بضربات سردية محكمة، ولغة مركزة، يقدم لنا القاص السوداني مدى تعقيد قضية دارفور التي نسمع الكثير عنها، دون أن نقرأ نصوصا أدبية تميط اللثمام عن غوامضها. وها هو كاتب سوداني يغمس قلمه في الجرح، ويحيل المجروح إلى استعارة للسودان بأكمله.

المَجَرُوحْ

عبد العزيز بركة ساكن

ضُلايَةْ
زوجتي هي التي أصرت علي العودة إلى البيت، على الرغم من أننا استطعنا أن نأخذ أطفالنا الخمسة جميعاً معنا إلى الجبل، الشيء الذي لم ينجح فيه الكثيرون، حيث إن ضجيج الطائرتين المقاتلتين أربك الناس كلهم، وجعل الأطفال يهربون في كل اتجاه مما صعّب مهمة الآباء والأمهات في إنقاذ جميع أطفالهم، وخاصة أن بعض الأسر لديها أكثر من عشرة أطفال، وكثير من الأسر لا آباء أو ذكور ناضجين بها، فإما أنهم مقاتلون في الجبهات، وإما أنهم قتلوا، أو مهاجرون في أنحاء السودان الأخرى بحثا عن العمل، طلبت منها أن ننتظر قليلا حتى نتأكد من أن جميع الجَنْجَوِيدْ الذين قاموا بالهجوم ـ بعد أن مضت الطائرتان ـ قد غادروا القرية، وكنا نرى الدخان من موقعنا، ولكنّا لم نستطع أن نرى حركة الجَنْجَوِيدْ، فإنهم يعملون بسرعة، يقتلون من يقع في بصرهم، إذا كان رجلا، ويغتصبون من كانت امرأة، وهم في ذلك لا يفرِّقون مابين من هنَّ طفلات ومن هنَّ ناضجات، أو عجوز، ينهبون، ويحرقون القطاطي، ولكن كل شيء يتم بسرعة بالغة، وقد يأتي بعدهم الجيش النظامي أو لا يأتي، ودائما لا يخشى الناس الجيش النظامي كثيرا، لأنه في الغالب يتعامل مع المسلحين فقط، ولا يوجد مسلحون في القرية. ولكنهم أيضا لا ينتظرون من الجيش النظامي أنْ يحميهم من الجَنْجَوِيدْ، المهم أصرَّتْ زوجتي أن نعود، طالما لم يكن هنالك جَنْجويد، ولا خوف من الجيش النظامي، فهي تخفي إرث أسرتها كله من الذهب في القطية، وتظن أننا قد نستطيع أن ننقذ شيئا من الثروة تساعدنا علي العيش في معسكر النازحين، إذا استطعنا أن نصل إليه في تخوم مدينة نيالا، حيث لا جدوى من البقاء في ضُلايَةْ مرة أخرى.

وجدنا عددا كبيرا من الأهل والجيران قد سبقونا إلى القرية وتوافد آخرون بعدنا، كانوا مثلنا يتخفون من المهاجمين عند الجبل الوعر، كل أسرة تهرول الآن تجاه بيتها أو ما تبقى منه، قليل من القطاطي هي التي سلمتْ من الحريق ولكن كل البيوت قد نهبت تماماً، وُجِدَ بعض الرجال، وجلهم من كبار السن قتلى، بعض الصبيات المغتصبات يبكين، ويرتجفن من الخوف والإحساس بالعار، كانت(ضُلايَةْ) قرية صغيرة تقع غرب مدينة نيالا في إقليم دارفور، بها مائتا أسرة فقط، وحوالي ثلاثمائة قطية مبنية من قصب الذرة والقش، محاطة بجبل وعر من جهتي الشمال والشرق، وفي جهة الجنوب يحتضنها أحد روافد وادي (بِرْلِيْ) الكبير، ويطمر بمائه سهلا خصبا يمتد عشرات الكليومترات، يستغله السكان القرويون في الزراعة، فوجود القرية على ضفة الوادي، ما فوق السهل وبين هذه المرتفعات، جعلها تصبح مثل كومة من البيوت متلاصقة متراصة مع بعضها البعض، لذا كان صراخ زوجة آدم التجاني وطلبها المساعدة، قد سُمِعَ في كل بقاع القرية، وحمل الرجال ما لديهم من أسلحة بلدية، ومضوا نحوها تلحق بهم النسوة والأطفال، كانت(أيّة) زوجة آدم التجاني تقف عند راكوبتها المتهالكة، قرب قطيتها المنهوبة، وهي تصرخ وتشير بيدها إلى مخلوق لا تبين ملامحه جيدا، يغطيه ركام الراكوبة، تقول إنه:

ـ جَنْجَوِيد!

