لا نبالغ إذا قلنا إنّه إذا كان ثمّة فعل واحد زرع بذور الشقاء في العالم العربي في القرن العشرين، فهو وعد/ إعلان بلفور. ولا تزال تداعياته أسباباً، مباشرة وغير مباشرة، لحروب وقتل وتطهير عِرقي، وإرهاب ونزوح جماعي، وهدر للموارد، وانحطاط للقيم الإنسانية، كما أنّ لتأثيراته السامّة أبعاداً عالمية خطيرة، منها إمكانية حدوث حرب نووية، والأمر المُنذِر بالسوء أنّ الإعلان طال منطقة يُتنبَّأ بنشوب "الملحمة الكبرى" (Armageddon) فيها.
كتب أرثور بلفور (Arthur Balfour)، وزير الخارجية البريطاني قبل مئة سنة، وتحديداً يوم 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917، إلى اللورد روثْتشايلد (Rothschild)، أحد قادة اليهود في المملكة المتّحدة، ليُخبره بأنّ الحكومة البريطانية «تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي NATIONAL HOME في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يُفهم جلياً أنه لن يُفعَل شيء من شأنه الانتقاص من الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية في فلسطين، ولا من الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتّع به اليهود في أيّ بلد آخر».
كانت فلسطين جزءاً من السلطنة العثمانية حين صدور الإعلان، وكان المسلمون والمسيحيون يشكّلون أكثر من 90 في المئة من سكان فلسطين، فيما لم يكن اليهود يمتلكون غير 2 في المئة من أراضيها. لكنّ قوله «على أن يُفهم جلياً أنه لن يُفعَل شيء من شأنه الانتقاص من الحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية في فلسطين» لم يكن غير خدعة وتدليس، حيث أنّ بلفور كتب في مذكّرة سرّية إلى الحكومة البريطانية قائلاً: «إنّنا لا نقترح حتى أن نتكبد مشقّة استطلاع رغبات سكّان البلاد الحاليين من غير اليهود في فلسطين ... لأن أهمية الصهيونية أكبر بكثير من رغبات وتحيزات السبعمائة ألف عربي القاطنين الآن في تلك الأرض التاريخية».
والواقع أنّ احتقار الفلسطينيين العرب هذا كان شائعاً في أوساط الطبقة الحاكمة في بريطانيا، كمثال على ذلك، ما قاله ونستون تشرشل، "البريطاني العظيم"، بشأن الفلسطينيين: «أنا لا أوافق على أنّ للكلب الحقّ النهائي بالحظيرة، مع أنّه ربّما بقي ممدَّداً فيها مدّة طويلة، أنا لا أقرّ بذلك الحقّ، أنا لا أقرّ مثلاً بارتكاب فعل شنيع في حقّ الهنود الحمر في أمريكا، أو في حقّ السكان السود في أستراليا، أنا لا أقرّ بأنّ خطأً قد ارتُكب في حقّ هؤلاء الناس لمجرد أنّ عِرقاً أقوى وأرقى وأحنك، إذا جاز التعبير عن هذه الحقيقة، قدِم إلى مكانهم واستولى عليه».
إضافة إلى عنصرية هذا التصريح الوقحة، فإنه من الظلم الإشارة إلى كون العرب عِرقاً متدنّياً، حيث وكما بيّن مؤرّخون وباحثون كثر، منهم غربيون، يُستبعد أنّ الحضارة الأوروبية الحديثة كانت ستنهض بدون دور العرب الجوهرى فى ذلك، فحين كان جدود تشرشل يتمايلون، وأقدامهم تغوص في الوحل في عتمة الظلام، كان لدى العرب طرق مرصوفة ومضاءة، وحين كان أسلاف تشرشل يعتبرون الاستحمام عادةً وثنية، كان العرب يستمتعون بالحمّامات العامّة، وفيما كانت أوروبا غارقة في البربرية، كانت المدن العربية، مثل بغداد وقرطبة والقاهرة، منارات للحضارة والنشاط الفكري، وعلى سبيل المثال، أسّس العرب، على جانبى أمتهم، اثنتين من أقدم الجامعات، ومراكز التعليم العالي في العالم: جامعة القرويين في فاس، وبيت الحكمة في بغداد، تأسّس هذان الصرحان قبل نحو 250 سنة من تأسيس أكسفورد، أقدم جامعة بريطانية.
وعلى العكس من وعودٍ بريطانية أخرى، تُوبع تنفيذ إعلان بلفور بجِدّ ولم يُكتَفَ بإصداره، فقد احتلّت بريطانيا القدس في كانون الأول/ ديسمبر 1917، وانتدبتْها عصبةُ الأمم لإدارة فلسطين في تموز/ يوليو 1922، ثمّ انسحبت في أيار/ مايو 1948 غداة إعلان "الدولة اليهودية". وفي أثناء مدّة الانتداب، سمحت بريطانيا بتطبيق المشروع الصهيوني في فلسطين على حساب سكّانها المحلّيين .. مشروع كان كارثياً للفلسطينيين ونكبة لهم سلبت وطنهم، ومأساوياً لليهود لم ينجح إلا في صنع "دولة" ضئيلة لهم قوامها العدوان المتأصل المزمن، دولة باغية أشبه بثكنة عسكرية منها بواحة آمنة.
ويبدو أنّه كان هناك عاملان مهيمنان دفعا بريطانيا إلى إصدار هذا الإعلان، الأول تكتيكي، والثاني استراتيجي. على المستوى التكتيكي، استهدف الإعلان حشد دعم "اليهودية العالمية" لتأمين النصر للحلفاء في الحرب العالمية الأولى التي بدأت في سنة 1914 ووضعت أوزارها في سنة 1918. وكانت الدول الرئيسة التي شاركت في تلك الحرب حال نشوبها هي بريطانيا وفرنسا وروسيا، أو ما يُعرَف بـ"الحلفاء"، في مواجهة "دول المحور"، وهي ألمانيا والإمبراطورية النمساوية/ المجرية والسلطنة العثمانية. وقد بدا أن وضع بريطانيا في الحرب أصبح حرجا وخطيراً بحلول خريف سنة 1917، إذْ أصاب الوهنُ حلفاءها الأُوَل مقارنة بأعدائها.
