لم يكن يسمى الساحر فانغ بهذا الاسم و إنما كان اسمه برودينثيو غومث. كان ابن الجنيرال إغناثيو غومث و حفيدا و ابن حفيد، على التوالي، للعقيد و للرقيب الأول اللذين كانا يحملان نفس الاسم. كان عمه الجنيرال كاربايِّيدو واحدا من السبعة الذين أصيبوا برضوض في معركة الأرسنال بينما كان ابن عمه مِن ذاك الأخير يسافر منذ سنوات عبر أوروبا بحثا عن الشفاء من "الإرهاق" الذي أصيب به إثر الحملة الجبلية. سيكون من السهل أن نستنتج من هذا بأن العسكريين القدامى و المعاصرين كانوا يشكلون الفخر الوحيد بالنسبة لعائلة غومث، سيكون سهلا لكن هذا غير صحيح لأنها كانت تعتمد على عدد كاف من القساوسة كي تقوي من خيلائها.
توزعت حياة الطفل برودينثيو غومث بين الاندهاش من الاستعراضات العسكرية و ممارسة الشعائر الدينية. كان يساعد في إعداد القداس في أبرشية أحد أعمامه الآخرين، الأب غومث المعروف بوده و تحرره. كان لهذه الطقوس الدينية المبكرة أثر مهم في حياته من دون شك. كان طفلا، لم يكن يؤمن بالرموز و إنما بالوقائع. مع مرور الزمن شك في أن كل ذلك كان يشبه السحر فأراد أن يقوم بتجارب تكون مقنعة و تؤدي إلى نتيجة محسوسة. سنطيل القصة (و لا داعي لذلك) إن حكينا عدد المرات التي فشل خلالها في إخراج بيضة دجاجة من فم الأب غومث، أمام مزاح هذا الأخير الذي لم يكن ينم عن سوء نية، أو ذكَّرنا باللحظة المأساوية التي كاد يختنق فيها عندما نسي فجأةً نظام (تم التوصل إلى هذا عبر المراسلات) الخروج من أحد الصناديق مغلقا بإحكام. من الأحسن أن نصل إلى اليوم الذي أصبح يسمى فيه بفانغ بحيث بدأ في المدينة التي تشكل مسقط رأسه أمام جمهور مندهش و متحمس.
كان برودينثيو شاحب البشرة، ذا عينين لوزيتين قليلا و أنف صغير. جعلت منه بعض الرتوشات التجميلية الأولية صينيا مقبولا. لا نعرف لماذا اختار تلك الجنسية؛ لعلَّه فكر من دون شك في أن تمثيلية صغيرة فوق أخرى كبيرة ستساعد على إرباك الجمهور و أنه من الأحسن دائما إخفاء ما لا يصدق.
- الأب غومث ورث بِالبِّيسُو ما يعادل خمسة آلاف دولار، المودعة في فرع من فروع بنك سانطا فِّي. جعله الإلهام المهني يستثمر قدرا يسيرا منها في شراء لِبْسَاتِ الكيمونو، الشاشات ، الستائر و الأوعية الخيزرانية. عندما نزل بلندن كان الجميع قد اعتقد أنه قادم من شانغاي. اشتغل لسنوات في قاعات الموسيقى الإنجليزية و الأسكتلندية. و في سنة 1930 غداة إتقان خدعه، ظهر في أحد الفنادق الفاخرة بمدينة باريس. و هناك في باريس حيث تبدأ الدراما التي تهمنا. في مسرح مونمارتر كان يشتغل الكبير دُوبْرِي، الساحر، و ذلك رفقة زوجته جولييت الجميلة. في عشيتها المخصصة لاسترجاع قواها ذهبت جولييت الجميلة لرؤية فانغ، و هكذا انسد أفق مصير الكبير دُوبري: لم تكن كافية كل قواه السحرية من أجل فك السحر الطبيعي المحيك بغدد صغيرة تضافرت فجعلت قلب تلك المرأة المتقلب ينبض بسرعة أكبر. في أحد أيام دجنبر ودعت جولييت صديقها و أبحرت مع فانغ في اتجاه أمريكا الجنوبية. حسَّن انضيافُ امرأة جميلة المنظرِ الوقعَ العام للعرض. لكن ولع جولييت ما فتئ أن فتر. عندما تبينت أن فانغ لم يكن صينيا عانت من نوبة غضب و انزعاج جنوني. في الواقع، لم تكن تشدد على أنه ليس بصيني و لا هي كانت تقبل عذره بكونه أمريكو جنوبيا. لكن فانغ انتبه إلى أن التمييز العرقي كان ذريعة بالنسبة لجولييت. غير أن الحقيقة هي أن هذه الأخيرة كانت قد غالت في تقدير الأرباح المحتملة للساحر. كان المال هو المحرك العاطفي لجولييت. كانت مستسلمة لآخر و أوضع الوضاعات، حسب تعبير تشيسترتون: إنه ذاك المتعلق بالثروة. كانت تجد صفات غامضة في الأقوياء لأنهم مجرد كذلك فقط؛ كان المال يفترض بطريقة خفية الذكاء و التعاطف و حتى أنه، أحيانا، كان يخفي المظهر الخارجي للرجال.
