الذي يحمل الفكر المتحمس والعلمي والناضج.. كما يحمل المشاعر الصادقة. ربما لأنه مؤمن بقضيتها دون افتعال أو ادعاء، فالحب الحقيقي عنده هو أن يمارسه المرء سواء الرجل أو المرأة على الأرض ومن خلال التعامل مع الناس، من أجل كل شيء جميل. أخيرا تشعر "ليلى" بالحرية، وأنها فعلا حصلت عليها، لكنه الحبيب يرفض مقولتها: أنها أخيرا حصلت على حريتها، ذلك لأن "الحرية" بداية وليست نهاية، وتحرر الوطن مع تحرر ليلى.
"رجال وجبال ورصاص" للروائي فؤاد حجازي (تجربة حرب اليمن)
قليلة هي الروايات التي تناولت أحداث الثورة اليمنية (في سبتمبر 1962). وقد أبرزت الرواية بعض من ملامح تلك التجربة الحربية الخاصة، وقد أفادنا الروائي وعرفنا بالآتي: وجود فئة مؤيدة للجمهوريين (الثورة) وفئة أخرى من القبائل مؤيدة للإمام البدر (الملكيين). لم تكن مهمة الجيش المصري سهلة أو هينة، فالرجال والرصاص في صراع دائم على الجبال، وتتبادل الجنود وأهل القبائل السيطرة عليها .. ملامح التخلف العام تغلبت على ملامح البيئة وسلوك الأفراد أحيانا.
للكاتب موقف واضح ضد الملكية. إستخدم الروائي تقنية "الفلاش باك" في أكثر من موقف، وهو بذلك أتاح فرصة سرد المعارك العسكرية هناك. وعلى الرغم وفرة عدد من الشخصيات، إلا أن الروائي أعطى اهتماما خاصا لبطله الأساسي (المجند الذي سافر إلى اليمن مع كتيبته إبان الثورة اليمنية)، وبه ربط به بين الواقع المعاش بمصر والواقع الحربي باليمن. على الرغم من أن الرواية تتناول الكثير من تفاصيل المعارك والحياة في اليمن، إلا أنها تعد من الروايات التي تعنى بموضوع "عودة الجندي". ففي تفاصيل مطولة نتعرف على حياة الجندي الذي ذهب وقاتل، ثم عاد بعد كل تلك المعارك المريرة، كي يرجو حل مشكلته مع عمله، حيث يعمل بجمعية عمال الأحذية، إفراطا في السخرية والمفارقة.
كتب الروائي الروايات: "رجال وجبال ورصاص" عن تجربة حرب اليمن، ثم "الأسرى يقيمون المتاريس" حول تجربة أسر خلال معارك 67، ثم رواية "المحاصرون" حول تجربة تجدد القتال بعد أن صمتت المدافع وظن العالم (الصديق قبل العدو) أن الشعب المصري لن ينهض ثانية، فكانت سنة 1968 بداية الصحوة، أي خلال سنة دوت المدافع ثانية وكانت الصحوة وتجربة "المحاصرون". وبعد سنوات طالت، كانت روايته الجديدة "الرقص على طبول مصرية" والتي تعد أنضج الروايات فنيا وتقنيا .. بالإضافة إلى مجموعة "سلامات" القصصية.
تتسم تلك الأعمال بقدر وافر من صور الصمود والتصدي والكفاح للجندي المصري، سواء كان أسيرا أو خلف صخرة في الجبال، أو في مواجهة طائرات العدو الغاشم. كما يلاحظ القارئ بساطة التناول والمعالجة الفنية والاسلوب مما يجعلها من الاعمال المحببة والشيقة نظرا لتعدد صور البطولة والصعاب التي يجتازها الجندي المصري، مما يجعلها شيقة وجاذبة.
إبداع التجربة الحربية فى معركة العبور (حول الفترة1967 إلى 1973م)
لن يدهش الراصد للإبداع الأدبي خلال معارك أكتوبر73، أن بدأ الجندي المصري الجهاد والمقاتلة بعد أيام قليلة من تمام انسحاب كامل القوات البرية من سيناء، وانهيار أغلب عناصر قواته الجوية. لقد كانت معركة رأس العش ثم تدمير المدمرة "ايلات" بالقوارب الصاروخية، الأقل تسليحا والأصغر حجما، يعد الإنذار المبكر، ودليلا على جدية الإرادة والرغبة في استعادة الأرض. وتكفل جيل بكامله من المبدعين بمهمة رصد تلك التجربة الحربية التي شغلت الفترة، بداية من الأيام القليلة بعد أحداث 5يونيو حتى تمام معارك العبور في أكتوبر73، منهم: "فؤاد حجازي- يوسف القعيد- السيد نجم- إبراهيم عبد المجيد- فؤاد قنديل- قاسم مسعد عليوة- رجب سعد السيد- علاء مصطفى- محمد الراوي- فتحي إمبابى- سمير عبد الفتاح- مصطفى نصر- سعيد بكر- أحمد حميدة– قاسم مسعد عليوه- محمد عبد الله عيسى- سيد الوكيل- ربيع الصبروت- حسن نور، محمد السيد سالم.. وغيرهم.
البطل في الرواية الحربية:
إن جوهر شخصية الأمم، يبدو جليا فى أدبها، وما أحوجنا إلى تجاوز كل ما هو آني ويومي ومتغير للبحث عما هو جوهري ودائم. والبحث عن "البطل" في الرواية الحربية. صحيح فكرة البطل قديمة قدم الأساطير والملاحم، وجنس الرواية. وصحيح أيضا أن الرواية المعاصرة أصبحت "رواية بلا بطل"، ومحاولات قتل البطل مستمرة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، حتى أن "الآن روب جرييه" منظر الرواية الجديدة في كتابه "نحو رواية جديدة" أعلن موت البطل لأنه لم يعد للغرب الأوروبي حاجة إليه. وقال: "ينبغي بناء عالم أكثر صلابة ومباشرة بدلا من عالم الدلالات .. ولتفرض الأشياء والحركات التعبيرية نفسها." ومع ذلك لا يمكن إغفال "البطل".. إن كان بلا اسم، أو رقم، أو حتى شبح يشار إلى أفعاله ولا نعرف شكله وسمائه.. لا يمكن إغفاله إن تحقق وإنتصر وان زاغ وخبا بعيدا عن العالم في السحاب أو بين طيات النسيان.. إن كان فاعلا أو مفعولا به .. وحتى إن كان شيئا من الأشياء.
من هو البطل؟
لأن التجربة الحربية عامة/ خاصة، فهي قادرة على إنتاج أبطالها. ولأنها لحظة تاريخية للشعوب والأفراد، فكل من يتجاوب معها ويتفاعل، فهو داخل التاريخ . المؤرخون وحدهم هم المسئولين عن تمجيد الاسكندر الأكبر ونابليون وحتى هتلر، أما المبدعون فهم المنوط بهم تمجيد البسطاء والفقراء والعامة، على شرط أن يكون داخل التاريخ فاعلا معطاء ويبذل الجهد والدم.
