1.مدخل:
صلتي الشخصية المباشرة بالشاعر/ الروائي/ الفنان ابراهيم نصر الله في عمان تعود لما يقرب من ربع قرن من الزمان، بيد أنني عرفته شاعراً قبل ذلك بسنوات حينما قرأت قصيدته الملحمية الفذة "الحوار الأخير قبل مقتل العصفور بدقائق" على صفحات مجلة "الهدف"، وظلت حية في الذاكرة نموذجاً إبداعياً للقصيدة المقاومة، التي عرفتها في قصائد محمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد، وعز الدين المناصرة وغيرهم الكثير. وبعد "الحوار الأخير" أتيح لي أن أقرأ لابراهيم قصيدة طويلة أخرى تحمل سمة ملحمية واضحة، وكانت بعنوان "فضيحة الثعلب". والحقيقة أنني قرأتها مرات عديدة وأذهلني ذلك التصور الإبداعي-الثقافي الذي بناه الشاعر لأمريكا إثر زيارة شخصية لها قام بها نصر الله في مطالع التسعينيات.
على أنه منذ القراءة الأولى لـ"فضيحة الثعلب" انطلق ذهني في مقارنة بين الصورة/ الحلم التي تخيلها "والت وايت ويتمان" لأمريكا، والصورة الجديدة التي يرسمها ابراهيم نصر الله للولايات المتحدة في "فضحية الثعلب". وكان علي أن أعود لديوان ويتمان باللغة الانجليزية "The Leaves of Grass"، أي "أوراق العشب" بعد غياب. وما أن اختمرت ملامح الفكرة في ذهني، حتى وجدتني أكتب مقالة نقدية في صحيفة "الرأي" الأردنية (7/1/1994) بعنوان "فضحية الثعلب:- سقوط آخر للحلم الأمريكي"، إذ كانت قصيدة نصرالله عملاً مضاداً/ معارضاً للولايات المتحدة كما تصورها وحلم بها ويتمان.
كانت تلك أول مادة نقدية أكتبها عن أحد أعمال نصر الله الشعرية، وبدا لي أن نصر الله قد فوجئ باسم الكاتب وبالمقالة، فكانت فرصة للقاء شخصي أول، استمر نحو ربع قرن من الزمان حتى الآن. ويمكن القول إن علاقتي بابراهيم قد توطدت إلى حد بعيد، ما أتاح لي معرفة شخصية الإنسان- والمبدع عن قرب، مثلما هيأ لي فرص الاطلاع على أعماله الشعرية والروائية والنثرية والفنية الأخرى، حتى بلغ عدد المقالات/ الدراسات التي كتبتها عن أعمال نصر الله أكثر من عشرين مادة نشرت –غالباً- في صحيفتي "الدستور" و "الرأي"، وأحياناً في بعض المنابر الصحفية والثقافية العربية. ثم انتقيت منها ما توسمت فيه جدارة الصدور في كتاب، فكان "فضاء التجاوز: قراءات تطبيقية في إبداعات شعرية وروائية لابراهيم نصر الله" (دار الشروق، عمان 2012).
وفي هذه السيرة الموجزة-المكثفة أحاول أن ألقي شيئاً من الضوء على مسيرة نصرالله الشخصية-الإبداعية، وهي مسيرة ما تزال مستمرة وبحاجة إلى المزيد من الإبحار في عالم نصرالله الذي يبدو لي وكأنه عالم بلا حدود.
2. ملامح لسيرة شخصية
كان ذلك في التاسع عشر من شهر كانون الأول (ديسمبر) من عام 1954 حينما أطلق ابراهيم – الطفل صرخة الحياة الأولى في مستشفى "لوزميلا" في جبل عمان ليكون أول الغيث لأبوين اقتُلعا من قريتهما الفلسطينية (البريج - غربي القدس) في عام 1948. وفي خضم البحث عن ملاذ ممكن للعيش لم يكن أمام الأبوين إلا ان ينتقيا خيمة للإقامة في غور نمرين شرقي نهر الأردن، ثم مغارة جبلية في سفح جبل النظيف في عمان. فيما بعد سيكبر الطفل ويغدو كاتباً مرموقاً، ليكتب شيئاً من سيرة روائية لعالمه الأول صورها في روايته "طيور الحذر" فيقول: "بيوت متباعدة ظهرت في البعيد، أناس يتسلقون حافة الجبل، ويندسون في ثقوب صخرية،عرفتُ فيما بعد أنها مغاور، وأنهم يسكنونها، كانت (موحوشة) بالذئاب والضباع والثعالب، وظللتُ اشفق عليها."
ومن مغارة في الجبل سوف تنتقل الأسرة إلى إحدى المعلبات الإسمنتية في المخيم الذي عُرف لاحقاً ب"مخيم الوحدات"، حيث يتقدم الشتاء "ويتطاول بين البيوت، صقيعاً ينتشر، كل ما لديهم من ملابس فوق أكتافهم، كأنهم يرتدون خزاناتهم". وهكذا عاش ابراهيم طفولته وصباه في مخيم الوحدات الذي وصفه ذات حوار بأنه "المنفى الذي لا يمكن أن يكون في أحسن حالاته أكثر من رحم بارد، حيث الناس مجاميع من البشر تعكس حالة فلسطين في عرائها". ولابد أن المخيم بطبيعته وظروفه وأوضاع اللاجئين فيه قد شكل مرحلة مهمة في وعي الصبي بالنكبة التي، وإن لم يخبرها بصورة مباشرة في حينه، فقد عاش آثارها حين وجد نفسه في جوف المأساة بكل ما تعنيه من تشرد وضياع وفقر، وفقدان للبيت والبيارة، وغياب للهوية. وما بين عشية وضحاها انضم مع أهله إلى قوافل اللاجئين الذين أصبحوا أسماءً وأرقاماً في سجلات "الأنروا" التي تزودهم بالفتات من مواد إغاثة تأتي أموالها من دول الاستعمار الجديد والقديم وبعض الدول الأخرى.
سوف تطول المعاناة وسوف تسارع الأمم المتحدة إلى بناء مدارس لأبناء اللاجئين في المخيمات، في كل من الأردن وسوريا ولبنان والضفة الغربية وقطاع غزة. وسوف يكون من نصيب مخيم الوحدات عدد من هذه المدارس، وفي إحداها سيتلقى ابراهيم – الصبي تعليمه الإبتدائي والإعدادي في الفترة ما بين عامي 1960 و 1969. في مدارس الأنروا يشعر ابراهيم برغبة في كتابة الشعر، وفي مشاهدة الأفلام السينمائية، تلك "الرغبة- الهواية- الموهبة الأولية" التي ستنمو في المرحلة الثانوية، وسوف يهجو فيما بعد أستاذ اللغة العربية. في عام1972 ينجح ابراهيم في امتحان شهادة الثانوية العامة الأردنية، ليلتحق بمعهد المعلمين التابع للأنروا في عمان، ويتخرج فيه في عام 1974 حاملاً دبلوم التربية، ما كان يؤهله لأن يصبح معلماً.
سوف أهاتفه بعد ذلك بأكثر من ثلاثين عاماً وأطلب إليه أن يكتب شيئاً عن تلك المرحلة لمجلة تربوية تصدرها الأنروا (حيث كنت أعمل)، فكتب يقول: "عن ذلك الزمن البعيد بعض زوايا المشهد: ثمة معهد للمعلمين في عمان، تشرف عليه وكالة الغوث، مخصص لأبناء اللاجئين الفلسطينيين، وقد جمع هذا المعهد بين عامي 1973و 1977، عدداً من الطلبة، تحولوا فيما بعد إلى جزء أساسي من الحركة الأدبية في الأردن وفلسطين. خمسة شعراء وروائيان، أصبحت، لهم مساهماتهم الواضحة، وكلهم ينحدرون من بيئة فقيرة واحدة، وطفولة قاسية، وآباء أميين. وقد ظل السؤال يتردد، "كيف استطعتم أن تكوّنوا أنفسكم؟" وكان آخر هذه الأسئلة من أستاذ الأدب العربي الحديث الدكتور عبد الرحمن ياغي، الذي فكر بتأليف كتاب حول هؤلاء. هنا، بعض هواجس تحاول جمع فتات الصورة المبعثرة في الذاكرة والنسيان أيضاً، فقد يجدالسؤال جوابه.
الصورة الأولى، ورغم أنها طالعة من ضباب، تتمثل في ذلك المشهد الطيني العاصف، رياح قوية وامتدادات مقفلة تشبه إلى حد بعيد مشاهد سينمائية في مناطق قطبية. كان عمري ثلاث سنوات أيامها، ولست أدري الآن هل كان ذلك حقيقة أم حلماً. لكن وفي الحالتين مشهد لا ينسى، وهو يعود إلى عام 1957. المخيم هو الوحدات، قرب عمان، والبيوت أشبه ما تكون بقبور جماعية فوق الأرض، لا شجر ولا أثر للحياة، الأب أمي، والأم أمية، وطبيعة الحياة القاسية لا تشير إلى يوم تال أبداً، كيف استطعنا تجاوز حواف الجوع ومجاهل المرض الذي كان يفتك بنا بأنواعه؟ لا أدري.
