يصور القاص العراقي الشاب حياة طفل عراقي مسحوق يبيع الماء وسط بغداد في ساحة تجمع التظاهرات ضد السلطة حيث تشتد الحرارة في الصيف مركزاً على محنة حياة الطفل اليومية وكاشفاً عن سفالة الشارع والتحرش الجنسي بالأطفال الكادحين وحتى من قبل بعض المتظاهرين، ومشاعر الطفل وردود فعله إزاء كل هذا الوضع اللا إنساني.

برررررد

غـياث منهـل

الملامح الباهتة لفقره لم تكد تخفي جمال محياه الأسمر المختلط ببراءة تشوهها سوقيته الفجة التي يحتمها باب الشرقي أو "الشرجي" كما يسميه البغداديون. من يوجد في تلك المحلة يعرف ماذا يعنيه هذا المكان. في مثل عمره، عليه ان يتسم بفطنة وجدية ليعيش بين وحوش المكان، عليه ان يكون "اكبر من عمره"، "لازم يوعى لزمانه من صغر"، كما كان يردد ابيه دائما، عليه ان يصبح رجلا، حتى يعيش.
نحول جسمه وملامح وجهه الجميلة رغم غطاء الفقر كانت دائما سببا لانجراره للمشاكل والتحرش، حتى من أصدقاء والده ومن يعمل معهم عندما كان يرسله لقضاء بعض صغار الاعمال لهم او توصيل حاجة ما. جعله هذا مستعدا دائما للأسوأ، وغير مبال بالكثير مما يحدث له.
اليوم كان له واجب أخر غير كل مرة. باب الشرقي مكتظة مساءا كما في كل جمعة، هذي الجمعة الثانية (أو الثالثة)، لا يهمه، المهم ان الناس كلها متجمعة هناك والوالد لن يضيع الفرصة ليحصل "كم فلس". الناس بين نار غضبها الأكبر من أن يفهمه من هو في مثل عمره وبين حرارة أواخر نهارات الصيف. والعطشى لا يطفئ نارهم غير باعة الماء وعرق السوس الذين اختلطوا –فرادى بالمتظاهرين. ينطلقون من نقاط لهم في الشوارع المتفرعة من ساحة التحرير، حيث يحتفظون بصناديق الماء وقوالب الثلج المغطاة ببطانيات مبلله. مجاميع من الأطفال بملابسهم المتسخة والمبللة يتراكضون بين تلك الأماكن وبين ساحة التحرير حيث قلب التظاهرة. سباق مع الزمن قبل أن تحل السابعة، سباق على من يبيع أكثر، سباق على من يشاهد سيقان وأرداف فتيات أكثر بين المتظاهرات القليلات هنا وهناك.
مهمته كانت ببساطة أن يبيع قناني الماء في التظاهرة، كان يجيد بجسمه النحيل ان يقحم نفسه في اشد الأماكن اكتظاظا بالأجساد، لا ليبيع فقط، ولكن ليروي فضوله لما يجري.
احد المتظاهرين- يمازحه- سرق علبة ماء، أخفاها خلف ظهره، اندلق الماء الذي يبرد به علب المياه المعبئة من الدلو الذي يحمله. تبللت ملابسه. آخرين يتهكمون عليه بذات الأسلوب، طفل اخر، اكبر منه قليلا- يبيع الماء هو الأخر- يسخر منه مشاكسا "ها لك نصبوا عليك لو سوولك غير شي؟"