أنماط البطل في الرواية الحربية:
البطل الأسطوري، وهو الإيجابي والباحث عن المجهول. البطل الملحمي، وهو الذي يتقدم الجماعة وينتصر. البطل الشعبي، وهو الذي ينشأ في بيئة شعبية، ويتشبع بروح الجماعة، مع بروز البعد الديني والصياغة الشعبية للرواية. البطل الدون كيشوتى (نسبة إلى دون كيشوت) الذي حمل قضيته في قلبه وخرج وهو يعلم مقدار المشقة وقلة الحيلة أمام الواقع الخارجي. البطل المتأمل والمنسحب إلى الداخل. البطل التعليمي، أو البطل الملتزم، وهو ما يحرص الروائي على إيصال المقولة قبل توفير أدوات إيصالها فنيا وتقنيا. البطل المحوري، هو التجربة الحربية كلها، على الرغم من وجود الجماعة، وغالبا بتعمد من الروائي الاحتفاء ببطولاته. البطل المهزوم، المحبط والمتشائم، وربما يصل إلى اللامنتمى.
أتاحت "التجربة الحربية" دروب وحيل للراوي لأن يقول، رفضا أو قبولا لتلك الحرب التي اشتعلت. ربما نشير في عجالة إلى حاجتها في الوطن العربي كله إلى "البطل" لا إلى "شخصية البطل"، نبغي الإنجاز والقدرة على التحمل، نريد الواعي والقادر على إعمال القرار، نريد من يفهم أن "الصراع" هو جوهر سر الحياة. أما ذاك البطل المحبط وقد انزوى في عتمة النكوص (اللابطل) فلن نرفضه فنيا. لندع المبدع يقول ما عنده لعله يعلن عن رفض ما ونبؤه بمولد بطل آخر .. عالم آخر، أكثر سلما وأكثر حرية.
"الأسرى يقيمون المتاريس" للروائي فؤاد حجازي (تجربة الأسر)
عن تجربة حقيقية داخل معتقل "عتليت" الإسرائيلى بعد أسر "حجازي" في عام 1967م، تبدأ المعاناة بالإهانة ثم بالحرمان من المأكل والمشرب والنوم. في ظل تلك الأحوال القاسية، يبدو المعتقلون في ذروة روحهم المقاومة، تلك التي بدت في مظاهر قد تبدو بسيطة أو هينة، إلا أنها دالة ومعبرة عن ذلك البطل الإنساني البسيط من فلاحي وصعايدة مصر .. الجندي المصري.
كما كانت تدبر الحيل من السجناء، برسم "النجمة الإسرائيلية السداسية" على قمصان بيض ثم إحراقها. يكتب الروائي معبرا عن أحوال الأسرى يقول: "بالأمس وأنا أنظر إلى وجوه لا أعرفها اعتراني الحزن .. كان أحدنا جريحًا في فخذه يداه طليقتان تستطيعان الحركة وهو الوحيد معنا الذي يحتفظ ببندقية سريعة الطلقات قام من فوره، فك لي بنطالي الخارجي، وأنزل لباسي وتحاملت عليه، حتى أفرغت أمعائي؛ لم يبد أي ضيق أو تأفف ولم تنمّ عنه أي خلجة تجرح مشاعري؛ في حين كنت أنا متضايقًا جدًّا، وعندما لمح ضيقي، ضحك مخففًا عني وناولني ورقة أنظف بها نفسي .. فعل نفس الشيء مع بقية الجرحى، وقدر لي ألا أتمكن من عمل ذلك ثانية إلا بعد أيام من وصولي إلى إسرائيل"
"كانت أول مرة نرى فيها الإسرائيليين عن قرب، أشار لهم أحدنا أننا جرحى، هم صديقُنا الواقف بجوار الباب بإطلاق الرصاص عليهم تمنيت في فرارة نفسي ألا يفعل .. ألقى صاحبنا بندقيته من فرجة الباب أطلقوا علينا النار فورًا أصاب الرصاص صاحب البندقية فخر جسده فوقي وتلقى عني رصاصهم المنهمر وكان أسفي عظيمًا على صاحبي الذي لم يطلق النار في محاولة لإنقاذنا نحن الجرحى وأحسست بوخز لما تمنيته قبلاً".
تتميز الرواية بالبساطة لدرجة الإثارة في تشريح آلام جنود ووطن في صراعه مع العدو، لقد حرم الأسرى من كل شيء، تضميد الجراح جرعة ماء، وجبات الطعام، الملابس النظيفة والإستحمام، صابون التنظيف وحتى الخطابات القادمة من مصر والهدايا المرسلة عن طريق الصليب الأحمر. وسط تلك الأحوال تم إصدار صحفا ومجلات حائط من ورق أكياس شكائر الإسمنت يكتبون فيها تحليلاتهم والنكات التى شاعت بينهم، ثم كوّنوا فرقًا موسيقية مسرحية لعرض روايات كثيرة ومنها اوبريت "ليلة مصرية"!
"اسكندرية 67" للروائي مصطفى نصر (تجربة المقاومة الشعبية)
أحداث تلك الرواية خلال الفترة السابقة على أحداث نكسة 1967م وما بعدها بقليل. والحدث الأساسي بها هو تسلل بعض من الضفادع البشرية من القوات الإسرائيلية والاختباء في دهاليز قلعة "قايتباى"، ثم فرارهم والاختفاء في عيادة الطبيب اليهودي "دكتور يوسف داود" بحي الأنفوشى، حتى تم القبض عليهم. حصر الروائي الأحداث في حي الجمرك والأنفوشى. الدكتور احمد الدسوقى، قدم الى الاسكندرية من المانيا قبل النكسة، بعد أن انتهى من دراساته العليا. وصل يحمل جملة الأفكار التي رفضها العامة من المحتشدين في المؤتمر العام الذي عقد قبل بداية المعارك بقليل، وقد عرض "الدسوقى" رأيه بعدم قدرة البلاد على مواجهة عسكرية مع إسرائيل. وتنبأ بهزيمة مصر، وهو ما برره بأن الغرب يدفع بعبد الناصر إلى معركة غير معد لها، كما أن الإعلام في مصر هول من قوة مصر، بينما هون من قوة إسرائيل. فما كان من المصريين الا أنهم ضربوه ضربا مبرحا.
كما أن الولد "حسن" الذي يتسم بالذكاء وحسن التصرف، فهو من نجح في اكتشاف المتسللين من رجال الضفادع البشرية الإسرائيلي بالاختباء داخل القلعة التاريخية. أبلغ سكان الحي ورجال الشرطة. وتوالت الأحداث التي شارك فيها الصبي النبيه. ثم السياسيين المنتفعين بالتنظيم السياسي "الاتحاد الاشتراكي"، لعبوا دورا زاعقا ومملا إلى حد أن سعوا إلى معاقبة الدكتور الدسوقي، وترديد الشعارات التي راجت في تلك الفترة، من أن مصر سوف تلقى بإسرائيل في البحر. كما قدم الروائي مجموعة من اليهود المصريين المقيمين بالإسكندرية: دكتور داود وقد لعب دورا في إخفاء المتسللين داخل العيادة، الدكتورة "آمال" التي تعتقد أنها مصرية، وان كانت يهودية وتشعر بالرغبة في البقاء بمصر، أفضل لها من الهجرة إلى إسرائيل كما فعل غيرها. كما أن "فيكتور" اليهودي بقى بمصر وفتح الكازينو الذي يعد بؤرة للبغاء وممارسة القمار. تعد الرواية من روايات البطولة في التجربة الحربية، وان كانت في ميدان غير ميدان المعارك الصريحة بالرصاص والقنابل، بطولة شعبية.