أتذكر المدارس الأولى، الحيطان التي كانت تسقط علينا في الطريق إلى كتبنا، فيموت بعضنا، وينجو آخرون ليموتوا بأسباب أخرى. أتذكر مكتبات المدارس، وأتذكر المعلمين، كان ثمة عداء للكتاب، الاقتراب منه يشبه المعصية، وهو محفوف بالمحاذير والتحذيرات وقطع اليد التي تمتد إليه. هل لأنه كان محرماً إلى هذا الحد اندفعنا إليه بكامل أرواحنا؟ لست أدري، ولكن الحصول على كتاب كان دائماً محاطاً بسحر خاص، سحر النجاة المتحققة كلما أفلتنا من أن نضبط متلبسين به، وسحر العوالم الغريبة التي كانت أشبه ما تكون بالسفر، لكنها في تلك الأيام كانت سفراً في الاتجاه نفسه، وأعني اتجاه البؤس الإنساني في أقسى حالاته، ولست أدري لماذا لم يقع في أيدينا في تلك الأيام إلا روايات مثل: البؤساء، أحدب نوتردام، آلام فارتر، كوخ العم توم، الجوع، وأحزان روايات محمد عبد الحليم عبدالله، والعبرات والنظرات والشاعر للمنفلوطي. هل كانت تلك الأحزان والآلام التي يعيشها أبطال تلك الروايات تخفف من أحزاننا أم تزيدها اتقاداً؟ لست أدري.
لكنها ما توافر لنا بعيداً عن أعين آبائنا الذين لم يكونوا يعرفون الفرق بين حرف وحرف أو كلمة وكلمة، لكنهم كانوا يلتقطون الفرق الصارخ بين غلاف البؤساء وغلاف كتاب الحساب. لقد نشأنا في هذا المعنى في واقع معاد للكتاب. وكان يمكن أن نتحمل حالة العداء هذه لو أنها لم تكن شاملة، أعني: قادرة على اقتحام أسوار المدرسة أيضاً. لكننا تحملناها. أقصى ما استطاع المرء تحقيقه في المرحلة الثانوية أن يتجرأ ويصل إلى مكتبة أمانة العاصمة، ليسجل نفسه واحداً من المشتركين، وقد ساعد على ذلك اضطرارنا إلى العمل لنساعد في تعزيز دخل العائلة، لكن أجمل ما في الأمر، أنه اصبح بإمكاننا أن ننزل إلى وسط البلد دون خوف، حيث نمضي معززين بفكرة ان هناك من يعتمد علينا.
هكذا، اقتربت مكتبة أمانة العاصمة منا، وأصبح بإمكاننا أن نقرأ أعمال إميل زولا، وبعض الأعمال الأدبية لسارتر الذي كلنا نلمح اسمه وصورته في الصحف والمجلات، في قسم الدوريات في المكتبة، وسمعنا لأول مرة عن ديستويفسكي، والأخوة الأعداء، وقرأنا الجريمة والعقاب بوحي عنوانها لا غير، وبدأ اسم نجيب محفوظ يتردد أمام أعيننا، ولا أقول في مسامعنا، واستهوتنا "في بيتنا رجل" لإحسان عبد القدوس، وأعمال مثل "الوسادة الخالية" "والأرض" وغيرها.
وبعد انتهاء المرحلة الثانوية، التي تجاوزها المرء بآخر ما فيه من طاقة، جاء زمن معهد المعلمين – في عمان أيضاً. وللحق بدأ شيء آخر يتغير لأول مرة، وشهدت تلك السنوات ظهور أكثر من موهبة واحدة وهي حالة لم تتكرر في المعهد. لقد فتح المعهد المجال لأن نعيش بعيداً عن البيت، وحدنا، أو شبه وحدنا. وساهمت قصة صغيرة لكاتبة نسمع باسمها لأول مرة في خلق وعي من نوع آخر، إنها الكاتبة سميرة عزام. أما القصة فهي "فلسطين"، لكن بذرة الاندفاع نحو القراءة كانت وبدأت تنمو، وكذلك الكتابة، بحيث لم يعد بإمكان أحد أن يكبتها أو يحد من جنونها. أتحدث هنا عن فترة طويلة من العمر، لم يكن فيها النظام التعليمي مهيأً لأن يفتح أعيننا نحو ما كنا نطمح إليه.
كل ما حدث بعد ذلك أشبه ما يكون بحرق المراحل، كمحاولة للتعويض عن كل ما فاتنا، وخلال أقل من عشر سنوات كان باستطاعة المرء أن يقول أنه تتلمذ على يدي نفسه بدءاً من قراءة الملاحم الإنسانية الكبرى، وانتهاءً بمسرح العبث وأهم الروايات العربية والعالمية والأشعار والاتجاهات الأدبية، والسينما في أجمل تجلياتها. هل فعلنا ذلك كله في زمن محصور، محاصر بالخيبات؟ نعم! هل نستطيع أن نفسر ما حدث؟ لا!.[1]
في معهد المعلمين تفتحت الموهبة الشعرية لابراهيم نصر الله، وغدا شاباً يشار إليه بالبنان في أوساط الطلبة. ولقد كان ابراهيم محظوظاً في تعرفه على الدكتور ياغي، أستاذ الأدب العربي في الجامعة الأردنية، وزوج التربوية المتميزة حياة ملحس التي كانت رئيسة لمعهد التربية آنذاك، ذلك أن ابراهيم بدا وكأنه فاجأ الجميع في عام 1982 بإصداره ديوانه الأول "الخيول على مشارف المدينة" والذي أهداه للدكتور ياغي. سيفرح الأستاذ بالشاب الشاعر وسيكتب عنه دراسة نقدية بعنوان: "شاعر فتى ... وديوان بحجم القلب".
بعد تخرجه من معهد المعلمين يجد ابراهيم نفسه معلماً في منطقة تدعى "القنفذة" في المملكة العربية السعودية، والقنفذة بيئة غريبة قاسية نائية، مستقرة بين صحاري وجبال، ولطالما اختطفت حياة معلمين جرى تعيينهم فيها، ثم طحنتهم مثلما كانت تطحن أبناء المنطقة ذاتها. كان ابراهيم في الثانية والعشرين عندما ألفى نفسه في القنفذة (1976-1978)، شاب بلا خبرة بالحياة عميقة، بعيداً عن أسرة ازداد عددها مع تتالي السنين، ولقاء ما يقرب من 130 ديناراً في الشهر. يتأمل واقعه والحياة من حوله فلا يجد غير مدى من سراب وعيشاً هو أقرب إلى العبث. وبالرغم من بؤس التجربة وقسوتها، إلاّ أنها كانت تجربة غنية بصورة ما، ذلك انها زودته بمخزون هائل من المشاهد الحياتية القاسية، والمعاناة اليومية لبني البشر المقيمين فيها، تلك التجربة التي عبّرت عن نفسها في روايته الأولى "براري الحُمّى"، والتي غدت واحدة من أبرز الروايات العربية الجديدة، ولا عجب إذ يصفها إحسان عباس بأنها "محاولة قصصية من أكثر المحاولات تطوراً في العالم".
وأستطيع القول إن تجربة العمل في القنفذة كانت في حياة ابراهيم امتداداً قاسياً لمنفى لم يكن أقل قسوة، فما أن غادر الطفل كهفاً جبلياً، إلى وحدة سكنية اسمنتية في مخيم يقيم فيها عدة سنوات مع أسرة تتمدد في كل عام، ناهيك عن معاناة البؤس والحرمان، حتى وجد نفسه في قلب صحراء قاحلة بلا زرع ولاثمر ولا ظلال. وما من شك في أن ذلك قد عمّق إحساسه بالمنفى والتشرد، إذ أنه قد قضى ما يقرب من ثُلث حياته في وحشة المنفى الأول، وصقيع المنفى الثاني، وجحيم المنفى الثالث؛ وأذكر أنه ذات لقاء بيننا، وكان يستعيد أجواء القنفذة، قال ما معناه: صحيح أن المعاناة اليومية في تلك البيئة الموحشة قد دفعتني بقوة إلى التفكير في مغادرتها والعودة إلى عمان، لكن عثوري على نسخة من رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني، وقراءتها وتأمل مصير شخوصها، وتصور الرجال جثثاً في الخزان، كل ذلك جعلني أحسم موقفي، واتخذت قراري بلا تردد.
في عمان يلتحق ابراهيم بصحيفة "الأخبار" الأردنية ثم جريدة "الدستور" وبعدهما صحيفة "صوت الشعب" الأردنية، محرراً ثقافياً في الفترة ما بين عامي 1978 و 1996. لكن الصحيفة ما لبثت أن غابت عن المشهد الصحفي تماماً، لتظهر بعد ذلك صحيفة "الأسواق" والتي عمل فيها ابراهيم لفترة قصيرة، ولم تعمِّر الصحيفة الجديدة طويلاً. وفي وقت لاحق استدعته مؤسسة عبدالحميد شومان ليكون مستشاراً ثقافياً للمؤسسة ومديراً للنشاطات الأدبية في "دارة الفنون" التابعة لها. وقد اتسّمت هذه المرحلة بتنظيم عدد كبير من النشاطات الثقافية من ندوات وحوارات، علاوة على إصدار العديد من الكتب والملفات الثقافية الصادرة عن المؤسسة.
وبعد عشر سنوات من العمل مع المؤسسة (وبعد ثلاثين عاماً في الوظائف المختلفة التي عمل فيها) قرر ابراهيم أن يتفرغ للكتابة. على أن توقف الارتباطات المهنية أتاح لابراهيم مجالاً واسعاً لأن يمتلك وقته كاملاً، ما يعني أنه أصبح متفرغاً تماماً للكتابة الإبداعية والثقافية والمساهمات الصحفية في أكثر من منبر في داخل الأردن وخارجه، ناهيك عن دعوات عديدة تلقاها- وما يزال- ليكون ضيف شرف في معارض الكتب، وعضو لجنة تحكيم للسينما، وورشات تدريبية للكتّاب الواعدين في ميدان الكتابة الإبداعية.