، يكتفي بإخراج كومة الأرباع الورقية من جيبه ليريها له ثم يعيدها سريعا ويعيد ترتيب العلب في سطل الماء. يبتعد الى زاوية أخرى، حيث توجد مجموعة متظاهرين اطمئن لهم، المهم ان يبتعد عن هذا. شاهد بنات شابات ونساء، توجه هناك، وراح يحدق بالوجوه والأجساد المتعرقة وهي تتصايح وتهتف، تزاحم الأجساد واحتكاكها، حرارة المشاعر من جهة وحرارة الرصيف اللاهب، أصوات تتعالى وتخفت، أصوات تبدأ بخجل بارد، تتعالى مع انضمام الجوقة لها، ومع التحول لشعار وهتاف أخر، يبرد الحماس تدريجيا ليتلاشى بخجل أخر بين أصوات فرادى تصمت قليلا لتتلقف الهتاف الجديد بخجل بداية وبتصاعد أخر، يتحرش به احدهم بطريقة فجة، يضحك اثنين من أصدقاء هذا وهم يحيطون به، يتلاقفون علب المياه منه، " تبيع مي بس لو غير شي؟"، "يروحلك فدوة ال...". يتضايق جدا وقبل أن يبكي بلحظة واحدة يعطوه ألف دينار ثمن الماء. يمسح يديه بملابسه المهترئة حيث تختلط خطوط تعرقه وطبقات الماء الناشف راسمة خرائط باهته ومناطق عازلة بين طبقات الماء المندلقة على القماش المتسخ في فترات متباينة. يمسك الورقة النقدية يفركها بين أصابعه ليتأكد. وبين تلعثمه بكلمات النقمة وفرحته بانتهاء فاصل المزحة الثقيلة، يخرج "ربع" مهترئ، باقي المبلغ، ليعطيه لهم. يمسح على رأسه شخص أخر، يدفعهم عنه رجل كبير:
- شجابك وي ذولة عمي، روح منا..
- عمو على باب الله غير.
- دروح منا هسه وكتك
- مي بارد بربع، بررررررد
شخص اخر يبدو من جماعة هذا الرجل الكبير، بحركة اغرائية، يعطيه ورقة نقدية: "تعال عمو، هذي خمسة ألاف بس تلزم هذي الكارتونه.. حتى أصورك"
يصفن، يحك اذنه.. ثم يجيبه: "بس؟.. أكيد مرايد غير شي؟"
- لك أني بكد أبوك!
–لنفسه-: "كلكم هيج تكولون خوات ال..."
- هسه شنو تشيلها حتى أخذلك صورة لو أصيح لذاك الولد؟ يا ولد!
- يلله، بس جيب الخمسة." وحاول ببلاهة ان يبتسم للصورة وهو يحمل اللافتة.
- "هاي شدتسوي؟ منو كللك تضحك؟ المفروض أنت ضايج. أنت تعرف أش مكتوب هنا؟"
-"أني شعليه"
تجمع عليه شباب وفتيات وناس مختلفي الأعمار يصورونه ولوحته، احتدم نقاش بينهم: "هذا استغلال.. أنت منو سمحلك؟ .. هو أش يعرف أصلا..؟ "
-"أنت يا هو مالتك؟"..
بعد قليل، نهره احدهم وهاجمه أخر: "هاي أش شايل ابن الكلب؟ هذا منو قشمرك؟"
بحركة سريعة أعاد اللافتة لصاحبها، تلمس جيبه ليتأكد من نقوده. حمل السطل وانسحب بعيدا
شق طريقه وسط حشد من الشباب، كان صاحبه بائع الماء الأخر يتبعه عن قرب. بين الحشود أحس بيد تمتد إلى مؤخرته، ثارت ثائرته، سقط السطل من يده وهو يحاول الإمساك باليد، وهو يلتفت ليضرب صاحبها، أراد أن يمسك به متلبسا. مع استدارته، اكتشف انه أصبح محط أطماع شباب آخرين بعد مشاهدتهم لما فعله صاحبه، حاول أن يتجاوز غضبه ويتصرف بحنكة الموقف وما يتطلبه آنيا، سيعود فيما بعد لهذا "الكلب ابن الكلب." الآن عليه أن يركز بالشغل. بدأ ضوء النهار ينحسر من الساحة بحدود الساعة السابعة، وصندوق الماء المخصص له لم ينفذ بأكمله، بعد قليل ستنتهي التظاهرة ويتفرق