"هذا المقال هو انعكاس لمواقفي الفنية من الفن التشكيلي"
إن القدرة الابداعية في الفنون التشكيلية يأتي من خلال الخبره، والخبرة الفنية تأتي عبر التواصل المستمر في إنجاز الأعمال التي تنطلق من الفكر إلى الشكل، وهذه الخبرة هي التي تقوم مفهوم الجمال عند الفنان بقنواتها الإبداعية وصيغها التشكيلية، كل وفق أفكاره وتقنياته المنطلقة من المادة إلى الحقل الافتراضي والتأويلي للصورة المرئية، ويعود هذا التنوع إلى تمازج العفوي بين ما هو متخيل وبين ما هو واقعي ليتم إخراج الفن من الزمان المحدود للفعل التشكيلي إلى المكانية عبر الصورة المرئية ليكون الاندماج فيما بينهم وبصيغة الهامونيكية الذي يبني فيه قيمة الجمال بين المظهر ورمزيتها الدلالية وأبعادها الفكرية والفلسفية. فالرموز في الفن التشكيلي يتسم بكونه متغيراً حسب رؤية الفنان وحسب البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها الفنان وثقافته، فهو ينمي قدراته وتصوراته بفضل فعل الإرادة والرغبة لعملية الابداع والتجاوز التقليد والمحاكات، بكون الفن التشكيلي بالاساس قائم على الرموز فعنصر التشكيلي المكون للتركيب البنائي للعمل الفني هو قائم بفعل (الرمز)، سواء كان نقطة، أم خطاً، أم شكلاً، أم لوناً، فلا يمكن أن ندخل في أية قراءة تحليلية لفن التشكيلي دون معرفة أبعاد هذه اللغة الرمزية، والعلاقة القائمة بين الدال والمدلول، فهذه المنظومة من الرموز تتجلى بفك مدلولاتها كبوابة لفهم العمل ليتسنى لنا معرفة التنوع القائم في مكونات العمل الفني، وفي وحداتها وماهياتها الأساسية. كما نجد بأن هذه العلامات أو الرموز التشكيلية مرتبطة اصطلاحياً بالأشياء التي تحددها، والتي تنتمي إلى نموذج اللغة التشكيلية المتكونة من أشكال الاتية عبر خطوط ودرجة انحنائاتها، وتمايلها، واللون، وضربات الفرشات، لأن من هذه التكوينات نستخرج منها الدلالة التشكيلية في بعدها النفسي، وعلينا أن نفهم بأنه لا يمكن أن يخرج عمل فني دون دوافع نفسية للفنان، لأن كل شيء يحدث في النفس، لأن دافع للعمل يأتي بوجود (مثير) يربط بمثير آخر يوحي بصورته الذهنية. أي أن هنالك جدلية قائمة بين المادة المحسوسة وبين دوافع نفسية ترتبط صورتها بالقيمة المعنوية في إدراكنا بصورة المثير، ومنها يفهم العمل الفني عبر الإيحاء الذي يهيء لذواتنا صورة الترابط بين الشكل والموضوع لادراك العمل ومن ثم الحكم عليه. ولا شك بأن حكمنا للعمل الفني هو الآخر ينبع من خلال البيئة ليس فحسب الأمر متعقاً ببيئة الفنان، بل ببيئة ذواتنا كمتلقين للعمل، لان (الرمز) في هذه البيئة قد يتغير مدلوله في البيئة أخرى وهنا يصبح التنظير مرئياً زاخراً بالرموز التشكيلية المتحد بالفعل الإبداعي النابع من تأثيره على الفنان أو ذواتنا وعبر المعايشة اليومية. فالرمز في كل الأعمال الفنية هو مقوم من مقومات التواصل الذي يربط وجود طرفين، طرف (باث) وطرف (متقبل)، فهذه هي رسالة التواصل والتي هي بمثابة رموز وعلامات وأيقونات اتصال لغويه، حيث ينشأ معاني قائمة عن توافق بين الباث والمتقبل. فالإشكالية المطروحة هنا هي مدى قبول (اللغة) في التعبير التشكيلي. ونحن نعي بأن التعبير التشكيلي يعتمد على التعبير صامت، إلا أنه يمكن اعتبار اللوحة التشكيلية نصاً إبداعياً لأننا نستطيع وصف عناصرها من رموز وخطوط وحركات واللوان نسقاً لغوياً مفتوحاً نقرأ محتواه من خلال هذا التعبير، الذي يرتكز على ضوابط دقيقة شأنه شأن أي إبداع أدبي، شعراً كان أو مقالاً أو قصة، لأن اللوحة في هذا المضمار ما هي إلا عبارة عن اللوان والرموز، التي هي معاني