تلك كانت لمحات خاطفة من سيرة شخصية ومهنية لابراهيم نصر الله، ذلك أن حياته على الصعيدين الشخصي والمهني أغنى وأعمق مما ورد إلى حد كبير، بيد أن هذه الإضاءة السريعة للجانبين الشخصي والمهني من شأنها أن تيسّر السبيل أمام إدراك شيء من عالمه الإبداعي الذي، من فرط اتساعه، بدا –لي على الأقل- وكأنه عالم لا حدود له، وهو ما نحاول اقتحامه بكثير من الحذر وكثير من الإيجاز.
3. ملامح من سيرة إبداعية
أ-مدخل
يحار من يكتب شيئًا من سيرة إبداعية لكاتب مثل نصرالله في الجزم ما إذا كانت مهمته يسيرة أم شاقة، فهي يسيرة بحكم اتساع مجال الإبداع الذي أنتجه ابراهيم، وهي شاقة في ذات الوقت وربما للسبب عينه، إذ يتعين على من يأخذ على عاتقه مهمةً كهذه أن ينتقي وأن يستبعد، وفي هذا إجحاف واضح. أيًا كان الوضع، فهذه محاولة لدخول عالم متعدد لمبدع أنتج حتى اليوم ما يربو على أربعين كتاباً بين شعر ورواية ودراسة، ناهيك عن عشرات اللوحات الفنية بين تشكيل وتصوير، تضاف إليها عشرات المقابلات الصحفية والشهادات الذاتية الإبداعية.
وأول ما يلفت النظر لمن يقرأ المسيرة الإبداعية لنصر الله، ذلك التعدد في المواهب والاهتمامات، علاوة على جرأة واضحة في ارتياد عوالم فنية مختلفة يتهيب منها الكثيرون. لقد رسخ ابراهيم اسمه شاعراً في البدء، وكان موهوبا ومتميزاً بين شعراء جيله وسابقيه ولاحقيه، إذ امتلك لغته ورؤاه وقضاياه ومعالجته الخاصة، ويشهد على ذلك ما حظي به من اهتمام نقدي، واسع وما نال من جوائز أردنية وفلسطينية وعربية تقديراً لمنجزه الشعري والروائي. ثم ما يلبث أن يصدر رواية رائدة في مجال السّرد الحداثي –أو ما بعد الحداثي، هي "براري الحُمّى"، ثم يواصل كتابة الشعر، ليعود إلى النثر حتى غدا ما أنتجه من سرد نثري يعادل ما أنجز من إبداع شعري.
وبين هذا وذاك تراه مشاركاً في معارض للفن التشكيلي أو للصور الساكنة، لكن المنتقاة بعين خبيرة. والذين عايشوا الرحلة الفنية لفرقة "بلدنا " في الأردن يعرفون أن ابراهيم كتب للفرقة معظم أغانيها منذ نشأتها وتكرّس اسمها عنواناً لفرقة وطنية تقدمية امتدت سمعتها وأغنياتها من الأردن إلى فلسطين والوطن العربي وبلاد المهجر. ومما لا شك فيه أن سمة التعدد التي يتمتع بها نصر الله، إنما تنبع من قوة خيال مركب يتيح المجال لصوغ نتاجات فنية إبداعية، ولطالما قيل أن نقاد الأدب والفن إنما كانو طامحين في الأصل إلى إنتاج منجز إبداعي شعري أو روائي أو غير ذلك، لكنهم –بوقفة صادقة موضوعية أمام الذات- اقتنعوا أن الإبداع ليس قراراً ذاتياً يتخذه أي راغب فيه، إذ لا بد من الخيال شرطاً للإبداع. ومن هنا نرى أن هؤلاء الطامحين للإبداع قد تحولوا إلى دنيا النقد الأدبي والفني.
على أن الخيال بحد ذاته لا يكفي لإنتاج أعمال إبداعية، وقد كان واضحاً في تجربة ابراهيم أن الخيال مسنود بجملة من العناصر المحفزة للإبداع، وفي صدارتها الوعي المبكر للذات والطاقات، والوعي الدقيق بالبيئة الاجتماعية والسياسية، وتأملها في البشر المحيطين، وأعني بها في هذا السياق الوعي بتجربة المنفى والتشرد والمعاناة وقسوة الإنسان والطبيعة معاً. أما الوعي الآخر الذي ساعد الفتى على تغذية مواهبه وشحنها وصقلها إنما تمثّل في قوة الرغبة في المعرفة والاطلاع والتثقف الذاتي وبخاصة في ميادين الشعر والرواية والمسرح والنقد والفلسفة، علاوة على مطالعات مهمة في السياسة والاجتماع وعلم النفس. وفي صلب هذه القراءات كانت تكمن قضية فلسطين وقضايا شعبها، وأسباب الهزيمة واللجوء، وإدراك مدى الثروة الوطنية والتاريخية والسردية التي تزخر بها ذاكرة جيل النكبة الذين اقتنص ابراهيم من شفاههم وشهاداتهم المباشرة له، صفحات مهمة من سردياته النثرية.
وأراني أميل إلى ذكر سمة أخرى من سمات إبداع نصر الله تتمثل في حقيقة أن فترة الشباب المبكر التي عاشها قد شهدت، فيما أعتقد، شيئاً من روح التنافس بين شباب ذلك الجيل الذي كان يتلمّس طريقه نحو الإبداع. ولم يكن غريباً أن يوجد في "كلية تدريب عمان" التابعة للأنروا عند منتصف السبعينيات، ذلك العدد الملموس من "مشاريع" الشعراء والروائيين والكتاب، والذين برزوا في وقت لاحق وأصبحوا روافد مهمة من روافد الإبداع في المشهد الثقافي الأردني والفلسطيني والعربي. ولعل هذا التنافس قد حدا بابراهيم –ورفاقه أيضاً- إلى مزيد من السعي لاكتساب أكبر قدر من المعرفة والثقافة كما لو كان الجمع في سباق مع الزمن. على أن ما يمكن استخلاصه من هذا الجهد الواسع نحو "التعبئة الثقافية" للذات، أن ابراهيم نصر الله استطاع أن يتميز بين رفاقه منذ ديوانه الشعري الأول، وروايته البديعة الأولى، ثم في مجمل ما أنجز من إبداع فيما بعد، إذ كرّس نفسه صوتاً متفرداً بهوية أدبية واضحة، وبمستوى إبداعي يقوده نحو الصف الأول.
أما السّمة التي تمثل الميزة الفضلى لابراهيم –كما أعتقد- فهي أن ابراهيم على مدى تجربته الفنية كان صاحب مشروع إبداعي، هذا المشروع الذي لم تستولده خطة زمنية ذات موضوعات محددة، بل كان تعبيراً عن قوة الرؤيا والاستشراف، وقوة الإرادة في إدارة الذات المبدعة والمتفاعلة بصورة خلاقة مع الذات والمحيط والعالم. وتقديري أن وجود المشروع الإبداعي في صميم وعي ابراهيم وفي انتاجه الأدبي والفني إنما كان يشير إلى غياب الفراغ الإبداعي في حياته. ولطالما شعرت شخصياً بتزاحم الأفكار في رأسه، وما يلبث أن يعيد ترتيب أولوياته وفق الظرف الراهن، أو وفق الفكرة الأكثر إلحاحاً أو ضرورة. ويتضح هنا التحام الإبداع بفن إدارة الذات، وما يقتضيه ذلك من تأمل وانتقاء، وإدارة للوقت، وتخطيط للملامح الأولى، ومتابعة، ومراجعة، وصوغ جديد، وعرض للمادة على بعض الأصدقاء طلباً لتغذية راجعة، والاستفادة من الملاحظات، فالإعداد النهائي للنشر، ومتابعة النقد والمراجعات، والاحتفاظ بها وتقديرها أياً كان الموقف.
سمة أخرى تلفت أنظار قراء نصر الله تتمثل في امتلاكه المتميز لحس السخرية القادر على إنتاج أدب ساخر، وهي مَلَكة لا تتوافر لدى الكثير من الكُتّاب، ودليل ذلك أن كُتّاب الأدب الساخر، سواء في مجال الإبداع أو المقالة الصحفية. هم قلة قليلة في المشهد الأدبي والثقافي العربي. وأزعم ان مشروع "الشرفات" في مجمله إنما هو، بمقياس ما، مشروع في الأدب الساخر "Satire"، وهو ما يفتح المجال أمام مزيد من الدراسات النقدية لأعمال نصرالله، انطلاقاً من فن الأدب الساخر في المنتج السردي النثري لابراهيم بالتركيز على "الشرفات" وتتبُّع اللمسات الساخرة في مشروع "الملهاة".
إن القيمة الجوهرية للتعبير الساخر في رواية نصرالله تتمثل في محتواها النقدي الإجتماعي والأخلاقي والسياسي الحادّ للعديد من ظواهر المجتمع العربي بعامة، وغالباً ما تتكثف السخرية لتبلغ حد "الكوميديا المأساوية" و"الكوميديا السوداء"، ولطالما كشف الكاتب عن براعة مذهلة في رسم شخصيات، أو تصوير مواقف، أو تقديم حوارات تعج بروح السخرية في العديد من أعماله السردية، مترافقة مع جرأة واضحة في رصد الظاهرة والتعبير عنها رغم حساسيتها.