في سنة 1937 ظهرت الشخصية الثالثة في هذه القصة. فعلى إثر مؤامرات دبرتها جولييت هجر فانغ مساعدُوه. نشر إعلانات في الصحف، التجأ إلى وكالات متخصصة، جرب العديد من المترشحين لكنه لم يجد الرجل الرشيق و المِطواع الذي كان يحتاج إليه. في أحد الأماسي بمقهى في شارع كُوريينتي، اقترب منه فرد صغير. "أحتاج إلى عمل - قال -؛ أنا متواضع و وفي". هذا التصريح البعيد الاحتمال، كان يعكس الحقيقة، رغم ذلك. زيادة على هذا فإن ذاك الرجل الصغير قد أكد ذلك بموته. كان يشتغل كغاسل للكؤوس في مطعم بِلَافَالْ في مدينة مونتفيديو. كان مدوَّخا بل مجنونا بالسحر بحيث أنفق العشرين بِّيسو التي ربحها في رهان بآلة تصوير و ذلك للحصول على تذكرة كي يشاهد خُدع فانغ. كذلك كان شاحب البشرة و قصيرا جدا. ببعض الرتوشات الخفيفة بقلم الرصاص و طلاء خفيف من الزنجار الأحمر القاتم، كان يبدو صينيا. كان يدعى بِنانثيو بِّرالطا. مازحه فانغ: "ستبقى حاملا لاسم بنانثيو، إذ سيبدو ذلك لقبا في بوينس آيرس لرجل شاب وضيع".
- جولييت باردة الدم، سطحية و ماكرة. كانت تعتبر زواجها من فانغ فشل حياتها فبدأت تثأر منه بطريقة دقيقة. في حين أن فانغ قد وجد في بنانثيو الإخلاص و مساعدا عمليا و ناجعا. في دجنبر من سنة 1940 كان فانغ يقضي فترة في العاصمة و كان قد مر خمسة عشر يوما على تغييره للبرنامج. من بين الخدع التي كانت مضمنة فيه نجد تلك الأكثر شيوعا و المتعلقة بالهروب خلال ثوانٍ وسط كيس مغلق و مختوم بتدخل الجمهور. كان فانغ قد أُدخل في كيس حريري أزرق، و كان فم الكيس مغلقا و على حلقته و عقدته توضع أختام من الشمع الأحمر. بعد ذلك كانت تُسدل فوق فانغ سِتارة شفافة شكلها دائري كالخيمة و عندما كانت تسحب كان يظهر الساحر متحررا و هو يعرض العقدة و الأختام و هي غير منحلة. في حين أن أفراد الجمهور الذين شاركوا في المشهد كانوا يتفحصون الكيس و يتأكدون من إغلاقه المحكم.