"لا تبحثوا عن عنوان.. إنها الحرب. إنها الحرب" قصص قاسم مسعد عليوة:
تتضمن المجموعة بعض تجارب حرب الاستنزاف تلك الحالات المتعددة للتجربة الحربية كما هي وكأنها كل الهم والواجب رعايته، هكذا كان يفكر القاص وهو يضع عنوانا لحوالى عشرين من القصص القصيرة كتبها (من 1970 حتى 1974م) ونشرت المجموعة فى عام 1999م. قصة "الإنفصال". يفضل الجندي أن يقضى فترة الاجازة الميدانية بمدينة القاهرة، رغبة منه للترفيه عما يلاقيه من عنت وارهاق بالجبهة، ما حدث أن للجندي قدر الترفيه الذى تعيشه القاهرة، مما دفعه للعودة إلى وحدته على جبهة القتال غير نادم. قصة "سهرة ماجنة". تؤكد تلك القصة ما ذهبنا اليه من أن القاص وضع نصب أعينه الالتزام بكل ما هو حقيقي وصادق ومنتمى إلى جملة القيم المصرية، أولها فى تلك الفترة تحرير الأرض، وربما عنوان القصة يشى بجملة دلالة القصة والهدف من ورائها. قصة "لا تبحثوا عن عنوان". قصة لافتة، لعلها من أكثر القصص تعبيرا بالمشاعر الانسانية الفطرية، وهى التي سميت بها المجموعة القصصية. فقد اشتدت الحرب في صورة قذف لا يهمد من طائرات العدو ثم بالمدافع حتى كانت محاولة الشاب العفى لإنقاذ من يصاب في تلك البناية الحكومية، وحدث أن شاركته إحداهن لا تقل عنه حماسا ورغبة فى رعاية المصابين. روايدا تشاركا ورويدا تواصل كل منهما بالآخر، ورويدا تعانقا. إنها الحياة، الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها من أجل البقاء. قصة "التوافق".. وهى ترى التجربة الحربية من زاوية أخرى حيث يرسم القاص صورة الحياة لأحد مصابى المعارك، وعلى قدر ما يعانيه الشاب من جراء الإصابة، لا يلقى ما يستحقه من رعاية واهتمام من المجتمع، ولا حتى من المقربين منه، فزادت المعاناة ولم يتحقق التوافق. قصة "ذات يوم حافل". تعد القصة على وجهين الأول إنساني اجتماعي، والآخر رمزي له دلالة خاصة مع التجربة الحربية.. فقد كان أنين المرأة لافتا بينما الشاب منشغلا بأمر ما، فلما انتبه وذهب إلى مصدر الصوت، بان له أنه أمام سيدة تلد وعليه اتمام مهام القابلة، وبالفعل ساعدته المرأة حتى استقبل الوليد بين ذراعيه، ولنا القول بأن دلالة القصة ليست ميلاد الطفل، بل هى الحياة الباقية مقابل الموت الداهم بسبب الحروب.
"بشاير اليوسفي" للروائي رضا البهات (تجربة المقاومة على الجبهة وفى الداخل)
"حرب" الإستنزاف ليست سوى الفترة التالية على معارك 67 إلى منتصف عام 1970م، وقد بدأت القوات المصرية في إثبات تواجدها والتمهيد لمعركة العبور. وهو ما دفع الكاتب إلى تسجيلها في تلك الرواية. تقع الرواية في قسمين: "بشاير اليوسفي" و"المبدلون". القسم الأول، عرض الراوي لذكرياته بالجامعة، ثم التجنيد، ثم أحداث حرب الاستنزاف ثم أحداث أكتوبر والعبور.. بالإضافة إلى وصفة لمدينة السويس حيث أحوال المهجرين بعد 67 وأحوالها صامدة بعد الثغرة. كان وصف المكان شائقا جذابا، فالراوي داخل عربة القطار حيث الطلاب والعجوز والجنود.. وبائعة اليوسفي، ثم ينتقل بريثم أسرع إلى حرب الاستنزاف والحصار. تميز الأسلوب بقدر من الحدية والتوتر بما يتلاءم وتوتر اللحظة.
أما القسم الثاني، نرى مع الراوي القاهرة بكل تناقضاتها، مع الحلول الفردية للبعض بالسفر للخارج أو بالهجرة الكاملة.. وحتى قريته قدمها لنا بتناقض وفرة الأجهزة العصرية في البيوت والعقلية السلفية في الرؤوس. نعيش مع سيدات القرية أمام الفرن والإعداد لاحتفالاتهم الطقوسية التقليدية .. حيث الحياة اليومية، إلا أنها لقطات راصدة تضيف إلى البناء وليست مجانية. وفيه نتعرف على "خلود" الحبيبة التي تبدو ممثلة للفطرية ويبقى هو المثقف المحارب.
ومع القسمين تتوحد روابط قد تبدو بعيدة إلا أنها دالة. فالراوي مشترك. واليوسفي له حكاية بين الفتيان والفتيات داخل القطار في القسم الأول، ولليوسفي مذاقه الخاص في زمن الحصار. كان ممزوجا بلسعة من ملوحة البحر. كما أن وصف الراوي للنيل أضاف معنى دلالي وفيه من الترميز ما أضاف إلى العمل الروائي، وان غلبه التوتر فخاطب النيل قائلا: "أيها النيل المتراخي/ لماذا أنت مطمئن؟/ أو قل ماذا تدبر لنا بعد؟" وإذا كانت عربة القطار وحدت بين الناس، فالمعارك وحدت بين المقاتلين، والطقوس الحياتية وحدت بين النسوة، والنيل يجرى على أرض مصر. إنها البطولة غير المفتعلة بطولة الحياة للجندي والمدني المصري معا.
"الرفاعى"..للروائي جمال الغيطاني (تجربة فدائي بالقوات الخاصة)
تقع الرواية في ثلاثة أقسام: "العد التنازلي" حيث زمن أحداث معارك أكتوبر73. وقد قدم فيه الروائي صورة بانورامية لانتصارات ومنجزات تلك المعارك، متضمنا الشخصية المحورية "الرفاعي"، وهو قائد مجموعات القوات الخاصة والتي عادة ما تكلف بمهام لا يعلن عنها، وقد تبقى لفترات طويلة غير معلنة، إلا أنها دوما للتمهيد أو للإعاقة. القسم الثاني "التكوين" وهو ارتداد زمني سابق عن أكتوبر73. بداية من هزيمة يونيو67 ومرورا بجمع الشتات، والتدريب العنيف حيث الرفاعي يتجلى مخلصا لقضية الأرض ولمهمته، ثم العمليات البسيطة التي تم تنفيذها عبر شاطئ القناة، إلى معارك "حرب الاستنزاف" التي شهدت بطولات، ربما لم تسجل بكاملها حتى الآن. وان قدم "الغيطانى "بطله الرفاعي على قدر وافر من الحب والتقدير، وسجل له ولمجموعاته أعمالهم التي قد تبدو شبه معجزة.