بقي أن أشير إلى مسألة ذات أهمية خاصة، وتمثل القاسم المشترك الأعظم بين السيرة الشخصية والسيرة الإبداعية ألا وهي مصداقية الكاتب في المسارين: الشخصي والإبداعي، وهذه المصداقية لا تتحقق إلا من خلال ثقة القارئ بالكاتب، والتي بدورها لا تتحقق إلا بامتلاك الكاتب لمنظومة قيمية -أخلاقية متماسكة. وأستطيع القول أن نصر الله يستند في حياته الشخصية – الإبداعية إلى سلسلة مترابطة من القيم والاتجاهات يتصدرها إيمانه العميق بالحرية، والحرية هنا تمثل مفهوماً مركباً متعدد الأبعاد.
أما أول مستوياته فهو الحرية الشخصية، وحرية الاختيار، وحرية الحركة والتنقل، وحرية الوصول إلى الكتاب والمعرفة، ثم حرية التعبير وحرية القول، ومعارضة أشكال القمع الفكري والسياسي والاجتماعي، وبصورة خاصة في القضايا التي تتصل بمصالح الأوطان والشعوب. لقد تعرض ابراهيم نفسه في زمن مضى للمنع من السفر، ناهيك عن منع بعض أعماله، وأحياناً إحالتها إلى القضاء. إن أعماله الشعرية في معظمها إنما هي تعبير عن انتصاره لقيم الحرية والإرادة والاختيار، علاوة على القيم الوطنية والانسانية الخالدة. كما أن أعماله الروائية تصور أنماط القمع السياسي والاجتماعي والفكري، وأشكال النضال في مواجهة الظلم والاحتلال، وفضح صور الفساد السياسي والاجتماعي وتحالفاته الطبقية.
ولعل إيمان نصرالله العميق بقضايا المرأة وحقوقها الاجتماعية والسياسية والانسانية ماثل في أعماله الشعرية والروائية بصورة لا تخفى على القارئ، بل إن الشخصيات النسوية غالبا ما تلعب في أعماله أدواراً فاعلة وريادية، وإن وجدت نماذج أخرى ساكنة مترددة انسجاماً مع السياق الفني والاجتماعي المرصود في العمل الفني. إن التماسك الشخصي –الإبداعي في عالم نصرالله، والانسجام ما بين المبدأ وترجماته الفنية، قد عزز من البنية النفسية- الأخلاقية للكاتب والتي يمكن أن أعزوها إلى عوامل ثلاثة:
أولها: إيمانه العميق بالمبادئ الانسانية، واستعداده للتضحية في سبيلها.
وثانيها: النأي بالنفس عن البيئات السلطانية الرسمية .
وثالثها: عدم الانخراط في الحالات الحزبية أو الفصائلية، ما مكنه من ضمان استقلاله الذاتي في المواقف والفكر والتعبير، من دون أن يعني ذلك حياداً جامداً في ما يدور حوله من نشاطات وأحداث وتطورات.
وأخلص إلى القول ان البنية الأخلاقية التي تمتع بها نصرالله على مدى ما يربو على عقود أربعة قد أكسبته ثقه جماهيرية واحتراماً واسعاً في الأوساط الأردنية والفلسطينية والعربية الثقافية والشعبية فكان بذللك نموذجاً للمثقف المبدع الذي أفلت من شباك الإغراءات فظل عصياً على الكسر.
ب- ملامح من سيرة ابداعية شعرية
عُرف ابراهيم نصرالله في مطلع حياته الإبداعية شاعراً، وبالرغم من أنه أردف ديوانه الأول (الخيول على مشارف المدينة) برواية متقدمة إلى حد بعيد (براري الحُمّى) بعد سنوات قليلة من صدور مجموعته الشعرية الأولى، إلا أن الصورة العامة لهذا الشاب الطالع من وجع النكبة بقيت صورة الشاعر في أذهان الجمهور، ولكن الشاعر الموهوب والمتميز بصورة لا يمكن إنكارها. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن ابراهيم قد أصدر قبل ديوانه الأول، ما يمكن أن نطلق عليه "الديوان - صفر" بعنوان (جسدي كان الغربال) لكن الشاعر غض عنه النظر، وأوضح فيما بعد أن عددا من أصدقائه أخذوا على عاتقهم طباعة ذلك الديوان بمبادرة شخصية منهم. ويبدو أن الشاعر الشاب الذي كان يتحفز لانطلاقة شعرية أكثر نضجاً وحضورا، لم يكن راضياً بما يكفي عن مستوى/ أو محتوى تلك القصائد فآثر أن يبقيه خارج دائرة منجزه الشعري، وإن ما تزال نسخ منه موجودة لدى عدد من الأصدقاء.
ومن هنا جاءت الانطلاقة الحقيقية لنصرالله شاعراً في عام 1980 لدى صدور مجموعته الأولى "الخيول .." والتي قوبلت باحتفاء واسع في الساحة الأدبية الأردنية ونال عنها جائزة أفضل ديوان شعر صدر في الأردن في عام 1980 من قبل رابطة الكتاب. وعن هذا الديوان كتب د. ياغي مقالة بعنوان "شاعر فتى وديوان بحجم القلب" عبّر فيها عن إعجابه بقصائد الشاعر "الفتى" مشيداً بموهبته الشّعرية التي سترتقي به إلى مصاف كبار الشعراء.
لم يخب ظن المتفائلين بمستقبل شعري زاهر لابراهيم نصرالله، ذلك أنه بعد مرور عامين على صدور "الخيول.." سيفاجئ الشاعر قراءه بديوان جديد لا يقل إبداعا عن سابقه بعنوان "المطر في الداخل" (1982)، لينال بدوره جائزة لأفضل ديوان شعري لذلك العام، ثم أردفه بديوان آخر في عام 1984، بعنوان "أناشيد الصباح" ليفوز الأخير بجائزة جديدة. على أن عام 1984 قد شهد أيضاً صدور ديوان جديد للشاعر بعنوان "نعمان يسترد لونه" والذي نحى به الشاعر منحى ملحميا ذا بنية شعرية ثلاثية الأجزاء. ولست أعتزم هنا التوقف أمام جميع الإبداعات الشعرية لابراهيم نصرالله بقدر ما أود الوقوف أمام محطات أساسية في رحلته الإبداعية الشعرية، ما يقتضي الإشارة إلى أن ابراهيم نصرالله قد نال جائزة عرار الأدبية عن مجمل أعماله الشعرية في عام 1991 من قبل رابطة الكتاب، ثم اتسع نطاق التقدير على الساحة العربية، ليفوز بجائزة سلطان العويس للشعر العربي في عام 1997، بعد ست سنوات.
وما دمنا في إطار الحديث عن نصرالله شاعراً، فلعله من المفيد أن نتأمل أبرز ملامح تجربته الشعرية وفق نظرة شاملة يجتهد فيها كاتب هذه السطور. وأبرز ملامح هذه التجربة الشعرية أن نصرالله منذ منجزاته الشعرية الأولى امتلك صوته الخاص، فكانت بدايته بداية شاعر واثق من موهبته ورؤاه وأدواته الفنية، مستند إلى طيف واسع من الاطلاع الأدبي والثقافي والسياسي. وظل دائما يبحث عن خصوصيته الشعرية، متجاوزاً ذاته بين الحين والآخر، ومتميزاً عن غيره في حقل عربي شاسع من التجارب الإبداعية الشعرية.
ويلمح من يقرأ نصرالله شاعراً أنه مهتم بالتراث الانساني، قديمه وحديثه، من خلال استخدامه للعديد من الرموز والأساطير في العديد من قصائده، لكنه لم يوظفها بالطريقة التي استخدمها رواد الحركة الشعرية العربية الحديثة، بل إنه استخدمها بالتجاور مع رموز ذات امتداد في الثقافة العربية والإسلامية قديمها وحديثها، منطلقاً من قناعة مفادها إن النسيج الثقافي العربي التاريخي غني بالعديد من الرموز الانسانية والوطنية والدينية التي تستطيع أن تحمل الدلالات الفنية المتضمنة في سياق الإبداع الشعري، فكان شاعراً حداثياً، بانتماء واضح الى الجانب المشرق والمستنير في التراث العربي، دون تعالٍ على التراث الانساني بعامة والذي كان أيضاً واحداً من مصادره الثقافية والشعرية، والروائية فيما بعد. ونصرالله شاعر إنساني بالضرورة لأنه ينطلق في إبداعه من منطلقات إنسانية وقيمية عليا، ومن منظومات أخلاقية تعلي من قيم الحق والحب والحرية والجمال والعدالة، فاحتفى بالتجارب الانسانية التقدمية، وسدد سهامه الشعرية إلى قوى الظلم والقمع والقهر معبراً عن ذلك كله برموز فنية بدت جزءاً من ابداعاته الشعرية الخاصة.