وقد افترضت بريطانيا أنّه، امتناناً للإعلان، سيردّ اليهودُ الجميلَ في ثلاث دول ذات أهمّية حيوية، وهي على الخصوص: الولايات المتّحدة الأمريكية، وروسيا، والسلطنة العثمانية. كما ساد أمل بأن يوظّف اليهودُ بالولايات المتّحدة نفوذَهم السياسي والمالي الهائل المفترَض في الزجّ بالبلاد في أتّون الحرب إلى جانب بريطانيا، وفي تمويل المجهود الحربي؛ وكان يُتوقَّع من اليهود بالإمبراطورية الروسية، الذين زُعم أنّهم استولوا على السلطة عقب الثورة البولشيفية في سنة 1917، أن يُثنوها عن الانسحاب من قتال ألمانيا، وفي السلطنة العثمانية، تكهنت بريطانيا أن يوقف اليهود دعمهم المزعوم لحكومة "تركيا الفتاة" وهو ما سيؤدّي إلى انهيارها وإلى انسحاب السلطنة من الحرب.
وعلى المستوى الاستراتيجي، كان الدافع لإصدار بريطانيا الإعلان هو لحماية مصالحها الإمبريالية في المنطقة العربية، مثل النفط وقناة السويس وطريق الهند، بل ومنع العرب من بناء دولة موحَّدة قوية وعصرية، يمكنها التصدّي للهيمنة الاستعمارية البريطانية؛ ذلك أنّ الطبقة الحاكمة في بريطانيا رأت في إقامة بؤرة يهودية خاضعة لنفوذها في قلب العالم العربي، ما سيخدم غاياتها على النحو الأمثل. وكما أفصح تشرشل في سنة 1920، فإنّ إقامة دولة مثل هذه سيخدم "المصالح الحقيقية للإمبراطورية البريطانية". الكلمتان الجوهريتان هنا هما "مصالح" و"الإمبراطورية".
ولو عدنا إلى سنة 1840، أي قبل تشكيل المنظّمة الصهيونية بأكثر من نصف قرن، أراد اللورد بالْميرسْتون Palmerston وزير الخارجية البريطاني آنذاك (1835-1841) أن يهاجر اليهودُ إلى فلسطين ليكونوا "مانعاً لأيّ مخطّط شرّير يُعدّه محمّد علي أو خليفته". كان "المخطّط الشرّير" المنسوب إلى محمّد علي، حاكم مصر (1805-1848)، هو تحويل مصر إلى دولة عصرية متّحدة مع سوريا الكبرى. وقد رأت بريطانيا وقوى أوروبية أخرى في إنجازات من هذا النوع تهديداً لمصالحها؛ لذلك حاربوا محمّد علي ونجحوا في سنة 1840 في إحباط مساعيه وفي التفريق بين سوريا ومصر، ثمّ أعاد التاريخ نفسه في القرن العشرين حين حارب الغربُ الزعيمَ العربي جمال عبد النّاصر وتآمر عليه.
كما أنّ ريتشارد ماينِرتزهاغِن Richard Meinertzhagen، وكان ضابطاً كبيراً في الاستخبارات البريطانية، وخبيراً استراتيجياً، ومستشاراً لتشرشل، وواحداً من أترابه في مدرسة هارو، أوصى في مذكّرة ذات أهمية مؤثِّرة بأن «تستعيض بريطانيا في حماية الأرض المقدّسة، عن الاعتماد على العرب الخونة الذين لا يجيدون غير النهب والتخريب والقتل، بحامية من اليهود المُخلصين، لأنّهم شعب أثبت مؤهّلاته القتالية منذ الاحتلال الروماني للقدس.» وتبين عقب وفاة ماينِرتزهاغِن في سنة 1967 أنّه "محتال كبير وكذّاب مشعوذ وربّما قاتل"، وهي كلها صفات كما يبدو يتسم بها الكثيرون من المتعصّبين المناوئين للعرب.
وكمؤشّر على استماتة الطبقة البريطانية الحاكمة كي لا تخسر الحرب، بدت مستعدّة للانحطاط إلى أيّ مستوى من الدجل؛ فوعدت الشريف حسين حاكم مكّة في سنة 1915، أي قبل سنتين من إعلان بلفور، بدعم إقامة مملكة عربية مستقلّة تضمّ سوريا الكبرى والعراق وشبه الجزيرة العربية في مقابل إشعاله ثورة عربية على العثمانيين، وهو وعد نكثت به فيما بعد. وبالإضافة إلى ذلك، عرض لُويد جورج Lloyd George رئيس الوزراء البريطاني، بعد شهرين من الإعلان، على الحكومة العثمانية أموالاً طائلة واتفاقية يبقى بموجبها العلمُ العثماني مرفوعاً في الشرق الأوسط، بما في ذلك فلسطين، في مقابل إبرام معاهدة سلام مع بريطانيا، لكنّ العرض قوبل بالرفض. وليس مفاجئاً إذاً أنّ الصحافي والكاتب البريطاني البارز روبرت فيسك Robert Fisk وصف الإعلانَ، أي وعد بلفور، بأنّه "الوثيقة الأكثر كذباً وخداعاً وزيفاً في التاريخ البريطاني المعاصر".