هتف أخي منصور بكل ما لديه من صوت

ـ جَنْجَوِيد ؟ وَدْ البُقُسْ!

وأراد ومعه آخرون، مهاجمته، إلا أنني أوقفتهم خوفاً من أن يكون الجَنْجَوِيدْ مسلحاً. نصح البعض بأن نحرقه وهو في الراكوبة المتهالكة، آخرون كانوا يفضلون دفعه علي الخروج، ثم ذبحه أو تقطيعه حياً، وأقسمت امرأة مغتصبة أنها سوف تأكل كبده، هتفنا فيه أن يخرج، وإلا قمنا بإشعال النار في الراكوبة، وبذلك سيشوى حياً، وكاد البعض أن يفعلها، لولا أنه زحف خارجاً من القطية، كان سميناً ذا شعرٍ كثيفٍ، له وجه طفولي مستدير، يحيط نفسه بالتمائم والأحجبة، لونه بُني، تحت إبطه طفلة صغيرة، يبدو انه مغمى عليها، يضع سكيناً كبيراً في نحرها، علامة تهديد بأنه إذا هوجم سيقوم بقتلها. كان مصاباً إصابة واضحة وبالغة في رجله اليسرى، وتبدو عمامته التي يربط بها الجرح حمراء تماماً من الدم، ولكن ما استغرب له الناس جميعاً هو أن الجَنْجَوِيدْ لم يكن سوى آدم راشد، ولد (العم) راشد الأبالي المعروف في كل القرى التي تقع على مسير أو درب العرب الرعاة، كانت تربطه أواصر صداقة وتجارة ونسب بسكان ضُلايَةْ، إحدى نسائه هي عمتي سعدية بت أبو علوية، وكان يبيع السمن، والجمال الذكور، إلى الناس في القرية، ويشتري الذرة والعسل والصابون من القرويين، بل انه كان يترك كثيراً من حيواناته التي كبرت في السن، ولا تستطيع المسير إلي بحر العرب في الصيف، وبعض الجمال الصغيرة التي لا تتحمل الظعن، يتركها في القرية أمانة في منزل جدي (أبو علوية) الذي يقوم بسقيها وإطعامها طوال فصل الصيف، وأن ابنه آدم راشد، هذا الجَنْجَوِيدْ هو أخي في الرضاعة.

طلبتُ منه شخصيا أن يترك البنت التي تبدو كالميتة الآن، ويسلمها لأمها، وذكرته بأننا نعرفه، وهو ليس غريبا عن هذه القرية ولا أهلها وإن أباه العم راشد، رجل يحترمه الجميع هنا. وذكّرته بأنه أخي في الرضاعة، أخي أنا زكريا ود يس، ولكنه أشترط علي أن أحلف قسماً على كتاب الله بألا أدع الناس يقتلونه، وإلا قتل الطفلة ومات معها، أحضرت أم الطفلة مصحف قرآن محروق نصفه، حيث لم يوجد مصحفٌ سالمٌ في الجوار، حُرقت المصاحف مع القطيات، حلفتُ علي المصحف الحَرِيقْ، فترك الطفلة، حيث إن أمها خطفتها من بين يديه، وهرولت بها بعيدا محاولة إنعاشها، أو إحيائها من جديد، حاول الناس الإجهاز عليه، إلا أنني وبعض الشيوخ طلبنا من الناس المشورة أولاً، وأن يحترموا قسمي على المصحف، فعلوا وتفرقوا كل إلي مأساته، أما الجَنْجَوِيدْ آدم راشد، حيث أنه لا يستطيع الهرب نسبة لجرحه البليغ، قمت بتركه قرب الراكوبة ذاتها مع ربط رجله السليمة علي وتد كانت تربط به الجُحُشُ، ثم قمنا جميعا ـ نحن الرجال ـ بدفن الموتى في قبر واحدٍ كبير، حيث لا وقت ولا طاقة لنا بتخصيص قبر لكل واحد من الموتى العشرين، من ثم لحقت بزوجتي وأبنائي الذين وجدتهم يعملون بجد في البحث عن كنز أمهم تحت رماد قطيتنا المحروقة.