اللوحة، والتي لا يمكن التنبؤ مسبقاً بتوالدها الدلالي والانسياقي دون اعتماد على هذا الجدل، أو الانسياق، وبتعدد الانسياق يتعدد التأويل، ومن هنا تطرح إشكالية قراءة العمل التشكيلي كإشكالية قراءة القصيدة أو أي نص أدبي آخر؛ وداخل هذه الإشكالية يمكن إبراز الدلالات الرمزية وهو ما يتطلب إقامة روابط بين الرموز والألوان والظواهر، على نحو قادر على دراسة البنى التشكيلية، بغض النظر عما تخفيه هذه الظواهر من حقائق، وما ينجع ذلك هو أن قراءة العمل التشكيلي يأتي عبر التخاطب التلقائي بين بنيته وذواتنا؛ فكل مرحلة من هذه المراحل هنالك متوالي معين، كتوالي العددي في الرياضيات، ليتم الوصول إلى التحليل الذي يشكل نسقاً مفهومياً لدينا، إنها مسألة تندرج ضمن ما يعرف بـ«تشذيب»، فعملية التأليف والتركيب في صيغة العمل الفني تمر بمراحل من تصحيح وشطب وتغير، لحين أن تستقر الصورة بما ينسجم مع مخيلة الفنان أو حين يدرك بأن هذه الصيغة هي مراد منها، وهذه التدرجات وتغير المكونات هي المعادلات التعبيرية في لغة اللوحة التشكيلية، وهذا العمل الذي يقوم به الفنان وكما سميناه (بعملية التشذيب) هو ذاته في عملية التحليل في ذواتنا، وكمتلقين للعمل الفني التشكيلي فهو يقوم بتفكيك البنى التشكيلية في اللوحة، ثم القيام بقراءة كل رمز أو لون أو خط على حدة ليقوم بدراسة كل الجوانب الإبداعية وبطريقة مهارية الفنان من التلوين، والمعالجة اللونية، مستوى الرسم، التوليف داخل الفضاء، الأبعاد والنسب التعبيرية، والخطوط وتوازن الكتل، وتناغم البنى والأحجام، والتركيب داخل مساحة اللوحة، والتقنيات والصيغ التعبيرية الأخرى، وهذا الفعل هو بمثابة البحث عن ما وراء هذا النهج، وهو لا يتم اعتباطياً ولا يمكن أن نمارسه هكذا بأول وهلة، وإنما من يمارسه هو متذوق وصاحب اختصاص وناقد على ثقافة تشكيلية. ومن هنا فان العمل الفني يمكن وصفه بكونه إبداعاً مرئياً وملموساً نتذوق فيه البنى التعبيرية التي تشكله من خلال ما قام به المبدع من ترك آثاره وبصماته المادية التي تشهد على مواقفه وانفعالاته وأفكاره، ولكي نفهم كل هذه الجوانب ونغوص في أعماق اللوحة لابد أن تكون لدينا خبرة في لغة تشكيلية متخصصة ممتلئة بمفردات القراءة الضرورية للوحة المتمثلة، كما قلنا، بالخطوط واللون والرموز وكل ظواهر والتعرف إليها من داخل المنجز التشكيلي وتحليل العلاقات المرئية التي تنظمها وتربطها بمفهوم المعاني والدلالات على اعتبار أن المنجز التشكيلي رؤية جمالية أو مشروع فني مفتوح قابل لعدة القراءات والتأويلات. ومن هنا يتمحور مفهوم إدراك العمل الفي التشكيلي بين مقومات ثلاثية العمل الإبداعي، والمبدع، وذواتنا بكون أية قراءة للعمل التشكيلي لا بد لها من الدخول في نسج علاقة قرائية مع القيم الإبداعية و استنتاج العلائق والأنساق التعبيرية التي تنظم العمل وحينما تاتي ذواتنا وتحاول تفكيك البناء الدلالي للعمل التشكيلي بغية إبراز المعنى الضمني واستجلاء الرموز الضامرة والموجودة خلف العناصر والمفردات الجمالية الظاهرة، لكي يتم تذوق العمل فنحكم عليها (بالرائع أو المدهش) كون الفنان أعطى لأفكاره صور متناسقة قادرة للوصول إلى ذهننا بسلاسة وشفافية دون تعقيد أو أية صعوبة. ومن هنا نقول بأن تذوق الذات للعمل الفني التشكيلي لا يقل من مهمة الفنان في تكوين العمل بكون مهمة ذواتنا كمتلقيين، أو نقاد تكمن في تحليل مكونات المنجز التشكيلي والكشف عن دلالاته والنفاذ إلى معانيه، فالوحة تتطلب أسلوباً منهجياً وقراءة متمعنة تطرح في سياقهما مواصفات المعنى، مادامت اللوحة تشتمل من حيث البنية