يتناول الباحث سيرورة النقد الفني منذ التعبير الفني في الكهوف، مروراً بتكون نواة نظرية النقد والتذوق الجمالي لدى الإغريق، ثم الأفلاطونية الجديدة، والمسحية القروسطية وعصر النهضة الاوروبي، وصولاً لفلسفة الجمال في عصر الأنوار، ثم يسلط الضوء على النقد والجمالية في الثقافة العربية.

تاريخ النقد الفني

طارق بكر قـزاز

النقد الفني عند الحضارات القديمة
لقد حاول الإنسان منذ القدم أن يرسم بعض الأشكال الحيوانية على جدران الكهف، وكانت لرسومه غايات تخطيطية أو سحرية أو جمالية تحقق المتعة البصرية، وكانت حساسية الإنسان تتطور بتطوره الحضاري، فقد دخل الإنسان مرحلة الصناعة لأدواته وكان حسه يقوده للإحاطة بمظاهر الأشياء عن طريق الفن. حتى تحول هذا الحس إلى استمتاع وتذوق لقيمة الأشكال وإدراك للقيم الوظيفية المرتبطة بالجمالية في هذه الرسوم والأشكال. (عطية 2000، ص25).

لقد ارتبط النقد الفني في الحضارات القديمة بالرعاية (Patronage)، كما في الحضارات الفرعونية والرافدية. فقد كان الحكام والكهنة هم من يحدد الاتجاهات والقيم الجمالية والوظيفية للفن، وكان الفنانون مجرد عمال مهرة يعملون في ورش فنية خاصة ملحقة بالمعابد والقصور. وكان يشرف على هؤلاء العمال معماريون ومهندسون، كانت لهم القدرة على تقييم وتوجيه تلك الأعمال، وقد منح هؤلاء مظاهر تكريم خاصة بوصفهم من كبار موظفي الدولة (هوزر 1981، ص 49)، فكان ما يقومون به صورة من صور النقد الفني للأعمال الفنية أولا من ناحية قيامهم بتوجيه الفنانين، وثانياً من ناحية تفسيرهم وتوضيحهم هذه الفنون للحكام والكهنة. لقد كان التركيز في الأعمال الفنية القديمة على تصوير الحكام في وضع العظمة والوقار، وكانوا يفضلون أن يظل الفن محافظاً على التقاليد التي وضعوها دون أن يكون للفنان حرية التغيير والتجديد، وكان النقد يرفض ما يخالف التقاليد والقواعد الفنية القائمة على معرفة محددة خاصة بالدين وتصوير رموزه في أوضاع مختلفة تجذب العامة من المجتمع، فجمعت الفنون بين الوظيفة الشعائرية الدينية، وبين الوظيفة الجمالية.

لقد أنتجت الحضارات القديمة فنونا لها صفات جمالية ونفعية إلا أن الحضارة الإغريقة كانت الحضارة التي اهتمت بالحكم الجمالي وأفرزت فكراً نقدياً على الفنون وكان من أبرز فلاسفتها أفلاطون وأرسطو وسقراط ، لقد تكونت بذور النقد الفني النظرية في القرن الخامس قبل الميلاد حيث كان هؤلاء الفلاسفة هم أول من كتب في فلسفة الفن والجمال، فقد كانت أفكارهم الفلسفية ترافق ازدهار الفنون الإغريقية. وكانت الأفكار التي جاء بها هؤلاء الفلاسفة حول الحكم الجمالي والنظرة إلى الفن والفنانين بمثابة مفهوم متفرد لرؤية نقدية تعبر عن الذوق العام في ذلك العصر. لقد ارتبط النقد الفني بفلسفة الفن وعلم الجمال، فكان النقد يقوم على ما تنتجه الفلسفات الفنية والنظريات الجمالية في تفسير الفنون والحكم على الأعمال الفنية. فلقد تحدث أفلاطون عن المثل العليا، وكان الفن عنده هو محاكاة للطبيعة، ونقل صورة من الواقع (صورة مقلدة ومن وجهة نظره زائفة). أما الجمال في نظره فهو نسبي موجود بصورة ناقصة في عالمنا، فالجمال الكامل لا يتحقق إلا في العالم المثالي. وقد قسم الجمال إلى نوعين: جمال حسي هو أدنى درجات الجمال، وجمال الروح أو الجمال العقلي وهو أرقى درجات الجمال. (فضل 1996، ص 154).

أما أرسطو فكان يرى أن الجميل هو الذي يتحلى بالتناسق والانسجام والوضوح، وهو يختلف مع أفلاطون في أنه يثبت وجود الجمال في عالمنا الذي نستمد منه وعينا بالجماليات. ويعتبر أرسطو أن الفن ينشأ عن الميل الغريزي عند الإنسان إلى التقليد الواقعي. وقد قسم الفنون إلى فنون نفعية، وفنون جميلة، كما وضع أسساً وقواعد لبعض الفنون. وتعتبر آراءه قمة ما وصل إليه الفكر الإغريقي حول فلسفة الحكم على الفنون (أو النقد). (فضل 1996، ص155). وكان سقراط قد ربط مفهوم الجمال بمبدأ الغائية أي بالفائدة والنفع وقد صرح بأن "كل شيء ذا فائدة هو رائع وجميل". (عطية 1996، ص155).