في تلك الليلة، صعد إلى المنصة ثلاثة رجال بدعوة من خُولْيِيتَا، اثنان منهم كانا رفقة زوجتيهما في الصالة بينما كان الآخر يشغل مقصورةً. كانت خولييتا ترتدي بذلة رقص سوداء مفتوحة الصدر. نزع فانغ الكيمونو و بقي مرتديا السروال و بلوزة حريرية زرقاء. تم عرض الكيس على الجمهور و تفحصه الرجال الثلاثة بتمعن؛ لم يكن مَخيطا بطريقة مزيفة و لا هو احتوى ثقوبا. أدخل فانغ ساقيه فيه بينما ساعده الآخرون على أن يُدخل كل جسده. عرض بنانثيو شريطا و ربط به فم الكيس. في حين سكب أحد الرجال الشمع الأحمر على العقدة و ختموها. كان وضع الرجال الذين يحيطون بفانغ كما يلي: المتفرجان اللذان صعدا إلى الخشبة كانا يديران ظهريهما للجمهور، بعد ذلك كان بنانثيو ثم الرجل الذي نزل من المقصورة و أخيرا خولييتا. عندما انتهوا من وضع الشمع الأحمر، قال بنانثيو: "فر العصفور". لحظة بعد ذلك رفع يده إلى قلبه، خطا بضع خطوات على الخشبة ثم قال: "أكملوا: أنزلوا الستارة"، و بعدها اختفى بين الدعامات. نظرت إليه خولييتا بنوع من الاستغراب لكنها أسدلت الستارة على فانغ. خلال عشر ثوانٍ رفعتها فإذا بفانغ ظهر و الكيس الأزرق في يده و حيا الجمهور. في تلك اللحظة خرج أحد الرجال من بين الدعامات يجري و يصيح بشيء لم يستطع أحد فهمه. نزلت الستارة و عمَّت الحيرة الخشبة. مشا فانغ و خولييتا و رجال الجمهور الثلاثة مصدومين نحو خلفية المسرح فوجدوا بنانثيو مُلقى على الأرض. قال أحد هؤلاء الرجال بأنه طبيب ففحصه. كان خنجر صغير مغروزا في قلبه. كانت آخر كلماته: "لا تتهموا أحدا؛ فأنا من قتلت نفسي بيدي".
وصل الخبر إلى صاحب المشروع فظهر مختنقا أمام الجمهور معلنا إيقاف النشاط و طالبا التزام الهدوء. طلب كذلك بألا ينصرف أحد. جرى ألإطفائي إلى الشارع و عاد رفقة رجل شرطة و الذي أضاع عشرة دقائق مدونا التفاهات في دفتر. أخيرا، ظهر ضابط شرطة و اتخذ التدابير الأولى. و قد كانت هذه الأخيرة مقتصرة على مكالمات هاتفية التماسا للأوامر. ساعة بعد ذلك وصل الدكتور فابْيان خِمينث، قاضي التحقيق. كان الدكتور خمينث في الخمسين من عمره كما كانت تبدو عليه آثار الحياة السعيدة و المشروب الجيد، غير مبال بأعباء شغله و متحمل لها. أخرجوه من على مائدة طعام في الدائرة الأمنية و هو يلعن في شيء من الاعتدال المجرم الذي اختار ساعة كهذه كي ينفذ فعله الوحشي. وصل رفقة كاتبه، الدكتور الشاب غارثيَّا غارِّيدو. الرجال الثلاثة الذين اعتلوا الخشبة بإيعاز من خولييتا كانوا هم الدكتور آنخيل كُوبُّولَا الطبيب في مستشفى بلدي؛ مانويل غُومث تِرِّي الكاتب العدلي غير المصرح به و ماكسيمو لِيلْيِينْفِيلْدْ الصحافي. كان الدكتور كوبُّولا رجلا بدينا، بتلك الأناقة الشديدة التي تشبه أناقة من خرجوا لتوهم من محل الخياطة؛ بينما كان شعره أبيض لكن محياه كان شبابيا و حليقا جدا. قدم استعراضا سريعا لمعارف علمية تركت غومث ترِّي مرتبكا، إذ كان يفهم فقط في الأوراق، الجدران المشتركة و التوزيعات فضلا عن كرة القدم. أثناء