حين أعلن وزير الخارجية البريطاني اللورد "آرثر جيمس بلفور" رسمياً تأييد بلاده إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وجه رسالته الشهيرة في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني العام 1917 إلى المليونير البريطاني اليهودي "ليونيل والتر روتشيلد" التي تضمنت الوعد الشرير " يسعدني كثيراً أن أبلغكم نيابة عن حكومة جلالة الملك التصريح التالي الذي ينطوي على التعاطف مع أماني اليهود الصهيونيين التي قدموها ووافق عليها مجلس الوزراء.
إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وسوف تبذل ما في وسعها لتيسير تحقيق هذا الهدف، وليكن مفهوماً بجلاء أنه لن يتم أي أمر من شأنه الإخلال بالحقوق المدنية للطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين أو بالحقوق والأوضاع القانونية التي يتمتع بها اليهود في أي دولة أخرى. وسأكون مديناً لكم بالعرفان إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا البلاغ "
لم تكن هذه المرة الاولى التي يذكر فيها اسم فلسطين كمكان لتوطين يهود العالم، فقد وجه القائد الفرنسي "نابليون بونابرت" نداء إلى يهود آسيا وإفريقيا يطلب منهم الانضمام إلى حملته على بلاد الشام في العام 1799 بعد أن فشل في دخول مدينة عكا، ووعدهم أنه سوف يقوم بتوطينهم في الأراضي المقدسة. حتّى أن بريطانيا العظمى ذاتها كانت قد فكرت في تجميع اليهود في فلسطين، في سياق مخططاتها لتفتيت الدولة العثمانية، إذ بعث وزير خارجيتها اللورد "بالمرستون" رسالة إلى سفير بريطانيا في اسطنبول العام 1840 يقول فيها "أنه إذا استقر اليهود في فلسطين، فإن ذلك سيخولنا استخدام اليهود كمخلب قط ضد العرب والدولة العثمانية".
في العام 1882 عقد بعض المسيحيين الصهاينة المرموقين اجتماعاً لمناقشة إمكانية توطين المهاجرين من يهود اليديشية في فلسطين، بزعامة الصهيوني "هشلر" الذي ارتحل إلى القسطنطينية حاملاً رسالة إلى السلطان العثماني من الملكة فيكتوريا تطلب فيها السماح بتوطين يهود روسيا في الأراضي المقدَّسة. ثم عقد اجتماعاً آخر العام 1884 في ألمانيا حضره أرباب المال اليهود لدعم عملية الاستيطان في فلسطين، وكان من نتيجة ذلك أن أنشأت المستعمرات الزراعية اليهودية بدعم من الثري اليهودي الفرنسي "أدموند دي روتشيلد"، الأمر الذي ساهم في مضاعفة أعداد اليهود في فلسطين من "12000" في عام 1845 إلى "85000" في عام 1914.
منذ نهاية القرن التاسع عشر دأبت الحركة الصهيونية على تشجيع يهود العالم للهجرة إلى فلسطين، وأحسنت توظيف بعض الافكار المعادية لليهود التي بدأت في الظهور في عدد من الدول الأوروبية لبث الرعب وسط اليهود لدفعهم إلى الهجرة. وكما هو معروف فقد انعقد في مدينة بازل السويسرية المؤتمر الأول للحركة الصهيونية العالمية العام 1897 حيث صدر عن المؤتمر خطة استعمار فلسطين وتأسيس وطن قومي لليهود.
مع بداية الحرب العالمية الأولى العام 1914 قدمت بريطانيا وعداً للعرب بمساعدتهم على نيل الاستقلال إذا دخلوا الحرب بجانبها. وفي العام 1916 وقعت كل من فرنسا وبريطانيا اتفاقية "سايكس بيكو" التي تضمنت تقاسم النفوذ في المنطقة العربية، حيث تم وضع كل من سوريا التي كانت تضم لبنان تحت السيطرة الفرنسية، وكل من الأردن والعراق تحت السيطرة البريطانية، على أن تظل فلسطين منطقة دولية. هذا الوضع تغير مع انعقاد مؤتمر "سان ريمو" العام 1920 في إيطاليا الذي حضره الحلفاء، إذ تقرر وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وتم إرسال الصهيوني "هربر صموئيل" كأول مندوب سامي بريطاني في فلسطين.