وكان الفن خاضعاً لطبقة النبلاء الذين مجدوا الأخلاقيات والمثل العليا. ومما لاشك فيه أن الفكر اليوناني قد أثر في كل الحضارات التي أتت بعده ومنها الحضارة الهيلينية، والحضارة الرومانية. إن الحضارة الرومانية التي تأثرت بالفن الإغريقي وبتيارات فنية من الشرق وبلاد الجيرمان والبربر وغيرها نتيجة قيام حكامها بالانشغال في الحروب والفتوحات، لم تنتج فكراً نقدياً إبداعياً، وكان أبرز فلاسفة هذه الحقبة الجماليين هو الفيلسـوف أفـلاطين الذي ربـط جـمال الإبداع بالدين والقـوة الإلهيـة. (البيطار 1997، ص13).

وعندما ظهرت المسيحية ظهرت الفنون المسيحية المبكرة التي اعتمدت على تقديم أشكال تتناسب مع الذوق العام الذي يسعى إلى السكينة والشعور بالخشوع الحسي والروحي. وكان النقد يدين الفن الوثني ويدعو الذوق العام إلى جمالية الدين السماوي الجديد، حيث كانت الفنون المسيحية تعتمد على تقديم عناصرها وخصوصاً الشخصيات الدينية في أوضاع جمالية وقدسية تعمل على جذب أنظار المتعبدين للتأمل فيها. وفي العصور الوسطى ارتبط الفن بالمعتقد وبالدين كما تأثر بالفلسفة اليونانية التي لم تغب أيضاً، فاستخدم النقد والفن للدعوة إلى الدين المسيحي والتأثير على الذوق العام ولتوضيح القصص المسيحية والأساطير القديمة التي كانت ترسم على جداريات ضخمة في الكنائس وعلى أسقف الكاتدرائيات. (البيطار 1997، ص16).

النقد الفني في العصور الوسطى وعصر النهضة في أوروبا:
امتدت العصور الوسطى من بعد انهيار الحضارة الرومانية حتى القرن الرابع عشر. وقـد قسم كرومـر (Cromer 1990) النقد الفني في تلك الفترة إلى:

"(أ) المـذهب الطبيعي الخفي الذي من خـلاله تنبعث الأفكار الفنية من الطبيعة،

(ب) الخيال الرمزي والذي من خلاله يمكن تناول الرمز الإلهي،

(ج) الآلية الظواهرية التي تعتقد أن الأشكال ذات المدلول قد تواجدت في كل من الطبيعة وعقل الفنان وانها نابعة جميعها من القدرة الإلهية". (ص14).

فكانت الفنون تتصل بالروحانيات وتبتعد عن المعقولات وتعبر عن الأساطير الخرافية في رؤية ميتافيزيقية تعمل على أن يكون الفن مجالاً لاستيعـاب المعـرفة. وفي هـذه العصور لا نكاد نعثر على عمل فني لا يصور الموضوعات الدينية، سواء في العصر الررومانسكي أو العصر القوطي أو العصر البيزنطي، فقد كانت الكنيسة البيزنطية تكن العداء للوثنية وتدعو إلى حياة الزهد والتقشف والعبادة. لذلك لم تسمح الكنيسة البيزنطية برسم صور تعبر عن ملاذ الحياة الدنيا، وظهرت حركة تحطيم الصور وطمسها من بعض الكنائس. (عطية 2000، ص28) وقد كان لذلك أثره على تراجع الفن وعلى النقد الفني الذي كان خاضعا للكنيسة، طوال عصور الظلام الأوروبية. وقد تأثر النقد الفني في تلك العصور بنظرية الخير والجمال التي اعتبرت أن أفضل أنواع الفن هي في الأعمال الخيرة والجميلة. وكان النقـد الفني يخضـع لآراء رجـال الدين التي تأثر بها الناقـد جورجيو فازاري (1511-1574) في كتابه الذي أنجزه سنة 1550م وكتب فيه سير حياة أهم فناني ومعماريي العصور الوسطى (Cromer 1990, p.17).

وأثرت الثقافة العربية التي سادت في المجتمع الأندلسي على الثقافة الأوروبية، كما أدى تطور العلوم في أوروبا والاهتمام بالترجمات عن الفكر اليوناني والازدهار الاقتصادي في إيطاليا والحروب الطويلة المدى بين فرنسا وبريطانيا، إلى ظهور إيطاليا كمتزعمة للحركة الفنية وكمخرجة لمبادئ جديدة للنقد الكلاسيكي. (البيطار 1997، ص19).

وفي ما قبل عصر النهضة بدأ النقد الفني يخرج من دائرة تحكم الأمراء والكهنة ليصل إلى مستوى الطبقة البرجوازية في المجتمع الأوروبي، فكان الفن يلبي حاجة الذوق العام لهذه الطبقة وكان النقد الفني يوجه الفنون إلى الزخرفية التي سادت العمارة والفنون. وكانت الأفكار الفلسفية الجديدة المتعلقة بعلم الجمال والنقد قد أثرت على الفنون والذوق العام في المجتمع. وكان من أبرز نقاد ذلك العصر الناقد جان بريغران Jan pregran الذي كانت كتاباته تدور حول النهضة وأعمال الفنانين (رافائيل، وليوناردو، ومـونتاين، ومايكل أنجلـو، وفاندر، وديور، وغـرين، وفوكيه)، وكانت كتاباته بمثابة الـمحاولات الأولى للـرقي بالذوق العـام في المجتمع لتذوق الفنـون. (البيطار 1997، ص22).

