«علينا أن نحصي عدد الصور التي تعج بها جدران تلك القاعة. إنها الآلهة التي تهيمن على المعرفة الفرنسية في مجموعها: هناك كورني وموليير وباسكال وبوسويي وديكارت وراسين، وكل هؤلاء تحت رعاية ريشوليو»[1]
رولان بارث
تأتي هذه الشذرة للاستذكار بعد مرور المئوية الأولى على ميلاده بعد الرحيل، سيمفونية الزمن وسكون الصدمة بعد لغط شديد، ما الذي يمكن قوله؟ ألم يقلها ألبير كامي قبله، "إن معنى الحياة هو أكثر الأسئلة إلحاحا"، تُرى، ما المقصود؟ معنى الحياة أم معنى الموت أم معناهما معاً؟ كانت ولادته يوم 12 نونبر/ نوفمبر 1915 في شربورغ Cherbourg شمال فرنسا، من أبيه لويس بارث L. Barthes الذي توفي جراء معركة بحرية في الشمال، ومن أمه هنرييت بنجر H. Benger. حصل بارث على الإجازة في الأدب الكلاسيكي من جامعة "السوربون" العريقة، أسس مع جاك فيل "فرقة المسرح القديم"، وزار المغرب ما بين 1969 - 1970 ودرّس في جامعة محمد الخامس بالرباط، مباشرة بعد ذلك، سيسافر سفرته العجائبية إلى بلاد الانبهار والأضواء، حيث مشاهد بلاد اليابان وحيث التأثر بما اختزلته النظرة Le regard هناك، فرأى ما رأى الناس واحتفظ لنفسه بما لا تدركه الأبصار، ليتولد عن هذه التجربة المتمخضة كتابا تشكلت بين دفتيه معظم العبر وشتان بين النظرة والبصر، حيث أخذ من الأسماء، ما به يحال على الإنسان في السميولوجيا، أو دراسة بقايا الأثر، إنه الكائن البشري بكل ما ترمي إليه العبارة من علامات سواء في التمثل أم الإدراك، وكل ما يتناغم مع تجربته الضمنية التي يدخل في تكوينها الروحاني والمادي والمحسوس، مستفيدا من فلسفات عديدة ومتبنيا لأفكار أخرى.
لم يختلف مع مقولات بورس الفينومنولوجية بمنطقها في تشكل الإدراك والوعي، بدءً من عالم المشاعر والمحسوس، أو العالم الروحي للمشاعر والنفحة المتوجة، إنه عالم الكلية غير القابل للتجزيء، مرورا بعالم الجاذبية والكونية أو العالم المادي برموزه الخالدة دلالة على الحياة والحب والدم والنار. وما قد يستشف عن اللون الأحمر من مظاهر أخرى للصراع في كل شيء بما فيها حالات الجهل والصراع. وصولا لعالم الفكر والمنطق والبناء المفهومي، إن شئنا ضفاف العلاقات المنطقية بكل إحالاتها الممكنة على الفكر والتركيز. وهذا بالضبط ما تبناه وتعصب له ناسخا ما قاله كاسيرر إرنست حول اللغة، "إن الإنسان يحيا حياته ويطورها وفق الآفاق والحدود التي ترسمها اللغة"، لقد أخذها شريعة وعدها مصفاة تمر عبرها باقي الأنساق الأخرى من صورة وتشكيل وهلم جرا.
على أساس هذا، عد بارت "الكلمات هي ما يهم، أما الباقي فمجرد لغو"[2] "يونيسكو". لم يقف عند هذا الحد، بل عد "عالم أخرس ولا يتكلم إلا عبر اللغة"، وأن هذا العالم في نظره أبكم ولا يستطيع الدلالة إلا من خلال اللغة. إلى الحد الذي جعل من مريديه وممن جلسوا أمامه في جامعة السربون، أمثال الدكتور سعيد بنكَراد، في مناسبات دولية تستذكره وتحتفي بتراثه الفكري وثرائه الرمزي، يستعرضون إشكالية بارث التي تتلخص في التساؤل عن قدرة الوعي أو عجزه خارج محددات لغوية مسبقة؟ لقد أوضح بارث أن العالم لا يتسرب إلى الذهن، إلا بمفاهيم تنوب عنه منكرا إمكانية وجود إدراك دون تصنيف مسبق، مفترضا أن شكلنة ذاكرة العالم اللسانية الذي نحياه موجودة في اللغة ومثواها المفاهيم.