حوارهما تم النظر إليهما بنوع من السخرية من طرف ليليينفيلد الذي كان قصير القامة، رشيقا، أشقر، ذا حاجبين أبيضين و لِبسة مستعملة. في لحظة معينة تساءل الدكتور كوبُّولا باستغراب بصدد هذا الرجل الصغير التافه الذي يشغل بثقة كبيرة مقصورةً أمام الخشبة، كان يجهل أنه صحافي. أخذ الدكتور غومث تصريحات من الجميع و التي تم تلخيصها و تسجيلها من طرف الدكتور غارثيا غاريدو. كان الحفل قد جرى بطريقة روتينية إلا في لحظتين: وضعية بنانثيو و خولييتا أثناء تشميع الكيس و جملة الأول ثوان قليلة قبل أن يحس بأنه مجروح. حسب أحد رجال الشركة فإن بنانثيو، و تسهيلا للعمل، كان يحتل دائما نفس الموقع في يمين الخشبة بينما كانت خولييتا تتموقع في الجهة المعاكسة في وسط الخشبة تقريبا. إن كانوا قد أخذوا مواقعهم هذه المرة، فإن الترتيب كان ليكون وفق الشكل التالي: كوبُّولا و غومث ترِّي، أولا، و هما يديران ظهريهما للجمهور ثم يحيط بفانغ كل من خولييتا و ليليينفيلد ثم أخيرا بنانثيو. غير أن الترتيب كان كما قد أشرنا إلى ذلك بادئ ذي بدء: في المقام الأول يوجد الطبيب و الكاتب العدلي و على يسارهما معا بنانثيو ثم ليليينفيلد و أخيرا خولييتا.
طلب فانغ الإذن بأن ينسحب من أجل التوجه إلى غرفة تغيير الملابس متذرعا بتأثره بموت مساعده و صديقه و إلى هنالك ذهب الدكتور خمينث للبحث عنه مشكلا مكتبا عشوائيا بين بذلات الكيمونو المصنوعة من الحرير المزهر، السيوف غير القاطعة، الحمام الزاجل و عدة دجاجات. تسبب مقتل بنانثيو في الفوضى وسط الشركة؛ فاقدة للصبر كانت خولييتا قد انشغلت، و هي متأثرة، بتسوية بذلتها بنفسها. و هو مهان بضرورة الكتابة فوق الحاجبات الشفافة، كان الدكتور غارثيَّا غارِّيدو ينظر إليها باهتمام خامد.
تناول الدكتور كوبُّولا الكلمة كاشفا عن زهو علمي فقال:
- أقترح عليك، سيدي المحقق، أن تنظر إلى هذه الجزئية...
لقد كان من بين هؤلاء الذين يقولون في كل لحظة "أقترح عليك" دون أن يستعملوا نبرة الاقتراح. استمع إليه القاضي بصبر و أمر بتسجيل أقواله. كان كوبُّولا يقول، حسب معرفته العلمية، بأن الطريقة الوحيدة التي يمكن أن يدخل بها الخنجر الصغير في الزاوية المُعاينة فإنها كانت تتمثل في أن يأتي مستقيما من الكيس الأزرق، أي في ما معناه، من فانغ.
أعطى الدكتور خمينث بعض المصداقية لاقتراح كوبُّولا، لهذا نادى على فانغ و بدأ معه التحقيق. بدا هذا الأخير متحفظا حول الأسئلة التي تدور حول مهنته، حول الأمور الواضحة، فبدأ يخرج عن طوره عندما تبين أن فرضية ما حول الجريمة تحوم حول غرفة تغيير الملابس.
- لقد كنتُ داخل كيس مغلق و مشمع بتدخل من الجمهور - قال فانغ بإسبانية مشددة خالية من النبرات الصينية. أمر الدكتور خِمينث بإحضار الكيس فذهب أحد المساعدين للبحث عنه.
كان الشريط لا زال معقودا على فم الكيس و الأختام صائنة. قطع القاضي ذلك بغية إجراء فحص عليه من الداخل. كان النسيج متماسكا و لم تكن هناك آثار تكشف بأنه تم ثقبه. عندها تدخل الدكتور كوبُّولا مجددا.