القسم الثالث "النشور" حيث أستشهد الرفاعي، وتحول إلى حكاية أو أسطورة يردده البسطاء من الناس والخاصة. كيف لا يحدث ذلك وهو الذي استشهد من أجلهم. وكأنه أسطورة إيزيس وأوزوريس، فقد تولت الزوجة في هذا القسم مهمة الراوي (في أغلبه) وكذا رجاله من الضباط والجنود. فأصبح الرفاعى رمزا متجددا للبطولة. وإن كان القسم الثالث فنيا وظف فن الحكاية الشعبية، والأسطورة، فحياة "الرفاعى" من الثراء بحيث أضافت وربما أوحت إلى الكاتب . فقد كانت شخصية الرفاعي فيها من العمق والصدق والأمانة العسكرية مع الرغبة في التضحية والفداء، ما جعلها مادة ثرية للراوى. فهو الذي اشترك في العمليات الفدائية الفلسطينية، ومع المجموعات الخاصة للقوات السورية. كما كان من النشاط والفاعلية بمصر بحيث نفذ عمليات صعبة وشبه مستحيلة في الصحارى والبحار، أعلى الجبال وفى جزر البحار. (نشر حول هذا البطل فى تحقيق صحفي، ثم كتب قصة قصيرة عنها "أجزاء من سيرة عبدالله القلعاوي".. ثم الرواية)
"أوراق مقاتل قديم" قصص للسيد نجم (تجربة الفترة ما قبل العبور وما بعده)
تضم المجموعة سبع قصص قصيرة: الطيور الفزعة- أوراق مقاتل قديم- الهدية- الصفر ليس آخر الأعداد- فريق متضمنش يتحدى- نقص عن الرقيب "عنتر"- دبلة زواج- عودة الغائب منذ فترة طويلة. (صدرت عام1988م)، عناية بالعالم العسكري، حيث ترصد حياة الجندي المنتظر لحظة الانطلاق أو العبور أو إعلان الحرب! ذلك الجندي يبدو إنسانا قويا صلبا يواجه الموت فى شجاعة، ولا يعلن البطولة، ولا يرى الملائكة إلى جواره تقاتل عنه، وليس في بنيانه قوة خارقة، أو مزيج من الإلوهية مع البشرية، أو ادعاء لقوة بلا حدود، لكنه يواجه الموت.
"الطيور الفزعة": تلك القصة التي تابعت المجند المستجد في وحدته الجديدة على الجبهة، حيث رصد الفزع على العصافير فوق اسلاك الضغط العالي القادم من السد العالي الى مدينة السويس القريبة.. تعد القصة الوجه الاجتماعي لحياة الجنود تحت النيران خلال فترة حرب الاستنزاف، ولا تنتهى الا مع اعلان وقف اطلاق النيران فى عام 1970م.
"فريق ما تضمنش يتحدى": أما وقد رصدت احدى القصص مرحلة ما بعد العبور، لا شك أن القارئ سوف ترقد فى ذاكرته صورة ترسمها إحدى القصص لمجموعة من المقاتلين المحاصرين بالعدو وبالموت، ينظمون دوريا للكرة الطائرة التي لا يتقنون فنونها، ويطلقون على فريهم بسخرية عجيبة "فريق ماتضمنش"، فهم لا يضمنون أفوز فى المباراة، ولا يضمنون الفوز فى الحرب، ولا يضمنون الفوز بالحياة فى الصراع مع الموت. لا شيء مضمون، والحياة نوع من اللعب الجاد النبيل فى مواجهة الموت.
"الهدية": أما وقد بدأت المعارك فلا مناص من متابعة تلك الاحداث والمفارقات، كما فى تلك القصة، حيث وصل المصاب الى المستشفى الميدانى، وبلرغم من كل ما يعانيه من أمل بدى معلقا بلفافة فى يدة وكلما حاولوا أخذها منه يرفض.. واخيرا نطقها، انها هديته الى خطيبته، انها قطعة ممزقة من علم الاعداء بعد الاستيلاء على احدى الحصون على الضفة الشرقية.
"الحرب في بر مصر" للروائي يوسف القعيد (تجربة الحرب على فساد الداخل)
الحرب هنا ليست طلقات الرصاص وقذائف المدافع والطائرات. هي صراعات ومخالفات وتزوير في احدى القرى بسطوة العمدة، بينما الحرب المعروفة في خلفية الاحداث وبسببها. تدور أحداث “الحرب في بر مصر” في قرية من قرى مصر قبيل حرب 1973، حيث يقوم عمدة القرية بسلب ارض الخفير الخاص به بحكم قانون يلغي أحكام الإصلاح الزراعي، ثم يقترح للخفير باستعادته لأرضه في مقابل ان يقوم بإرسال ابنه "مصري" المتفوق في دراسته، بدلا عن ابن العمدة للتجنيد. برر العمدة فعلته قائلا: "ان والدى يقول لو ذهب أحد منا إلى الجهادية لاهتزت شجرة العائلة وتقوست واقتربت من الأرض. ولما كان عمر هذه الشجرة يعود الى زمن المماليك والأتراك في مصر فلا يصبح من حقي العبث به"
بينما أخبر كاتب مواليد البلد العمدة بان الشاب الصغير "مصري" ذهب الى مكتب بريد البلد يسأل عن استمارة تطوع للجيش والالتحاق به. وعلق العمدة بارتياح قائلاً: "إن الخدمة في الجيش هي الوسيلة الوحيدة للحصول على وظيفه مضمونه. يوجد نظام في القوات المسلحة ان من يخدم فيها يحصل على وظيفة ثابته بدرجة حكومية بمجرد انتهاء خدمته"
وتتوالى الاحداث بالتحاق "مصرى" باسم ابن العمدة بعد استخراج أوراق رسمية تثبت الاسم الجديد لابن الفلاح "مصري" باسم ابن العمدة، ويؤخذ منه كل ما قد يثبت هويته القديمة. يلتحق "مصري" بالجيش وتبدأ الحرب الذى يستشهد بها ببسالة لكن الأوراق الرسمية تشير إلى أن ابن العمدة هو الذي أستشهد، ولذلك يضطر العمدة إلى تقبل العزاء المصحوب بالثناء والتمجيد لبطولة ابنه! بينما الابن الحقيقي حي يرزق! يستمر ظلم العمدة بعدما تسليم الجثة إلى الوالد المكلوم، وتدفن خيوط اللعبة مع الشهيد. هكذا تبدو بطولة المصري مع عدو الخارج والداخل.
