بشاعرية تكتب القاصة الأردنية إلحاح الماضي على الحاضر، ومحاولات الذات للهروب من عبئه المبهظ، أم تراها معاناة مخاض الحاضر وهو يتأبى على التملص من قبضة الماضي، ويدرك حتمية أن يصنع سلامه معه، كي يتحقق فعلا به.

هروب ...

صفاء يوسف عساف

تَرَك جرحاً في قلبكِ، ودمعةً جففتها أشغال الحياة. ترك خلفه ابتسامة متألمة، وعيوناً حزينةً هاربةً مما صنع بكِ. لا تريدين تذكّر حجم الألم الذي سببه لكِ ومقدار الحزن الذي أهداكِ إياه. ظننتِ أنك استطعتِ المضي قدماً واسترجعتِ حياتكِ. خُدِعتِ بقدرتكِ على النسيان.

تنضجين بلا وعيٍٍ منكِ كلما كان جرحكِ عميقاً، وتفهمين الحياة بشكل آخر. تمضي بكِ الأيام. لا تعلمين ما فعلت بكِ السنين حتى يقفَ أمامكِ، فتشاهدين نفسكِ من منظاره. قد تبتسمين وتُكملين طريقكِ وقد يعود الألم ليزور حاضركِ، ويمزجه بعَبير الحزن والأسى.

*    *    *

يُلاحقني ولا أعلم ما يريده مني. أنظر خلفي فلا أرى شيئاً. أُكمل دربي و أنا خائفة من ملامح وجهه، من قدرته على التحكم بي، من تصميمه على مواجهتي، وإن لم أشأ ذلك. ماذا يريد مني؟ لماذا يلاحقني باستمرار؟ كيف أصدّه؟

نظراته تتعقّبني أينما ذهبت أو اختبأت، تطاردني في لحظاتٍ من زمنٍ قد سكن كياني وهزّ ذراعي بألمٍ صامت، تطالبني بمواجهته والإجابة عن أسئلته الغامضة.

بغضبٍ يمسكني ويشدّني إلى الحائط، وأنا أُبعد نظري عنه. دموعي تنهمر بغزارة. ابتعد عني، ماذا تريد مني؟ ابتعد، أنت تؤلمني. قلتُ وأنا آملُ أن يبتعد ولو للحظات كي يخفف من وطأة ألمي. أشاح بنظره عني وابتعد رويداً. حدّق في الأرض بأسى: لماذا تريدين الهرب مني؟ ما الذي فعلته بكِ؟

توالت كلماته واحدةٌ تلو الأخرى حتى تحولت إلى رعد عاصف. لم أُجب. فاقترب مني محدّقاً في عينيّ الباكيتين: لن أترككِ حتى تُدركين أنك لن تستطيعين العيش من دوني.

دفعتُهُ عني وهربت، فيما ظلَّ هو يراقبني من بعيد. لم أنظر خلفي لأرى إن كان حزيناً، غاضباً، أم باكياً. كل ما أردته هو الابتعاد.

لا أعلم إن كنتُ أحلم، أتمنى، أو حتى أريد البكاء. لكن ما أعرفه هو أن ذهني ينتقل لا شعوريا إلى عالم آخر وأنا في الحاضر، وكأني في زمنَين مختلفين لكن في جسد واحد. شعور يغمرني بالصمت، دون أن أستطيع قول كلمة، فقد علمتُ أنه سيعود يوماً، وتقف كل الكلمات خافضة حروفها أمامه لحظة تسللت مني وأنا أتساءل إن كنتُ على استعدادٍ لمقابلته.

استطاع أن يتحكم بمشاعري، و نجح حقاً بأن أفكر به طوال الوقت، ترصّد تحركاتي وتعقبها في كل مكان. أحياناً كنتُ أراه وأحياناً أشعر به كظلّي الطويل.

ذلك اليوم، كنتُ منشغلة بأعمالي وحياتي المعتادة، تسلل أمامي دون أن ألحظ مجيئه أو أشعر به. توقَّفَتِ الحياةُ حولي لحظات، وتحوّل الكل إلى سكون. نظرتُ إليه أريد الهرب لكن لم أفعل. حدّقتُ في عينيه فتحركت شفتاه: أريد أن أتحدث معكِ.

أجبته بإصرار: وأنا لا أريد. كفَّ عن ملاحقتي بلا جدوى لأنك لن تفلح في شيء.

