يعود الباحث الفلسطيني الى قضية تمثيلية فلسطين في المؤسسات الدولية، وما لها من أثر مباشر على القضية الفلسطينية لمواصلة المطالبة بالحقوق المشروعة، ويلامس هذا التقرير دلالات هذه التمثيلية وتقاطعها مع النضال اليومي لتحقيق فعل المقاومة المستمرة لمواجهة غطرسة المحتل الصهيوني.

عضوية فلسطين في المؤسسات الدولية مقاومة

مصطفى يوسف اللداوي

ينبغي عدم الاستخفاف بقبول عضوية دولة فلسطين في المنظمات الدولية ومؤسسات الأمم المتحدة، ولا يجوز التقليل من هذه الإنجازات أو الاستهزاء بها، إذ أنها في حقيقتها مقاومة بشكل جديدٍ وثوبٍ آخر، كما أنها أحد أهم نتائج مقاومة الشعب الفلسطيني وصموده، إذ لولا مقاومته العسكرية، وصموده الوطني الأسطوري، وثباته على مواقفه، وتمسكه بحقوقه، واتباعه لكل وسائل المقاومة والنضال، العسكرية والشعبية والسلمية وغيرها، ما كان لمؤسسات الأمم المتحدة أن تفتح لها أبوابها، أو أن تقبل بها عضواً كامل العضوية في منظماتها، تحضر الاجتماعات وتشارك في النقاشات، وتصوت على القرارات، ويقترح مندوبها مواضيع للمناقشة ويفرض على جدول الأعمال ملفاتٍ للتحقيق والمسائلة، ويستعرض من على منصاتها مستجدات القضية الفلسطينية، وهموم الشعب وجرائم واعتداءات سلطات الاحتلال.

ولهذا تعد عضوية فلسطين في هذه المؤسسات نضالاً مختلفاً ومقاومة جديدة، فاعلة ومؤثرة، ولها قيمة وجدوى كبيرة، وليس من السهل الوصول إليها أو الحصول عليها، كما أنه ليس من الحكمة التفريط بها والاستهانة بجدواها، وإن كانت تبدو غير ذلك لدى البعض، ممن لا يثق في السياسة الدولية، ولا يرى أن الدول الكبرى التي صنعت الكيان ورعته، يمكنها أن تؤوب إلى الحق، وترجع عن الخطأ، وتتوقف عن دعم ومساندة الكيان الصهيوني الغاصب، وتؤيد حق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة على ترابه الوطني، ومع ذلك فإن هذه المنصات العالية والمنابر الدولية الكبيرة تخدم قضيتنا إن أحسنا استخدامها، وتساهم في تحسين صورتنا وعرض قضيتنا إن نشطت دبلوماسيتنا العربية والفلسطينية، ونسقت جهودها مع غيرها من البعثات الدولية.

إن عضوية فلسطين في مؤسسات الأمم المتحدة وفي المنظمات الدولية الأخرى تغيظ العدو وتزعجه، وتربكه وتحرجه، وتضيق عليه الأطر التي كانت متاحة له حصراً، ومسماة له دون غيره، يلعب بها بمفرده، ويتفرد بها على طريقته، ويملي عليها ما يشاء من سياسته، ويكذب فيها ويغش ويزور، ويدلس ويدعي ويفتري، ويتهم ويصنف ويشوه، ولعله يبذل أقصى جهوده ويوظف كامل مؤسساته، ويسخر وزارة خارجيته وكافة العاملين في السلك الدبلوماسي لديه للحيلولة دون قبول فلسطين عضواً في المؤسسات الدولية، ومحاربة الأطراف المؤيدة لقبول عضويتها، أو التي ترحب بترشيحها، ولعل وصف أيهود بارك رئيس حكومة العدو الأسبق ووزير دفاعه، قبول فلسطين عضواً في منظمة الانتربول الدولية بأنه فشل جديدٌ آخر لنتنياهو، فيما علق نتنياهو معتبراً انضمام فلسطين للانتربول الدولي ضربة قوية لمفاوضات السلام، وهدد بأنها لن تمر دون ردٍ.