في العام 1919 تم عقد أول مؤتمر وطني فلسطيني تم فية أدانة ورفض كامل لوعد بلفور. وفي العام 1922 أصدرت عصبة الأمم قرارا يرسخ الأنتداب البريطاني على فلسطين، ويعمل في صالح تاسيس وطن قومي لليهود في فلسطين. وفي أغسطس 1929 وبعد سلسلة من العمليات الارهابية الصهيونية ضد الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم بالقوة اهتزت مدينة القدس بفعل أول اشتباك واسع النطاق بين الفلسطينيين واليهود، وسقط في المواجهات 133 يهوديا واستشهد 116 فلسطينيا. في العام 1936 قام الفلسطينيون بإضراب عام شامل لمدة ستة أشهر احتجاجا على الإرهاب الصهيوني ومصادرة الأراضي والهجرة اليهودية. وقام الفلسطينيين بتشكيل اللجنة العربية العليا للدفاع. وتتالت بعد ذلك المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين، وتواصلت المواجهات المسلحة غير المتكافئة بين المجاهدين الفلسطينيين والمليشيات الارهابية اليهودية المسلحة بأفضل الاسلحة.
لقد ادعت بريطانيا أنها تحاول تسوية الخلاف بين اليهود والعرب وذلك لكسب الوقت لصالح الاستيطان. وفي عام 1937 قدم اللورد "روبرت بيل" التقرير الذي خلصت له اللجنة التي كان يرأسها، حيث ورد في التقرير أن استمرار العمل بنظام الانتداب على فلسطين غير ممكن عمليا وأنه ليس هناك أمل في قيام كيان مشترك بين العرب واليهود. بعد تأكيد التقرير على استحالة قيام كيان مشترك لليهود والعرب، تم اقتراح تقسيم فلسطين إلى دولتين أحدهما عربية والأخرى يهودية على توضع الأماكن المقدسة تحت الإدارة الدولية. في سنة 1939 ومع بداية الحرب العالمية الثانية وفي محاولة لكسب مساندة العرب لها ضد المانيا أعلنت بريطانيا تقيد هجرة اليهود وعرضت منح الأستقلال للفلسطينين خلال أمد عشر سنوات. رفضت الحركة الصهيونية تلك المقترحات وقامت بتأسيس عصابات مسلحة جديدة للقيام بعمليات دموية ومذابح.
بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية تخلت لندن عن وعودها للفلسطينيين، وعاد زعماء الحركة الصهيونية لتكثيف هجرة اليهود إلى فلسطين. بينما صعدت الحركات الصهيونية المسلحة مثل الهاجانا والأرغون والستيرن غانغ من هجماتها المسلحة. ودخلت الولايات المتحدة مع نهاية الحرب العالمية الثانية الخط الأول للدفاع عن تسريع تحويل فلسطين الى مستعمرة استيطانية لليهود. وبضغط من الرئيس الأمريكي ترومان أرسلت بريطانيا لجنة جديدة لدراسة الوضع. اللجنة الإنجليزية الأمريكية أوصت بالتهجير الفوري لحوالي 100,000 يهودي أوروبي لفلسطين، كما أوصت برفع القيود على بيع الأراضي الفلسطينية لليهود، كما أوصت بوضع الكيان المشترك مستقبلا تحت رعاية الأمم المتحدة.
في عام 1947 قررت بريطانيا الانسحاب من فلسطين وطلبت من الأمم المتحدة تقديم توصياتها. وهكذا عقدت أول جلسة طارئة للأمم المتحدة في 1947 وتم أقتراح مشروع تقسيم فلسطين الى دولتين فلسطينية ويهودية على أن تبقي القدس دولية. وقد تمت الموافقة على الأقتراح من طرف 33 عضوا مقابل رفض 13 عضوا وبدعم من الأتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية وبامتناع بريطانيا عن التصويت.