واحتلت حماية الروح مكانة خاصة في كل ما كتب من شعر على وجه الإجمال، حماية روحه أولا من التلوث، والتردد والسقوط، وحماية روح الشعب من الجزع والقنوط والاستسلام، ومن هنا ترى حرصه على التقاط حدث ما يرى فيه مادة لتجربة شعرية من شأنها أن تشدّ عزم الجماهير وأن تحمي أرواحهم من الانكسار. من هذا المنطلق ارتبط شعر نصرالله ارتباطاً وثيقاً بالقضية الفلسطينية في معظم ما ابدع من شعر، وأقصد بالقضية هنا، تحولاتها وانتصاراتها وهزائمها، لكن الأهم من ذلك كله، دلالاتها الوطنية والأخلاقية، وامتداداتها العربية والانسانية. لقد عبّر عن ذلك دون السقوط في حبال المباشرة والخطاب البلاغي والصياغة الانشائية المتهرئة من فرط التداول. بل كان حريصاً على ابتداع رموزه ورؤاه وصوره ولغته في إطار موقف انساني مبدئي لا يتوانى عن تحمل نتائجه.
ومن سمات التجربة الشعرية لابراهيم نصرالله، أنه أتقن الكتابة الشعرية بجميع أشكالها وألوانها، فانطلق يكتب القصيدة ذات الطول العادي، ثم أردفها بالعديد من القصائد الطويلة (الشاملة على حد اقتراح د. محمد صابر عبيد) التي رأيت فيها –أو في معظمها- قصائد ملحمية حداثية، توقفت أمام عدد منها في كتابي "فضاء التجاوز"، ثم ألحقها بقصائد قصار بحجم قصيدة الهايكو، وأصدر أكثر من مجموعة شعرية مستخدماً هذا اللون. ثم كتب قصيدة النثر أحياناً، وإن سادت قصيدة التفعيلة أعماله بصفة عامة. وإنه لما يلفت الانتباه قدرة نصرالله على توظيف التقنيات الدرامية والحوارية الفردية والثنائية والمتعددة الأصوات ما جنّب الكثير من القصائد رتابة الوصف والسرد، وبخاصة فيما يتصل بالقصائد الملحمية الطويلة. ويلفت النظر في التجربة الشعرية لنصرالله أنه شاعر يكتب قصيدة أسميها "القصيدة-الجنين" أو "القصيدة-الطفل" ليعود في تجربة شعرية جديدة لاحقة ليستولدها من جديد ويضخ فيها دماً جديداً لتغدو "القصيدة الفتيّة" وقد أشرت الى عدد منها في سياق دراساتي عن أعماله. وغني عن القول أن شعر نصرالله قد استقطب اهتماماً في الساحة الشعرية العالمية، وتُرجم العديد من قصائده إلى لغات أخرى، كما أنه مشارك نشط في ملتقيات الشعر العربية ومنتدياته العالمية، وما يزال يخوض تجارب شعرية متنوعة يظل الجوهر الإنساني للرؤية محورها، وغايتها، والحرية الإنسانية فضاءها الواسع.
لكن ماذا يقول ابراهيم نصر الله عن تجربته الشعرية؟
لدى استعراضي لعدد من الشهادات والحوارات الصحفية المنشورة، أمكن لي أن أقتطف شيئاً من ملامح تجربته كما عبّر عنها بنفسه:
- لقد اكتشفت مبكراً أن مقتل الكاتب يكمن في عدم تنوعه داخل تجربته، وأن تقليد الكاتب لنفسه لا يقل خطراً عن تقليده لسواه.
- كتبت القصيدة –الديوان كما حدث في "نعمان يسترد لونه" وهي مكونة من 33 نشيداً، و" بسم الأم والابن" و "مرايا الملائكة" التي تقوم على السرد السيري، وكتبت قصائد من ألف بيت وقصائد من بيت واحد.
- كتبت قصيدة "النوافذ" بعد زيارة لليونان في عام 1982 :
النوافذ خطوة أولى الى الدنيا
وأغنية على غيم فسيح وارتحال ...
والنوافذ حكمة الجدران
تخرج من صخور الصمت نحو ذرى الجبال
- وكتبت "الطائر" في عام 1985 وهي قصيدة فيها صراع الطير والبشر حول من يشدّ الآخر وينتصر عليه، لا لينتصر عليه، بل لينصره :
أحدق من قمة، فأرى الناس تسعى طيوراً
هي الأرض كانت سمائي منذ ولدت
وكان الفضاء طريقي وحقلي...
- وكتبت "الحوار الاخير قبل مقتل العصفور بدقائق" حيث الميل للسرد الحقيقي، وكتبت "عواصف القلب" الذي ضم (160) قصيدة قصيرة جداً...
- وكتبت القصيدة النثرية وقصيدة التفعلية
- علاقتي مع قصيدتي هي علاقتي بالعالم في حالة الكثافة القصوى
- كنت أرى الكتابة كالنهر: يتسرب في الارض ... يتصاعد للسماء يقطع مناطق شاسعة فيرقُّ ويهدأ... يندفع في انعطافات مجنونة... أو شلالات جبارة.
النهر الذي يقول لي دائماً: اختلف، وكن أنت!
النهر الذي يقول لي : إليك بوصلتي، دائماً سأكون جهتي الوحيدة.
- في قصيدة "راية القلب" كسرت الرمز القديم برمز يوازيه في الزمن الفلسطيني والعربي الحديث، فكانت رحلة دلال المغربي إلى وطنها عبر البحر قبل استشهادها، لا تقل دلالة وغنى عن رحلة عوليس.
وطالما أننا في معرض الحديث عن ابراهيم نصر الله شاعراً، فلا بد من الإشارة إلى بعض الآراء التي عبر عنها إحسان عباس في هذا المجال. فهو يرى ان بإمكان القارئ أن يقرأ قصيدة نصر الله" منفردة. لكنها لن تعطيك حقيقة العمق إلاّ إذا قرأتها مرتبطة مع قصيدة أو قصيدتين أو ثلاث قصائد. إننا أمام لون جديد من الشعر. وإن كان لكل قصيدة مبناها واستدارتها أو – قل حضورها. إن هناك حواراً خفياً بين القصائد. وهناك الامتداد التكاملي بينها."
يعبر د عباس عن إعجاب لافت بالقصيدة القصيرة التي كتبها نصر الله، والذي استطاع ان يكون "من أوائل الشعراء الذين استأنفوا انتباههم الى قيمة هذه القصيدة وفاعليتها." ونراه يتساءل: إلى أين يتجه ابراهيم نصر الله حيث يتحول الشعر لديه إلى نهر عارم منتظم الجريان على الرغم من شدة انطلاقة؟ ثم يستطرد موضحاً "إنه يلج عالماً من التصوّر الكوني والرؤيا الكونية التي يحملنا تيارها بقوة للإحساس بهذه الوحدة الوجودية بين العالم الأصغر والعالم الأكبر وقوة الاندماج فيها".
ويشير الأستاذ والناقد الكبير الى مسألة التطور في شعر نصر الله فيقول:
"وأعرف ان الشاعر لابد ان يتطور ... لأن التطور هو القاعدة. وإذا ما تتبعنا مسيرة ابراهيم منذ "الخيول على مشارف المدينة" فإننا نلاحظ انه يعمل على أن يتطور ... فجأة نراه يكسر القلم الذي يكتب فيه "الفتى النهر.." ويكتب "عواصف القلب" أو "براري الحمى" في محاولة قصصية من أكثر المحاولات تطوراً في العالم. ويخلص الى القول إن "ابراهيم نصر الله ظاهرة فذة في الشعر العربي الحديث، كون جديد، شاعرية غريبة، تملأ فضاءً في سعة المنفى المادي والمعنوي"
4. ملامح من سيرة إبداعية روائية
حتى عام 1985 كان ابراهيم نصر الله – الشاعر – قد أصدر أربع مجموعات شعرية، لكنه في ذلك العام بالذات نراه يفاجئ القراء بإصداره رواية "براري الحُمى" التي تلقفها النقاد باحتفاء بالغ. وهكذا غدونا أمام شاعر يكتب الرواية، بل ويرتاد عالمها بقوة مدهشة عن طريق نص روائي متقدم في تقنيته ولغته. وحين تسأله ما اذا كان صدور هذه الرواية يمثل نقطة تحول ملحوظ نحو الرواية، سرعان ما يؤكد ان فكرة الرواية قد راودته حينما كان يعيش تجربة العمل في ميدان التعليم في منطقة القنفذة في السعودية في أواخر السبعينات. لقد كانت تعبيراً فنياً عن حالة واقعية – أو حتى حقيقية – من المعاناة الانسانية التي تقسو وتقسو حتى تشطر الإنسان الى نصفين.. ويوضح الكاتب أن فكرة الرواية وهواجسها ظلت تتوالد تدريجياً في ذهنه في وقت كانت كتابته مركزة على الشعر، ذلك النوع الإبداعي الذي أصبح ابراهيم منذ ذلك الحين قامة سامقة من قاماته العربية: لكأن الشاعر يريد أن يقول أن إبداع الشعر وإبداع الرواية في حياته كانا متزامنين، لكن الشعر كان سباقاً إلى الظهور، فيما احتاجت الرواية مزيداً من الوقت.
بيد أن رواية كهذه ما كان لها أن تلقى هذا الاهتمام لو لم تكن مستوفية لشروط الكتابة الروائية الجديدة، ناهيك عن انه ما كان يمكن للشاعر ان يكتب رواية بهذه القيمة الإبداعية لو لم يكن قارئاً خبيراً متفاعلاً مع فن السرد النثري بأساليبه وتقنياته المتعددة، ونماذجه الروائية المختلفة، عربياً وعالمياً، علاوة على وعيه النقدي المتراكم من خلال قراءات وعلاقات واسعة. كل ما سبق شكل مخزوناً معرفياً كبيراً وقع على موهبة فنية، وذهنية إبداعية، وخيال واسع، ما مكّنه فيما بعد من مواصلة رحلته الابداعية في الشعر والرواية بوتيرة عالية.