إن التحاق فلسطين بالمنظمات الدولية يخدم قضيتنا، كمحكمة العدل والجنايات الدولية، والشرطة الدولية "الانتربول"، ومنظمة المدعين العامين الدولية، ومحاكم التحكيم الدولية التي تنظر في المشاكل والأزمات، والمنظمات التي تحارب القرصنة والاعتداء، وتلك التي تحارب اعتقال النواب وممثلي المجالس الشعبية والوطنية، ومنظمات التجارة الدولية والإقليمية، ومنظمة المناخ العالمية، ومنظمة الطاقة الدولية، ومنظمة الجمارك الدولية، والمنظمات والمؤسسات العلمية والدراسية والبحثية، واتحاد الصحافة الدولية، وغيرها من المنظمات والمؤسسات التي كانت فلسطين منوعة من دخولها أو الانتساب إليها، والتي كانت دولة الكيان تتمتع فيها وحدها بالعضوية المطلقة، وتسرح وتمرح فيها كيفما تشاء، دون وجود منافسٍ قويٍ لها، أو معارضٍ شرسٍ يتصدى لها، وهذا سبيل من شأنه أن يفتح أمامنا أبواباً كانت مغلقة لمسائلة قادة الكيان واعتقالهم ومحاكمتهم دولياً.

لا يمكننا أن ننسى قرارات منظمة العلوم والثقافة الدولية "الأونيسكو" التي أصدرت أكثر من تقريرٍ أغضب الإسرائيليين وأخرجهم عن طورهم، ودفع رئيس حكومتهم والعديد من قادتهم إلى إصدار تصريحاتٍ غير متزنةٍ، استخف بها بالمنظمة وأهان أعضاءها، وهدد بالانسحاب منها، ووصفها بأنها غير مسؤولة وغير معنية، وأنها لا تفهم القرارات التي تصدرها، ودعا الولايات المتحدة الأمريكية إلى محاربتها وقطع المساهمة المالية الأمريكية عنها، بقصد الضغط عليها وحملها على التراجع عن قراراتها، ومع ذلك فإن قرارات الأونيسكو فيما يخص القدس والمسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية والخليل والحرم الإبراهيمي وغيرها، قد هزت الكيان الصهيوني وصدعته، وسببت له الكثير من التناقضات والأزمات وما زالت، ولو لم تكن قرارات هذه المؤسسات مهمة ومؤثرة، ما كان للحكومة الإسرائيلية أن تستشيط غضباً وتهدد وتزمجر وترغي وتزبد تهديداً ووعيداً.

كذلك يجب علينا ألا ننسى تقرير منظمة الأسكوا الأخير الذي هز الكيان الصهيوني، وأخرج الأمين العام الجديد للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن طوره، وأظهره بصورة المنحاز للكيان الصهيوني علناً، عندما أجبر السيدة ريما خلف مديرة الأسكوا الدولية على سحب تقريرها والتراجع عنه، إلا أنها رفضت الاستجابة لشروطه، وأصرت على موقفها، وأبقت على تقريرها وقررت الاستقالة من منصبها، إلا أن تقريرها الذي يتهم الكيان الصهيوني بالعنصرية بقي ينغص الكيان ويدمغ سياسته بالعنصرية البغيضة، رغم أنه مديرة الأسكوا استقالت وتركت منصبها، إلا أن تقريرها بقي مجلجلاً مدوياً.

المنظمات الدولية شكلٌ آخر من النضال والمواجهة، بطلته المرأة والشيخ والعجوز والرجل والشاب، والطالب والباحث والقانوني والاقتصادي، وكل من لا يقوى على حمل السلاح التقليدي في الجبهات وعلى أرض المعارك، فإنه قد يكون قادراً على حمل أسلحةٍ أخرى، قد تكون أشد فتكاً وأعمق أثراً وابلغ نتيجة، فلا نحبط أنفسنا، ولا نجلد ذواتنا، ولا نحيد قوانا، ولا نبخس جهود بعضنا، بل ينبغي علينا أن نستفيد من كل فرصة، وأن نوظف كل سانحة.

فهذه معركة كبيرة وحرب مستمرة، لا يتورع العدو الصهيوني أن يستخدم فيها كل وسائله وآلياته، أياً كانت قذرة أو غير مشروعة، طالما أنها تهدف إلى خدمة مشروعه وحماية كيانه، ولكننا بالانضمام إلى هذه المؤسسات فإننا ننافسه ونضيق عليه، ونجرده مما يعتقد أنه له وحده، ونستخدم ذات الأدوات الدولية المشروعة، والأسلحة القانونية المعترف بها، والأنظمة المعمول بها، فهل نتخلى عن هذا السلاح بحجة أنه غير مدوي، ونتركه لأنه غير مجدي، ونبقيه لعدونا يتفرد به ويستقوي به علينا، وهو القوي بغيرها والمتفوق علينا بسواها.