ولا ريب أنّ كرم الطبقة البريطانية الحاكمة مع اليهود لم يكن الدافعَ المحوري لإصدار الإعلان؛ حيث إنّ بلفور منع اليهودَ الهاربين من اضطهاد روسيا القيصرية من دخول المملكة المتّحدة قبل اثنتي عشرة سنة من الإعلان، وبصفته رئيساً للوزراء، مرّر قانوناً عُرف "بقانون الغرباء" في 11 آب/ أغسطس 1905، بهدف تقييد هجرة اليهود إلى بريطانيا، ووصف بلفور اليهود، مبرّراً هذا القانون، بأنّهم "شعب مُغاير". ومن سخرية القدر أنّ تصوّرات خاطئة معادية للسامية، مثل وجود "يهودية عالمية ماكرة"، لعبت دوراً جوهريّاً في صدور الإعلان، ويؤكّد جيروم تشينز Jerome Chanes، وهو برفسور في مركز الدراسات اليهودية في جامعة مدينة نيويورك، أنّ "الإعلان مشتَقّ من النموذج الإنكليزي لمعاداة السامية". الفكرة الخاطئة الأخرى التي أرادت المؤسّسةُ البريطانية تصديقها أنّ عامّة اليهود هم صهاينة، يطمحون إلى إقامة "دولة يهودية" في فلسطين.
على الرغم من دعم الطبقة الحاكمة البريطانية للصهيونية، إلا أن ميولها المعادية للسامية تجلت بوضوح متمثلة في تشرشل، "الصهيوني الفخري". ففي مقالة لتشرشل بتاريخ 8 شباط/ فبراير 1920، عزا الثورةَ البولشيفية عام 1917 إلى «مخططات اليهود العالميين"، وقال: "هذه الحركة في أوساط اليهود ليست جديدة، فبدءاً بعصر سبارتكوس Spartacus وفيزهوبت Weishaupt، ومروراً بعصر كارل ماركس وانتهاءً بتروتسكي Trotsky – روسيا، وبيلا كون Bela Kun - هنغاريا، وروزا لوكسمبورغ Rosa Luxembourg – ألمانيا، وإيمّا غولْدمان Emma Goldman - الولايات المتّحدة، هذه المؤامرة العالمية لتقويض الحضارة تتطوّر باطّراد».
كما رأى تشرشل في "الدولة اليهودية" المقترَحة أداةً لإضعاف البولشيفية، فصرّح في المقالة آنفة الذكر بأنّ «الصهيونية أضحت الآن عاملاً في الاضطراب السياسي بروسيا .. يجري وبشكل مباشر إحباط وإعاقة مخطّطات دولة شيوعية عالمية، خاضعة للهيمنة اليهودية، بهذا التوجه (الصهيوني) الجديد الذى يحشد طاقات اليهود وآمالهم في كلّ انحاء الأرض نحو هدف أبسط وأقْوَم وأكثر قابلية للتحقيق.» يظهر أنّ تشرشل أراد إغراء "اليهودية العالمية الماكرة" بالوقوف بجانب الصهيونية، عوضاً عن البولشيفية، بزعمه أنّ إقامة "دولة يهودية" في فلسطين أقرب إلى المنال من بناء "دولة شيوعية عالمية يهيمن عليها اليهود"!
الجدير بالذكر أن إدوين مونتاغو Edwin Montagu، الوزير اليهودي الوحيد في الحكومة البريطانية آنذاك، عارض بقوّة إعلان بلفور. وقد قال للُويد جورج، رئيس الوزراء: «أمضيتُ حياتي كلّها في محاولة الخروج من الغيتو، وأنت تريد إرغامي على العودة إليه؟» وفي مذكّرة قُدّمت إلى الوزارة البريطانية في آب/ أغسطس 1917، وصف مونتاغو الصهيونيةَ بأنّها «عقيدة سياسية خبيثة، لا يمكن لأيّ مواطن وطني في المملكة المتّحدة أن يدافع عنها.» وكتب: «أكاد أميل إلى اعتبار المنظّمة الصهيونية غير شرعية ومناوئة للمصلحة الوطنية».
إنّ معارضة مونتاغو لإقامة "وطن/ مثوى قومي" لليهود في فلسطين اعتمدت في الأساس على ثلاثة عوامل: الأول أنّها ستؤدّي لا محالة إلى معاملة السكان المحلّيين غير اليهود، أي 90 في المئة من إجمالي السكّان، كأجانب في وطنهم. والثاني: أنّها ستحرم اليهود في أوطانهم الأمّ من حقوق المواطنة فيها. والثالث: انه ليست لليهود حقوق في فلسطين أكثر من المسيحيين أو المسلمين، وفي رغبة تنبع عن بُعْد نظر، لم يشأ مونتاغو أن تصبح فلسطين "الغيتو العالمي" لليهود.
كما لاقت الصهيونية معارضة قوية من يهود بريطانيين آخرين، منهم هيرمان أدْلِر Hermann Adler، كبير حاخامات بريطانيا، ودافيد ليندو ألكسندرDavid Lindo Alexander، رئيس مجلس النواب اليهود البريطانيين؛ وكلود مونتفْيورClaude Montefiore، رئيس الرابطة الأنغلو يهودية. طعن أدلِر بفكرة "دولة يهودية" في فلسطين كونها "مناقضة للمبادئ اليهودية"، وفي رسالة إلى صحيفة لندن تايمز London Times في 24 أيار/ مايو 1917، كتب ألكسندر ومنتيفْيور: «لا بدّ وأنّ إنشاء قومية يهودية في فلسطين، على أساس نظرية التشرّد، سيجعل اليهود في مجمل أنحاء العالم كما لو أنّهم غرباء في بلادهم»، كما أنّ «اقتراح منح المستوطنين اليهود في فلسطين حقوقاً خاصّة معيّنة تفوق الحقوق التي يتمتّع بها باقي السكّان ... سيكون كارثة حقيقية تطال الشعب اليهودي برمّته».
