قصة حياة المرأة العربية من الناصرة كلثوم عودة (1892-1965) أصبحت نموذجًا يحتذى للمرأة المصممة على التقدم. وهنا أقدم مسيرة حياة لإمرأة ناضلت وتحدت المستحيل ووصلت الى أرقى مستوى علمي لتكن أول امرأة عربية تحصل على لقب بروفسور.
كلثوم عودة هي ابنة لعائلة معروفة من الناصرة ولدت في 2 نيسان عام 1892 في دار "نصر عودة" في حارة الروم، كانت البنت الخامسة لوالدها نصر عوده الذي كان يأمل بولد يخلد اسمه وفوق كل ذلك لم تكن البنت جميلة. فيما بعد كتبت كلثوم عن ظهورها للحياة: "لقد استقبل ظهوري في هذا العالم بالدموع والكل يعلم كيف تستقبل ولادة البنت عندنا نحن العرب وخصوصاً إذا كانت هذه التعسه خامسة إخواتها، وفي عائله لم يرزقها الله صبياً، وهذه الكراهية رافقتني منذ صغري فلم أذكر أن والدي عطفا علي يوماً، وزاد في كراهيتهما لي زعمهما أني قبيحة الصورة فنشأت قليلة الكلام كتومة أتجنب الناس ولا هم لي سوى التعليم".
تواصل سرد ذكرياتها: "لم أذكر أحداً في بيتنا دعاني في صغري سوى "يا ست سكوت" أو يا "سلوله" وانكبابي على التعليم في بادئ الأمر نشأ من كثرة ما كنت أسمعه من أمي "مين ياخذك يا سلوله بتبقي كل عمرك عند امرأة أخوك خدامة".
أنهت كلثوم عودة المدرسة الابتدائية ثم انتقلت إلى "السمينار الروسي" في قرية (اليوم مدينة) بيت جالا في الضفة الغربية وكانت داراً للمعلمات، ومن أساتذتها المرحوم خليل السكاكيني أحد أعلام الأدب العربي الفلسطيني الذي أثر في توجيهها.
كانت في السادسة عشرة من عمرها حين أنهت دراستها، وعادت إلى الناصرة لتبدأ التدريس في مدارس الجمعية الروسية في الناصرة (المسكوبية) وكان يزور مدارس الجمعية في ذلك الوقت مفتشون مبعوثون من قبل الجمعية الروسية. التقت أثناء عملها بالتعليم المستشرق الروسي المشهور كراتشكوفسكي الذي زار فلسطين بين أعوام (1908-1910) وذكر ذلك في كتابه "مع المخطوطات العربية"، حيث كتب: قابلت كلثوم عودة في الناصرة ذاتها، وكانت آنذاك معلمة ناشئة إلى جانب عملها في المجلات العربية. أما فيرا كراتشوفسكايا عقيلة المستشرق، فقد كتبت عن زيارة زوجها إلى الناصرة بأنه تعرف على معلمتين من مدارس الجمعية الفلسطينية أنهتا تعليمهما في مدرسة السيمنار في بيت جالا، وقد شاركتا في جولاته في ضواحي الناصرة وأحداهما هي كلثوم عودة والتي تزوجت عام 1913 من الطبيب الروسي الذي عمل في مستشفى الجمعية في الناصرة ايفان فاسيليف".
تعرفت كلثوم عودة أثناء عملها بالتعليم على الطبيب الروسي ايفان فاسيليف وأحبا بعضهما واتفقا على الزواج، عارضت العائلة مشروع الزواج بشدة. وروت كلثوم عودة للشاعر الفلسطيني عبدالكريم الكرمي (أبو سلمى) عندما التقى بها في موسكو سنة 1957، بأن بعض أفراد أسرتها العتاة طلب من أحد الشبان أن يدفعها من أعلى سطح البيت لتستريح العائلة منها ومن عارها، وفقط بفضل ابن عم والدها نجيب عوده الذي وقف إلى جانبها، وذهب هو وإياها والدكتور ايفان فاسيليف إلى القدس، حيث عقد قرانهما في الكنيسة الروسية في مسكوبية القدس، وعاد بها وبزوجها إلى الناصرة واضعا والدها وأسرتها أمام الأمر الواقع.