"الرجل والموت" للروائي محمد الراوي (تجربة ميتافيزيقية عن الموت والحرب)
ترى كيف يكون الحال عندما نفقد حريتنا؟ يقول الروائي "محمد الراوي" إنه الموت .. الحرية أو الموت، بل فقد الحرية يساوى الموت. خلال الصفحات الأولى، حيث الحصار والهلاك، يقول الراوي وهو يمر بين الأبنية المحطمة، والجثث المرئية وغير المرئية .. بين روائح العفن والمخلفات والدم المتخثر .. أما وقد أخذت الراوي سنة من النوم، فسمع من همس في أذنه: "قم.. قم.. أيها الرجل وألا قضى عليك الموت، وأنت في مكانك، وأظن أنى أكلم نفسي، وأهمس حيث لا يسمعني أحد ومرة ثانية أتاني الصوت كالهسيس في أذني صوت غريب على.. لم لا تتحرك أبق في مكانك، ولا تقم أبدا حتى يأخذك الموت"
تعد تلك الرواية "النوفيلا" من الأعمال التجريبية، ومع خصوصية التجربة التي غالبا ما تكون الكتابة حولها .. واقعية، ألا وهى التجربة الحربية، حيث الحصار أو قيد الحرية. إلا أن الروائي استخدم التوثيق أو التسجيل الفني، وهو القائم على الرصد الفني. لكنه –أي الروائي – شاء أن يستخدم تقنيات السينما والفنون الأخرى، بلا افتعال .. وهو ما أضاف إلى العمل أهمية خاصة. أما التناول الخاص لمعنى الحرية، فهو ملمح أكيد وهام.. حيث فقد "الحرية" مساويا "للموت" بالمعنى المطلق .. الموت الفزيقى، والميتافيزيقي.
"الوسام" للكاتب عادل النادي (تجربة نماذج بطولية)
هي متوالية قصصية للكاتب، عالجت التجربة الحربية، وقد كتب في زمن الحرب، بل في زمن الوقائع، يقول في خاتمة كتابه: "أما هذه الخاتمة فوجدت نفسي أجلس دون أن أشعر فوق حطام من حطامات معدات العدو، فوق دبابة أم60 أمريكية الصنع، وهى أحدث ما أنتجت المصانع الأمريكية. لا بل ليست دبابة، فأنا آسف يا عزيزي، فأنا جالس فوق أطلال دبابة" ولقد قدم فصول كتابه متفرقة، كل فصل كتبها في مكان محدد ومختلف عما سبقه.. وفى المجموع تشكل الأماكن والفصول التطور الزمني والواقعي للأحداث.. أحداث التجربة الحربية الفعلية في ميدان المعارك. هنا التجربة من الداخل، تفاصيل مكانية مغايرة ودلالات مختلفة.
فقد كتب وسط حطام طائرة فانتوم، وأخرى داخل حصن من حصون بارليف الحصينة التي قالوا عنها أنها صامدة أمام كل التسليح إلا القنبلة الذرية، وثالث أمام علم مصر مرفرفا فوق أرض سيناء، وأخرى فوق حطام عربة نصف جنزير، وأخرى فوق حطام دبابة "باتون" و"سانتريون... وغيرهما. ثم كانت وقفة الكاتب فوق أطلال برج إستطلاع إسرائيلي. المتابع لتلك الوقفات، والذي عاش تجربة العبور لحظة بلحظة يتأكد أنه مع بداية الصفحة الأولى كانت بداية المعارك، ومع الخاتمة كانت النهاية.. والتي تحمل دلالة غير خفية، وربما مع قراءاتها بعد كل تلك السنوات تتعمق الدلالة وتتأكد.
يبدو الكاتب وكأنه في جلسة سمر يحكى ويقص .. المفردات العربية البسيطة، الحكاية الشيقة التي اكتسبت عنصر التشويق من الأحداث المثيرة التي تتناولها، وعن عمد من الكاتب، ما بين توظيف الأسلوب الاستنكاري والتقريري، مع الأسئلة والإجابات غير المتوقعة، مع الحوار والسرد، حتى بدت الاعمال متوالية قصصية حول أشكال البطولة.
"دوى الصمت" للروائي علاء مصطفى (تجربة الأسر)
يبدو عنوان تلك الرواية دال ويعد نافذة مضيئة عما تتضمنه من أحداث وشخصيات ورؤى، تلك التى يتبناها الكاتب من خلال شخوص الرواية. لعل ذاك التناقض بين كلمتي "دوى" و"الصمت" لا يمكن أن يكون إلا عندما يكون هذا الصمت ليس الموت التقليدي، ربما صمت "الشهيد"، ولعله "الشهيد الأسير"..الذي يبقى لفترات طويلة وعلى مدى التاريخ مدويا. قد يصل الاستشهاد إلى درجة الرجاء في تحققه في زمن الحروب القذرة، وخصوصا مع تجربة الأسر، وهو بالضبط ما التقطه الكاتب مع إحدى الشخصيات المصابة داخل إحدى المستشفيات الإسرائيلية: "جرى إنتخاب عدد غير قليل من الأسرى وضمهم بعنبر نظيف مريح، حيث العناية والرعاية الطبية الفائقتين، ولأن الكرم من جهة العدو نذير سوء، دخلت ممرضتان إسرائيليتان إلى العنبر وإصطحبتا أسيرا مصابا في ساقه، وعلى منضدة العمليات وقبل أن يغيب وعيه أثر حقنة البنج المغروزة في عروقه، تلاعبت ابتسامة رقيقة على شفتي الطبيب وقال: "إن أحد أبنائنا أصيبت عيناه أثناء الحرب... وحتى يبصر سأحتاج إلى أخذ عينيك!" وكانت إبتسامة الطبيب آخر ما وقع عليه بصر الأسير إلى الأبد!" قليلة هي الروايات العربية التي تعالج تجربة الأسر في التجربة الحربية، ولولا تلك الرواية "دوى الصمت"، و"الأسرى يقيمون المتاريس".. لخلت المكتبة العربية من تسجيل تلك التجربة، على الأقل في رواية التجربة الحربية المصرية.
حكايات الغريب" قصص للقاص جمال الغيطانى (تجربة ترميز البطولة)
قصة "حكايات الغريب" واحدة من ست قصص قصيرة بالمجموعة التي تحمل الاسم نفسه. تتناول القصة حياة هذا العامل في احدى الصحف القومية، وعليه الانتقال مع سيارة توزيع الصحف التابعة للدار الى أماكن مختلفة من البلاد. ومواطننا هنا كان في مأمورية لتسليم الصحف بمدينة بورسعيد لم تكن حرب 73 وما تحقق وقتها من انتصار، إلا نتيجة لحظات متراكمة من الهزائم، حاول تجسيدها في هزائم اجتماعية ونفسية في الأساس، قبل أن تتحول إلى معركة كبيرة في الصحراء. وهي محاولة لتجسيد حال المواطن المصري الذي ظن الجميع أنه تناسي أرضه المسلوبة، وبصيغة بلاغية، شرفه الضائع.
إن فقد هذا المواطن البسيط المجهول جعله شخصية هامة ومحورية عند الجميع: المسؤلون، أهالى المدينة، الزملاء، بل أصبح خبر واهتمام إعلامي لافت. وهو لم يكن كذلك مع حضوره الجسدي! ومع تلك الحالة من الغياب التي تعبر عن غياب البسطاء من المصريين، لا يبدو على صفة واحدة ولا خصلة واحدة فقد تبدى نموذجا لافتا: يذكرونه بصفات الشجاعة والاخلاص والمرؤة، بل والتضحية والفداء.. في المقابل يبدو عند القارئ الحصيف معبرا عن حالة وصفات الشعب المصري كله خلال تلك الفترة. (قبل معارك اكتوبر73)
تتواصل رحلات البحث، والسؤال عن صاحب الصورة "عبد الرحمن"، بينما يشتركون فى الوصف يختلفون فى اللقب أو الاسم (محمد- كمال- زخارى– خلف) المُلقب دوماً بالـ (الغريب).. وتبدأ الحكايات حوله بداية من كونه شجاع وبذل الجهد فى نقل المصابين والشهداء، بل وسحب السلاح وقاتل.. وبلغ الأمر بجعله أسطورة بطولية!