الدلالية على مجموعة من المعاني لرموز، وظواهر غير لفظية تؤلف مجمل اللوحة في نسقها الجمالي. وعليه مهمتنا أن ندرك كيف يمكن قراءة العمل التشكيلي قراءة معمقة، ونمسك بأدوات المعرفة من ثقافة وفلسفة لكي نستطيع تحويل المنجز في العمل التشكيلي من نص شكلي ظواهري إلى نص آخر بنسق لغوي مفهوم، ولتحقيق هذا المبتغى لا بد لنا كمتذوقين للفن التشكيلي الاستناد إلى منهج تحليلي ناجع يأخذ بعين الاعتبار طبيعة وبنية العمل الإبداعي وإشعاعاته الثقافية والفنية والتاريخية. في هذا السياق فحسب تبرز أهميته في الكشف عن الدلالات والظواهر من خطوط، وأشكال، ورموز، وألوان، وخطوط، وتراكيب أخرى، من حيث التعبير والمدلولات وانسجام بين الشكل والمضمون كمستويين متناسقين، يشكل رسالة تكاملية وقيمة جمالية للوحة التي لا تفهم خارج هذا السياق المتلازم بين الشكل والمضمون. فالمعايير التذوق والحكم الجمالي تكمن في فهم الأشكال الفنية في العمل الإبداعي من الألوان، والرموز، والخطوط، وعبر إدراك التناغم بين الخطوط والأشكال والكتل مع ما يراد منها التعبير كموضوع إنساني يعالجها العمل الفني كمساهمة في إثارة القضايا والمواقف والأبعاد الإنسانية في المجتمع باللغة التشكيلية يتم رصدها وفهمها بالإحساس والبصر والترابط اللاشعوري، ترابط الأفكار وتمازجها لتكوين أفكار جديدة يطرح الموضع بشكل فني فلو تأملنا لوحة (جورنيكا) للفنان بيكاسو على سبيل المثال وليس الحصر، لأن في الفن التشكيلي العالمي نماذج لا تعد ولا تحصى تسير وفق هذا الانسياق، نجد أن مقومات موضوع الحرب الاهلية التي طرحها بيكاسوا وفق أشكال ورموز عبرت عن موضوع اجتماعي بمقومات الفن الخاصة، فاتت نتائجها باهرة للمتلقي لتظل هذه اللوحة خالدة في الذاكرة الفنية. ومعنى هذا الكلام، أن العمل الفني الجيد يمارس وجوده وسلطته على المشاهد مهما كان وضعه ولأن –العمل الفني– جيد، فلكونه يمتاز بامتلاكه قدرات جمالية تتمثل في المكونات البصرية والتعبيرية والرمزية التي تشكله في اللوحة. ضمن هذا البعد، يتحرك الفنان لخلق العمل فني فعبر الخيال والعاطفة والإدراك الحسي وإلى المشاعر النفسية والحسية، فإن عمل الفن يعبر على طبيعة هذه المشاعر التي تقود الفنان عبر تقنيات الفن التشكليي في إفراغ هذه الشحنات الوجدانية بفاعلية أشكال الصور والضوء والحركات من خط ولون وكتلة وفضاء، وما ينشأ عن كل ذلك من علاقات مركبة، تناغمية وإيقاعية وانسجامية، ثم ما يحدث من جدل بين العمل الفني ذاته والفنان حيث يتفاعل ذلك مع المنظومة القيمية والنفسية والفكرية لديه، من رفض أو قبوله ليتم إخراج العمل بعد استقراءالعمل عبر الحواس فالمدركات ثم الفكر، وصولاً إلى المشاركة الوجدانية سلباً أو إيجاباً، وانتهاء بموقف واع من مجمل العمل المطروح وفق قياسات فنية يلتمس فيه قيمته الجمالية واكتشاف سمات الإبداع والنذوق. فالعمل التشكيلي بهذه الطريقة يعد عملاً فنياً ابداعياً لأنه ليس وسيلة يعبّر بها الفنان عن نفسه فحسب، بل هو وسيلة تستثير وتستنير وتوجه فيناً نوعاً من الخبرة الجمالية، بما تتوجه إلى أحاسيسنا ومشاعرنا وعبر الخيال والعاطفة. وبما أن الفن يوجه إلى الإدراك الحسي فأنه يخلق إحساساً يستجيب للأنواع المختلفة من التجربة التي تنشأ من السياقات العمل اللوحة التي هي بمثابة أفكار ومعاني يمكن استخراجها عن طريق تأمل العمل الفني، ولا سيما إذا كان تشخيصياً تداخلياً في هذا الجانب وبما يتركه العمل من الانطباعية والقراءات الشاعرية والوجدانية ومن الأنساق البصرية التي يكون الجمال فيها مقياساً أولياً قبل بحثنا في قيمة المحتوى