لقد أحس بارث مبكرا بالموقع الذي ستأخذه الصورة في التواصل الإنساني، ولم يخفها، إلا أن انحيازه للدور الذي تمثله الإرسالية اللفظية على مستوى الإدراك والتمثل المفهومي للأشياء والموضوعات ظل قائما، مبرره "أننا مازلنا نعيش حضارة المكتوب"[3] اكثر من أي وقت مضى، وأن إنتاج الدلالة وتلقيها يمتح من إفرازات المجتمع ومصادر الإيحاء فيه، من تاريخ وثقافة ولغة، وأنه يستحيل الحديث عن إيحاءات مرتعها الثرّ، السنن الثقافية بلغة إيكو خارج إطار اللغة، معلنا أيضا وبصوت جهير شرح باقي الأنساق غير اللغوية من خلال ما تسمح به ضوابط التفكير اللغوي وقواعده. إن اللسان مؤول الأنساق ووجهها اللفظي وهو أرقاها، إنه ما يضمن لنا تنظيما رمزيا في الحياة، بدليل أن الألفاظ لا تستعمل للتعبير فقط وإنما للدلالة أيضا وذاك جوهر المعنى. ألم يصدح بها كَادامير مرة، في "الحقيقة والمنهج"، إن اللغة شرط الوجود وعماده، أو هي الدليل على أن الإنسان يمتلك عالماً.
وعلاقة بمشروعه النقدي، عُدّت دروس سوسير "إمام ألسني القرن العشرين" في اللسانيات العامة بثنائيته الأشهر على كل لسان، سند بارث في صياغة نظريته السميولوجية نظريا وتطبيقيا، وبفضل العلامة اللسانية "الدال والمدلول"، اشتغل على النسق السميولوجي الأول والثاني، "ففي أي نسق سميولوجي نكون بصدد عناصر ثلاثة الدال والمدلول ثم العلامة وهي حاصل الجمع بين العنصرين الأولين"[4]. حيث عد التقرير حصيلة تأليف بين الدال والمدلول، وهذا التأليف سيتحول بدوره إلى دال جديد يحيل على مدلول جديد، هذا المدلول هو المدلول الإيحائي أو الأسطوري.
إن ثنائية التقرير والإيحاء هي الكوة التي نظر من خلالها بارث إلى تلك الممارسات الاجتماعية والثقافية التي كانت وراء ميلاد كتابه الشهير أساطير Mythologies ، فمع هذا الكتاب ستبدأ حكايته مع هذه الثنائية ولن تنتهي إلا مع موته المفاجئ يوم 25 فبراير 1980 إثر اصطدامه بناقلة خبز صغيرة أمام كوليج دوفرانس بباريس. هو ذا صاحب إمبراطورية العلامات الذي راح ضحية إغفاله وجود علامات تسمح بالمرور أو لا، فبعد سنتين من رحيل والدته، تلك الأم التي شكل وجودها وبعض صورها الفوتوغرافية منطقا لتحديد طبيعة الصورة الفوتوغرافية ذاتها بمكوناتها الوجدانية والجمالية لديه، لقد قال عنها في إمبراطورية العلامات، "يظهر على صورتها ما يشبه جوهر الصورة الفوتوغرافية، لذلك سأخرج نظرية الصورة الفوتوغرافية، وتبيان طبيعتها من خلال هذه الصورة الوحيدة "المقصود صورة معينة لأمه" التي تستحق حقا أن يسترشد بها في هذا المبحث الأخير"[5]، من كتابه هذا.