"يوميات على جدار الصمت" للقاص محمد سالم (تجربة معركة العبور)
وهى القصة التي سميت بها المجموعة التي نشرت في عام1987م عن سلسلة "أدب الحرب"، ترجع أهميتها إلى كونها رصدت اللحظات والأيام الأولى من بداية معركة العبور، ومن وجهة نظر المعتدى الإسرائيلي. خلال أيام 7،6،5،4،3 أكتوبر73. فكل شيء بارد في سيناء، وفجأة جاء يوم الغفران، وبينما هو في انتظار برقية من زوجته (يائيل) لتخبره بميلاد ابنهما الأول. المصريون يبدون له من بين فوهات حصن "بارليف" وهم يتحركون في وداعة كعادته، كأنهم يسعون دوما لتشييد المقابر الضخمة. وكانت الأحاديث لمواجهة تلك الرتابة: "الجنود الذين يقدرون على القتل يا مردخاى من الممكن أيضا أن يقتلوا" "ذلك قدرنا يا يورى" "عزيزى يورى .. انك لكى تعيش سعيدا أمنا يجب على الدوام أن تكون موهوبا قادرا"
أما فى اليوم 4 اكتوبر، فقد نشطت وحدة المراقبة في القطاع الاوسط المواجه لمدينة الاسماعيلية وقد أبلغت عن نشاط غير عادى على الضفة المصرية .. اتصالات تليفونية بالقيادة .. وحدات المراقبة على طول الجبهة صارت جاحظة العيون .. نشطت المطارات. ارتفعت الخرائط على الجدران وهمس يورى: "هل حان الوقت لتسليمي الى زوجتي وطفلي داخل صندوق"
وفى يوم 5 أكتوبر بدأ الاستعداد للاحتفال بيوم الغفران. نص الاشارة: "جنود الملاحظة المصريون الذين لا هم لهم ولا شاغل الا مراقبتنا، وحساب خطواتنا وعد أنفسنا انسحبوا من مواقعهم الامامية وتركوا خلفهم ستارا من الصمت المريب" وفى يوم 6 أكتوبر وصلت الرسالة: (يائيل أنجبت طفلة جميلة) وفى 6أكتوبر بدأ الاستعداد للغداء، وانتظار بطاقات العيد من الأهالي في كافة المدن والمستعمرات. اليوم هو السبت وحرام عليهم العمل الا بأوامر الحاخام الاكبر. فجأة وصل تقرير جديد "قابلناه بأستهانة، فقد تعودنا على تلك التقارير التي لا تعرف إلا التهويل "إنهم يعبرون ويهبطون كالجان بصواريخ مضادة للدبابات على ضفتنا". مزيد من القوارب تعبر.. وتعبر.. الجنود المصريون يفترشون حولنا .. انهم يرفعون علمهم على ضفتنا. وفى يوم 7اكتوبر تعرض الحصن للهجوم مرة واحدة، عبر أجهزة الاتصالات وصلت الأنباء مرتعشة عن إصابة أحد ضباط القيادة. صرخ يورى: "حولنا جهنم دموى. هل ستتركونا هكذا"
"السمان يهاجر شرقا" للروائي السيد نجم (تجربة الصمود والاحتفاظ بالارض)
تبدأ الرواية: "التففنا حول الترانزيستور لسماع بيان المفتى، علت صرخة بين أرجاء الوحدة "المستشفى الجراحي تحت الأرض رقم5". غدا الأول من شهر رمضان، تبادلنا التهنئة، داعين الله بصدق: "ربنا لا يعوده علينا ونحن هنا" وتنتهى الرواية: "اليوم سوف ينتهي الحصار اعتبارا من ساعة حضورهم". انشغل الجندي في حذائه، أخرج مسمارا منها بأسنانه. حفر هذه الجملة :"بعد مضى 134 يوما انتهى الحصار في كبريت. الضفة الشرقية لقناة السويس". في الأول من مارس 1974م." بتلك الفقرتين تبدأ وتنتهى الرواية. تلك التي بدأت مع أيام قليلة قبل السادس من أكتوبر 1973حتى انقضاء بضعة شهور قليلة لا أكثر.
تعبر الرواية عن "تجربة الحصار"، ذاك الذي كان وعبر عنه الجنود حول حالتهم النفسية طوال السنوات السابقة عن بداية المعارك. أو الحصار الفعلي، بعدما انتقل جنود كتيبة المشاة وعبروا منطقة نقطة دشمة كبريت الحصينة على الضفة الشرقية للقناة. تقع الرواية في عدة فصول: "العصفور لا يغرد ولا يبكى"، "الطيور الفزعة"، "السمان يهاجر مرتين"، "الثيران تلتهم التورتة"، "الجمل يجتر ما في جوفه"، "ذكر النحل يموت في أنثاه"، "الطيور لا تأكل عشها". وتحت دلالة تلك العناوين، عايش القارئ تفاصيل التجربة. الملل والضيق النفسي الذي يعانيه الجنود. بداية رفع درجة الاستعداد مع استدعاء الجنود الإجازات. التأهب لاستقبال الأطباء المدنيين المكلفين للعمل بالوحدات الطبية العسكرية، ومنه المستشفى الخامس (وهى أول وحدة طبية عسكرية بعد خط القناة). مفارقات الحياة اليومية للجنود حتى بداية المعارك على غير توقع من الجميع. لم يشعر أفراد الوحدة الطبية بالمعارك إلا بعد انقضاء ثلاثة أيام وحيث بدأت معارك الدبابات. مع كل مصاب خطوة من خطوات المعارك على أرض سيناء.
أما وقد التحق "طارق" الطبيب المجند على إحدى وحدات المشاة والتي لم تعبر خلال الأيام الأولى من بداية المعارك، أصبح أحد أفرادها. فور التحاقه صدرت الأوامر بالعبور. تم العبور وبدأت المعركة بين الجنود المصرية وأفراد حصن كبريت الإسرائيلي. نجح الجنود في السيطرة على الحصن وأسر الجنود الإسرائيلي. وبدأ الحصار أيضا، فقد أحاطت القوات الإسرائيلية بحدود الحصن والمنطقة القريبة منه، لانتهاز أقرب الفرص للانقضاض على المصريين، واسترداد الحصن. وبدأت مفارقات وبطولات الحصار. إنه حصار قاتل، حيث دانات المدافع والغارات الجوية، والهجمات بالأسلحة الخفيفة ليلا. كما أنه الحصار الذي بلا ماء ولا طعام. ومع ذلك نجح الجندي محمود من ابتكار جهاز تحليل مياه القناة المالحة، ونجح الضابط "أسامة" أو "الذئب" في الهجوم على أفراد نقاط المراقبة الإسرائيلي، والاستيلاء على المواد الغذائية بموقعهم، ونجح الضابط "سامح" في نقل المصابين ليلا إلى أقرب وحدة عسكرية مصرية وهى مهمة قاتلة وخطرة.