وكانت للفن في عصر النهضة رؤية جديدة عقلية، وكان الحكم الجمالي يقوم على تفسير جديد للتراث الثقافي والفني والرؤية الفنية القديمة، وتبدل الاهتمام بالعمل الفني في هذه الفترة إلى الاهتمام بالعبقرية الفنية والقدرات الإبداعية. وقد كتب الفيلسوف جيبرتي في (القرن15م) عن حياة الفنانين. وكان من أبرز النقاد في تلك الفترة فليبو البرتي (القرن 15م) الذي كتب عن الجمالية الإنسانية كمركز للكون، ورؤيته في أن مصدر المعرفة البشرية هو من خلال الرؤية الكونية في حدود النفس البشرية، وقد أثرت كتاباته التي نشرها في فلورنسا على الفنانين وشكلت بداية لما عرف بالحركة الإنسانية (Cromer 1990, p.16). وكان الفن منذ العصور القديمة في معناه الاصطلاحي يتضمن معنى المهارة والمقدرة، فقد اُستمد من الأناة والصبر والتمرس والمزاولة واتجه نحو غاية بعينها، كائنةً ما كانت هذه الغاية.. جمالية أو أخلاقية أو نفعية. ولقد تغير مفهوم الفن في العصور الوسطى حيث ارتبط الفن بقواعد اللغة والأدب والمنطق وعلم السحر والفلك، وأما في عصر النهضة فقد عادت لكلمة الفن معناها القديم المرتبط بالحرفة في الصناعة والمهارة اليدوية، وفي القرن السابع عشر عندما نشأ علم الجمال حدث انقلاب في الموازيين فاستقلت الفنون الجميلة fine arts (التصوير والنحت والشعر.. وغير ذلك) عن الفنون التطبيقية Applide Art (النجارة الحدادة.. وغير ذلك) مما جعل الفنون التطبيقية ترتبط بجانب النفعية الصناعية في حين ارتبطت الفنون الجميلة بجانب البهجة والاستمتاع الجمالي بالفنون (غنيم 1994، ص ص 20-22).

حيث كانت نظرية الجوهر في النقد الفني هي السائدة في أوروبا خلال عصر النهضة. وتعتبر هذه النظرية أن وظيفة الفن (عند عطية، 1996) هي: "تقليد للطبيعة في تسامي، فليست مهمة الفنان تقف عند حد نقل المظهر الحسي للأشياء والموضوعات كما هي عليه في الواقع، بل يتعدى ذلك ليصل إلى خلق صورة، أو أنموذج يخضع للقوانين الطبيعية". (ص58).

ويعتبر الحكم على جودة الفن في عصر النهضة يعتمد على قدرة الفنان في تصوير الأفراد والطبيعة والاهتمام بالمنظور وعلم التشريح والاهتمام باللون والخط والتعبير عن الصور الدينية المسيحية والموضوعات الأسطورية الكلاسيكية المستمدة من الحضارة الإغريقية القديمة. ومن أبرز فلاسفة هذا العصر رينيه ديكارت Descartes (1596-1650م) صاحب النزعة العقلية الذي كان لا يعترف بحالات اللذة الباطنة العميقة وقد كان يرى أن الفنون لها لذة ذات طبيعة عقلية ذهنية، وطبيعة حسية وجدانية، وأن تقدير الجمال ينبع من الإحساس والأهواء الذاتية، بجانب القياس، فالحس والعقل يشتركان في الاستمتاع الجمالي. (الغامدي 1999، ص46).

جوتفريد ليبنتز Leibnitz (1646-1716م) صاحب الفلسفة الروحية الذي ربط مفهوم الجمال بتصورات مشتقة من مذهبه الروحي، فهو يرى أن نظرتنا للجمال متفرعة من تسليمنا بوجود انسجام أزلي بين المؤثرات الروحية، وشعورنا الباطن بالحيوية الدافقة، والخصوبة الروحية، التي يمكن الكشف عنها عن طريق التفسير العلمي. وأن غاية الحيوية الكونية الدافقة تتمثل في إشراقات شديدة تزداد وضوحاً كلما كشفنا عن موضوعات الإدراك بواسطة التفسير العلمي. (الغامدي 1999، ص46).

النقد الفني في القرن الثامن عشر:
ومع زوال عصر النهضة ودخول أوروبا في تاريخها الحديث المتمثل في الثورة الأوروبية الحضارية، أخذ النقاد بدعوة الذوق العام إلى تذوق الرفيع والأسلوب الرفيع في الفن، وارتبط الفن بالجمال كما ارتبط بالبنى الروحية للفنون (الاهتمام بالفن المسيحي، والفن الاسلامي.. الخ) واحترام الحضارات الإنسانية. كانت هذه الظروف مهيئة للنقد الفني لكي ينمو ويتطور (منذ القرن الثامن عشر) فظهر الفكر الجمالي الرومانسي والتاريخي، والنقد الألماني، وعصر التنوير الفرنسي. وكان لظهور المعارض الرسمية أثره في أن تزداد الكتابات والنصوص النقدية المواكبة لهذه المعارض مما جعل للنقد أهمية في التأثير على الذوق العام في المجتمع الفرنسي، فقد كانت الكلاسيكية الجديدة التي ظهرت على يد الفنان دافيد هي استجابة واقعية للذوق العام في المجتمع الأوروبي عامة والفرنسي خاصة، الذي كان يبحث عن روح الوطنية والقومية الخاصة في ظل حكم نابليون بونابرت. وكان النقد الفني يؤيد هذه الاتجاهات ويدعـو اليها على صفحـات الجرائد وفي الصالونات والمعارض الخاصة بالأكاديميات في فرنسا. وكان النقد يحث الفنانين على إبداع موضوعات وطنية تعكس مجد فرنسـا وقوميتها وليس الفن اليوناني القـديم. وكان من أبرز نقاد هذه المرحلة (ديوفال، وشوسار، وغينرو، وبونس، ودي بوسيه، وسان جيرمان، واميل فابر، ودي بميريل، وغيرهم)، حيث كان النقد الفني يتخذ من الصحافة وسيلة انتشار ويتوجه إلى العامة من الجمهور كما يتوجه إلى الخاصة من المفكرين والمثقفين (البيطار 1997، ص24-32).