لم تكد تمضي أيام قلائل على صدور الإعلان حتى أسّس بريطانيون يهود بارزون آخرون "رابطة اليهود البريطانيين"، وهي منظّمة كُرّست لمحاربة الصهيونية، وكان من مؤسّسيها فيليب ماغنوس Philip Magnus، ولويس مونتاغو البارون سوايْثلينغ Swaythling، وليونيل ناثان دي روثْتشايلد Lionel Nathan de Rothschild، ولوسيان وولفLucien Wolf. من الواضح إذاً أنّ فكرة دمج الدِّين مع القومية لم تلقّ قبول كثير من اليهود وقتها. وبالتالي، فإنّ ادعاء الصهاينة أنّ معاداة الصهيونية تعادل معاداة السامية هو زعم باطل وتدليس واضح. وفي الحقيقة هنالك تداخلُ بين أهداف الصهيونية ومعاداة السامية، فالصهيونية الحديثة، التي استحدثها اليهود الأوروبيون في أواخر القرن التاسع عشر كردّ فعل على اضطهادهم، استجابت من الناحية الفعلية لفرضية معاداة السامية القائلة بأنّ اليهود "شعب مغاير". ومن غير الممكن انصهارهم في/ او تكاملهم مع/ المجتمعات التى يعيشون فيها؛ لذلك يمكن الاستنتاج بأن جذور الصهيونية قد نبعت من تربة معاداة السامية الآسنة، فإن لم تكن هنالك معاداة للسامية ينعدم أى مبرر فاعل لقيام الصهيونية، وهذا يعنى أن مواجهة وقهر معاداة السامية سيجرد الصهيونية من أهم عوامل وجودها.
لنفترض على سبيل المقارنة أنّ جماعة من الأمريكيين الأفارقة أسّسوا منظّمة تسمّى "الأفريكانية" ردّاً على التمييز ضدّهم، غايتها تشجيع الأمريكيين الأفارقة على مغادرة الولايات المتّحدة والهجرة إلى أفريقيا، هل سيكون هناك شكّ في أن العنصريين البيض سيدعمون هدف "الافريكانية" لغرض التخلص من الأمريكيين الأفارقة؟
أذعنت الصهيونية لفكرة عدم إمكانية تكامل اليهود في مجتمعاتهم الأوروبية الأصلية، وخلَصت إلى أنّ حلّ "المشكلة اليهودية" يكمن في الهجرة إلى فلسطين، وإقامة "دولة يهودية"، وليس في محاربة العنصرية، وفي الكفاح لنيل حقوق متساوية في بلدانهم الأوروبية. وبذلك غدت إقامةُ "الدولة اليهودية" والمحافظة عليها، مهما كانت التكاليف، الأولويةَ القصوى للصهيونية. وفى هذا السياق شدد ثيودور هيرتزل Theodor Herzl، مؤسّس الصهيونية الحديثة، على أنّه «إذا تعيّن القضاء على قطاعات كاملة من اليهود، فالأمر يستأهل ذلك بشرط إقامة دولة يهودية في فلسطين.» وقال دافيد بن غوريون David bin-Gurion، وهو من أبرز الزعماء الصهاينة: «إذا كان في استطاعتي إنقاذ أطفال ألمانيا (اليهود) بجلبهم جميعهم إلى إنكلترا، أو جلب نصفهم إلى إسرائيل، سأختار الحلّ الثاني.» ولمّا كان سكّان غير يهود يقطنون أصلاً المنطقة المستهدَفة، كان بديهياً وحتمياً أن ينطوي المشروع الصهيوني على التطهير العِرقي للفلسطينيين، واقتلاعهم من "أرض الميعاد"، وكما أومأ تشرشل، وجد هذا المشروع المشؤوم نموذجَه في مستعمري أمريكا وأستراليا البيض الذين أفنت سياستُهم السكانَ المحلّيين؛ إذن بدلاً من أن يواجه الصهاينة مضطهديهم الأوروبيين، آثروا ما رأوه الخيار السهل، والجبان بالتأكيد، وهو ترهيب السكّان الفلسطينيين المستضعفين، والذين لم يُلحقوا باليهود أيّ أذي.
إن أيّ ادعاء بأنّ معاداة السامية هي السبب الرئيس لعداء الفلسطينيين للصهاينة ولـ"الدولة اليهودية" هو خطأً فاحش؛ فالعداء هو ردّ فعل طبيعى على الاقتلاع والتنكيل والاحتلال. وكلّ من يقترف هذه الجرائم سيلقى عداوة مشابهة، بل إنّ بيرنارد لويس Bernard Lewis، المؤرِّخ الصهيوني العتيد، أقرّ بأنّ «المعاداة الأوروبية للسامية، بنموذجيها اللاهوتي والعِرقي، غريبة بشكل أساسى عن التقاليد والثقافة والأنماط الفكرية الإسلامية». وكتب أيضاً: «في نظر المسيحيين المعادين للسامية، المشكلة الفلسطينية ذريعة ومنفس لكراهيتهم، لكنّ معاداة المسلمين للسامية سببها المشكلة الفلسطينية»، وأكّد يهوشافاط هارْكابي Yehoshafat Harkabi، وهو برفسور في الجامعة العبرية بالقدس، ورئيس سابق للاستخبارات العسكرية، على أنّ «معاداة العرب للسامية إحدى نتائج الصراع، وليست سببه، ولو تمّ التوصّل إلى تسوية للصراع العربي الإسرائيلي، لتلاشت مظاهر معاداة السامية».