والظاهر، "في نص بارث يسجل ذاك التعارض القائم بين قطبين في المواجهة، أحدهما يقدم الصورة كما لو أن حضارة الكتابة قد ولّت، وأن ديانات الصورة الجديدة باتت سيدة الموقف في حين يتشبث البعض الآخر بأسطورة الأصل والمركز والمصدر الأول الذي تمثله الكلمة"[6]، ومن ناحية أخرى نقدم ما قاله بارث في هذا الشأن حين عد "الصورة ليست مجرد نتاج أو مسار، بل هي أيضا موضوع يملك استقلاليته البنيوية بدون أن ننزع الموضوع من استعمالاته. ولهذا وجب وضع طريقة خاصة تسبق التحليل السوسيولوجي تعتمد على التحليل المحايث داخل البنية الأصلية للصورة"[7].
وهو ما يبرر حضور الجانب الألسني في كل تحرك أو نشاط بصري، ورغم ما يقال عن النص كونه "يتطفل على الصورة إلا أنه يضيف معنى ثانيا أو ثالثا للمدلول"[8] الذي يكون من ورائه بالضرورة دال ما يُعد بنية حضور تنشد بنية غياب، لذلك فالصورة لا تفسر أبدا القول أو الكلام؛ إنها تبقى دائما رهينة الرجوع إلى الحلقات المرتبطة بالماضي، فما يشد أزرها ويعضدها هو اللفظي الذي به تتجاوز عتباتها التقريرية ومعانيها الأولى لشق آفاق مُتعية ولذاتية لا يسبر أغوارها إلا جلاد الكلمات أو "الإيحاء"، طبعا عند بارث ولدى غيره ممن يشيدون إنتاج الدلالات وتوليد المعاني في ميدان التمثيل البصري.
فعندما يكون الكلام، والكلام لبارث "ذا قيمة سردية تنسيقية، تكون المعلومة باهظة، وللسبب ذاته يتطلب الأمر تعلم شفرة لسانية "اللغة"، وعندما يكون للكلام قيمة استبدالية تكون للصورة حمولة معلوماتية. وبما أن الصورة تناظرية فالمعلومة غالبا ما تكون كسولة"[9]. في هذا المستوى يتحتم الدفع بها في اتجاه القارئ لاستنطاقها واستشرافها نحو الأمام، بدلا من المكوث في وضعية الجمود التي تنبئ بارتكاسية تم التخلي عنها مع البنويين وسميائيات كَريماص على وجه الخصوص، "وهي الوصول إلى وضع اليد على كل دلالي مودع في النص"[10]، تغير يوكل للشق السميولوجي وليس للجانب الألسني المحايث والمنغلق على النص، لكي تكون للظواهر معنى ولإسقاط فكرة أن "النص يكشف بشكل مبكر عن كل أسراره، ولن يقوم القارئ سوى بالكشف عن معنى مودع بشكل سابق في النص ويتخذ شكل تناظر دلالي عام على المحلل أن يصل إليه"[11]. وهذا لا ينفي "أن تكون اللغة اللفظية لغة تواصل بامتياز وتحقق على هذا الصعيد ما يتعسر على غيرها"[12]، والصيغة نفسها والطرح والتشدد أيضا.
نجد بارث يؤكد، ما مُفاده "أنه يعتقد حاليا على مستوى تواصل وسائل الإعلام الجماهيري، أن الدليل اللغوي حاضر في الصورة بوصفه عنوانا أو أسطورة أو مقالا صحافيا أو متمثلا في حوار فيلم سينمائي، وهنا لا يجب أن نتكلم عن حضارة الصورة فقط، بل يجب أن نتحدث عن حضارة المكتوب، لأن الكتابة والقول مصطلحان لهما بنية معلوماتية ومعرفية"[13]، وفي سياق العلاقة الممكنة بين النسقين، يكتب أمبيرتو إيكو هذه المرة عن معيار مصداقية التواصل في مقالته الموسومة ب: "سميائيات الإرساليات البصرية" وفي حديثه عن السنن البصرية يقول: "إنه لا جدال في الأحداث المرئية كونها ظاهرة تواصلية، ولكن الشك يأتي في الخصائص اللسانية للظاهرة المرئية"[14]، هذه الأخيرة التي تثبت على علتها، ولا تغير جلدتها وتتميز بالجمود بخلاف اللفظي واللساني الذي يضع كل شيء محط تشكيك، إنه حيوي وكل كلمة من داخله توحي إلى معنى أعمق منها، "فالسلطة التي تمتلكها اللغة المتجلية في قدرتها على أن تقول أكثر مما تدل عليه ألفاظها مباشرة"[15] حسب تعبير جاك دريدا. لذلك فمن الخطأ الاعتقاد أن أي عملية تواصلية ترتكز على اللغة الخالصة، "بل يجب أن تعتمد على تمفصل اللغة"[16]، وعوض أن يتم الارتواء بالمستوى الأول، تمنح اللغة مستويات وارفة المعاني على ضفاف القراءة ومدارج التأويل.