الذي يكون العمل الفني، محاولة للوصول إلى الكمال الذي ينطوي عليه العمل، وهذا المنحنى هو الذي يأخذ ذواتنا بعد أن تقوم بالإسقاطات التي نلجئ إليها لا سيما عندما نلتمس نوعاً من التقارب والتداخل بين موضوع اللوحة وبين واقعنا الاجتماعي والذاتي، وهذا النوع من الإبداع نستجيب بالعمل الفني بكونه يحرك شعورنا بشكل مباشر في الكثير من الأحيان، كما هو الحال عند الفنان المنتج للعمل الذي يبادر منذ اللحظة الأولى بشروعة بالعمل من تركيب الرموز والمفردات التعبيرية ووضعها في سياق تعبيري مدعوم بمفاهيم ومصطلحات تقبل الذاتية والتأويل، ويندرج في هذا المستوى العلاقة بين الألوان والأبعاد ودراسة المنظور ونسب الظل والضوء والعمق والفضاء وغير ذلك من تقنيات العمل كما أسلفنا سابقاً، ويتم التعامل معها باعتبارها أجزاء من جسد العمل الفني (اللوحة)، هذا الشيء المسمى باللوحة، فاللوحة هي (الكل). ولذلك يجب أن ترتبط الأجزاء الداخلية بهذا (الكل)، وهذا يعطي أهمية كبرى لمساحة اللوحة وشكلها. فعملية الإدراك الجمالي في اللوحة، تمرّ من الحس، إلى الحدس، فالشعور، لتحقق نتيجة معرفية خاصة ضمن منظومة العمل الإبداعي، ولا يمكن الاستعاضة عن أية واحدة من هذه المقومات على حساب الأخرى لأن عملية الإدراك الجمالي تقوم وفق عملية تحليل وفهم العمل الإبداعي وربطه بدلالات ورموز عن طريق إثراء للذات تدفع إلى انبثاقها نحو المطلق، والخروج من مرحلة التأزم الذاتي التي مرّ بها الفنان عبر تأمله للوحة، وهذا التامل هو الذي يجعلنا نقفز به من المكان والزمان إلى حيث اللامحدود أو المطلق، باعتباره عتبة أساسية للفهم والعبور نحو عوالم المنجز الفني التشكيلي في داخل العمل اللوحة. وهي التي تقودنا في تحريك الشعور وإحساسنا بالمتعة وتذوقها بما تجلبه لنا من متعة المشاهدة ومتعة الفهم، والمتعة الجمالية، فهذه (المتعة الجمالية) هي متعة لا موضوع لها، إنها تنشأ من خلال تلك الوحدة الخاصة بين ذات المتأمل والعمل الفني. وهذه المتعة الفنية ليست متعة من أجل موضوع معين خارج العمل الفني، بل هي متعة موجودة داخل العمل الفني (اللوحة). هذه المتعة، هي التي ترسم حدود المسافة بيننا وبين العمل التشكيلي باعتباره موضوعا تستجيب له ذواتنا، عبر الاستمتاع والتأمل، فهي في جوهرها علاقة موقفية تعتمد على طبيعة التفاعل بيننا وبين العمل الفني في موقف معين، وهذه خاصية لا تعمل ضد الفن بل تعمل معه، وكلما كان العمل الفني قادراً على النشاط والتأثير في مواقف متعددة تعددت تفسيراته وتأويلاته ومستوياته. وضمن هذه(الحبكة) يبنى التفاعل بين ذواتنا و العمل الفني فنعجب بها وبما تثير فينا من الشعور بالجمال. إنها بداية التذوق والاستمتاع بلحظات شاعرية مليئة بالسمو الوجداني، فداخل هذه التجربة والتذوق الذاتي والجماعي، نفهم و ندراك أحاسيس جمالية لم نخبرها من قبل، ونتوصل إلى نتائج مهمة تمثل حصيلة طبيعية لنمو ثقافته وشحذ إدراكه الفني، واستيعاب المعاني البنيوية لعمل التشكيلي باعتبار أن فهم الأعمال الفنية، هي إدراك للحظة التي نحن نتأمل العمل أو نكون بصدد العمل. ومن هنا فإن الفن لا يمكن تذوقه والإحساس بقيمته والمتعة الجمالية ما لم تتولد عنه تأثيرات حقيقية وحسية ووجدانية وإيحائية وانطباعية ونفسية وواقعية، ومع ذلك تبقى العلاقة بين ما هو في ذواتنا والعمل الفني علاقة غير متكافئة أو متوازنة بسبب تباين قدرات الثقافية بيننا وبين الآخر، ومع هذا التباين في المحصلة الأخيرة تأتي بالراحة والقبول والتطهير بالقيم الأخلاقية وغريزية بهذه الدرجة أو تلك والتي تحقق للعمل الفني نجاحه.