ويرى بعض المفكرين أنّه لولا الحرب العالمية الأولى، ما نشبت ثورة روسية، ولما قام الرايخ الثالث، ولما تأسست "دولة يهودية" في فلسطين؛ بل إنّ الصلة بين الرايخ الثالث و"الدولة اليهودية" تمتدّ إلى ما هو أبعد من ذلك، ويمكن القول بأنّ تصوّر "الدولة اليهودية" برز في الحرب العالمية الأولى، لكنّه تبلور بفعل السياسات العِرقية الوحشية للرايخ الألمانى الثالث؛ ذلك أنّ الجاذبية المحدودة للصهيونية عند اليهود الأوروبيين قويت كثيراً في مستهلّ القرن العشرين لسطوة سياسات النازيين المعادية للسامية، والتي تُوّجت بجريمة شنيعة في حقّ الإنسانية، وهي المحرقة النازية، وهذا ما أشار إليه هيرتزل بقوله: «سيصبح معادو السامية أجود أصدقائنا، والبلدانُ المعادية للسامية حلفاءنا». وفي السياق نفسه، كتب جون نيوسينغِر John Newsinger، أستاذ مادّة التاريخ المعاصر في جامعة باث سبا Bath Spa، «لولا بروز معاداة السامية في ألمانيا وأوروبا الشرقية، لأخفق المشروع الصهيوني على الأرجح؛ لأنّه لم يكن سيتوفر العدد الكافى من النساء والرجال اليهود الراغبين في الهجرة إلى فلسطين»، وأضاف: «إنّ المعاداة الأوروبية للسامية، التي تُوّجت بالقتل الجماعي والإبادة الجماعية المدبَّرة، هي التي جعلت المشروع الصهيوني قابلاً للاستمرار، وهنا لا بدّ من التأكيد على أنّ ذلك جاء على حساب الشعب الفلسطيني». كما أكّد البروفسور نيوسينغِر أيضاً على أنّه «لو فتحت الولاياتُ المتّحدة وبريطانيا ودول أخرى أبوابها لليهود الفارّين من النازية، لكانت تلك الدول على، نحو شبه مؤكَّد، المقصدَ النهائي للغالبية العظمى من اليهود الأوروبيين، وعوضاً عن ذلك، بقيت الأبواب مؤصدة إلاّ أمام حفنة قليلة منهم، وهنا أيضاً يظهر عملياً أثر معاداة السامية».
سيكون من الخطأ الافتراض بأنّ الصهاينة الألمان دخلوا في صراع وجودي مع النظام النازي غداة وصوله إلى السلطة في سنة 1933، فعلى عكس المنظّمات اليهودية الألمانية غير الصهيونية التي حاربت معاداة السامية، مثل سنترا فيرين Centra Verein، واتّحاد المحاربين القدامى اليهود RJF، ورابطة اليهود الوطنيين الألمان League of National German Jews ، أقام الصهاينة الألمان علاقة، وإن كانت معقّدة، مع النازيين. فقد كان نبذ استيعاب يهود ألمانيا فى المجتمع الألمانى هدفاً مشتركاً للفريقين، وكذلك لم تتعارض رغبة الصهاينة في تهجير الألمان اليهود إلى فلسطين مع غاية النازيين الشريرة في تطهير ألمانيا من اليهود؛ بل تماثل الهدفين وإن اختلفت دوافعهما. وما إن مضت شهور قليلة على تعيين هتلر مستشاراً لألمانيا في سنة 1933 حتى وقّعت الحكومة النازية اتفاقية الترحيل هافارا Haavara Transfer Agreement مع اتّحاد صهاينة ألمانيا؛ ويسّرت هذه الاتفاقيةُ هجرةَ أعداد ضخمة من اليهود إلى فلسطين، وفتحت أبواب فلسطين أمام الصادرات الألمانية، وأضعفت المقاطعةَ الاقتصادية الدولية لألمانيا النازية.
التجلّي الآخر للارتباط بين الصهاينة الألمان والنازيين، كان نشر اثنتي عشرة مقالة في شهري أيلول/ سبتمبر، وتشرين الأول/ أكتوبر 1934، مدحاً في المستوطنات الصهيونية في فلسطين للكاتب ليبولود فون مايلْدينشتاين Leopold von Mildenstein، وهو ضابط كبير في فرقة الأس أس (SS). صدرت المقالات، وكانت غايتها تشجيع اليهود الألمان على الهجرة إلى فلسطين، على صفحات صحيفة "الهجوم" ASSAULT الواسعة الانتشار، والتي كان يشرف عليها جوزف غوبلز Joseph Goebbels، وزير الإعلام السيئ الصيت لدى هتلر. واحتفاءً بهذه المقالات، أوعز غوبلز بإصدار ميدالية حملت على أحد وجهيها الصليبَ المعقوف، ونجمة داود على وجهها الآخر.
وفي أيلول/ سبتمبر 1935، كتب راينْهارد هيدريتش Reinhard Heydrich، رئيس وكالة الاستخبارات الألمانية (SD) وأحد مصمّمي المحرقة النازية لاحقاً، بأنّ النظام النازي «على وئام تام مع الحركة الروحية العظيمة في أوساط اليهود أنفسهم، والتي تسمّى الصهيونية، الداعية إلى تضامن اليهود في شتّى ربوع العالم، ورفضهم الأفكار الاستيعابية بجميع صورها»، وعن ذلك تقول سارة ريغير Sara Reguer، أستاذة الدراسات اليهودية في كلّية بروكلين بجامعة مدينة نيويورك، «ساعد النازيون، وحتى فرقة الأس أس، على هجرة اليهود غير الشرعية إلى فلسطين»، وفي الموضوع نفسه، كتب فرانسيس نيكوسيا Frances Nicosia، وهو بروفسور في التاريخ وفي دراسات المحرقة النازية بجامعة فيرمونت، «سياساتُ ألمانيا بين عامي 1933 و1940 شجعت وروّجت بنشاط للهجرة اليهودية إلى فلسطين، واعترفت واحترمت المصالح الإمبريالية البريطانية في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، وبقيت عديمة المبالاة بدرجة كبيرة بمُثُل القومية العربية وأهدافها».
