منذ العنوان الذي تبرز عتبة النص الأولى فيه التناقض والمفارقة، وعبر الضربات السردية ذات الإيقاع السريع، تتخلق تلك العلاقة العابرة الحبلى بالوعود الغامضة والتوتر، وسط صخب مدينة لا تلوى على شيء، ولا تلقى في وجه بنيها بغير اللعنات.

شرق الغروب

عبداللطيف الإدريسي

قدم من غرب كازابلانكا، وقدمت هي من شرق الدار البيضاء.. أجواء مكدسة، صخب وغضب وإحباط وتلوث. تقتحمها الحافلة المكتظة بالبشر.. قلقة.. تعصر أصابع يديها.. تقضم أظافرها بشراسة. من يكون هذا الغريب الذي تجرأ أن يستقبلني بحرارة، وكأنه كان يشاركني اللعب بالعرائس القصبية في الدوار منذ الصغر؟ توقفت الحافلة بقوة شديدة بسبب الكبح المباغت.. مال نصف البشر على نصف البشر الآخر.. سبّ البعض البعض الآخر، وسبّ البعض الآخر السائق، وسبّ السائق صاحب سيارة "تواريغ" السوداء الألمانية الصنع القادمة من الجهة الغربية، والتي لم يحترم سائقها شارة المرور. لماذا كل هذا الحنان؟ من أين استقاه؟.. أكيد إنه غبي يجهل نفسه.. حتى أمّي لا تكنّ لي كل هذا الحنان.

وضع الكتاب في حقيبته.. حملق لحظة جهة السماء.. راودته أفكار كافرة.. قرّر أن يتمشى جهة الشرق ليقترب من موضع موعده. لم يبال بشارة المرور.. تقدم وحده سالكا ممرّ الراجلين.. لم تُنبّهه من أفكاره الكافرة إلا عجلات سيارة "تواريغ" وهي تصفّر من أثر الكبح المفاجئ، تبعتها شتائم قذف بها سائق السيارة السوداء عبر النافذة. أسرع خطاه معتذرا سالكا طريقه بين ضجيج سيارات، ودراجات، وشاحنات، وحافلات، كان هو السبب في اكتظاظها. تابع شرطي المرور الأحداث مباشرة تحت ظل شجرة، وهو ينظر بين الفينة والأخرى إلى شاشة تليفونه الجوال.

وصلت الحافلة إلى وسط المدينة. تخلصت من الزحام بكل ما تستطيعه من سرعة. كادت روحها تزهق من أثر التكدس. تنفست بعمق هواء المدينة الملوث. سوت حجابها. ألقت نظرة خاطفة على عينيها اللتين عكستهما مرآتها الصغيرة المدورة، التي انتشلتها من صاكها الجلدي الأسود. مرت بسبّابتها الرقيقة، تدعك ما تبقى من مسحوق التجميل الوردي، الذي كانت آثاره لا زالت بارزة.

توقف عند كشك الجرائد.. ألقى نظرة على الجرائد والمجلات الطريحة الأرض.. التقط من الأرض الاتحاد الاشتراكي، والمساء، والصباح، والأسبوع، والأيام، والحركة، ونيشان، و "طيل كيل"، و "لوجورنال"، وآخر عدد من العربي. وضعها صاحب الكشك في كيس من البلاستيك. تناول الكيس، وأخرج نيشان ليتصفحها وهو ماش. المنتخب الوطني: المغاربة ضد الفرانصيص.. شهادة صادمة: كيف احترفت القوادة.. ديوان المظالم: شكي عليّ نشكي عليك.. مؤتمر اتحاد الكتاب: المشاش في دار العرس.. المغرب كما هو.. شهرين من الفورفي مجانا.

تخترق لها سبيلا وسط هذا الاكتظاظ المتصاعد. تتوقف عند باب مراكش. هل يعرف الستاتي؟ تساءلت ويدها تلتقط قرصا مضغوطا للستاتي من الأرض. هل سيحبه؟

سيديهات أصلية، قال البائع المتجول.. وضع سماعة قارئ م ب 3 على أذنيه. انطلق صوت جاك بريل مرددا.. نو مو كيت با.. اختلط صوت جاك بريل بصوت الستاتي.. لا أظنها ساذجة إلى هذه الدرجة وعيناها تغليان ذكاء. شيء خفي يجعلها تقوى على الإيمان بهذه الدرجة.. رفع عينيه للسماء معترفا أن سرّ الشرق، والغنوصية، والحلاج، وسمعان العمودي، تتحداه هو الدرائعي.. هل يحتوي على أغنية "ما ننساك"؟ ضغط البائع المتجول على الزر.. شقّ صوت الستاتي فضاء باب مراكش صائحا:

ما ننساك يا اللي قلبي راح معاك
علاش عطيتي العهد
جيت لقيت غيري سبقني ودّاك

جلسا على شاطئ البحر.. في مكان ما بين الدار البيضاء وكازابلانكا. كانت الشمس قد اقتحمت الأطلسي.. تركته جسدا بدماء حمراء.. صار قتيلها.. سألته إن كان يؤمن بالله.. سألها لماذا ترتدي الحجاب؟.. صمتت.. أقر بإيمان راسخ بعدم وجود الله.. علقت على ما خالجها، وهي في حافلة الصباح، مجيبة إنه لم يكن لا غبيا، ولا ساذجا، رغم الحنان الفائض الجلي.. غوايته زادت على كل توقعاتها.. في حيرة سألته وهي تحاول أن تلتقط ما بدأ يتلاشى من إيمانها القوي: إذا لم يكن الله موجودا فمن الذي سيقتلك؟ 

الدار البيضاء ـ بيزوس، يناير 2009م