سافرت مع زوجها الروسي إلى روسيا، وبعد ثورة أكتوبر ونشوب الحرب الأهلية في روسيا السوفياتية، تطوع الدكتور ايفان، زوج كلثوم عودة، كطبيب مع الجيش الأحمر وأصيب عام 1919 بمرض التيفوئيد ومات تاركًا زوجته وثلاث بنات صغار. فعملت كلثوم بفلاحة الأرض من أجل إعالتهم، وواصلت دراستها الأكاديمية بمساعدة لفيف من المستشرقين الروس وعلى رأسهم كراتشكوفسكي الذي تعرف عليها في فلسطين.
كلثوم لم تستسلم، بل واصلت دراستها وعملها، وأصبحت محاضرة للغة العربية في جامعة لينغراد (بطرسبورغ اليوم)، ثم أسست معهداً للهجات العربية في جامعة موسكو، وكانت أول امرأة عربية تحصل على لقب بروفيسور.
كلثوم عودة كانت جريئة في الدفاع عن شعبها، وعندما اعترف الاتحاد السوفياتي عام 1948 بدولة اسرائيل أرسلت رسالة حادة اللهجة للرفيق ستالين الذي رد عليها بسجنها.. فتدخل أصدقائها من المستشرقين الروس وعلى رأسهم المستشرق المشهور كراتشكوفسكي، لاطلاق سراحها مبررين رسالتها بكونها ابنة للشعب الفلسطيني الذي تشرد وخسر وطنه. وحسب معلومات تعرفها العائلة، اعتقلت كلتوم مرة أخرى على الأقل في زمن ستالين.
كلثوم عودة معروفة في الأوساط الأكاديمية في روسيا ولها عدة كتب لتعليم العربية، وقامت بترجمات عدة من اللغة العربية الى الروسية ونشرت سلسلة مقالات في مجلات عربية أبرزها مجلة الهلال المصرية.
في أوائل سنوات الاربعينات زارت فلسطين لتطمئن على أهلها وزارها كبار الشخصيات الفلسطينية في وقته، وعلى رأسهم المرحوم الحاج أمين الحسيني الذي أرادها أن تبقى وتعمل في وزارة المعارف الفلسطينية. وسألته كلثوم ما الضمانة إذا بقيت بأن يقبل بي الانتداب البريطاني المرعوب من مجرد زيارتي ويلاحقني كأنني جاسوسة؟؟
فأجابها الحاج أمين الحسيني وهو يضع يده على ذقنه: "يا ابنتي لا ضمان معهم حتى على هذه الذقن". فقفلت عائدة الى روسيا.
لم يسعفني الحظ بلقاء كلثوم عودة أثناء تواجدي للدراسة في موسكو، إذ وصلت بعد وفاتها بسنتين، وقد زرت ضريحها في مقبرة مشهورة للشخصيات الهامة في موسكو. ولكني التقيت مع عدد من طلابها، وأحدهم (مولود عطالوف) قدم لنا سلسلة من المحاضرات حول دراسة قام بها عن اقتصاديات الدول العربية (المتحررة)، وبالطبع التقيت مع العديد من المترجمين الروس، الذين تخرجوا من معهدها.
الدكتور عمر محاميد الحاصل على درجة بروفيسور من جامعة ليبتسك في روسيا. يستعرض في كتابه "كلثوم عودة من الناصرة إلى سانت بطرسبورغ" سيرة حياة هذه المرأة البطلة التي واجهت مصيرًا صعبًا، وصمدت حتى وصلت إلى أعلى المرتبات العلمية.
يعد كتابه توثيقًا هامًا لحياتها وأعمالها، وقد علق على الكتاب عدد من الكتاب والباحثين المعروفين.
يقول الدكتور لطفي منصور مدير كلية إعداد المعلمين في بيت بيرل، عن هذا الكتاب: إن من يطالع كتاب الدكتور عمر يلمس بنفسه الجدية في البحث والجهد الكبير الذي بذله المؤلف في التنقيب عن وثائق كانت لا تزال مجهولة للسواد الأعظم من المثقفين العرب، الذين لهم عناية بأدب الاستشراق وتاريخه وأصوله الذي انبثق منها منذ عهد روسيا القيصرية وحتى أيامنا هذه.
كتب الدكتور نبيه القاسم، الكاتب والناقد الأدبي: لم يكتف الدكتور عمر بالتاريخ لحياة كلثوم عودة ولا بالمعلومات الموثوقة الذي استقاها من أقرب الناس إلى كلثوم عودة إنما راح ليفتش ويبحث ويدقق في الأرشيفات الموثقة، ومن ثم في المقارنة والتأكيد بعد التنقيب الدقيق بين الوثائق والأوراق التي ألحقها بالدراسة، والتي تؤكد على جدية البحث واهتمام الباحث بكشف المعلومات التي يملكها ليستفيد منها القارئ العادي، كما يستفيد منها الباحث الجدي.