نجح الكل في الصمود وتحدى الحصار .. على الرغم من المعارك المتجددة يوميا، وعلى الرغم من استشهاد واصابة العديد من الجنود، لعل لحظات استشهاد العقيد "إبراهيم عبد التواب" من أكثر اللحظات تأثيرا على القاري.. فقد صلى ركعتين في إحدى المواقع، وأشار إلى موقع سجوده وقال لأحد أفراد وحدته: إن استشهدت أدفن هنا".. وقد كان.. وبقى صمود الجنود بطولة حقيقية.
"أنشودة الأيام الآتية" للروائى محمد عبدالله الهادى (تجربة ذكريات الحرب)
تقع الرواية في أثنى عشر فصلا، لعل اللافت في تلك الرواية أن الكاتب تناول شخصيات ودلالات الحرب بعيدا عن أحداث أرض المعركة والمعارك. فقد تذكر الراوي طفولته مع صديقه بالمدرسة الابتدائية، فلما مرت الأيام وأستشهد الصديق، تذكره فى صورة ابنه التلميذ الجديد فى المدرسة التي يعمل فيها الراوي (صديق الأب) مدرسا.. وبالفعل هو ابن صديقه الحميم.. هو الوليد الذى ولد فى يوم استشهاد الأب (صديق الراوي). فكان امتداد الايام لصديقه معه. لم ينتظر طويلا، يصاحب التلميذ ويرعاه، وينتهي الفصل الأخير بزيارة "جزيرة مطاوع" حيث أستشهد الأب (الصديق). يلاحظ القارئ أن بيئة المعارك أو الجبهة لم يتابعها الكاتب إلا في الفصل الثامن، وهو بعنوان "الميلاد" حيث تلد زوجة صديقه "النجار" ولدها "فتحي" يوم استشهاده. وهى دلالة فنية طرحها الكاتب ببساطة وبفنية غير مفتعلة أو مقحمة. يبدو الكاتب حرص على مزج الحرب على الحدود مع فكرة الحرب الداخلية، وهو ما تناوله من خلال شخصية صهره "المعلم أبوالفتوح" الذى تمثله من رجال الأعمال المستفيدين مما كان وتم خلال فترة الانفتاح الاقتصادي بعد معركة العبور في اكتوبر 73، حيث رفض الراوي أن يتعامل مع صهره، ما يعنى رفضه للواقع الاقتصادي الجديد. تعد الرواية مما يوصف برواية الشخصيات، فقد توقف الكاتب مع شخصيات متعددة، ربما تصل الى 32شخصية، كل شخصية منهم لها دورها وصورتها الاجتماعية.. بداية من البسطاء حتى الكبار أو المسئولين والأثرياء: المعلم أبوالفتوح- أحمد أبوعيسى- إبراهيم النجار- فتحى إبراهيم النجار- سناء ابوالفتوح- فوزية.. وغيرهم ممن يشكلون ويشاركون فى معارك الجبهة الداخلية أثناء فترة الحرب (يونيو67 حتى ما بعد أكتوبر73).. هنا بطولة خاصة لا تغفل.
"مراعى القتل" للروائى فتحى امبابى (تجربة عودة الجندى من المعركة)
كانوا ثلاثة أصدقاء، جمعتهم "قروانة" الوحدة العسكرية، ومعارك الاستنزاف (ما بين عامى67 حتى1970)، ثم معارك أكتوبر73. ضاقت بهم سبل العيش (كما أغلب شباب مصر في تلك الفترة) بعد تسريحهم من الجيش. سافروا إلى "ليبيا" حيث الأمل في مصدر رزق جديد في مكان جديد. فكانت الرواية التى تلخص شكوى الاستلاب والتهديد بالموت حتى من أبسط حقوق الإنسان في لقمة تسد الرمق وفى صباح هادئ جديد.
عالج الروائي فكرته من خلال التوازي والاسترجاع، فلم تكن الحياة قبل التسريح من الجيش أقل أو أكثر من الحياة بعده. في كل منهما التهديد بقنص الحياة، ربما يبدو ذلك مبررا وواضحا لمثل هؤلاء المعرضون لغدر عدو لا يبعد عن وحدتهم العسكرية سوى عرض المجرى المائي لقناة السويس. غير المبرر هو أن يبقى الإحساس نفسه، على الرغم من غور ملاجئ الأعداء إلى أغوار سيناء البعيدة (قبل التحرير الكامل لسيناء). استعان الروائي بحيلة فنية أضافت بعدا جماليا إلى سخونة الموضوع وأهميته. استعان بأحد النصوص الشفهية (المعاصرة) لتغريبة بنى هلال الشهيرة. وهذا الاستحضار التراثي أضاف إلى الحالة بعدا فكريا يستثير العقل للتأمل أيضا، قال: "كنت في جلدي زي بعدى عن ملاحي/ وأوثق صدهم قلبي جراحي/ فسرت من الهوى قدرا وصاح/ ألا يا ليل .. هل لك من صباح..؟"
في البداية نلحظ تكرار الجملة: "الزمن قطر غشيم لا يرجع للوراء". وهى إسقاطه لمعنى ما يريد الروائي تبليغه للقارئ، مع التكرار نتعاطف ونسأل : هل يعنى القطار حقا أم الزمن؟ أما وقد بدأت الرحلة الغامضة، فلا حيلة إلا اعتلاء الذكرى والتذكر. لم يكن "التذكر" عنا حيلة فنية مقحمة ومفتعلة، كان ضرورة فنية. أما أن يقف "عبدالله" ورفقائه لسؤال المرشد من قبيلة "أولاد على" عن طريق اختراق السلك أو الحدود الرسمية بين ليبيا ومصر، فيقول لهم بتعال وغرور غير مبرر: "كنك يا تيس يا عرس.. راع تنطق بكلمة ولا نضربك بالنار، عهد الله بنترك فيك هون للديابة"
وفى لحظات الغروب تزداد مشاعر الاغتراب، فليس في لون المياه الزرقاء البعيدة جمال، ولا في غروب الشمس وشروقها على أرض الأفق والصحراء. ويتذكر الجميع أحداث مظاهرات الجامعة بعد النكسة حيث جندي الأمن المركزي يقاتل الطلبة بكل جدية ونشاط!. ولا يبقى أمام القارئ سوى الربط الخفي/ الظاهر بين قهر ومأساة المقاتلة على خط النار مع العدو الإسرائيلي، وعدو آخر على خط نار آخر.
ومثلما كانت مشاهد القتلى والجرحى على أرض المعارك هناك، كانت المشاهد نفسها على أرض أخرى وعدو آخر..لكنه هذه المرة ليس إسرائيليا.. وهو ما يعد تفسيرا ومبررا للعنوان الأصلي للرواية "مراعى القتل". كتب في ص47: "إستيقظوا واحدا بعد الآخر، وأمامهم كانت تسبح سبع جثث من المتسللين المصريين الذين جرفتهم سيول الأمس بينما كانوا عائدين، تسد مدخل مخر السيل".
تتواصل فصول الرواية .. ما بين إعادة حوارات وأحداث ما كان بعد معركة 67 وحتى 73، وما هو كائن وممارس فعليا في طريقهم البرى إلى أعماق ليبيا.