حتى ذلك العهد لم يكن مصطلح علم الجمال الإستاطيقا Aestheticمعروفاً، رغم أن فلاسفة الإغريق كانوا هم أول من وضع الأسس التي بني عليها هذا العلم. وقد ظهرت كلمة إستاطيقا Aesthetic لأول مرة سنة 1735 في بحث نشره الكساندر باوماجارتن Baumgarten (1714-1762) الذي ميز بين المعرفة العليا والمعرفة الدنيا وقال بأن المعرفة العليا تقدم تصورات ومفاهيم مرتبطة بالحقيقة، وأنها قابلة للقياس، على عكس المعرفة الدنيا التي لا يمكن قياس علاقتها بالحس والشعور. وكان يتحدث عن علم جديد يهتم بدراسة المدركات الحسية، وعرفه بأنه "علـم المعرفة الحسية". وقد حاول باومجارتن أن يضع الأسس والقواعد لهذا العلم الذي حاول أن يعبر بواسطته عن أعلى درجات المعرفة الحسية وهو الجمال، واعتبر القبيح انعكاساً للنقص في المعرفة الحسية حول الأشياء. (إسماعيل 1968، ص52).

وكان القرن الثامن عشر هو بداية التجديد في مفهوم الجمال والمنهج النقدي، فكانت هذه النظرية الجديدة تعتبر الجمال جزءاً من المعرفة الحسية التي تمكن الناقد من إدراك القيم الجمالية من خلال المعرفة المسبقة. وبذلك فإن المتلقي العادي الذي لم تتوفر عنده المعرفة الحسية المتعلقة بالفنون التشكيلية لن يتمكن من تذوق جمالية الفنون. وهو في حاجة إلى توفير المعرفة له بحيث يصبح قادراً على تذوق تلك الفنون.

تقول ستولينتز (1982م) "كان النقد الكلاسيكي الجديد (Neoclassical Criticism) في القرن السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، متمسكاً بالتقاليد والشكليات إلى حد بعيد. وكان هذا النقد، كما يدل اسمه، يتخذ من العصر اليوناني الروماني القديم انموذجاً لكل فن، سواء في الأدب أو في الفنون البصرية". وقد وضع قادة النقد الكلاسيكي قواعد محكمة التفصيل لتقدير الفن. وكان من المتوقع أن تستمر هذه القواعد لفترة طويلة في الحكم على الأعمال الفنية. (ص671).

وبعدها تطور مفهـوم النقد الفني وأصبح له أهميـة كأداة مساعـدة للفنانين والمتكلمين والجماليين والمتلقين، خصوصاً مع تكوين أكاديمية الفنون بفرنسا في الأربعينات من القرن الثامن عشر (Cromer 1990, P.22) وكان دافيد (Jacques L. David) (1748-1825م) رائد الفن الكلاسيكي الجديد أبرز من مثل الحركة النقدية الكلاسيكية واعتمد في الحكم علي جودة الانتاج الفني على مبادئ الانسجام والإيقاع والتناسق، والنظام والهدوء، مستنداً إلى النماذج والأنماط الموروثة من الفن اليوناني القديم، في محاولة للتمرد على طراز الركوكو (Rococo) الزخرفي. فكانت اللوحات الكلاسيكية الجديدة تعتمد على مبدأ الإنشاء الرياضي المحسوب، وتحقيق الاتزان البنائي، والوضوح في التكوين، وذلك في معالجات تهدف إلى الكمال، الذي يرادف معنى الجمال عند هذه المدرسة، وذلك في العلاقات والظل والنور، والاهتمام بنقاء اللون وتحديد العناصر في العمل الفني (عطية 1996، ص62).

وكان لانتشار المعارض العامة والتقارير الصحفية الفنية التي كانت تنشر عنها في الصحف والتي كانت لا تلتزم بالحقائق والقواعد الفنية فقط، بل تختبر الأصول الفنية التاريخية والآراء الفلسفية لتفسر فردية الفنان في ما يقدمه من إبداعات تعتمد على الأصـول القديمـة الكلاسيكيـة كل ذلك كان له الأثر الأكبر في تطور نظرية النقد الفني (Cromer 1990, P.28) إلا أن النقـد الرومنسي كان يناقـض النقـد الكلاسيكـي فقـد استخدم لوصف الأعمـال التي يتأكد فيها الجانب الترابطي في الإفصاح عن اعتمالات النفس واظهار الفكرة المعبرة عن الحياة والإيحاء بالعمق في اللوحـة، حيث يوحـد الفن الرومنسي بين الروحي والحسي. (عطيـة 1996، ص143).

وكان من أبرز المنظرين في هذا العصر جورج هيجل Hegel (1770-1831)، صاحب الفلسفة الجدلية (عند عطية 1996، ص145-146) الذي كان يرى أن الفن الرومنسي يغلب عليه الطابع الروحي فهـو يسعى إلى الكشـف عن الروح في الهاماتها وصـراعها الداخلي وآلامها. "فالألم وأوجاع الجسد والروح والعذاب والكفارة والموت والبعث والشخصية الذاتية والحياة الداخلية والحب واندفاعات القلب وخلجات النفس، لا شيء من هذا كله يجد في الواقع الخارجي المادة والشكل الذين يوائمانه"(ص145). والصور المحسوسة في الفن الرومنسي إبداعية، "يرتفع الفن فيها من المنظور المادي إلى العالم المطلق، ليعبرعن الخيال المعنوي، وعـن روح اللا متنـاهي مـن خـلال العاطفـة... فالرومنسيـة تمثـل الشعور والوجدانية"(ص146). وقد اعتبر هيجل الفن الكلاسيكي بأنه قد بلغ ذروة الكمال، إلا أنه وصفه بالعجز عن الإفصاح عن اعتمالات النفس. ويعتبر أن الفن الرومنسي يتميز بسمو الفكرة والروح المطلق على الشكل الحسي. ومن أبرز الفلاسفة والمنظرين في هذا العصر كان كل من ايمانويل كانت Kant (1724-1804)، ووليم هوجارت Hogarth (1697-1764).