الجَنْجَوِيدْ (هَمْسٌ)
أنت تَحِسُ الآن بالندم، بل بالخوف، لأنك ما كنت لتندم لو استطعت الانسحاب مع زملائك الجَنْجَوِيدْ بسلام، بدلاً من الندم، لكنت الآن تستعيد ذكريات القتل والاغتصاب الممتعين مع أصحابك، علي رائحة شواء الأغنام المنهوبة، ولسعة عرقي البلح المنعشة، مثلما حدث عقب عشرات الغزوات التي أنجزتها بنجاح مع رفاقك، والذين يحتفلون الآن في مكان ما، ويذكرونك ضمن الأموات والمفقودين، ووفقا لقانون سري صارم تعملون به، إنه لا رجعة للبحث عن مفقود، أو دفن مقتول، ولكنك أيضاً بدأت تحس بالندم، لأنك هاجمت هذه القرية بالذات، قرية ضُلايَةْ، واغتصبت الطفلة التي تعرف أمها جيداً، وأباها، وكلَّ أسرتها. القرية التي جئتها صغيراً مريضاً، حيث تركك والدك راشد الأبالي في منزل أبي علوية صديقه، لأنه لا يستطيع أن يظعن بك وأنت مريض، تحتاج إلى علاج لا يوجد في الفلوات والمفازات، ولو أنه ليست هنالك مستشفى أو عيادة بالقرية، إلا أن أبي علوية نفسه يعمل كطبيب بلدي، وهو غالباً ما ينجح في علاج القرويين من أمراض مثل الملاريا، والبرجم، والحصبة، وفقر الدم، وحتى السعال الديكي، واليرقان.

ولأن أمك مضت مع أبيك نحو بحر العرب، طلب أبو علوية من أخته أن تقوم بإرضاعك مع طفلها زكريا ود يس، أنت الآن لا تنسى كل ذلك، تذكره، وتذكر طفولتك الأولي، ولعبك مع أقرانك في شعاب القرية، الطريق الى المدرسة في قرية (كُويَا) البعيدة، والسباحة في الوادي، والرقص والغناء مع البنيات والصبايا في ليالي ضُلايَةْ المقمرة، ولم تذهب مع والدك إلا وأنت في الثامنة من عمرك، وكنت تحفظ القرآن، وتتحدث لغة أهل ضُلايَةْ بطلاقة، إلى الآن تجيد التحدث بها، تحس بالخوف، لأن جُرحك ما يزال ينزف وهو يؤلمك بشدة، كما أنك لا تستبعد أن يتسلل إلى مكانك أحد القرويين الذين فقدوا أعزائهم وممتلكاتهم ويقوم بالانتقام منك بقتلك، أو أن تقتلك أم الطفلة التي اغتصبتها، ربما تكون قد ماتت الآن، وبينما أنت مابين خوف وندم، قفز في ذهنك سؤال عصي: لماذا قمتَ بما قمتَ به؟

وهنا مَرّ أمامك شريطٌ طويل من الأحداث، بدأ بالرجل الغريب الذي اجتمع بأبيك، وكيف أن أباك تشاجر مع الرجل، ثم بموت أبيك المفاجئ بعد ذلك، ثم بعودة الرجل الغريب مرة أخري، ومعه غرباء آخرون، وبعض شيوخ وشباب رعاة الإبل، كانوا يطوفون علي الفرقان، ويقنعون الناس بالتدريب علي حمل السلاح، وفنون القتال، من أجل حماية إبلهم وفرقانهم من النهب المسلح واللصوص. وبعد أن تدربوا على حمل السلاح تحدث الغرباء عن الأرض، والحواكير، والأودية، والمراعي، والعرب، والزُرقة. ولأول مرة تعرف ـ كنت في العشرين حينها ـ أنك من العرب، وأن سكان ضُلاَيَة وغيرها من الزُرقة؟، لقد شرح لكم الغرباء العارفون بكل شيء الذين يوزعون السلاح والمال بكرم وسخاء عظيمين، من هم الزُرقة، ومن هم العرب، واندهشت مرة عندما أكد الغرباء لكم أن قبيلةً ما من العرب، ثم عادوا مرة أخروا وقالوا لكم إنها من الزُرقة. قطعت سليل أفكاركَ حركة أقدام تقترب منك.

زَوجَتي الشِرِيرةَ
قررنا جميعا أن نغادر إلى مدينة نيالا حيث معسكرات النازحين، بحثا عن الأمن وسبل العيش، فلم تعد هنالك مساكن تأوينا، ولم يعد هنالك سوق نتسوّق فيه، وكل أشجار الفاكهة والمزارع تم تدميرها، وحرقها بواسطة مادة تلقيها الطائرات عليها فتشتعل، يعرفها الناس بالبدرة، الشيء الوحيد الذي بقي سالما، ولم يمس بسوء هي بئر ضُلايَةْ الشهيرة المعروفة في تلك النواحي ذات الماء الكثيف الدائم القريب من سطح الأرض، نحن نعرف السبب من ترك هذه البئر سالمة، بعد أن أخذنا من الماء ما وجدنا له أوعية، قمنا برمي الحيوانات النافقة من حمير وإبل وأبقار فيها، وما استطعنا نقله من حجارة وأوساخ فيما تبقى لنا من زمن بضُلايَةْ، تركناها بئرا لا يمكن أن يشرب منها بشر، أو حيوان، قبل أن نعود إليها نحن الذين قمنا بحفرها، حتماً في يوم ما.