وكتب الشاعر والصحفي والمفكر سالم جبران: إن سيرة حياة كلثوم عودة هي سيرة حياة إنسانة عظيمة موهوبة، مجتهدة وهبت عمرها كله لبحث الثقافة العربية الكلاسيكية، وبناء جسر اللقاء الحضاري بين روسيا والعالم العربي.
قرأت كتاب الدكتور عمر محاميد، بشوق واهتمام شديدين، أولاً لكون كلتوم عودة ابنة الناصرة، وابنة عم والدي، والتي كانت تذكر في جميع مناسباتنا العائلية، وقد كانت على علاقة دائمة مع عم لي في دمشق حيث كنا نتلقى أخبارها، والسبب الرئيسي للعلاقات "المتجمدة" معنا أن أبناء أخيها، بعضهم هاجر للولايات المتحدة وبعضهم الآخر يستعد للهجرة، تعني أي علاقة مع شخصية سوفياتية في ذلك الوقت رفض دخولهم للولايات المتحدة. وثانياً لاطلاع بروفسور عمر محاميد الجيد والعميق على نشاط كلتوم عودة المتشعب، ومعرفته الشخصية بها، مما جعله يدرك عظمة هذه الانسانة من زاوية رؤية روسية ايضًا.
قضت كلثوم أياماً صعبة في زمن الحرب العالمية الأولى، ثم الثورة الروسية، وانتقلت مع زوجها إلى ليننغراد (بطرسبورغ) وهناك اجتمعت بالمستشرق الكبير كراتشوفسكي ثانية، وأصبحت مساعدة له في عمله. وقد نقل محاميد عن المستشرق قوله "أما مصير مساعدتي الثانية فقد كان جد معقد. فهي عربية من الناصرة أنهت مدرسة المعلمات في بيت جالا قرب بيت لحم. وكنت قد قابلتها في الناصرة ذاتها، وكانت آنذاك معلمة ناشئة إلى جانب عملها في بعض المجلات العربية. وانتهزت العطلة الصيفية سنة 1914 فسافرت الى روسيا، ثم نشبت الحرب الأولى وحالت دون عودتها فبقيت عندنا في روسيا طول الحياة. وصارت تعلم في ذلك المعهد منذ العقد الثالث من هذا القرن أي القرن العشرين".
انتهى الأمر بكلثوم عودة فاسيليفا إلى الحصول على شهادتي الماجستير والدكتوراه، وعينت بروفسورة في جامعة ليننغراد، وكانت خدمتها للاستشراق الروسي كبيرة من حيث تعريف المستشرقين بالأدب العربي الحديث، إذ أن كتابها "نصوص في الأدب العربي الحديث" سرعان ما أصبح مرجعاً للطلاب المحاضرين. وينقل محاميد عن كراتشوفسكي قوله: "إن تعليم اللغة العربية في معهد الاستشراق يعتمد عليها وأن كتابها الدراسي في الأدب العربي الحديث كان عاملاً محفزاً لدراسة الأدب العربي في أوروبا".
ويؤكد محاميد أهمية الدور الذي قامت به "لدرجة أن الحكومة السوفياتية وأثناء الهجوم النازي على الاتحاد السوفياتي أثناء الحرب العالمية الثانية تقرر أن تكون كلثوم بين الذين تم إجلاؤهم إلى المؤخرة حفظاً على حياتها، ومن ثم منحها وسام الشرف في عيد ميلادها السبعين".
اعتمد عمر محاميد، في سبر سيرة كلتوم عودة على أرشيف أكاديمية العلوم الروسية، والأرشيف الشخصي لكلثوم نفسها المحفوظ عند ابنتها، ولقاء مع ابنة كلثوم ومع الكاتب نبيل عودة من الناصرة وقريب لكلثوم.
* * *
ذكرت زوجة كراتشكوفسكي أن كلثوم قد أنشدت عند وداع زوجها أغنية تقول كلماتها:
أحبابنا قد وقفنا كي نودعكم
وقلبنا بلهيب الحزن يشتعل
حان الفراق فها أنا أودعكم
تذكروني حتى لفظت بخاطركم
وزودوني أيا عيني برؤيتكم
هيهات عيني بعد الآن تنظركم
خذوا فؤادي يذوب لوعة معكم
وغادروا قلبا يشكو من فرقتكم
فهل أودّع روحي أم أودّعكم
فسيروا بأمن فإن الرب يحفظكم
عملت كلثوم كممرضة في الصليب الأحمر خلال الحرب العالمية الأولى، وبعد وفاة زوجها عملت في فلاحة الأرض كما واصلت مسيرتها الأكاديمية، وحصلت على شهادة الدكتوراه في عام 1928، وكانت أطروحتها عن اللهجات العربية، وتعتبر كلثوم عودة أول امرأة عربية تنال لقب بروفسور من الاتحاد السوفيتي.