وأدى ظهور الرومانسية والاتحاد بين فناني هذه المدرسة وأدبائها ونقادها، إلى إزدهار حركة النقد باعتبار:

  1. النقد تسجيلاً معاصراً للفن وداعية له.
  2. أن النقد كان يقف في وجه الأفكار الغريبة والمضادة وهو جسر بين الفنانين والذوق العام في المجتمع.
  3. أن تطور النقد يحتاج إلى حرية الناقد في الكتابة من النواحي السياسية والاجتماعية (البيطار 1997، ص25).
  4. أن النقد يحتاج إلى الاهتمام بالمعارف والعلوم الإنسانية والاطلاع عليها لأنها تؤثر على تطور الذوق العام في المجتمع وتطور الفن وتقنياته. ومن هنا كانت الصحافة هي مفتاح النقد الفني للوصول إلى الذوق العام في المجتمع ومفتاحه للتعبير وربط الفن بالظروف السياسية والاجتماعية وبحياة الناس اليومية.

عندما جاء بآرائه العالم كانط في نهاية القرن 18 وهو الفيلسوف الذي قلب الموازين بالنسبة للبحث في ماهية الفنون الجميلة ولتحديد الجمال والجلال، فوضح أن مشاعر إدراك الجمال (المعرفة الحسية بالجمال) هي الإدراكات التي يصحبها في العقل إحساس باللذة، دون أن تكون مصحوبة بشعور آخر متعلق بالماديات. فالجمال من وجهـة نظـر كانت، لا يتوقـف عنـد طبيعـة الشيء بل على حـرية الإدراك والتخيل (لالو 1982، ص10). وهو الذي وضع نظرية الجليل والجميل، فالجليل عنده هو الشيء العميق الغامض الذي يثير في النفس غريزة حب البقاء، أما الجميل فيختص بما هو ناعم وصغير ومحبب ويثير في النفس الشعور بالحب واللطافة، وقد حدد أربعة حدود لتذوق الجمال وهي : الكيفية، والكمية، والنسبة، والشكل. فالكيفية تعني الحكم الذوقي، أي الحكم بالرضى أو بعدم الرضى عن شيء ما، فالشيء الذي يرضي هو الشيء الجميل. أما الكمية فتعني التصور الموضوعي الكلي للجميل بحيث يصبح الجميل هو ما يثير السرور والرضا بصورة كلية، بدون أي تصور عقلي ذاتي. أما النسبة فتعني مقدار تصور الصورة القصدية للموضوع، أي الفهم والتفكير الخاص بنا في إدراكنا للجمال، وأن الجمال نوعان: جمال حر وهو لا يحتاج إلى تصور مسبق ويعتبر حكمه منتهياً، وجمال لاحق وهو عملية تقويم موضوع التصور لما يجب أن يكون عليه الموضوع. أما الشكل الجميل عند كانت فهو الذي يبعث التقـاط موضـوعه راحـةً وسـروراً وارتياحـاً بدون تصـور له. (فضل 1996، ص ص155-159).

وكان هوجـارت (عند الغامدي 1999) مؤسس المدرسـة الإنجليزيـة في الجمال، "قد ربط الجمال بالإحساس، وميز بين الشعور الخالص بالظاهرة الجمالية وبين المتعة... كما أكد على أن الطبيعة وأشكالها تمدنا بمخزون من القيم الجمالية من خلال ملاحظتها وتأمل عناصرها"(ص47). ويعتبر أن الطبيعة هي معيار قياس الجمال، وهي الأصل الذي يجب أن تضاهى به الأعمال الفنية. وقد وضع مبادئ عامة للصفات التي تجعل من العمل الفني عملاً جميلاً ومن هذه المبادئ: التناسب، والتنوع، والإطراد، والبساطة، والتعقيد، والضخامة.(ص47).

لقد أصبح علم الجمال الحديث مع نهاية القرن الثامن عشر مرتبطاً بمشكلات التذوق الجمالي (Aesthetic Appreciation) ويندرج تحتها المشكلات السيكولوجية والفسيولوجية المتعلقة بالشعور بالجمال وعلاقته بالخيال والحس وأثر الترابط وأثر المتعة بالجميل في العمليات الحيوية والحالة النفسية للإثارة الجمالية وعلاقات التناغم والانسجام.. الخ. وتتطلب هذه المشكلات منهجا نقدياً لدراستها. وتنشأ من تحليل محتوى الأشياء التي نحكم بجمالها، وهي مسألة النقد الفني. ومشكلات الإنتاج الفني ويندرج تحتها غاية الفن، طبيعة الدافع الفني، الخيال وعلاقته بفكرة العمل الفني، الدافـع الفـني ووظيفتـه في تقـدم الجنس البشري، وتطـور الفـن. (اسماعيل 1968، ص57).