وصلوا حدود طبرق، ما زال الغموض يكتنف المصير، فيأتي الليل.. الليل الحقيقي ويأتي معه الليل النفسي المليء بالخوف من صباح جديد، فيقول أحدهم: "ألا يا ليل .. هل لك من صباح؟" وتعد الرواية من الروايات القليلة التى تناولت موضوع مصير الجندي العائد من الحرب، بالإضافة إلى كونها كتبت بقلم أحد المحاربين، كما أنها كتبت بعد فترة مناسبة من انتهاء المعارك، وهو ما تجلى في وضوح البعد الجمالي الفنى، الذي انعكس وعبر عن نفسه بتلك التقنيات الفنية المستخدمة، وبما يمكن أن نطلق عليه "النفس الهادئ" في التناول والصياغة، وهو ما أكسبها مذاقا خاصا.
"خوذه ونورس واحد" قصص سمير الفيل (تجارب ما بعد المعركة)
قسم القاص قصص المجموعة تحت عنوانين منفصلين.. الأول "تنويعات عسكرية" يتضمن القصص: "إجراءات- حبهان على مستكة- صورته- دفعة- عزومة- عريس السرية- لدغة عقرب- بلديات- جندي مؤهلات- مسعد بنزين- خلع الجذور- خوذة ونورس وحيد".. أما القسم الآخر قصص تقليدية قصيرة. سجل القاص: (قصص كتبت من سنة 1974 إلى سنة 1985م)
قصة "جلسة إجراءات".. تعالج تجربة رفيق الكاتب الذي شارك فى حرب أكتوبر، بينما يشكو من إصابة أثناء المعارك (يعرج) وان كان فى البداية لم يكن ممن يصلحون للخدمة العسكرية! وطالت إجراءات الرفت من الخدمة، فلما جاء يوم خروجه، احتفل به زملائه أيما احتفال.
قصة "حبهان على مستكة".. وهى تتناول رؤية نقدية لمعاناة الجندي فى الحصول على أبسط احتياجاته، بل وأهمها.. وهى الماء. فقد حان ميعاد وصول سيارة (تنك) المياه، ووقف الصول ليحدد لكل مجموعة (جركن) واحد من المياه، وجميعهم يحلم بالمزيد.
ما حدث أن جاءت سيارة القادة.. ويأمرهم قائدها ملء تسعة جراكن مياه! فلما إعترض الجنود وتذمروا، سمح لهم الصول بملء أكثر من جركن لكل مجموعة.. وبدأت جلسة احتفالية تناولوا فيها القهوة بالحبهان والمستكة.
قصة "عزومة".. بعد أيام المعارك، استمرت الجنود على حالة التدريب ومعايشة أجواء الحرب.. خلال مناورة تدريبية، تقرر استخدام الوجبات الجافة طوال أيام المناورة.. لكن الجنود نجحوا فى إقامة (عزومة) على وجبة ساخنة طازجة.. بعيدا عن عين الصول.
قصة "لدغة عقرب".. تبدأ أحداث القصة بعد أن انتهت المعارك. كان ضمن وحدته فى مهمة تدريب.. وما أن هدأ التدريب للراحة، نتبه على مشهد هيكل الدبابة الإسرائيلية المحطمة هناك. ذهب واقترب بشدة منها، زاد فضوله واعتلى الدبابة، وما أن اطل من البرج –برج الدبابة- لدغه عقرب. صرخ وصاح بأعلى صوته كي ينقذونه.. استقبل الصول الحالة والخبر باعتياد من مارس الحرب وكم من العقارب لدغت غيره.
التفوا حول زميلهم، أحدهم مص الدم الفاسد بفمه، وأحاطوا مكان اللدغة بأربطة شديدة، ثم شرب الشاي لساخن وارتاح حتى شفى.. لم يبق إلا التحذير من العقرب.. فى دبابة الأعداء!
قصة "خلع الجذور".. قد يفعل الزمان أفاعيله.. ومن ضمنها أن ننسى بعض الأحداث والأخبار. لكن فى تلك القصة نسى فيها أحدهم أشياء صديقه الشهيد.. وخرج للبحث عنها كي يعيدها الى أسرته وذويه.. سعى بكل إخلاص أن يجدها، ولم يجدها.
قصة "خوذة.. ونورس وحيد".. فور انتهاء المعارك، وبدأت دورة جديدة للحياة العسكرية.. حدث أن عاد الجندي إلى موقع تذكره، وتأمل كل شبر فيه.. حتى مكان ما قبر فيه أحد الشهداء رفقاء المعارك.. لم يجد ما يعلق به، انشغل أكثر بذلك النورس الوحيد (بينما طائر النورس دائما فى أسراب)!
بمطالعة قص الحروب يمكن التأكيد على عدد من الحقائق:
- إن التجربة الحربية لها تأثيرها الفاعل والدائم على جنس السرد النثري في مصر.
- لا إنفصال لـ"التجربة الحربية" سواء كانت في مصر أو في البلدان العربية.
- لم تكن زاوية الرصد للكاتب مكتفية بالجانب المباشر، بل ما تتسم بالفنية والتقنية العالية.
- بروز تقنية جديدة لم تستخدم من قبل في الرواية العربية.. وهى التوثيق والتسجيل. ولا يبقى إلا التأكيد على أن التجربة الحربية ارتبطت بالحياة على الأرض المصرية، بالبذل والعطاء من أبنائها، وتحت رايتها سواء من مجندين أو حتى المدنيين لخدمتهم.
Ab_negm2014@yahoo.com
المصادر والمراجع (الترتيب حسب سنة النشر)
-الحرب في القصة العراقية – عمر محمد الطالب –دار الحرية للطباعة –بغداد 1983م
-الخيال.. مفهوماته ووظائفه – عاطف جودة نصر –هيئة الكتاب المصرية 1984 م
-فقه السنة –السيد سابق – دار الريان للتراث 1987م
-تكنولوجيا السلوك الإنساني- ب.ف.سكينر-ترجمة:وجيه سمعان-سلسلة1000
كتاب- هيئة الكتاب عام 1988م.
-الإنسان بين الجوهر والمظهر-اريك فروم-ت:سعد زهران "عالم المعرفة-الكويت"1994
-الاتجاه القومي في الرواية –مصطفى عبد الغنى-عالم المعرفة 1994م
-الحرب: الفكرة-التجربة-الإبداع – السيد نجم – هيئة الكتاب 1995 م
-سيكولوجية التطرف والإرهاب-عزت سيد إسماعيل- حوليات آداب الكويت 1998م
-الكتابة والحرية –د.فوزي فهمي- هيئة الكتاب 1999م.
-عن الحرية –جون ستيوارت مل- ترجمة"عبد الكريم أحمد"- هيئة الكتاب 2000م.
-الإبداع والحرية –رمضان بسطويسى –هيئة قصور الثقافة 2002م
-المقاومة والحرب فى الرواية العربية- السيد نجم- دار التعاون (جريدة الجمهورية)-عام2006م
-أدب المقاومة.. قضايا ومفاهيم- السيد نجم- دار الهلال 2013م
الدوريات
1-مجلة الفكر -عدد خاص –تونس –العدد3 ديسمبر 1977م
2-مجلة عالم الفكر- الكويت -العدد4 (المجلد العاشر) 1980م
3-مجلة الثقافة الأجنبية – عددان خاصان – العراق 1985م
4-مجلة عالم الفكر –الكويت – المجلد الرابع والعشرون -يناير1996م