يقول نصر الله انه حينما صدرت "براري الحُمى" كان يعتقد أنها ستكون روايته الاخيرة لأنه كان يظن ان رواية واحدة كافية لأن تقدم "الحكاية الفلسطينية"، إلا أنه ايقن فيما بعد أن حكاية كبرى كهذه تحتاج الى روايات بلا حدود.
من المؤكد أن ابراهيم نصر الله لم يكن اول شاعر يكتب رواية، فقد فعل ذلك جبرا ابراهيم جبرا، وسليم بركات، ومريد البرغوثي، وغسان زقطان وغيرهم، لكن – وبحدود معرفتي – لا اعرف شاعراً اقتحم عالم الرواية وكتب هذا العدد النوعي الكبير من الروايات والدواوين الشعرية. وفي هذا الجانب الإبداعي – النوعي والكمي – يشكل ابراهيم نصرالله الحالة الاستثنائية التاريخية في الكتابة الإبداعية التي تجمع نوعين أدبيين رئيسين. وبإستثناء الفترة ما بين عام (2001) الذي شهد صدور ديوان "مرايا الملائكة"، وعام (2007) الذي صدرت فيه مجموعة "حجرة الناي"، والتي شكلت فجوة واسعة في إصداراته الشعرية، فقد ظل ابراهيم وفياً دائماً لتجربته الشعرية. ولعل ما يفسر هذه الفجوة الزمنية على صعيد المنجز الشعري اندماج الكاتب شبه التام في حقل الرواية، والدليل على ذلك أن ابراهيم قد أصدر في تلك الفترة – الفجوة – أربع روايات هي على النحو الآتي:
"زيتون الشوارع"(2002)، "اعراس أمنة"/ "تحت شمس الضحى" (2004) ثم كانت رائعته الملحمية "زمن الخيول البيضاء" (2007). وأستطيع القول انني قد قرأت أعمال نصر الله الروائية كافة، وكتبت عن معظمها، وهي منشورة في كتابي "فضاء التجاوز"، لكنني أستطيع أيضاً أن أوجز هنا ما أعتقد انه بعض من ملامح السرد الروائي في المنتج الابداعي لابراهيم نصر الله.
لا يفاجأ من يقرأ الأعمال الشعرية لابراهيم نصر الله، بقدرة هذا الشاعر على كتابة الرواية، ذلك ان الكثير من قصائده، إن لم اقل معظمها، وبخاصة الطويلة منها، تترجم المهارات السردية والدرامية للكاتب متمثلة في استخدام تقنيات روائية متعددة كالسرد والوصف الدقيق والمونولوج والديالوج، والاحلام وغير ذلك. كما لا يفاجأ من يعرف أن نصر الله مشاهد "مدمن" للسينما منذ أمد طويل، هذا النوع الفني الذي أمده بتقنيات فنية إضافية وظفها في الشعر والرواية على حد سواء.
وإذا ما علمنا انه شديد الاهتمام بالابداع الروائي العربي والعالمي، وانه فنان يتقن مهارات الرسم والتصوير، تغدو مسألة خوض ابراهيم لعالم الرواية أمراً طبيعياً، لا غرابة فيه، خاصة وأنه بات في حكم المسلّمات أن الرواية عالم أكثر اتساعاً ورحابة من القصيدة. أقول هذا لأخلص إلى نتيجة مفادها أن نصرالله قد ولج عالم الرواية مسلحاً بالموهبة، والمعرفة الابداعية والنقدية، متوفراً على رؤى وأساليب فنية تبدو فيها الرواية أكثر قدرة على استيعابها.
ومثلما وطد الشاعر قدميه في ارض الشعر منذ بدايته في "الخيول على مشارف المدينة" كذلك رسخ حضوره منذ البداية في عالم الرواية حين كتب "براري الحمى" ليحقق في الحالتين عدداً من النتائج اهمها: أصالة الموهبة، وعمق الرؤية، والتمكن من الادوات الفنية واستيعابها وتطبيقها بشكل خلاق، والقدرة على الجمع بين الشعر والرواية بثقة وتميز مع احتفاظ واضح بخصوصية صوته الشعري والسردي.
وإذا كان ما سبق يشي ببعض السمات الروائية لدى الشاعر/ الروائي، فإن مجمل الأعمال الروائية التي توالت تباعاً على مدى أكثر من عقدين من الزمان جعلت من نصر الله روائياً حداثياً يقف إلى جانب كبار كتاب الرواية في الاردن وفلسطين وفي الساحة العربية بعامة، استناداً الى شرعية الرواية، لا شرعية الشعر، وكذلك فيما كتب عن فلسطين، استناداً الى شرعية الفن الروائي لا الى شرعية القضية.
وفي بعض أعماله تجاوز نصر الله افق الحداثة الى ما بعد الحداثة، وأخص بالذكر هنا روايتين هامتين هما: "براري الحمى"، و " شرفة الهذيان"، حيث قسوة الطبيعة والسياسة تطوحان بالإنسان في مهاوي الفصام والتشظي. وفي كل عمل روائي كان ابراهيم يحرص على تجاوز ذاته، أو كما قال إحسان عباس: نراه يكسر القلم الذي يكتب فيه عملاً ما، ليستل قلماً آخر ويكتب عملاً جديداً، في كل وراية نرصد بناء فنياً متميزاً، وتقنيات فنية مختلفة. وإذا كان استخدام تيار اللاوعي ملمحاً ملحوظاً في رواية نصر الله، فإنه استخدم ايضاً تقنيات روائية وسينمائية تثير الدهشة. وسوف نرى انه استخدم القناع في طيور الحذر، والقرين في "نحت شمس الضحى" والفنتازيا في "حارس المدينة الضائعة"، علاوة على تقنيات الاسترجاع والاحلام والكوابيس التي تميز عالم الرواية الجديدة، وكان في ذلك مسهماً في تطوير بنية الرواية العربية، كما أشار الى ذلك عدد من النقاد.
واتسمت الأعمال الروائية لنصر الله عموماً بالسخرية السوداء من الواقع العربي المتردي، ومن التهميش المتزايد لدور الانسان العربي في صياغة واقعه ومستقبله. ومن هيمنة قوى القمع الداخلي والاستعمار الخارجي على سيادته ومقدراته، منتصراً في ذلك كله ضد الخوف، وللكرامة ضد القهر، وللنور ضد الظلام، وللأوطان ضد المنافي والاغتراب.
وسواء أكان ذلك في تجربته الشعرية أم الروائية ام في حقول أخرى، يبقى ابراهيم طائراً يحلق بأكثر من جناحين، مبحراً في فضاء مفتوح، متجاوزاً ذاته وأدواته، متجدداً على الدوام. اذاً نحن أمام شاعر غدا قامة كبيرة في دنيا الشعر العربي، مثلما صار قيمة متميزة الى حد بعيد في تجربته الروائية، هذا الاتساق الذي يجليه د. محمد صابر عبيد بقوله:
"ولعل تجربته الروائية الموازية لتجربته الشعرية تمثل عتبة مهمة من العتبات التي تدعم جدل العلاقة بين التجربتين، إذ تضيف التجربة الروائية الكثير من المعطيات الفنية والجمالية والمزاجية للتجربة الشعرية، كما تفعل التجربة الشعرية الفعل ذاته في التجربة الروائية. وهذه ميزة استثنائية عند الشاعر؛ إذ إن معظم التجارب المشابهة في هذا المجال تنتهي الى نهوض تجربة الشعر على حساب تجربة الرواية، أو العكس، أو أن قدراً من الصدام المزاجي والنوعي والجمالي يحصل بين التجربتين لتدمّر إحداهما الأخرى".
ولا يكف نصر الله عن تأمل تجربته الروائية بين والحين والأخر فنراه في لحظة معينة يطلق على عدد من أعماله الروائية وصف "الملهاة الفلسطينية" ، وأظن ان ذلك قد حصل عند صدور رواية "زيتون الشوارع" (2002) التي ضمّها الى سابقتيها "طيور الحذر" (1996) "وطفل الممحاة" (2000) لتشكل فيما بينها الحلقات الثلاث الاولى في سلسلة "الملهاة" التي سوف تتسع – حتى عام 2016 – لتشتمل على ثماني روايات، لكل منها مرحلة ورؤيا وشخصيات وتقنيات مختلفة لكنها تشكل فيما بينها نسيجاً روائياً يحكي جوانب من المأساة/ الملهاة الفلسطينية. لقد برزت "زمن الخيول البيضاء" من بين حلقات الملهاة حتى غدت الملحمة الروائية الفلسطينية الأكثر تماسكاً وتكاملاً وشفافية، والاوسع مدى، والأعمق رؤيا في كتابة الملحمة القصصية الفلسطينية. أما الرواية التاريخية العظيمة اللاحقة "قناديل ملك الجليل" فلست أعرف لها مثيلاً في الرواية الفلسطينية.
ويرى نصر الله ان مشروع الملهاة يرتكز إلى فكرة رئيسية مفادها تحرير الحكاية الفلسطينية من سطوة الفهم العام لها، هذا الفهم الذي يحيلها الى احداث مألوفة، ومفردات معروفة، وذاكرة جاهزة، وصور شائعة استقرت في الاذهان على مدى عقود. ويرى أن مهمته ككاتب ان يكون ضد الشهادة الحرفية لصالح ذاكرة فنية تحرر الشاهد من شهادته مثلما تحرر الكاتب من قيود الحدث الماضي، ما يمنح الكاتب فرصة لبناء سرد يتجاوز بنية المادة التاريخية (التي هي من اختصاص المؤرخ) بصوغ مادة فنية تنزاح فيها الذاكرة الواقعية لصالح ذاكرة جمالية.
