يصور القاص الأردني هاني سليمان موضوع القصة القصيرة الأثير اغتراب الإنسان ووحدته من خلال شخصية رجل متقدم بالسن يدمن المقهى هرباً منها، ويتشبث برواده من النساء، فيقيم الراوي الفضولي علاقة معه ليكتشف عن فلسفته حول الوجود كونه عابراً وليعش الإنسان لحظته.

مَنسيّاً في مقهى

هـاني سليمان

لم يُثر انتباهي في البداية، فأنا لستُ من رواد المقهى مع أنه لصْق بيتي، فكنتُ أذهب إليه مرة أو مرتين في الشهر، مع أحد أصدقائي القليلين. لكنْ، في تلك الفترة كان لديّ عمل يجب أن أُنجزه في وقت قصير، وكان عليّ لذلك أن أصحب العمل معي إلى المنزل، وحتى لا أصاب بالسَّأم، قررتُ أن أُتمَّ فَرضي في المقهى.

  • خمسة أيام متتالية من ارتياد المقهى، تنبهتُ إلى أنني كلما دخلته وجدتُه في الركن نفسه، يحتل الطاولة نفسها، متخذاً الوضعية ذاتها، وحيداً إلا من الكمبيوتر المحمول الذي أمامه، وسيجارته التي لا تفارق إصبعيه، وفنجان الإسبريسو الذي مهما ارتشف منه لا يفرغ. ويظل هكذا حتى أغادر المقهى.

ظننتُه في البداية شاعراً أو روائياً أو كاتباً، مع أني طوال تلك الأيام لم ألمحْه يقرأ كتاباً أو حتى ينقر على لوحة مفاتيح الكمبيوتر، فكان استخدامه للجهاز المفتوح قبالته طوال الوقت يقتصر على تصفح الإنترنت.

  • ما قادني إلى ذاك الظن شبهَهُ بنجيب محفوظ قبل هرمه. فهو لا يختلف عن صورة الروائي المصري إلا قليلاً، فرأسه أعرض بعض الشيء، وليس لديه تلك الحَبّة التي تشبه الحُمّصة، التي أول شيء تلحظه حين تنظر إلى وجه محفوظ. أما ما عدا ذلك، فهو نسخة منه، في لونه، وبُنيته، وصَلعته مع ما تبقى من شعره. وحتى نظّاراته تشبه نظارات محفوظ ذات العدستين الكبيرتين الداكنتين. متأنق دائماً، لكنّ بِدَله توحي أنه عالقٌ في حقبة الثمانينات، بموديلاتها "السفاري" وألوانها التي يغلب عليها البيج والأخضر الباهت والبني الكاكي.

أنهيتُ العمل المطلوب قبل نهاية الأسبوع. وعلى غير عادتي، قررتُ النزول إلى المقهى صباح الجمعة لأشرب قهوتي وأتناول الفطور، فالجمعة بالنسبة لي هو يوم كسل لذيذ، فأظل أتمطى في الفراش حتى الظهيرة. وكانت المفاجأة أنني تصبَّحتُ بوجهه. "هل يعقل أنه سيمضي اليوم بطوله في المكان نفسه وعلى الكرسي ذاته؟" تساءلتُ. ومع أنني لا أقوى على المكوث في مكان واحد من دون عمل أكثر من ساعتين، قررت أن أمضي يومي هذا في مراقبته.

لاحظتُ أن طاولته تقع في صدر المقهى، وهو يقعد ووجهه قبالة الباب دائماً، بحيث يمكنه رصد كل داخل إليه، منقِّلاً بصره بين الباب وشاشة "اللابتوب". كلما انفتح الباب وأطلّ شخص يشيح بنظره نحوه، فإذا كان رجلاً يعيد نظره إلى الشاشة مباشرة، أما إذا كانت أنثى فتظل عيناه تصحبانها من الباب حتى جلوسها.