النقد الفني في القرنين التاسع عشر والعشرين:
بعد الثورتين الفرنسية والأمريكية حاول الفنانون والنقاد والمفكرون البحث عن قيم جديدة تلائم واقع العصر الجديد. لقد تحول المجتمع إلى مجتمع صناعي، وغيرت المخترعات نمط الحياة. وبذلك تمكنوا من استنباط أشكال جديدة لموضوعات تواكب التغير في وسائل التعبير الفني، وتغير المناهج والأساليب والأدوات والخامات والأشكال الفنية، التي عبرت عن مظاهر الحياة. وأدى ذلك إلى تغير مفهوم اللوحة ومفهوم الجمال عند الذوق العام (البيطار 1997، ص35). ومع بداية القرن التاسع عشر وظهور الحداثة في الفن أخذ الفنانون والفلاسفة والمؤرخون والنقاد والمتلقون في التعرف على الجمال كنظرية نقدية تعتمد على الدراسة والتقدير، حتى أصبح النقد في القرن العشرين متصلا بالفن، ويرضي الحاجة التي كانت مفقودة عند الجمهور لفهم الفن والجمال، حيث كان يقتصـر تقـديره على العـارفين بالفـن وعلم الجمـال. وأصبح النقـد يقـوم على:

  1. الحـوار بين الفنانين والنقاد والمتلقين،
  2. الاهتمام من قبل المتلقين بالثقافة الفنية والاهتمام بالأعمال الفنية وتاريخ الفن وفلسفته،

3- اعتبر النقد موجه ومعلم في مقابل تعدد الاتجاهات الفنية وترجيح النواحي الجمالية( Cromer 1990, P.26-33).

في نهاية القـرن الثامن عشر ارتبطت كلمـة الفنون الجميلة fine arts بكل ما يختص بالجمال ذاته. ولكن القرن التاسع عشر كان بداية للعديد من الاتجاهات التي تشكلت وتأثرت بالمخترعات العلمية، فغيرت من مفهوم الفن من خلال محاولات الفنانين للتجديد والإبداع (غنيم 1994، ص31). هذا التجديد أدى إلى تطور مفهوم الفن، وتعدد المدارس الفنية حتى بات من الصعب وضع تعريف محدد له، إلا أن بعض علماء الجمال قد حاول تعريف الفن وفق المفاهيم الجديدة.

وفي ذلك الحين كانت فرنسا هي محط أنظار الفنانين المجددين، رغم معارضة الأكاديميات للأساليب الجديدة حتى منتصف القرن التاسع عشر، إلا أن ذلك لم يمنع هؤلاء الفنانين من الاستمرار في تقديم فنهم للجمهور. الأمر الذي دعا كثيراً من الفنانين إلى تكوين جماعات متجانسة لها فلسفتها وإتجاهاتها الفنية. وكان يدافع عن هـذه الجماعـات كتابهـا ونقادها مثل الانطباعية Impressionism، التعبيرية Exprssionism، مابعد الانطباعية Post Impressionism، الوحشية Fauvism، الباربيزون Barbezone. وغيرها. لقد دخل الفن الحديث في حمى التجديد وفق إيقاع سريع لم يهدأ، مما سبب إرباكاً لحركة النقد الفني في المجتمع الأوروبي الذي فقد القيم والتوازن الروحي والمادي والعقلي والعاطفي واختلطت الأذواق. وكان النقد في الإعلام ينقسم على ذاته، فكان لتعدد التيارات الفنية أثره في أن يكون لكل تيار ناقد ومنظره الذي يدافع عن شعارات ومفاهيم ذلك التيار، مما جعل بعض النقاد يقع في مغالطات وتناقضات في التأييد والرفض لبعض الاتجـاهات والتيـارات الفنيـة وفنـانيهـا. (البيطـار 1997، ص36).

يقول كرومر ((1990: لقد دخل الفن في سلسلة من التطورات والتجديد في الاتجاهات فكانت هذه الاتجاهات لا تلتزم بالقواعد الكلاسيكية السابقة مما جعل كتاب النقد في الصحافة والأكاديميين في تلك الفترة يرفضون أعمال بعض الفنانين أمثال (مانيه، مونيه، بيسارو، سيسلي، رنوار، سيزان)، لقد أصبحت أعمال الفنانين تتسم بالتأليف في العلاقات في السطوح وجعل المنظر الطبيعي مسطحاً والعفوية والبدائية واختلاف الرؤية في استخدام اللون، لقد شكلت الحداثة مناخا للتجريب ولتعدد الأذواق المتناقضة مما أدى إلى انقسام الـحركة التشكيليـة والنقـاد، وأصبح للنقـد اتجاهات مثل الاتجاهات الفنية المتعددة.(ص25)

لقد أعتبر النقد مسألة تذوق من قبل النقاد الذين يتزودون بالمفاهيم الفنية المتعلقة بالإنتاج الفني وتاريخ الفن وعلم الجمال. ويتميز هؤلاء النقاد بالتبصر والقدرة على إصدار حكم مبرر حول الكيفيات الجمالية في الأعمال الفنية وجودتها ومدى تحقيق خصائص الفن الجميل. تلك الخصائص التي يرضى عنها الناس في المجتمع، بعد أن يقوم النقاد بشرح هذه الأعمال الفنية وتفسيرها وتحليلها للجمهور المتلقي. يقول كرومر (1990): "قام النقاد بدور الوسطاء بين الفنان وهذا الجمهور الجديد، وقاموا بتوفير طريقة للتعامل مع الفن مرتكزة على التلقائية والخيال والاستفادة من المهارات الطبيعية في محاولة لسد الفجوة بين الفن القديم والفن الحديث"(ص25). وتمثل ذلك بظهور النظرية الشكلية في النقد الفني، التي فتحت الطريق لتقبل الفن الحديث والتيارات العديدة التي نشأت فيه، مما أعطى المجال للفنانين أن يستمروا في العطاء من خلال هذه المدارس المختلفة.