ثم ينطلق نصر الله، بعد مشروع "الملهاة" بمشروع آخر أطلق عليه مشروع "الشرفات" ليمثل الوجه الآخر للملهاة الفلسطينية، او الوجه العربي بعامة، إذ يرى أن المرء لا يستطيع أن يدرك ما حدث لفلسطين، إلاّ إذا فهم ما يحدث للإنسان العربي. يوضح ذلك بقوله أن "شرفة الهذيان" تدور في أجواء حروب الخليج وما فعلته بالبشر، و"شرفة رجل الثلج" تصور أقسى سحق لروح الإنسان العربي، أما "شرفة العار" فهي تتحدث حول ما بات بعرف بجرائم الشرف، وهي تأمل لحال المرأة وما تعانيه من ظلم وقهر. أما أشد مصادر الألم فيما يتصل بشرفة العار فهو تواطؤ الدول/التشريعات في مجتمع القبيلة على المرأة.
5- صورة للمبدع طائراً
ومن المحطات المهمة التي يتعين على من يرصد التجربة الحياتية والابداعية لابراهيم نصر الله، تلك التي تتعلق بالأسفار والتواصل الحضاري والتثاقف، وهذا ما أفرد له كتاباً خاصاً ضمّنه خبرات ولقاءات وحوارات مع أناس عاديين، وطلبة، ومثقفين وغيرهم. وهذا الكتاب الموسوم بـ "السيرة الطائرة" لا يعكس فقط حصيلة ثقافة متراكمة اختزنها الكاتب على مدى عقود من القراءة والاطلاع والمشاهدة والمتابعة الحثيثة، بل إنه يوضح مسألة أهم وأعمق تتمثل في مرونة هذه الثقافة وقدرتها على التفاعل مع ثقافات إنسانية لا تقل عمقاً ونبلاً وأصالة عن ثقافته الخاصة وثقافته القومية الإنسانية. ولعل هذا التفاعل هو الذي رفع الرؤيا والكتاب ايضاً الى مستوى الفلسفة الإنسانية النبيلة في خضم التفاعل الثقافي لكاتب مع الخبرات الجديدة. فمفاهيم الصداقة والعداوة لا تظل محدودة بتلك الصرامة المعهودة، بل تتخللها الوان ومستويات وظلال وايحاءات خلقتها التجربة ولم تؤطرها الثقافة الجاهزة أو المكتسبة، بل يصبح (اليومي) خبرة جديدة تثري المخزون الثقافي وتطوره نحو آفاق أكثر إنسانية ونبلاً. يتضح هذا في ما اشرنا إليه آنفاً، على سبيل المثال، حول مفهومي الصداقة والعداوة. في الرحلة إلى الآخر "يتبين أن هذا الآخر ليس كتلة واحدة محدودة بهوية معينة، وأن الناس لا يندرجون بسهولة ويسر في خانة الأصدقاء أو معسكر الأعداء كما توحي الثقافة الراسخة، بل يتضح، وهذا ما يكتشفه الكاتب، وجود مستويات عدة للصداقة والعداوة، فهناك :
- مستوى الأقل من صديق
- مستوى الصديق
- الأكثر من صديق
- الأقل من عدو
- العدو
- الأكثر من عدو
هذه المستويات لا تراها المراجع السياسية والعسكرية والامنية، بل تراها الرؤى الإنسانية الوجدانية في تفاعلها مع الآخر وجهاً لوجه، وفي حوارات حضارية تتسم بالقبول والاصغاء أولا. يسرد الكاتب قصة تلك العجوز التي التقاها في قطار ايطالي وساعدها في تثبيت حقيبتها، وتجاذب معها أطراف الحديث ليعرف لاحقاً إنها (إسرائيلية)، فيكشف له الموقف شيئاً من نفسه هو أنه أقل من عدو. وحينما يستحضر صورة شارون وجرائمه يكتشف الكاتب في نفسه أيضاً أن شارون (أكثر من عدو)، بينما يمثل العديد من أنصار القضية الفلسطينية أنهم (أكثر من أصدقاء) .أما أولئك الذين كانوا ضحية التضليل الإعلامي فهم (أقل من أعداء).
والكاتب إذ يمضي في بحثه عن روح العالم وعن روحه كذلك، يكتشف أن الإبداع والحب والحرية والجمال قيم توحد بني البشر إذا ما وضعت في سياق إنساني نبيل، هذه القيم التي تمثل روم العالم، وفي هذا الفضاء الإنساني الفسيح عّبر نصر الله عن رؤية عميقة للمثاقفة والحوار مع (الآخر):
"في البداية كنت أحمل تلك الفكرة الساذجة: إنني اقرأ لـ(آخر)، وشيئاً فشيئاً علمني الشعر وأرواح البشر إنني اقرأ لبشر هم أنا – أنساناً." وهنا يتجسد التحول في المنحى والمقاربة والرؤيا: في "روح العالم" هناك إنسان، لا أنا، ولا آخر، فالقيم التي تؤسس روح العالم هي المشترك بين الانسانيين، وهي التي تبني أرواحاً بشرية نبيلة/ وتصهرها في عالم واسع فضاؤه بلا حدود، إنها تلك الروح، التي يقول عنها إبراهيم، إنها كانت وسيلة التفاهم بين مبدعين لا يتحدثون لغة مشتركة، الروح التي كسرت حواجز اللغة واللون والعرق وغير ذلك. على ان (الآخر) السياسي يظل موجوداً لانه هو الذي يريد ان يظل آخراً ولغيره أن يظلوا (آخرين). والكاتب يدرك ذلك تماماً. وهو في حواراته ذات البعد السياسي المتعلق بفلسطين لا يتوانى عن تحميل الغرب السياسي – الرأسمالي مسؤولية حماية القمع واستلاب الحريات وملاحقة التيارات المستنيرة حين يقوم هذا(الآخر) بحماية أنظمة الاستبداد على مدى نصف قرن أو يزيد. بل يمضي أكثر من ذلك حين يقول ما مفاده أن رموز الإرهاب المعروفة اليوم إنما كانوا في زمن مضى آداة أمريكية لمقارعة السوفييت في أفغانستان. وفيما كان الغرب الرأسمالي يستعين بالتيارات السلفية لضرب قوى التنوير العربي كان الحصار يشتد على هذه القوى المستنيرة لصالح الحركات الأصولية.
وفي السياق ذاته يواصل الكاتب إدانته لغرب يزداد جهلاً ونفاقاً حيال القضية الفلسطينية، ويلح على العرب بالمزيد من التنازلات يوماً في إثر يوم. يقول الكاتب: "إذا أراد الكاتب الفلسطيني بشكل خاص، والعربي بشكل عام، أن يصل إلى العالم فإن عليه ان ينسى. أما إذا أراد الكاتب الإسرائيلي أن يصل إلى العالم فإن عليه ان يتذكر" . ثم يمضي فيقول:
"إذا ما أراد الغرب أن يفهمنا فان عليه أن يكف عن الاستماع لنفسه، وان يتركنا نتحدث بصدق عما يحدث فينا، وان يتقبل حقيقة قول الصدق حتى وإن لم يأخذ بها في النهاية".
في احد المهرجانات في ايطاليا يسأل أحد الحاضرين نصر الله السؤال التالي:
ما وجه الشبه بين الشعر الفلسطيني والشعر الإسرائيلي؟ فيرد الشاعر: "الشاعر الإسرائيلي يكتب شعره عن البيت الذي اخذه مني، وأنا اكتب شعري عن بيتي الذي سأعود إليه". أما الفتى الغربي فيسأل: "لأول مرة اعرف أنكم مثلنا تكتبون الشعر وتحبون الأشجار، فكيف تفسر جهلنا؟" فيرد عليه الكاتب بالقول: "إن صورتكم عندنا ليست اقل سواداً، ولكننا كافحنا هذا السواد طويلاً كي نصل إلى معرفة جمالكم. إن صورتكم الجاهزة هي صورة المحتلين لبلادنا... وكان علينا أن نبحث حتى نوقن إن دانتي ليس الدبابة وبرانديلو ليس المصفحة، هؤلاء جزء أصيل من جمالنا اليوم وجمال أرواحنا وجمال آدابنا وفنوننا. إننا لا نتنازل عن آدابكم لمجرد أنكم لا تريدون ترجمة آدابنا".
هنا يتفوق المبدع المثقف على رجال الصحافة والسياسة والإعلام، ويعرف تماماً كيف يخاطب جمهوره، هذا الجمهور الذي لا يعرف عنا إلا القليل، وهذا القليل مشوه بما يكفي لإقامة جدران سميكة وعالية، ولا يسمح ببناء جسور المودة والتفاهم. خلاصة القول إن "السيرة الطائرة" عمل متميز. ولعله من أجمل الأعمال التي أبدعها نصر الله.