حتى الآن لم يبدُ سلوكه غريباً، فهذا النمط من الرجال الذين يلاحقون بنظراتهم النساء الداخلات والخارجات معروفٌ في المقاهي. لكنه لم يكتف بالبَصْبَصة، بل كان يضيف إليها تحرشه المبطَّن بزائرات المقهى، فكان بِحيل هي أقرب إلى ألاعيب الشبان المراهقين يتقصد التعرف إلى أي فتاة تجلس وحيدة، كأنْ يسألها عن ولّاعة إذا رآها تدخن، أو كأن يقول لها: "وِشّك مش غريب عليّ!"، أو إذا رآها تستخدم كمبيوتراً فإنه يسألها عما إذا كانت خدمة "الواي فاي" تعمل أم لا. ثم يتخذ من هذه الجملة مدخلاً ليجرّها إلى تبادل الحديث معه، والتعارف.

في المساء، وهو الوقت الذي يفيض فيه المقهى برواده، يحصل أن تسلّم عليه إحداهن، فيتعمد مصافحتها، ويظل قابضاً على كفها أو على ذراعها، حتى تسحبها من يده. وأحياناً يتقصد تقبيلها ومعانقتها، ويظل يحسِّس على ظهرها أو كتفها. فلا تنجو أنثى يعرفها في المقهى من مداعباته البريئة ظاهراً. والغريب أن الفتيات يتسامحن مع تحرشه بهن، وانتهاكه لحيزهن الجسدي، إذ يبدو أن كبر سنه يشفع له، فهو في كل الأحوال ليس لديه ما قد يجلب المتاعب لهن تالياً.

ذات مساء، احتللتُ طاولة قرب طاولته، ولعبتُ لعبته. سحبتُ سيجارة من علبة سجائري، وتظاهرت أنني أضعتُ ولاعتي، فطلبت منه ولاعة. عرّفته على نفسي فعرّفني هو بدوره على نفسه: "جورج".

في اليوم التالي، قعدتُ إلى الطاولة نفسها، وقبل أن أسحب المقعد حيَّيته، فردّ التحية بنصف ابتسامة. وبينما كنت أصطنع الانشغال بكتابة شيء ما على كمبيوتري، سمعته يسأل النادل عما إذا كان لديه "فلاش تخزين". هز النادل رأسه نافياً بتبرّم واستنكار. طرتُ من مقعدي وأعطيته الفلاش الذي معي. شكرني، وسألني عما إذا كان يمكنه إعادته لي في اليوم التالي.

بعد ثلاثة أيام دخلت المقهى، سلّمت عليه بحرارة فردّ ببرود، كأنه لم يرني من قبل، شعرت بالسخافة. سألته عن الفلاش، فتذكرني على الفور، وأعطاني إياه معبّراً عن امتنانه. كان من حسن حظي أن الطاولات كلها مشغولة. لاحظني وأنا عالق دون مقعد، فدعاني إلى مشاركته الطاولة نفسها. شكرته، ثم جلست. تعمَّدتُ ألا أبادره بالحديث، وأن أكتفي بالرد على أسئلته التعارفية.

في الأيام التالية، كثرت جلساتنا معاً التي حرصتُ على أن تأتي صدفة أو كأنها بلا تخطيط. غدا جورج جزءاً من يومي، فلم يعد يمر يوم دون أن ألتقيه. أخذ ثلج تحفّظه يذوب شيئاً فشيئاً، فكشف لي بعض خبيئ حياته. هو من مصر، ومع أن اسمه جورج فإنه ليس قبطياً كما قد يخال المرء. هو مسلم، لكن أباه سمّاه على اسم أعز صديق له كان قد سقط بين يديه شهيداً في حرب القنال ضد الإنجليز أواسط الخمسينات.

جاء جورج إلى دبي قبل ثلاثين عاماً ليعمل محاسباً في شركة كبرى للتدقيق المالي. كان قد تخرج حديثاً من جامعة القاهرة. لملم أحلامه وطموحاته، وسافر إلى الخليج، إلا أنه لم يكن مثل كثير من المغتربين من بلاده الذين يقتصدون العيش في غربتهم على فتات الحياة، ويدخرون المُتع حتى عودتهم إلى وطنهم، فعاش اللحظة الراهنة طولاً وعرضاً.