- منذ طفولتي المبكرة - أعجبني السحر. إلى حد الآن، رغم كثافة العمل و المسؤوليات، عادة ما أمارس ذلك مع أبناء إخوتي و أطفال الحي. إن سمح لي السيد القاضي، فإني سأقول له إنه لا فائدة تماما من فحص ذلك الكيس.
التفت القاضي و نظر إليه باستغراب:
- نريد أن نعرف إذا كانت هناك إشارة ما بداخله. لماذا يجب علينا ألا نفحص الكيس؟
- أنا قلت ذلك الكيس - تحجج الدكتور بسخرية ثقيلة.
- لماذا تشدد على ما تعلق بذلك الكيس؟
- لأنه يوجد كيس آخر.
نظر فانغ إلى الطبيب كما لو أنه أراد أن يقتله.
- هل يتعلق الأمر بشيء له علاقة بالخُدعة المستعملة؟ سأل القاضي.
- سيدي القاضي، أنا نفسي فعلت هذه الخدعة أكثر من مرة. لقد أتيت اليوم كي أدرس على الميدان و أصحح بعض العيوب. بالفعل، يوجد كيسان. عندما يدخل فانغ إلى الكيس المعروض على أنظار الجمهور، يكون حاملا لكيس آخر مطوي في جيبه يشبهه. بينما يكون قد دخل، و قبل أن يربط مساعده الشريط على فم الكيس، يُخرج فانغ الكيس الثاني و يُظهر حافته العليا بحيث يحيط الشريط بهذه الأخيرة و ليس بحافة الكيس الأول. و من أجل ذلك يحتاج الأمر إلى تواطؤ مساعد محنك و الذي يجب أن يتظاهر بمساعدة المشرفين من المتفرجين الذين صعدوا إلى الخشبة لكن يلزم أن يقوم هو نفسه بهذا الجزء الرئيس من الخدعة. عندما يُسدل الستار، فإنه ما على فانغ إلا أن يفصل الكيسين عن بعضها البعض و اللذين تم شد حافتيهما بطريقة خفيفة، فيخرج من الأول و يطويه بسرعة ثم يحتفظ به في جيبه، و أخيرا يعرض الثاني على الجمهور و أختامه لا زالت صائنة.
- إذن هذا هو الكيس الذي كان يحتفظ به فانغ في جيبه في البداية؟
- الأمر كذلك - أجاب الطبيب -. يجب أن نجد الكيس الآخر.
أمام كلمات الطبيب أماءَ فانغ كشخص تفاجأ بخديعة ما فإذا به يُخرج من جيبه الكيس المبحوث عنه مسلما إياه إلى القاضي. تفحصه هذا الأخير بعناية لكنه كان خاليا تماما من أية إشارة تُذكر كسابقه.
- يمكن ألا يكون هذا الأخير- قال الطبيب؛ فعلى العموم يكون عند هؤلاء الناس ثلاثة أو أربعة احتياطية.
أمر القاضي بإجراء تفتيش في كل أركان المسرح. في خلال ساعة تم تفتيش صندوقي فانغ الاثنين، غرف تغيير الملابس بجميع أركانها و عناصر الديكور التي كانت متراكمة فوق الخشبة لكن النتيجة كانت سلبية.
فضلا عن ذلك، الاطمئنان إلى أن فانغ كان يستعمل فقط هذين الكيسين الاثنين من أجل إنجاز خدعته كان قد شهد به صاحب المشروع و عاملو المسرح و خولييتا. في تلك الأثناء تكلم الصحافي ليليينفيلد لأول مرة.
- لماذا سيكون قد قال بنانثيو: "لقد فر العصفور"؟
بعد ذلك حرك أهدابه شبه البيضاء و بقي ينظر إلى فانغ. تقدم هذا الأخير كي يشرح السبب.
- أنا لم أسمع جيدا الجملة - قال -، لكن على العموم كان بنانثيو يقول شيئا ما عندما كان يستعد لمسك الكيس من أجل أن يعقده.
- نعم؛ و لكنه قال "لقد فر العصفور" عندما كان قد ربط الشريط و ختمه...