6. الكتابة .. فعل وجود
من المؤكد أن لكل كاتب طقوسه وعاداته الكتابية، وابراهيم نصر الله واحد من هؤلاء الذين يهتمون بطقوس كتابتهم كما يهتم بأجواء قراءاته الشعرية من صمت وهدوء وتركيز على وجه معين من بين الوجوه الحاضرة. ويقول نصر الله ان كل ما يلزمه للكتابة ان تشرق الشمس، ذلك أنه كاتب نهاري كما يصف نفسه – ونادراً ما مارس الكتابة ليلاً إلاّ اذا وجد نفسه مرغماً للاستجابة لإلحاح فكرة او قصيدة يتعذر تجاهلها او تأجيلها كي لا تتوه في غياهب النسيان. ولابد له من فنجان قهوة في الصباح، وليس غريباً أن ينساه احياناً او يكتشف أنه لم يرتشف منه غير رشفات قليلة. أما الهدوء المطلق فهو شرط رئيس للكتابة حتى لو وُجد في المكان الذي يجلس فيه شخص صامت تماماً، كما لو أنه يرفض أن يراه أحد متلبساً بالكتابة. وإذا كان ابراهيم قبل عصر التقنيات المتعددة يكتب أشعاره ورواياته على ورق أبيض وبحبر سائل أسود، فإنه في عصر تكنولوجيا المعلومات اقتحم عالم "الكمبيوتر" واستفاد من مزاياه العديدة. ومنذ عام (1997) على وجه الدقة كتب قصائده ورواياته ومقالاته على ذلك الجهاز الذي غدا صديقاً لا يمكن الاستغناء عنه.
ويؤمن نصر الله بالقيمة الفنية والجمالية للأدب كاساس للتأثير في الابعاد الاجتماعية والسياسية، وان عدالة أية قضية لا تنقذ الأدب الرديء من رداءته. وهذا ينطبق الى حد بعيد على جودة الكتابة الفلسطينية، ذلك ان جواز السفر لأي نص شعري او روائي او مسرحي أو لوحة تشكيلية إنما يكمن في القيمة الابداعية للعمل الفني، وليس للقيمة السياسية لمحتواه. وهو يرى أن التحدي أمام الكاتب الفلسطيني هو تحدٍ مضاعف، إذ إنه مطالب بالاستجابة لتحدي الإبداع في المقام الأول، وهو ايضاً مطالب بكتابة الحكاية الفلسطينية التي هي النقيض الأصيل للرواية الصهيونية، ومن هنا يقول نصر الله ان الكتابة بالنسبة للفلسطيني "هي فعل وجود". ولطالما أشار نصر الله في أحاديثه إلى عبارة رددتها جولدامائير مفادها: لو كان الفلسطينيون شعباً لكان لهم أدب. وهكذا سعت الزعيمة الصهيونية أن تنفي وجود شعب جذوره ضاربه في أرض فلسطين، استناداً إلى المنتج الأدبي، مع أن الحياة الثقافية والفنية والأدبية والصحفية في فلسطين كانت غنية بالمقارنة مع كيان لم يكن موجوداً أصلاً (يمكن لمزيد من الاطلاع مراجعة كتاب د. عبد الرحمن ياغي: حياة الأدب الفلسطيني).
من المؤكد أن عبارة جولدا مائير مزيفة، ولكنها أيضاً مستفزة، وهي بالمقابل محرضة للكاتب الفلسطيني على إنتاج إدب مبدع، ومما لاشك فيه أن نصر الله قد وضع تلك المقولة الصهيونية أمام ناظريه حين ارتاد عوالم الشعر، والرواية، والتشكيل، والتصوير، وكلمات الاغاني.
وهنا يمكن القول أن اسهام نصر الله في الحياة الفلسطينية والاردنية والعربية الابداعية إسهام متميز قد لا يجاريه في جودته وتعدده واتساعه فنان آخر. يبادره صحفي بسؤال مفاده متى سيضع ابراهيم نصر الله قلمه جانباً ويكف عن الكتابة، فيجيب بقوله:
"أظنني لن أكف أبداً، فهناك مشاريع لدي بحاجة إلى عشرين سنة لكتابتها، حتى لو لم تخطر ببالي أي فكرة جديدة الآن، او غداً، وهناك حياة أعيشها وتتنوع، فمنذ عامين لم يخطر ببالي أنني سأصعد إلى قمة جبل كليمنجارو وأصلها، صحبة أطفال فلسطينيين فقد كل واحد منهم إحدى ساقيه على يد الجيش الصهيوني، لكن هذا الأمر حدث، وحدث أن كتبت عن هذه التجربة الاستثنائية رواية."
يسأله أحد الصحافيين عما يمكن للأدب الفلسطيني أن يقدمه في حرب ثقافية يجابه فيها عدواً صهيونياً مدججاً بمؤسسات مناصرة وأفراد وحكومات معادية أو منحازة، فيقول:"لنسأل انفسنا السؤال مقلوباً: ما الذي قدمه الأدب الصهيوني لهذا الكيان العنصري المسمى (إسرائيل)؟ لقد ساهم في بناء هذه الدولة أكثر مما ساهم أي جندي أو مستوطن، بل إنه يد المستوطن التي تقتل وتقتلع الزيتون لبناء مستوطنة. ولذا، ليس لدي شك في قدرة الأدب الفلسطيني على زرع الزيتون المقتلع من جديد في روح البشر في انتظار اليوم الذي يعيدون فيه زراعته في مكانه بأيديهم. وإذا ما كان لأدبنا من أهمية، فهي تلك الأهمية الكبرى المتمثلة في أنه لم يسمح بهزيمة القضية الفلسطينية وعدالتها في أرواح الفلسطينيين والعرب والإنسان في كثير من بلاد العالم. لقد حسم الصهاينة كثيراً من المعارك العسكرية لصالحهم، لكنهم لم يستطيعوا حسم المعركة مع حبنا لفلسطين وتمسكنا بها جيلا بعد جيل".
سيثير أحد الصحفيين سؤالاً لابراهيم نصر الله عما إذا كان يعتبر نفسه فلسطينياً أم أردنياً، وهو سؤال طالما تردد في اذهان قرائه، وأياً كان الدافع وراء سؤال من هذا القبيل فإن ابراهيم لا يتردد في القول أن سؤالاً كهذا هو سؤال إقصائي بطبيعته، ولمزيد من الايضاح يقول ابراهيم: "ولدت في الأردن، وعشتُ في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وهذه تجربة من أقسى التجارب التي يمكن أن يعيشها الإنسان، حين يفقد في لحظة ما كل شيء: منزله وحديقته واشجاره وهويته أيضاً، حين يتحول الى لاجىء، ولذلك فإن أبسط ما يمكن ان يقوم به هو أن يعمل بكل ما لديه حتى لا يستمر هذا الوضع. بالنسبة لي كانت الكتابة هي الحل، لأنني استطعت أن أكتب، وكثيرون غيري فعلوا أشياء كثيرة من أجل أن يستردوا هويتهم ويستردوا حقهم في ان يكون لهم منزل وحديقة وأشجار وأيام عادية يعيشونها وموتا عاديا يموتونه.
ولقد استطاع الأدب الفلسطيني، بشكل أو بآخر، أن يكون كتاب الروح، أو كتاباً مقدساً آخر لنا كشعب، هذا الشعب الذي قلت في بداية حياتي الأدبية أننا لا نكتب عن معاناته لأننا فلسطينيون فقط، بل لأن معاناته اختبار يومي لضمير العالم.
"ومن ناحية أخرى، فإن حياتي التي عشتها في الأردن ربطتني بكل شيء فيه، فهنا ذكرياتي وهنا طفولتي، وهنا معاناتي أيضاً، وهنا قصة حياتي بما فيها من أشياء جميلة وحزينة، ونجاح وفشل، وأي مكان تربطك به كل هذه الاشياء هو مكان عزيز عليك، وقد كتبت قبل عشرين عاماً مقطعاً يقول: (وأعشق هذي البلاد وأفتقد الارض فيها) ولذلك المسألة إنسانية تماما، فهي تتعلق بفكرة الحق والعدالة، والشعور العميق، كأن تعيش كطفل ضائع في بيت يحبونك فيه وتحبهم، ولكن ما تحتاجه فعلا هو أمك. وهناك قصيدة لي عنوانها "المنفى"، ربما تجيب على سؤالك بدقة أفضل، حيث أصف المنفى – في أفضل حالاته – بأنه رحم بارد". ولطالما قال ابراهيم نصر الله على سبيل الدعابة لمن يثير هذا السؤال "إن شئت أنا شاعر أردني وروائي فلسطيني، أو أنا شاعر فلسطيني وروائي أردني لافرق، ولك ان تختار ما تشاء".
لست أزعم أن هذه هي سيرة نصر الله الشخصية والإبداعية بل هي وقفة تأملية لمحطات بارزة في مجمل حياته الشخصية والمهنية والابداعية، وأنا على يقين أن هذه السيرة بتنوعها وغناها واتساعها ما تزال ميداناً رحباً لكتابات أخرى ومساهمات عدة من شأنها ان تثري هذه السيرة وغيرها مما كُتب قبل هذه. إن عالم ابراهيم نصر الله لا يمكن تأطيره في صفحات أياً كان عددها.
- ترى!! من ذا الذي يستطيع أن يحيط بعالَم واسع؟
- من ذا الذي يستطيع ان يختزل أكثر من اربعين عاماً من الإبداع والإنتماء والعطاء؟
وما هذه إلاّ محاولة من شأنها أن تقدم ملامح من سيرة ما تزال مفتوحة، ومن إبداع ما يزال يرتقي متجاوزاً قمة كليمنجارو، صاعداً باتجاه سماء بلا سقوف.
[1] مجلة "المعلم- الطالب"، معهد التربية (الأنروا)، عمّان، العدد الأول، حزيران، 2000.