وانطلاقاً من اقتناعه بأنه عابر في هذه الحياة، لم يرغب في أن يُثقل عبوره بأي التزامات، ولا أن يكون له ما يتعلق به، حتى إنه منذ وصوله دبي لم يستأجر مَسكناً، بل اتخذ من الشقق المفروشة إقامة دائمة له. ويبدو أن رؤيته تلك تجاه الحياة صاغت علاقته بالمرأة، فعزف عن الزواج وعن بناء أسرة.

  • مع فلسفته العبثية، خاض جورج في اللذات كلها، وأولاها اللذة الكبرى، النساء. لم يكن يحتمل أن يبقى طويلاً مع امرأة ما، لكنه حين يكون مع واحدة يحب أن يشعر بأنها له وحده. لذا، لم يكن يقترب من المتزوجات ومن بنات الليل. المتزوجة، كما قال، لا يستطيع امتلاكها، أما العاهرة فهي للجميع.

لم يشعر أن شيئاً ينقصه، كان سعيداً بحياته، أو على الأقل يشعر بالاكتفاء.

إلا بعد تلك الليلة.

الْتقاها في حانة. حين لمحها أحس بهالة من السحر تحوطها. لم يستطع أن يُبعد عينيه عنها، ومع أنها لم تكن فائقة الجمال وجد نفسه ينساق إليها كأن في داخلها قوة كونية تجذبه إليها.

لم يكن بحاجة إلى ممارسة ألاعيبه للتعرف عليها، فقد بدت عطشى إلى بعض ود واهتمام. تبادلا الحديث، وكلما زاد عدد الكؤوس التي شربتْها شفّت روحها أكثر فزاد بَوْحها. هي متزوجة لكنها شقية بزواجها. زوجها ثري يكبرها بعشرين سنة. قالت إنه "اشتراها" من أهلها. كان يَغار منها وعليها. وكانت غيرته تَظهر في معاملة قاسية وإذلال متعمد. بالنسبة له كانت مجرد جسد يستبيحه في أي وقت يريده وفي أي وضع يشتهيه. "لم تشعر يوماً معه بعاطفة حب أو دفء مودة"، هكذا قالت له.

"لماذا لا تتركينه؟" سألها. أجابتْه بأنها لا يمكنها تدبر معيشتها وأطفالها من دونه، وبخاصة أنه منذ بداية الزواج فرض عليها ألا تعمل لتظل معتمدة عليه. كما أنه يساعد أهلها، ويدفع تكاليف دراسة شقيقها في إحدى الجامعات الأمريكية.

"تْفُو على كده راجل"، ختم بها وصفه لبؤس حياتها مع زوجها، وقد تلاطمت قَسَمات الغضب والأسى على وجهه، ووصل شيء من رذاذ لعابه إلى خدي.

شيء في داخله دفعه إلى تجاوز مَبدئه هذه المرة. لم يفهم ما هو. بمجرد أن فتح باب بيته، مالت عليه، فضمّها بحنان.

  • يناما، ظلا يتناغيان ويتداعبان حتى الفجر. ثم تكوّرت في حضنه حتى الصباح. عاشت معه ليلة كأنها حلم، هكذا قالت له. أما هو فشعر معها بشيء لم يألفْه في غيرها. شعر أنها ألْقت عليه شيئاً من سحرها.

استحوذت على تفكيره، لم يستطع نسيانها، وظل إيقاع لحنها يتردد في كيانه. كان يذهب إلى الحانة نفسها كل ليلة بحثاً عنها. حاول أن يتذكر أي معلومة انسلّت من لسانها يمكن أن تدله على مكانها، لم ينجح. اختفت من دون أي أثر، حتى حَسبَ أنها مجرد طيف متوهَّم.

