يبني القاص المغربي نصه المكثف على فكرة المقاومة والجدران والباحث عن أفق جديد مستخدما رموزاً واضحة كالبحر المتواري خلف جدار الدم ووهن عزيمة الإنسان الواقف بعجز مقارنا بينه وبين لعبة مصارعة الثيران في صراع الإرادة والعزم القوة والوهن.

الجدار الأحمر

كريم بلاد

أخذت بفم الدرب أسلكه، حتى إذا انتهيت إلى عمقه وجدته مسدودا بجدار من آجر أحمر، ليس فيه أي ثقب يمكن أن أستعين به فأتسلقه. رد بصريَ الجدارُ، وتكسرت عليه رغبتي في عبوره، البحر من ورائه أسمعه، وهدير السيارات التي تعبر الكورنيش ينزّ في أذني. بدت لي السماء من حافة الجدار العلوية صافية، تتخللها قطع من الغيوم بيضاء تشبه رؤوسا آدمية بلا آذان. أخذت نفَسي من جديد، كنت متعبا جدا مثل ثور أسباني أنهكه الركض وراء الوشاح الأحمر الذي يحمله مصارع الثيران ذو البزة الوردية، فتوقف يلهث والدم الأحمر يسيل من ظهره مشكلا خطوطا منكسرة على جلده الأسود. عيناه لم تعودا على الوشاح، بل على المصارع الذي يبدو في لحظات الاحتضار تلك كتمثال جامد يغيم في مسحة من الهلام الأبيض، ويبتعد صغيرا كلعبة، ترتعش أطراف الثور، ثم يخر، مثبتا نظره على المصارع، كاشحا بنفَسه أرض المعركة، وكأنه يقول له "لن أموت إلا ناظرا في وجه قاتلي، لأمنحه مذلة الهزيمة، وأفقده لذة النصر غير المؤزر، حتى إذا أغمض عينيه رآني واضحا أمامه كغريم قديم لا يموت". لماذا الثور يجتاحني في هذه اللحظة؟ أنا الآن في الدرب غير المسلوك، أي أنني في معركة أعلم أنني خاسرها منذ البداية. جلست.. منهكا جلست، ووضعت ذراعيّ على ركبتيّ.. على ركبتيّ، وأرخيت جفوني بثقل شديد.. شديد، لم أستطع أن ألتفت إلى الخلف، بالرغم من أني أسمع وقع أقدام تسير ببطء كأنها في حلم لا تلاحق أحدا. إيقاع الخطوات في باطن أذنيّ، والثور ما زال يحدق في المصارع، فيما المصارع يبتسم مائلا بخصره النحيل نحو اليسار كأنه راقصة باليه، وهو يمسك بسيف تتدلى من قبضته حزمة من أثواب حريرية، ومن ورائه ثيران كثيرة تصفق بخبث وتتفرج على مصرع الثور. فتحت عينيّ.. فتحتهما، فبدا الجدار الأحمر كالوشاح الأحمر في الحلبة، غير أنه كبير وسميك وصلب وخشن. هالني الوشاح، وغشيتني الحمرة القانية، لست ثورا لأنطحه بقروني الصلدة، فينهدّ وأسلك الدرب إلى البحر. أحسستني شجرة مجثتة لا قرار لها، أنظر من حواليّ علّي أجد ثقوبا أولج فيها أعضائي فتصير جذورا راسخة، تستنبتني، فأعلو على الجدار الأحمر القاني. بكيت.. لم أجد بُدّا من البكاء، لا قرون تخرج من ناصيتي، ولا الأرض تتشقق ثقوبا أمامي، وأعضائي لم تتشنج بعد، أي هزيمة هذه؟ نعم، نعم، أعلم.. الثور أفضل مني، نعم، نعم، لكني وحيد، والثور مجموع له الناس، ومصرعه مشهود. مسحت مجرى الدمع بظاهر يدي، ومسحت مخاطي بظاهر يدي الأخرى، انتصبت صورة الثور الإسباني في مخيلتي، وجدته قويا إلى درجة أنه لا يمسح دمعه ولا مخاطه، يسيلان بثبات وإصرار، نكاية بالمصارع المغرور، وبرهانا على الجهد والتعب والهزيمة الضاربة. كففت عن المسح ووقفت، لكن الثور لم يقف، ما زال يقبع على أطرافه المثنية، يذرو نفَسه حباتِ الرمل من على وجه الحلبة المجلجلة. انتصبت أكثر، فبدا لي الثور أصغر مني وأضعف، ازداد طولي فجأة، فأحسست بشراييني تنفتح، وبثيابي تتمزق، بدت أعضائي ضخمة، بصعوبة حركت يديّ ووضعتهما أمام عينيّ اللتين شعرت أنهما امتلأتا ماء، واتسعت حدقتاهما اتساعا، ضاقت له جفوني فثقلت وصارت في حجم فِراش. ماذا يحدث لي؟ لي أنا؟ أردت أن أصرخ، لكني أبصرت الثور الإسباني عند قدمي وقد كفَّ الدمع من عينيه، وجفَّ المخاط من أنفه. هنيهةً تعالى الصفير من الثيران الجالسة في الحلبة، على إيقاع تهاوي المصارع ذي البزة الوردية على أرض الحلبة، وهو يمسك بجريمته بيده، سيفه الحديدي اللماع، خرَّ على الأرض قدَّام الثور وانساب شعره الأسود على حبيبات الرمل فاختلط بها. فيما الثور الهادئ يستعيد قواه، بعد أن جفت الدماء من على ظهره، فيقف على أطرافه، ماشيا نحو البوابة، ثم مهرولا، واللحم يتهدل عليه، غير مكثرت بغريمه. وأنا.. تجبرت واقفا أنا، ولم أعبر الجدار الأحمر.

أكادير يوم 20 غشت 2017م.