وقد ارتبط النقد الفني منذ نشأته بالحكم الجمالي على الفن، ذلك بسبب أن الإبداع الفني ينتج صوراً جديدة تتوافر فيها صفة الجمال. ويقوم النقد الفني على الاختيار الدقيق والتفسير المنظم للإنتاج الفني، وينقل الحقيقة الموضوعية عن العمل الفني ونظامه والمتعة الجمالية التي فيه. وعندما بدأت الحداثة الفنية في الغرب كان على النقد أن يغير من الأساليب التي كانت سائدة قديما في تحليل الأعمال الفنية والكتابة عنها. فقد أصبح النقد الفني عبارة عن نقل وجهة نظر الفنانين من اتجاه فكري معين وتوضيح رموز وأفكار الأعمال الفنية إلى الناس الذين كان من الصعب عليهم فهم محتوى هذه الأعمال، خصــوصاً وأن الفنانين كانــوا متأثرين بفنــون الحضارات المختلفــة. تقــول زينــات البيطــار (1997): "أما النقد الفني المواكب لحركة الحداثة فكان يقدم التيارات الفنية من جهة ويبحث عن أصولها ومفرداتها في الفنون الملهمة من جهة أخرى. فكان على نقاد الفن آنذاك ترميم وتجميل وعصرنة فهم كل المؤشرات الحضارية الغريبة عنها مكانياً وزمانياً بغية فهم منطق التوليف الفني الحاصل في التيارات الحديثة الأوروبية والحضارات الأفريقية والأسيوية واللاتين–أمريكية، التي بدأت تدخل نتاجاتها تاريخ الفن المعاصر، وقد لاقى هذا التوليف صدى مقبولا عند الذوق العام"(ص 38 ).

وبتطور مفاهيم الفن في القرن العشرين وتعدد الاتجاهات الفكرية والفلسفية التي تقود الفنانين في إبداعاتهم، لم يتوصل فلاسفة الفن والنقد وعلم الجمال إلى مفهوم موحد وواضح للفن، الأمر الذي يجعل من النقد الفني عملية رد فعل مدروس من قبل الناقد تجاه الإنتاج الفني. ويعتبر رد فعل الناقد محاولة للتقييم والحديث بطريقة علمية عن الانطباعات التي يعكسها العمل الفني. وأصبحت مهمة الناقد هي أن يقوم بتفحص هذه الأعمال ليقدمها إلى الآخرين بصورة منطوقة أو مكتوبة تساعد المتلقي على إدراك الخصائص الفنية، والأبعاد الفكرية، والمضامين المختلفة، في هذه الأعمال.

ولقد تعددت التيارات في الفن والنقد الفني خلال القرن العشرين فقد ورث الفن المعاصر كل القيم في الفنون السابقة. وكان الفنانون يضيفون الجديد كل يوم، وكان النقد غير قادر على الإمساك بزمام الخارطة الفنية التي كانت تتوسع مما أثر على الذوق العام. وقد تمخضت محاولات الفنانين في القرن العشرين عن اتجاهات فنية لا حصر لها وكان من بينها: التكعيبية بمراحلها المختلفة وما رافقها من تيارات، الصفائية، التصوير الماورائي، الدادائية، التعبيرية الألمانية، المستقبلية، الطليعية الروسية، البنائية، السيريالية، التجريدية التعبيرية، فن الخداع البصري، الفن الجماهيري، فن الأرض، فن الإيماء، والمفاهيميـة. وغيرهـا من المـدارس الفنيـة التي كانت سريعـة الوميض والانطفـاء (البيطار 1997، ص40).

هذه المحاولات تمخضت عن مرحلة ما بعد الحداثة في الفن والتي كانت تقوم على تحطيم القواعد وكسر الأصول والبحث عن الفردية والتميز بين الفنانين، كل هذه الأمور كانت تحتاج إلى طاقة نقدية ونظرية قائمة على العلم والإعلام معاً لتحاول التأثير على الذوق العام. تطلب ذلك نقداً فنياً يعتمد على محتوى الفن ومضمونه في سياق معين هدفه هو صقل ذوق الجمهور لتعريفه على أصول الفن ومتانته ورصانته وإمكانية ربطه بالعلوم والتاريخ وحضارة الانسان المعاصر.

النقد الفني المعاصر في العالم العربي وفي المملكة:
لقد كان لدخول الاستعمار إلى البلدان العربية في بلدان مثل مصر وسوريا ولبنان وبلدان المغرب العربي أثره في أن سادت الاتجاهات الفنية الحديثة على فنون العالم العربي. إلا أن الفنانين العرب كانو يحاولون المزج بين القيم الحديثة وبين القيم التراثية التي يفضلها الذوق العربي العام. ولقد تبنى الفنانون العرب معظم المدارس الفنية الغربية، ثم ظهرت اتجاهات جديدة على أيدي البعض منهم مثل الحروفية والتراثية الشعبية، ولكن النقد الفني العربي لم يكن مواكباً لتلك المحاولات التجريبية في الفنون العربية مما سبب ازدواجية في الذوق العام العربي والحيرة وعدم الفهم في بداية الأمر. وكان المجتمع العربي يستقبل تلك التيارات الفنية الغربية لكونها مرادفة لمفهوم التقدم والتطور الحضاري والتكنولجي. وفي فترة لاحقة تمكن النقد العربي من مواكبة هذه الحركات التشكيلية واللحــاق بركب التطــور الفني العــربي. (البيطار، 1997، ص39).