لم يَدرِ ما أصابه، "هل يمكن أن يكون الحب؟" سأل نفسه. هو لم يعرف الحب من قبل، فرغم علاقاته الكثيرة، إلا أن النساء عبرن في حياته دون أن يعلقنَ بقلبه أو روحه.

  • يفكر جورج بالزواج يوماً، لكنه شعر أن امرأة مثلها جدير بالرجل أن يحيا معها طوال عمره، وأن يطلب الخلود ليبقى قربها.

تسممت حياته، وفسدت أيامه. أحس بكآبة قاتلة، وخفَتَ نبضُ الحياة في داخله. لم يعد يرغب في النساء، وهجر الحانات والنوادي الليلية.

سيطر عليه هاجس أنه سوف يَقضي وحيداً دون أن يعلم بموته أحد، فلاذَ بالمقهى سعْياً للهرب من هذه الخاتمة البائسة.

بات المقهى جزءاً منه أو هو جزء منه، لا فرق. أصبح المقهى بالنسبة إليه كالمحطة العامة التي ينتظر فيها حافلة الموت لتأتي لتقله.

  • في الحلقة الكئيبة نفسها سنوات: العمل في الصباح حتى العصر؛ ثم المقهى نفسه والطاولة ذاتها حتى منتصف الليل.
  • عن المقهى أكثر من أسبوع، بسبب اضطراري إلى السفر. بعد عودتي كنت متلهفاً لرؤية جورج. حين دخلتُ المقهى نظرتُ ناحيتَه، فوجدته على حاله مثل نُصُب تذكاري عتيق وسط مدينة، يمر الكل من حوله دون أن يتأمله أحد. رائحة الوحدة كانت تفوح منه.

لدهشتي حين رآني صاح بأعلى صوته: "فينك يا راجل؟"، ثم أخذني في الأحضان، وزادت دهشتي أكثر لما أخذ يحسّس على ظهري. قلت في نفسي ساخراً: يبدو أن جورج حُرم في غيابي من تحرشاته النسائية.

ألحَّ علي سؤال، لكني ترددت في طرحه عليه بعد أن أحسستُ أن مزاجه تبدل فجأة. بعد دقائق بدأ يشكو من ألم في كتفه الأيسر، ثم أخذ الألم يتسلل إلى صدره، وبدأ العرق ينزّ على جبينه، ونفَسُه يضيق، ولونه يشحب. لاحظت أنه على وشك أن يُغمى عليه، وقبل أن يقع عن مقعده قفزت عن مقعدي وتلقفته بيديّ.

  • سيارة الإسعاف، حين حمله المسعفون أمسك يدي وجرّني معه وهو ينظر إليّ برجاء طفل متعلق بأمه. نظرتُ إلى أحد المسعفين، فهز رأسه موافقاً على أن أرافقه في السيارة. ظل جورج متشبثاً بي إلى أن ارتخت قبضته. تأملتُه وجسده يميل إلى السكون، وبذعر أخذتُ أراقب الخط الأخضر على شاشة آلة قياس دقات القلب. لمحتُ دمعة حرّى نفرتْ من زاوية عينه، ففاضت عيناي.

وصلتْ السيارةُ المشفى، أخذ المسعفون النقالة وهو ممدَّد عليها، وحيداً حتى من دون كمبيوتره المُشْرع دائماً، وسيجارته التي لا تنطفئ، وفنجانه الذي لا يبلغ القاع أبداً.

  • أنظر إلى طيفه وهو يتلاشى شيئاً فشيئاً في مدخل المشفى .. أخرجتُ هاتفي المحمول من جيبي، ونقرتُ زر الاتصال: أَلُو.. «يرجى تسجيل الرسالة التي تريد بعد سماع الصافرة». مرحباً. قد أبدو لكِ نزِقاً وأحمقَ، لكنني أحبك .. أحبك.

 

* كاتب من الأردن مقيم في الإمارات

hanirys@gmail.com