استمر القاضي صامتا و بصره تائه في أعلى غرفة تغيير الملابس.
كان الدكتور غارثيَّا غارِّيدو يعرف أنه كان يفكر في أكلة الدائرة الأمنية بينما اعتقد الآخرون أنه كان بصدد التركيز على سر الجريمة.
هنيهة بعد ذلك بدا أنه قام بردة فعل.
- هناك حدث مهم - قال القاضي -: بنانثيو بِّرالطا صرخ قبل أن يموت: "لا تتهموا أحدا؛ فأنا من قتلت نفسي يدي". لقد شهد على هذا السادة كوبُّولا، غومث ترِّي، ماكسيمو ليليينفيلد، بالإضافة إلى زوجة فانغ. لا يمكن أن نفند هذا بأي شيء. لا يفوتني أن أقول بأن رجلا ما يجب أن يكون مضطربا جدا كي يغرز في جسده خنجرا صغيرا أمام الملإ. إنه لأمر مذهل، ينم عن شيء رهيب و وصفه يقتضي خبرة علمية. لهذا أرى أنه لا يجب أن نتوقف. أطلب من كل واحد منكم كلمة شرف بألا يبتعد عن العاصمة حتى أنهي التحقيق في القضية. لا أرى من ضرورة لاعتقال أيٍّ منكم الآن.
شكر فانغ الدكتور خِمينث على كلماته بعاطفة مبالغ فيها فانقشع في عيني خولييتا الكئيبتين و اللامعتين ضوء كشعاع هارب. أقسموا جميعا على أن يبقوا رهن إشارة القاضي فودعهم هذا الأخير و خرج يقفُوه كاتبُه. أمر ضابط الشرطة بنقل جثة بنانثيو، حسب تعليمات المحقق، و شرع في الإجراءات التكميلية لملخص الجريمة.
- الساعة الثالثة صباحا كان الدكتور كوبُّولا، مانويل ترِّي و ماكسيمو ليليينفيلد قد وجدوا أنفسهم في الشارع. انتظرت زوجتا الأولين في باب المسرح و انضمتا إليهما. أحس ليليينفيلد بمعدته فارغة فاقترح تناول شيء ما. نظر الدكتور كوبُّولا إلى الصحافي كمن يجري فحصا علميا، و تردد بضعة دقائق. كان يعتقد بأن ليليينفيلد يحاول أن يجعله يسدد له ثمن أكلة، بالإضافة إلى أن الظهور في مكان عام رفقة فرد من قبيل هذا الصحافي كان يبدو له أمرا مزعجا. وجود حانة ألمانية على بعد خطوات، خفف من الوزر الذي أنقض ظهره، لن يصادفه أي أحد هنالك.
طلب ليليينفيلد جعةً، غومث ترِّي قهوةً بينما الدكتور كوبُّولا صُودَا، في حين أخذت السيدتان قهوة. كان الأمر يبدو كمسابقة في الاقتصاد. بعد هنيهة طلب ليليينفيلد جعةً أخرى و شطيرةً. كان الدكتور كوبُّولا نهمًا جدا لكنه تمالك نفسه إذ كان يفكر في أنه لو أكل سيغتنم الصحافي الفرصة فيكلفه بتسديد فاتورة الجميع.
- لحسن الحظ كان انتحارًا - بدأ غومث ترِّي يقول شيئا.
طلب ليليينفيلد جعة و شطيرة أخريين، و بينما هو يلوك بشراهة في غمرة تحريك أهدابه من دون كلل و لا ملل، هتف:
- يا له من جنون! من المؤكد أنه ليس انتحارا!
- لكنه نفسه قال: "لا تتهموا أحدا؛ فأنا من قتلت نفسي بيدي".
- لذات السبب - واصل ليليينفيلد -، قال هو: "فأنا من قتلت نفسي بيدي"؛ يعني أنني ارتكبت خطأً فادحا، لقد بحثت لنفسي عن ذلك، أنا المذنب، أو أي شيء آخر من هذا القبيل. لم يبحث أي أحد عن العلاقة المنطقية القائمة بين الأفعال و الأقوال في هذه الليلة.