باستهتارٍ كاملٍ قال: هل أنتِ واثقةٌ من ذلك؟ إن كنت واثقةً سأبتعد عنك للأبد، ولن تري وجهي بعد اليوم.

تلعثمت حروفي، و ترددتُ في الإجابة لأنني لم أعلم حقاً ما أُجيب. وقبل أن أقول كلماتي المتقطّعة أجاب عنّي: هل رأيتِ! لن تستطيعي. قالها وهو يبتسم ابتسامة المنتصر، الذي علِم أن اليوم الذي أعترفُ فيه بالأمر المحتوم سيأتي.

بقي حديثه يرنّ جيئةً وذهاباً في عقلي. حاولتُ دون جدوى الإجابة على كلامه. بقيتُ على هذا الحال أياماً عدّة. وبينما بدا عليّ الإرهاق والتعب, همس لي برقة: لا تردي الآن، اذهبي إلى البيت، وخذي قسطاً من الراحة.

مضت الأيام ولم أفهم كيف! أتذكر أنني نسيتُ أسئلته وكلامه. وفي يومٍ ماطرٍ، بينما تلاعبت قطرات المطر بِبَشرتي مبللةً ما جففته أغصان الحياة، أدركتُ أنني ربما كنتُ بحاجته لأشعر بالحياة. إن نسيتهُ فربما أنسى الزمن كله: أمرٌ لا يمكنني أحتماله، شعورٌ يفوق قدرتي على الإستمرار، يستنفذ طاقتي عن آخرها ويمتص حياتي. كان لا بد أن اراه.

دنغ دونغ. دُقّ الجرس.

فتحتُ الباب: أنت! ونظرتُ إليه بدهشة: كيف عرف؟

سنظلّ واقفين هنا؟ قال.

أدخلته، فجلس ينظر حوله بفضول. أراد البدء بالحديث فسبقتُه: أنظر، لا أعلم كيف تجرأت وأتيت، لكن سأقولها للمرة الأخيرة، توقف عن ملاحقتي، لا أريد أية علاقة تربطني بك.

لم كل هذا العناد؟ قال. لماذا تصرين على التشبث برأيك؟! أنت تؤذين نفسكِ. أنا لم آت إليكِ لمجادلتكِ أو إيذائكِ... فقاطعته: لكني، أشعر أنك تريد إيذائي، لمَ اذاً عدتَ تلاحقني، مع أنك تعلم أنني تركتكَ للأبد؟ ما الذي تريد إثباته الآن؟

أأنتِ مستعدة لسماعي؟

عمّ الهدوء جو الغرفة لبضع ثوانٍ، ثم نزلت كلماته كصاعقة ضربت رأسي: أتعلمين ما مشكلتكِ؟ لم تُدركي بعد أهمية وجودي في حياتكِ مهما أبعدتكِ السنين عنيّ. تريدين الهرب ممن كرّس حياته من أجلكِ كي تتقدمي وتصلي إلى المكان الذي أنت فيه. لم تنفكي تدفعينني عنكِ، وأنا بقيتُ أُريكِ الدرب. لماذا؟ هل استحق كل هذه القسوة؟ أنا من صنعتُ منكِ ما أنت عليه الآن: أخطائكِ، انتصاراتكِ، دموعكِ، سعادتكِ، ألوانكِ، صفحاتكِ. افهميني جيداً، انا هنا من أجلكِ أنتِ. أريدك أن تشعري بالسلام بيني وبينكِ. لستُ أنا من تريدين الهرب منه، فأنتِ صنعتِني بيديكِ.

صَمَتَ وصوتُ أنيني تكلم عني. وقف وقال: تعرفين أين أكون. سأنتظر جوابكِ ولو متأخراً.

توجّه نحو الباب فناديته: أيها الماضي...

التفت إليّ ببطئ. هرعتُ إليه باكيةً وحضنته. شددته الى صدري بقوة، وبرغبة. أحسستُني بداخله، لكأنها ولادة جديدة لا مثيل لانبثاقاتها: أنهرٌ من الدموع، جبالٌ من الضحكات، بحارٌ من الشهقات...

فتحت عينيّ فرأيته يمشي مبتعداً. كان يقول بحبّ: لقد وجدتُ الإجابة عن سؤالي.

حين أغلقتُ الباب على كلامه، عرفتُ أنني أغلقته إلى الأبد.


قاصة من الاردن