إضافة إلى ذلك أقامت وكالة الاستخبارات الألمانية اتصالات في سنة 1936 مع منظّمة الهاغاناه Haganah، وهي ميليشيا صهيونية مسلّحة في فلسطين، وكانت ثمرة هذه الاتّصالات تهريب الأسلحة الألمانية إلى المنظّمة التي بدورها أعانت البريطانيين على قمع الثورة الفلسطينية بين عامي 1936 و1939، و كان هناك أيضاً جماعة إرهابية صهيونية أخرى، وهي عصابة شتيرن Stern (ليهي)، والتى بذلت مساعي حثيثة لإقامة حلف مع النازيين، ومع الفاشيين الإيطاليين، لمحاربة البريطانيين في مقابل ترحيل كلّ اليهود من أوروبا الواقعة تحت الاحتلال النازي إلى فلسطين. وعصابة شتيرن هذه مسؤولة عن ذبح مدنيين فلسطينيين، وعن اغتيال مسؤولين أجانب، وكان أحد ضحاياها الكونت بيرنادوت Count Bernadotte، وهو دبلوماسي سويدي عيّنته الأمم المتّحدة مندوباً لها في فلسطين، وحتى إجراؤه مفاوضات في أثناء الحرب العالمية الثانية أدت لإطلاق سراح نحو 1,300 سجين، فيهم يهود كثر، من معسكرات الاعتقال الألمانية لم تشفع له لدى قاتليه الصهاينة.
أما ثالث منظّمة إرهابية صهيونية فكانت تدعى إرغون Irgun، وهي التي فجّرت فندق الملك داوود بالقدس في سنة 1946. ارتكبت هذه الميليشيات الثلاث الإرغون والشتيرن والهاغاناه مجازر كثيرة، راح ضحيتها الآن المدنيون الفلسطينيون، ففي سنة 1948 فقط، وهي سنة إعلان إقامة "الدولة اليهودية"، ارتُكبت 24 مجزرة على الأقل في قرى وبلدات فلسطينية مثل يافا وصلْحة واللد والدوايْمة وأبو شوشة والطنطورة وعرب المواسي والصفصاف والجش وعيلبون ودير الأسد ومجدل كرم وسعْسع، لكنّ أبشعها كانت مجزرة دير ياسين.
في صبيحة التاسع من نيسان/ أبريل 1948، هاجمت عصابة مؤلفة من إرهابيي الإرغون والشتيرن، بمؤازرة الهاغاناة وموافقتها، قريةَ دير ياسين المسالمة، وبحلول الظهيرة ذبحوا ثلثي سكانها، وجلّهم من النساء والأطفال، من بين الضحايا امرأة بقَر قاتلُها بطنَها وكانت حاملاً في شهرها التاسع، وذُبحت امرأة أخرى حاولت إنقاذ الجنين بإخراجه من رحم أمّه المحتضرة، وكتب ريتشارد كاتْلينغ Richard Catling، وهو الضابط المحقّق البريطاني، «الكثير من فتيات المدارس اغتُصبن ثمّ ذُبحن. واغتُصبت امرأة مسنّة أخرى .. وهناك فتاة صغيرة شُطرت نصفين بالمعنى الحرفي للكلمة، كما ذُبح الكثير من الأطفال الرضّع وقُتلوا»، ونُقل خمسة وعشرون قروياً في شاحنات، وسير بهم في شوارع القدس وأُعدموا رمياً بالرصاص في مقلع حجارة قريب. وفي الذكرى السنوية الثانية والعشرين لمذبحة دير ياسين، قُتلت مجموعة أخرى من الطالبات العربيات، وأُصيبت أخريات بجروح، عندما قصفت الطائرات الحربية التابعة لـ"الدولة اليهودية" مدرستهم في قرية بحر البقر المصرية في 8 نيسان/ أبريل 1970؛ حقاً و كما يقول المثل: «العادات القديمة لا تتغيّر بسهولة».
كانت حصيلة هذه الفظاعات الصهيونية، هى تهجير الفلسطينيين لإفساح المجال أمام إنشاء "الدولة اليهودية". وأقرّ بيني موريس Benny Morris، وهو صهيوني وأستاذ مادّة التاريخ في جامعة بن غوريون بالقول: «لم تكن دولة يهودية ستظهر إلى حيّز الوجود لولا اقتلاع 700,000 فلسطيني. لذلك، كان لا بدّ من اجتثاثهم، لم يكن هناك خيار سوى طرد هؤلاء السكّان».
كان مناحيم بيغن أحد القادة الرئيسيين لعصابة الإرغون، فيما كان إسحاق شامير أحد قادة عصابة الشتيرن البارزين، وبعد العام 1948، صارا قائدي حزب هيروت Herut الذي خرج من رحمه تكتّلُ الليكود، الذي يرأسه حالياً رئيسُ الوزراء بنيامين نتنياهو، على الرغم، أو بالأحرى بسبب، وحشية بيغن وتطرّفه، أصبح رئيساً للوزراء من سنة 1977 إلى سنة 1983 حين خلفه شامير، غزا بيغن لبنان في سنة 1982، وهو غزو خلّف 17,000 قتيل وارتُكبت في إثنائه مجزرتا صبرا وشاتيلا اللتان راح ضحيتهما ما يصل إلى 3,500 لاجئ فلسطيني جلّهم من النساء والأطفال.