- إذن، هل عندك تأويل آخر؟ لماذا لم تتكلم؟ سأل الطبيب لائما.
- حضرتك كنتَ تتكلم طول الوقت و لم تترك لي و لو فرصة صغيرة؛ فضلا عن أن الطبيب كان ينظر إليَّ بشفقة - قال ليليينفيلد. طلب جعةً أخرى، أمام ذعر الطبيب، و تابع - هناك ثلاثة أشياء غريبة تكسر نمطية هذه الليلة: يقول بنانثيو: "لقد فر العصفور"، و فانغ يكذب بخصوص اللحظة التي سمع فيها هذه الكلمات. في الحقيقة هو لم يتبين جيدا تلك الجملة فلو فعل ما كانت هذه المأساة لتحدث. ثانيا، تغيُّر ترتيب الأشخاص الذين كانوا يحيطون بفانغ في اللحظة الأخيرة، و احتلال خولييتا مكان بنانثيو. ثالثا، يقول بنانثيو: "لا تتهموا أحدا؛ فأنا من قتلت نفسي بيدي". الحل هو كالتالي: لقد جُنَّ فانغ بإهانات خولييتا فصمم على قتلها. غير أنه لم يكن قادرا على ارتكاب جريمة مكشوفة من أولها: إذِ الناسُ جميعا كانوا يعرفون شجاراتهما و بالتالي سيُشك في أمره على الفور. و عليه، كان الحل الوحيد هو جريمة أمام الملإ مع حجة فعالة. كان في حاجة إلى شريك للقيام بذلك كما كان في حاجة إليه من أجل خُدعه. و هكذا كان بنانثيو حليفه، عبدا له فعليا. تقبل الفكرة بحماس لأن إخلاصه لفانغ كان يدفعه إلى تقليده في كراهياته و تعاطفاته. اتفقا على أن يضع بنانثيو في يد فانغ خنجرا صغيرا بعد أن يكون قد دخل إلى الكيس، و هذا الخنجر سيكون مخفيا بسهولة في طية خارجية من هذا الكيس. منذ سنوات و هما يؤديان هذه الخدعة بينما كانت خولييتا تحتل نفس الموقع دائما. أثناء تشميع عقدة الكيس كانوا جميعا على مقربة من فانغ إلى أن انتهت العملية. و يبدو أن هذا جعل شيئا ما يدور في خُلْدِ خولييتا، إذ حدست وجود أمر يُحاك ضدها و ربما أن بنانثيو أظهر نرفزةً زائدة. في لحظة توجُّهه إلى ربط الشريط انسلت خولييتا و احتلت موقعَه. لم يستطع هذا الأخير فعل أيِّ شيء سوى احتلال موقع المرأة. و كي يُشعر فانغ، قال: "لقد فر العصفور". غير أن الساحر، و هو منرفزٌ لأول مرة في خُدعةٍ، سمع الصوت لكن لم يفهم المقصود. أدى بنانثيو المسكينُ ثمن الوفاء بالموت.
لأول مرة نظر الدكتور كوبُّولا و غومث ترِّي إليه باحترام.
- يجب إخبار القاضي - قال كوبُّولا.
- لو كنت مكانك لما فعلت ذلك؛ لا يعجبني أن أدخل في مآزق مع العدالة - رد ليليينفيلد. هذا بالإضافة إلى أن فانغ مدان. تعرف خولييتا أنه أراد قتلها و هي تسيطر عليه. لم يبق للمسكين سوى أن ينتحر، لعله سيبتكر خُدعة جيدة لفعل ذلك.
أمام اندهاش كوبُّولا و غومث ترِّي أخرج ليليينفيلد ورقة نقدية من فئة مئة بِّيسو و نادى على النادل.
لقد استهلك عشرة أنصاف اللترات.
- سامحانِي، و لكن يجب علي أن أفعل - قال و هو يسدد الفاتورة.
- هل ستذهب للنوم؟ سأل الطبيب.
- لا، يجب علي أن أشرب بعض الجُعَّاتِ مع صديق لي - رد عليه.