وقد عملت في مجال الترجمة من اللغة الروسية للعربية وبالعكس، فترجمت رواية "الأرض واليد والماء" للكاتب العراقي ذو النون أيوب إلى اللغة الروسية، كما ترجمت كتاب "محمد عياد الطنطاوي" للمستشرق كراتشكوفسكي إلى اللغة العربية.
كما تعتبر كلثوم عودة أول امرأة عربية شغلت مركز عضو في جمعية العلاقات الثقافية السوفيتية مع البلدان العربية، وقد نالت وسام الشرف عام 1962 بمناسبة عيد ميلادها السبعين، وأحرزت الميدالية الذهبية مرتين تقديراً لجهودها العلمية.
وقد تم منحها الوسام السوفييتي "الصداقة بين الشعوب" تقديراً لدورها الثقافي والسياسي في روسيا، كما منح اسمها وسام القدس للثقافة والفنون عام 1990.
فازت بجائزة مسابقة مجلة الهلال المصرية سنة 1947 والتي كانت بعنوان "كيف يعيش المرء هنيئاً".
كما قامت بكتابة بعض المقالات ونشرها في مجلات عدة مثل "النفائس العصرية" في حيفا و"الهلال" في القاهرة و"الحسناء" في بيروت.
قالت عنها المؤرخة السوفييتية د. نتاليا سيرجيفنا لوتسكايا: "لقد علمتنا كلثوم عوده الكثير الكثير فقد غرست في قلوبنا حب الشرق وحب فلسطين، لقد غرست في قلوبنا محبة شعبكم الذي ناضل وما زال يناضل من أجل حريته واستقلاله، لقد تعلمنا الكثير من كلثوم التي كنت ترى دوماً في عينيها الشوق والحنين للوطن الأم فلسطين، وكانت كثيرا ما تتذكر الأيام الصعبة التي مرت بها عند انتقالها مع زوجها للعيش في روسيا، وأصبحت كلثوم مثالاً لجميع من عرفها".
وكتب الشاعر توفيق زياد عنها: "إن اسم كلثوم عودة معروف على أوسع نطاق في الأوساط السوفيتية ذات الصلة بالاستعراب والعمل الدبلوماسي والأدب العربي والبلاد العربية عموماً، إن أعداداً كبيرة من المستعربين قد درسوا اللغة العربية جيلاً بعد جيل على يديها".
على الرغم من ابتعاد كلثوم عن فلسطين إلا أنها كانت تحمل دائماً في قلبها حبها لبلدها وفخرها بكونها عربية فلسطينية، فقد زارت فلسطين عام 1928 وشبهت مدينة يافا بمدينة باريس، وقابلت العديد من أدباء ومثقفي فلسطين، كما قابلت الحاج أمين الحسيني الذي أبدى لها رغبته في بقائها في البلاد ولكنها رفضت بسبب الضغوطات التي تعرضت لها، وفضلت العودة إلى روسيا وذكرت ذلك في مذكراتها: "إن روسيا لم تعد غريبة عني وقد أحببتها وأحببت الشعب الروسي ووجدت مكاني أن أحيا في هذه البلاد في الثورة التي أحسستها في تلك الأعوام بقلبي أكثر مما فهمتها بعقلي".
كان لها الفضل في تعريف الروس على الثقافة العربية وبناء جسر حضاري بين الاتحاد السوفيتي والعالم العربي حيث ساهمت في تأسيس مدرسة الاستعراب الروسية.
من أعمالها:
- حضارة العرب في الأندلس (ترجمة).
- دراسات في تاريخ الأدب العربي (ترجمة).
- اللغة العربية للروس.
- المنتخبات العصرية لدراسة الآداب العربية.
- الأدب العربي الحديث.
- تصوير حياة المرأة العربية المعاصرة في القصة.
- اللغة المسرحية في الأدب العربي الحديث.
- حول تاريخ تطور اللغة في البلدان العربية.
وقد توفيت في الاتحاد السوفيتي في 24/11/1965، ودفنت في مقابر العظماء في موسكو.