الناس. عندها يا ويله من أبيه وغضبه. عاد بسرعة إلى سطل الماء الذي أسقطته وما فيه أقدام المتدافعين بلا اتجاه. تمكن بصعوبة من تجميع ما تبقى من قناني، عاد إلى زاوية الشارع ووضع علب المياه من الصندوق في السطل، مع كسارة من قوالب الثلج. هو مطمئن لان المبلغ المطلوب جمعه كان لديه، لكن المشكلة انه يريد تصريف ما تبقى من علب الماء حتى يبرر كيف حصل عليه بهذه السرعة. في طريق عودته إلى قلب التظاهرة يعجبه منظر شرطة مكافحة الشغب المنتشرون بنسق مميز وقيافة مبهرة مع عصيهم الغليظة ومصداتهم الزجاجية وخوذهم اللماعة. شعر انه سيكون أكثر أمنا هناك، التزاحم هنا مربك، لا يعرف إلى أي جدار عليه أن يستند، أو أي اتجاه يسلكه ليجد المزيد ممن يشترون ماءه. هناك الامور أوضح، خطوط واضحة، فاصل من المنظمين الذين يمنعون التصادم مع الشرطة، ثم حاجز أسلاك شائكة صغير ومن ثم صفوف الجنود المنظمة. يقترب منهم عارضا بضاعته بسذاجة وحذر. ينهره ضابط كبير يقف وسطهم في الخط الثاني، يتعثر بصخرة ويبتعد خائفا. يركض تجاه المتظاهرين ليستكشف ضجة ما أخذت تجتاحهم.. فورات الحماس اخذ يعتاد عليها، يتكتلون لمشاهدة انفجار أحد الشباب بكاءً وهتافا اخذ منهم الحماس مأخذه حتى اختلط كلامهم وهتافهم بالبكاء. بدهشة وتعجب كبير اخذ يركز على ما يجري هناك. شاب اخذ يضرب نفسه ويبكي، جماعته يحاولون تهدئته، بعد موجه عابرة من الالتفاف والتعاطف ومحاولات تهدئته، انطلق المتظاهرون من هذه الدائرة الصغيرة إلى دوائر وهتافات أخرى. ابتعد الجميع تقريبا إلى أماكن أخرى حيث أخذت أصوات وخطابات ختامية أخرى تعلو، اعترض البعض على إنهاء التظاهرة اختلط هؤلاء ببعضهم في تكتلات غير مفهومة وأنساق لا معنى لها، تناقشوا بعصبية، تدافعوا ببعضهم وتعالت أصواتهم. فكر بالانتقال إلى الدوائر الأخرى وتجمعات اكبر. نظر من حوله، شاهد الشاب الذي مزق قميصه قبل قليل وعليه أثار الإعياء والإنهاك. اقترب منه وأعطاه بطل ماء. شكره الأخير، غسل رأسه ووجهه، شرب قليلا، وبينما اخذ يبحث في جيوبه عما يعطيه لبائع الماء، تلاشى الأخير بين الحشود المتفرقة وعلى وجهه ابتسامته السمراء الباهتة.
على الجزرة الوسطية لساحة التحرير التي أخذت تتضح معالمها مع بداية تفرق المتظاهرين، افرغ سطل الماء وما تبقى من قناني، ثم عاد من هناك إلى مدخل شارع السعدون.

 

* من مواليد الديوانية 1984

كاتب وأكاديمي، حاصل على شهادة الماجستير في الادب الإنكليزي من جامعة بغداد، حاضرت في كلية القانون والآداب في جامعة الكوفة، احضر حاليا للدكتوراه في الادب المقارن والدراسات الثقافية في جامعة اركنساس في الولايات المتحدة، اكتب الشعر والقصة والترجمة، لي بعض النصوص المنشورة في الصحف العراقية ومواقع الانترنت الثقافية كالحوار المتمدن.