زبدة القول، إن رولان بارث كان بنيويا أصيلا أمثال "كلود ليفي ستراوس وميشيل فوكو وجاك ديريدا وجاك لاكان، باعتبار البنيوية ما هي إلا منهج بحث وطريقة معينة يتناول بها الباحث المعطيات التي تنتمي إلى حقل معين من حقول المعرفة بحيث تخضع هذه المعطيات للمعايير العقلية"[17]. وفي الوقت نفسه كان سميولوجيا نبيها، لقد عد ركنا هاما من أركان تيار سميولوجيا الدلالة، حيث رأى أن جزءا كاملا من البحث السيميولوجي المعاصر "مرده بدون انقطاع إلى مسألة الدلالة، فعلم النفس والبنيوية وبعض المحاولات الجديدة للنقد الأدبي (…) كل ذلك لا يدرس الواقعة أبدا إلا بوصفها دالة، وافتراض الدلالة يعني اللجوء إلى السميولوجيا"[18]، ويبقى كل ما يقال في حق الناقد الفرنسي رولان بارث ضئيلا وبالشيء الهين نظريا، لكن ما سيخلده التاريخ مع بارث ولن ينساه، أن النص لا يوثق الصورة، وأن الصورة لا توضح النص.
1 عن بارث، بقلم عبد السلام بنعبد العالي، "نحو تاريخ تراجعي"، في: سيميولوجيا الحياة اليومية، دار النشر توبقال، الطبعة الأولى 2016، ص: 67.
2 أمبيرتو إيكو، العلامة تحليل المفهوم وتاريخه، ترجمة وتقديم سعيد بنكَراد، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2007، ص: 27.
[3] Roland Barthes; l'Obvie et l'Obtus; Essais Critique III; éd Seuil Paris 1982; P: 30.
[4] Roland Barthes; Mythologies; édition Seuil; Paris 1957; P: 197.
[5] Roland Barthes; L'Empire des signes; édition Flammarion – Skira; Collection champs 1970; P: 114.
6محمد الهجابي، التصوير والخطاب البصري "تمهيد أولي في البنية والقراءة"، منشورات ديوان 3000، بالرباط، الطبعة الأولى 1994، ص ص: 65-66.
[7] Roland Barthes; Le message Photographique; In communications n° 1-1961; P: 127.
[8] Op; Cite; P: 134.
[9] Roland Barthes; l'Obvie et l'Obtus; Op; Cite; P: 33.
سعيد بنكًراد، ممكنات النص ومحدودية النموذج النظري، فكر ونقد العدد 58 – 2004، ص: 31.[10]
نفسه، ص: 31.[11]
[12] محمد الهجابي، التصوير والخطاب البصري، مرجع سابق، ص: 84.
[13] Roland Barthes, L’Obvie et L’Obtus, op cite, pp: 30-31.
[14]Umberto Eco; Sémiologie des Messages Visuels, In Communications, 15, 1970, p: 11.
[15] أمبيرتو إيكو، التأويل بين السميائيات والتفكيكية، ترجمة وتقديم سعيد بنگراد، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية 2004، ص: 124.
[16] Umberto Eco, Sémiologie des Messages Visuels; op cite; p: 31.
محمد عصفور، البنيوية وما بعدها، سلسلة عالم الامعرفة، العدد 206، ص 9. [17]
مبارك حنون، دروس في السيميائيات، سلسلة توصيل المعرفة، دار توبقال للنشر – المغرب -، ص :74. [18]