كانت وحشية بيغن وعنصريته معلومة ومدانة على نطاق واسع، وعلى سبيل المثال، نشرت صحيفة نيويورك رسالة في 4 كانون الأول/ ديسمبر 1948 شجبت فيها بقوّة عزم بيغن على زيارة نيويورك، ووصفت هيروت بأنّه: «حزب سياسي أشبه في تنظيمه وطرقه وفلسفته السياسية وجاذبيته الاجتماعية بالحزبين النازي والفاشي. تشكّل الحزب من أعضاء وأتباع إرغون زفاي ليومي، وهي منظّمة شوفينية يمينية إرهابية في فلسطين .. واليوم، يتحدّث (مناصرو هيروت) عن الحرّية والديمقراطية وعن معاداة الإمبريالية، فيما كانوا حتى الأمس القريب ينشرون جهاراً عقيدة الدولة الفاشية، ومن خلال أفعاله، فضح هذا الحزب الإرهابي طبيعتَه الحقيقية، ومن أفعاله السابقة يمكننا الحكم بما يمكن توقّع ما سيفعله في المستقبل». وقّع هذه الرسالةَ مفكرون وشخصيات يهودية بارزة كثيرة مثل ألبرت أينشتاين ذاته، وهانّاه أريندت Hannah Arendt، والحاخام جيسورون كاردوزو Jessurun Cardozo.
أثبتت الأيام صحّة تكهّنات تلك الرسالة، فالسياسات التي اعتمدتها "الدولة اليهودية" منذ تأسيسها عام 1948 هى عدوانية وتوسّعية وعنصرية .. "دولة" انبثقت عدوانية، ونمت ظالمة، وتعيش وغدة .. كيان موبوء بالجور منذ أن كان جنيناً فى رحم القوى الباغية .. ففي غضون أقلّ من عشرين سنة، أي بعد انتهاء حرب 1967، واحتلال الضفة الغربية وقطاع غزّة، تحوّل هدف «إقامة مثوى/ وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين" إلى «إقامة دولة استعمارية، جائرة، عنصرية للشعب اليهودي على كامل فلسطين» .. «نحن نعلم علم اليقين أنّ حرّيتنا لن تكتمل من دون حرّية الفلسطينيين»، هذا ما قاله أكثر شخص علماً بنظام التفرقة العنصرية، نلسون مانديلا.
من الغريب أن تيريزا ماي Theresa May، رئيسة وزراء بريطانيا، فى خطاب لها بتاريخ 12/ 12/ 2016 لم تكتف بالإعراب عن فخرها بإعلان بلفور، بل وصفت "الدولة اليهودية" بأنّها «دولة رائعة... ذات ديمقراطية مزدهرة، ومنارة للتسامح، ونموذج لبقية العالم!» وبحسب تعبير أحد الحكماء: «لك الحقّ في أن يكون لديك رأيك الخاصّ، لكن ليس لك حقّ في أن تكون لك حقائقك الخاصّة.» الظاهر أنّ تيريزا ماي هى زعيمة غربية أخرى تؤمن بـ"الحقائق البديلة" التى تناقض الواقع. تعمل تيريزا ماي على إخراج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي، متحمّلة بذلك أخطاراً جمة، لكى يتسنى للشعب البريطاني "استعادة سيادته"، ومع ذلك، تصف دولة تضطهد ملايين البشر، وتحتلّ أرضهم بشكل غير قانوني، "منارة للتسامح" ... التفسير الوحيد لهذه الازدواجية أنّها تشاطر تشرشل فيما يبدو اعتقاده العنصرى بأنّ العرب الفلسطينيين "عِرق متدنّ"، ولذلك فإنّ امتهانه من قِبل "عِرق أكثر حنكة" عمل مبرَّر. وما لم تكبح ماي هذه الغرائز الإمبريالية، سيكون مصيرها مزبلة التاريخ كسلفَيها أنتوني إيدن Anthony Eden وتوني بلير Tony Blair.
وبالعودة إلى قضية التفرقة العنصرية، فقد أقرّ مايكل بِن يائير Michael Ben-Yair، كبير المسؤولين القانونيين السابق (المدّعي العام) لدى "الدولة اليهودية" بأنّ الدولة فرضت على الفلسطينيين بالضفة الغربية "نظام تفرقة عنصرية"، كما أفصح أفرهام شالوم Avraham Shalom، رئيس سابق لجهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) بأنّنا «(أصبحنا) قوّة احتلال قمعية، كالألمان في الحرب العالمية الثانية،» بل إنّ آمي أيالون Ami Ayalon، وهو أيضاً رئيس سابق للشاباك، ووزير سابق، اعترف بأنّ "الدولة اليهودية" غارقة في "طغيان مستفحِل"، وقد أصدرت إحدى وكالات الأمم المتّحدة تقريراً في 15 آذار/ مارس 2017 يصف "الدولة اليهودية" "بأنّها مُذنبة بجريمة التفرقة العنصرية" أعدّ التقرير اثنان من الأساتذة الجامعيين الأمريكيين: فرجينيا تيلي Virginia Tilley، ورتيشارد فالك Richard Falk، وهو يهودي أمريكي. وفي السياق نفسه، كتب برادلي بورسْتون Bradley Burston، كبير محرّري موقع Haaretz.com، «باسم الاحتلال، يعامَل جيل بعد جيل من الفلسطينيين كممتلكات، يمكن نقلهم بحسب المشيئة، وتكبيلهم بالأغلال بحسب المشيئة، وتعذيبهم بحسب المشيئة، وتشتيت شمل أُسَرهم بحسب المشيئة، يمكن حرمانهم من الحقّ في التصويت، أو في التملّك، أو في الالتقاء أو التحدّث إلى أُسَرهم وأصدقائهم، يمكن مطاردتهم، وحتى قتلهم رمياً بالرصاص على يد أسيادهم الذين يتبوأون هذه الوظيفة باسم حقّ توراتي.»