رفض العرب مشروع التقسيم واندلعت الحرب العربية الاسرائيلية الاولى سنة 1948 بعد الأنسحاب البريطاني في 14 مايو/ أيار. وفي اليوم التالي الموافق 15 مايو/ أيار 1948 أعلن أحد قادة الحركة الصهيونية "ديفيد بن جوريون" قيام إسرائيل وعودة الشعب اليهودي إلى ما أسماه أرضه التاريخية، ونتيجة لتلك الكارثة التي أطلق عليها "النكبة"، قامت دولة يهودية في فلسطين تسمى دولة أسرائيل و تقرر فتح باب الهجرة لكل يهود العالم للكيان الجديد.
في نفس اليوم قامت وحدات ضعيفة التسليح من جيوش من مصر والأردن وسوريا ولبنان والعراق مع مقاتلين عرب آخرين والمقاتلين الفلسطينين الذين كانوا يقاتلون اليهود منذ نوفمبر/ كانون الأول 1947 ببدء حرب ضد الكيان الصهيوني. وقد فشل العرب في منع قيام الكيان الصهيوني، حيث أنتهت الحرب بأربع قرارات وقف أطلاق النار من الأمم المتحدة بين اسرائيل ومصر ولبنان والأردن وسوريا ودفن قرار التقسيم. وشرد أكثر من 900 الف فلسطيني خارج وطنهم في حين شرد داخل ما لم يحتل من اراضي فلسطين مئات الالاف الاخرين.
في ذكرى مرور مائة عام على الوعد المشؤوم، يستمر تهويد القدس، والاستيطان لا يتوقف، وكذلك مصادرة الأراضي، إن جميع المجازر التي ارتكبها الصهاينة على مدى عقود، وكل ما يجري على الأرض الفلسطينية من انتهاكات يومية تقوم بها اسرائيل بحق الشعب الفلسطيني دون حسيب أو رقيب هو تجسيد لوعد بلفور. لقد كشف تقرير صادر عن الإحصاء المركزي الفلسطيني، (حكومي)، في شهر مايو 2015 أن إسرائيل استولت على 85% من أراضي فلسطين التاريخية وتواصل نهب الأراضي والمقدرات الفلسطينية، ولم يتبقَ للفلسطينيين سوى حوالي 15% فقط من مساحة تلك الأراضي، معرضة هي الأخرى لخطر للتهويد وبناء المستوطنات.
في يوم 31 ديسمبر 2014، استخدمت واشنطن، حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن ضد مشروع قرار عربي ينص على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية بنهاية عام 2017. إن استمرار الغرب في تبني الرواية الاسرائيلية، والانحياز لها في المحافل الدولية يعتبر تنكراً فاضحاً لحقوق الشعب الفلسطيني السياسية والوطنية والتاريخية. ولكن ألا يمثل احتقار "تيريزا ماي" للشعب الفلسطيني، عبر دعوتها لرئيس الحكومة الإسرائيلية "بنيامين نتنياهو" للاحتفال بذكرى مرور مئة عام على وعد بلفور، انعكاساً للهيمنة والغطرسة الغربية تجاه شعوب المنطقة المستمرة منذ أكثر من قرن؟
أليس استمرار القضية الفلسطينية دون حل عادل يضمن للشعب الفلسطيني حقه في التحرر والاستقلال وغقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، بالرغم من التضحيات الجسام التي قدمها هذا الشعب، والأثمان الباهظة التي دفعها، والعذابات التي عاناها على أرضه وفي بلدان الشتات، لهو دليل قاطع على الإنحدار الأخلاقي والقيمي لكافة المنظومة الحقوقية والإنسانية التي يتشدق بها الغرب؟
إلى متى سوف تظل فلسطين والشعب الفلسطيني خارج تغطية "الإنسانية الغربية" المزعومة؟ هل مازال هناك أحد يشكك بازدواجية المعايير عند الولايات المتحدة والدول الغربية نفسها التي تعمل على تسويق الأفكار المرتبطة بحقوق الإنسان وبالحريات العامة في المنطقة، بينما هي عاجزة مازالت عن القيام بواجبها في إنصاف الشعب الفلسطيني، ورفع الحصانة عن ربيبتهم إسرائيل في المحافل الدولية كي تتم محاسبتها على جرائمها التي ارتكبتها وماتزال بحق الفلسطينيين.