يقــول بسيــوني(1986): "يعاني النقد في البلاد العربية أزمة حادة، حيث أنه لم يرتق بعد ليصبح مهنة لها روادها ومفكروها وأصحاب الرأي فيها، والنقد يقتضي التعبير عن وجهة النظر بالكتابة، والفنانون المشغولون بالأداء في شتى الفروع ليس عندهم من الوقت ما يسمح بكتابة آرائهم وأفكارهم عن انتاجهم وانتاج غيرهم، ولذلك نجدهم قد تركوا هذا الميدان لبعض الذين يعملون في الصحف، فأصبح ما يكتب في الميدان من باب المجاملة أحياناً، ومن باب التسجيل أحياناً أخرى، لكن قل أن نجد الرأي الذي يقـوِّم ويقـول: هـذا اتجـاه أفضـل من ذاك، وأسبـاب التفضيل وعدم التفضيل". (ص68).

يذكر إبراهيم (2000م) في مقال منشور في صحيفة الأهرام أن النقاد العرب كانوا أمام خيارين، الأول " أن يبدأوا من التراث العربي الذي يحمل من الإمكانات ما يمكنهم أن ينطلقوا منها لتأسيس حداثة ذات جذور"، لكن هذا الخيار كان صعباً لما يتطلبه من جهد وعمل وصبر وضبط هو في الواقع مفقود. وكان أن اتجهوا إلى الخيار الثاني وهو الذي " يثير البريق، ويغري أجهزة الإعلام، ويحتل صاحبه مكانة خاصة... فنقلوا الإطار الغربي دون أن يعوا ملابساته التاريخية، وفلسفته الحضارية ". ولقد كان الإطار الغربي نابع من البيئة الغربية ولا ينطبق على الفنون العربية إلا فيما ندر، مما دفع الفنون إلى التقليد والتأثر بكل ما هو غربي.

لقد كانت مصر هي متزعمة حركة الفنون في العالم العربي، وصاحبة الأثر الأكبر فيها، بالإضافة إلى بعض الدول العربية الأخرى في الشام والمغرب. وكان من أبرز الكتاب العرب في مصر الذين أثروا بكتاباتهم في الفن والنقد الفني:

المفكر زكي نجيب محمود (1960) (عند عطية 1996) الذي كتب في مجال قضايا النقد المعاصرة. وقسم الاتجاهات النقدية إلى ثلاثة اتجاهات: "الأول: ينتقل من العناصر المحسوسة في العمل الفني إلى العناصر النفسية الكامنة في نفس الفنان، والثاني: يبحث عن شيء خارج العمل الفني وخارج ذات الفنان (السياق)، الثالث: ينصب على العمل الفني ذاته ليرى كيف تتألف عناصره." ويعتبر زكي نجيب أن الاتجاه الثالث هو الاتجاه الحق الذي يجب أن يتبعه النقاد. وقد أطلق على هذا الاتجاه اسم "الاتجاه الجديد"(ص194).

المفكر إبراهيم عبدالقادر المازني (1948) (عند عطية 1996) الذي كتب عن قضايا تتعلق بالتصوير والنحت، محاولاً وضع أسسٍ لتقييمه من خلال فلسفة الجمال. فقدم في كتابه حصاد الهشيم [1969] رؤية خاصة حول "مفهومه عن الدور الحقيقي للفن، فهو في رأيه يتعدى حدود التسجيل، بغية تحقيق الأغراض الجمالية." وكان أسلوب المازني في النقد يتسم بالسهولة والوضوح في التعبير. ويطلب من الفنان "أن لا يجعل القواعد تتعدى وظيفتها في الأداء، ففي رأيه أن القواعد في الفن لا تجعل من المرء مصوراً أو مثالاً.. وانما على الفنان أن يبرز صفـة الشيء ومميـزاته، بل وينفـذ إلى روحـه فيظهـر فيـه عناصـر الجمال والتأليف". (ص204).

الأديب عباس محمود العقاد (1950) (عند عطية 1996) الذي كان هدفه إعلاء قيمة النشاط الفني، "وأن يرفعه إلى مستوى الإنشاء والخلق، حيث أنه يمثل قيمة الوجدان الإنساني." وقد دافع العقاد عن دور الفن في المجتمع، ودعا إلى توثيق الصلة بينهما، كما دعى إلى حرية الفنان وحرية الفنون الجميلة. ويرى العقاد أن معيار الجمال في الحياة يتحقق في "تلاؤم العضو مع وظيفته. فهو يقول: "انه كلما كانت وظائف الحياة ظاهرة غير معاقة في حركتها، كانت الأعضاء صحيحة حسنة الأداء، وكان عمل الحياة بها سهلاً، وحريتها فيها أكمل. وكلما كان العضو مسهلا لعمل الحياة، كان مؤدياً لغرضه ومضوعاً في موضعه... وهو العضو الجميل". (ص211).

الأديب محمد حسين هيكل (1927) (عند عطية 1996) الذي أيد دعوة الاستلهام من التراث (خصوصا التراث الفرعوني المصري القديم) في الفن الحديث وقد كتب في عام 1927 يرد على معارضي هذا الاتجاه يقول: "وإذا كان بين مظاهر عيشنا ومظاهر عيش الأقدمين خلاف.. فإن روحنا وروح الأقدمين متقاربتان بل متفقتان في الانقباض والانبساط والحسرة والألم. والمظاهر التصويرية لهذه المشاعر أكبر دليل على هذا"، وقد أكد على أهمية بعث الجديد من خلال الصورة القديمة. (ص216).

وهناك عدد آخر من المفكرين والكتاب والنقاد والفنانين الذين كانت لكتاباتهم أثر في الحركة الفنية العربية والنقد الفني العربي، إلا أن هذا البحث ليس مجالاً كافياً لحصرهم جميعاً. فلقد كان لهؤلاء الكتاب والمفكرين من خلال أقلامهم دور كبير التأثير على الذوق العام العربي، رغم التأثير الغربي على الفكر والثقافة والفنون.