منذ نشأة هذه "الدولة" وهى ضالعة فى حرب أبدية مع الفلسطينيين والدول العربية المجاورة، ففى خلال السنين السبعين الأخيرة اندلعت سبع عشرة حرباً ومواجهة عسكرية بين الطرفين، وقتل وجرح وهجّر ملايين الأشخاص، واهدرت مليارات الدولارات فى التدمير عوضاً عن استثمارها فى البناء والتنمية والازدهار .. الأنفاق العسكرى للفرد فى "الدولة" يزيد على أربعة أمثال نظيره فى روسيا. بل إنّ الغزو الكارثي للعراق عام 2003 وُصف بأنّه "حرب لأجل إسرائيل"؛ "تبلورت فكرتها في واشنطن، لكنّ الإلهام جاء من تل أبيب"؛ ذلك أنّ العراق، بما يمتلكه من إمكانيات وموارد، اعتُبر تهديداً محتملاً لـ"الدولة اليهودية"؛ ولذلك وجب تدميره، بيد أنّ هذه الحرب، التي كلّفت الولايات المتّحدة نحو ستة آلاف مليار دولار (أجل ستة تريليونات دولار) ونحو أربعين ألف ضحية، لم تدمّر العراق، مهد الحضارة، وتغرقه في أنهار من الدم وتحوّله إلى دولة فاشلة وحسب، بل وأنتجت كارثة عمّت الشرق الأوسط، ومصدر قلق خطير للمجتمع الدولي أيضاً.
إنّها منطقة بما لديها من موارد غنية لها حق العيش فى رغد ورفاهية وطمأنينة، ولكنها فى حقيقة الأمر تعانى من الشقاء والأسى والخوف .. إن غزو العراق والسياسات الطائفية التى طبقتها قوى الاحتلال غذت جماعات بغيضة وعدمية كداعش، وأنتجت صراعات طائفية واثنية، وخلقت أزمة اللاجئين العويصة، أدت هذه المحصلات إلى رفع العنصريين الغربيين دعايتهم المناوئة للإسلام وللعرب إلى مستويات خطيرة وبغيضة.
هل توقّع هيرتزل حقاً أن تحلّ "دولتُه اليهودية" المقترَحة "المشكلةَ اليهودية" وتكون كياناً أخلاقياً؟ إذا كانت الحال كذلك، أثبتت الحوادث أنّه ارتكب خطأً فادحاً؛ لأنّ معاداة السامية في الخارج تتنامى في العالم كلّه، بل إنّ الاعتداءات على المؤسّسات اليهودية بالولايات المتّحدة زادت بشكل حادّ، لا سيما منذ انتخاب رئيسها اليميني الحالى .. ومن الأمور المعبّرة أنّ الرئيس الجديد الذي وصفه أبرز الصهاينة الأمريكيين بأنّه «أفضل رئيس على الإطلاق بالنسبة لإسرائيل"، قد عيّن مساعداً، له صلة «برموزٍ نازية، وبسياسات أقصى اليمين، وبأحزاب معادية للسامية،» وهذا برهان آخر على كون الصهيونية ومعاداة السامية ليستا على طرفي نقيض.
وفي السياق نفسه، أشار جوناثان غرينْبلات Jonathan Greenblatt، رئيس "مكافحة التشهير"، وهي منظّمة يهودية أمريكية بارزة، إلى أنّ الرئيس الجديد ساعد على خلق جو مشجع للمتطرفين العنصريين، ومن الأمور التي تثير الإعجاب أنّ جماعات مسلمة ويهودية تضامنت في تحدّي التمييز العنصري، فجمع مسلمون عشرات آلاف الدولارات لمقابر يهودية تعرّضت للتخريب، فيما عارض يهود الحظر الذي فرضته الإدارة الأمريكية على مسافرين من بعض الدول الإسلامية .. عموماً لا يفرق العنصريون البيض بين اليهود والمسلمين والبوذيين والهندوس، أو بين العرب والأفريقيين والآسيويين واللاتينيين، فكل هؤلاء في نظرهم "شعب مغاير".
وفي الداخل، فإن "الدولة اليهودية" وكما رأينا ضالعة منذ بدايتها في قتال لا ينتهي وغارقة في سياسات مُشينة. وقد أقرّ دافيد بن غوريون، أوّل رئيس لحكومتها، قائلاً: «لو كنتُ زعيماً عربياً، ما كنتُ لأوقّع اتّفاقية مع إسرائيل، هذا أمر طبيعي؛ فقد استولينا على بلادهم. صحيح أنّ الإلٓه وعدنا بها، لكن ما هو اهتمامهم في ذلك؟ إلٓهنا ليس إلٓههم. كان هناك معاداة للسامية، والنازيون، وهتلر، وآوشفيتز Auschwitz، لكن هل كان ذلك خطأهم؟ العرب لا يرون سوى شيء واحد: لقد جئنا إلى بلادهم وسلبناهم إيّاها. لماذا سيقبلون بذلك؟» ... توقّع هيرتزل في سنة 1869 بأنّه «متى استقرّ اليهود في دولتهم، يرجَّح ألاّ يكون هناك اعداء» .. هل يمكن أن يوجد تكهّن خاطئ ومثير للشفقة أكبر من هذا في تاريخ الإنسانية؟!
وكما أقرّ البروفسور بيني موريس: «إن المشروع الصهيوني برمّته كارثى، إذ إنه موجود ضمن محيط معادٍ، وحضوره من بعض الجوانب غير منطقى، أجل أفكر أن الملحمة الكبرى قد تحدث، ففى غضون السنوات العشرين المقبلة يمكن أن تنشب حرب نووية هنا» ... وهو يعتقد كذلك على انه لا يوجد غير احتمالين: «إمّا صهيونية وحشية ومأساوية، وإما التخلى عن الصهيونية» .. ربما الجواب يكمن فى الاحتمال الثانى. إذ يبدو أن إقامة دولة لا طائفية وديموقراطية هو الحل الوحيد الميسور والمنصف والمشرف، إن دولة عادلة غير عنصرية، متصالحة مع نفسها، ومنسجمة مع بيئتها العربية، ستكون "منارة تسامح" حقيقية .. وفى هذا السياق يجدر أن لا ننسى أن اليهود بلغوا "عصرهم الذهبى" أثناء تعايشهم مع العرب والمسلمين فى دولة واحدة، الأندلس.