كان يؤرقني مصير أخي الجَنْجَوِيدْ آدم راشد، لا يمكن أن نأخذه معنا، فالرحلة إلى نيالا بالأرجل، لقد قُتِلَتْ الحميرُ أو هَرَبت في الخلاء، ولا سيارات في القرية غير تراكتور حاج إدريس، وقد تم حرقه كذلك، وآدم راشد لا يستطيع المشي، ولا يمكن حمله، فبالإضافة إلى أنه سمين، فهو لا يستحق ذلك،لأنه قاتل وناهب ومغتصب، وأيضا لا أستطيع تركه ليموت عطشا ونزفا، لأنه بصورة أو بأخرى أخي، كانت تنازعني مشاعرٌ وأفكارٌ متضاربة، وقلت لنفسي دع الأشياء تمضي، وفي اللحظات الأخيرة قد يأتي الحل، حدثتني زوجتي المسرورة التي تحصلت علي كنزها أخيرا، في قلته المدفونة في وسط القطية سالماً، أن نستعجل الرحيل وخصوصا أن الليل أخذ يسدل أستاره، وهو الوقت المناسب للرحيل، قلت لها.

ـ وآدم راشد؟

قالت لي، بصورة قاطعة

ـ إكْتُلَهَ.

صرختُ مندهشا، لأنني ما كنت أتوقع مثل هذه الإجابة منها، وهي تعرف علاقتي به، وأنه أخي في الرضاعة

ـ أَكْتُلَهَ أنا؟

قالت ببرود

ـ أيْوَا... أَكْتُلَهَ!!!.

وعندما رأتني استغرب ذلك، أكدت لي أنه الحل الوحيد، لأنني حلفت أمام الناس ألا أدع أحدا يقتله، والناس احترموا حليفتي، ولكني لم أحلف بأنني لم أقتله، وهاهي طفلة زينب جبرين التي اغتصبتها دون رحمة تموت نزفاً، ولا يعلم الناس كم هي الأرواح التي أزهقها هذا الرجل، قبل أن تصيبه طلقةٌ طائشةٌ من بندقية رفاقه وتعيقه، فإذا هو نجا الآن، فسوف يعود إلي قتل الناس مرة أخرى. وأنا السبب والمسؤول، هذا إذا لم تقتلني زينب بت جبرين بنفسها.

قلت لها بأنني لم أقتل إنساناً من قبل.

رَدَتْ إلَيّ بِحزم، وهي تنظر في أم عيني، الشيء الذي لم تفعله قبلها أية امرأة من دارفور لزوجها، وقرأتُ في نظرتها شيئاً مرعباً، ثم قالت من بين أسنانها:

ـ دا ما إنسان.

ثم أشارت لي بصورة ملتوية، ولكنها واضحة تماماً، بما يعني إذا لم تكن رجلا بما يكفي لكي تقتله، سوف أقتله أنا. لأول مرة في حياتي أعرف أن زوجتي «آمنه» هذه الزولة النحيفة الطويلة المنشغلة دائما بالبيت، الزرع، الرضاعة، إنجاب الأطفال، وإعداد نفسها للفراش، تلك الرقيقة الحنينة في الفراش، إنها أيضاً شر مستطير، والحق يقال أنني خفت منها.

وَرَطِتي
خرجنا من ضُلايَةْ في مجموعات ثلاث، عدد من الرجال الشباب في المقدمة، ثم النساء والأطفال ثم الرجال مرة أخرى، هذه الطريقة جنبتني نظرات زوجتي، لحد ما أو لبعض الوقت، علي الرغم من تأكيدي لها بأنني قد قتلته، إلا أنها كما هو واضح من رد فعلها لم تصدقني، وكانت تنظر إلي بنظرات الاحتقار ذاتها، ولكن الحقيقة التي سوف تعرفها زوجتي قريباً جداً، أو إنها عرفتها الآن من النساء، إن زينب بت جبرين، أم الطفلة المغتصبة، عندما تسللت لقتل آدم راشد، لم تجده.  

الخرطوم
22 ـ 6 ـ 2008م