تصور الكاتبة العراقية فاطمة جلال في قصتين هموم المرأة في مجتمعات مغلقة صارمة، في الأولى تلقط العالم الداخلي لصبية فقدت أمها التي انتحرت، وفي الثانية تكثف حياة امرأة عراقية نشأت تحت سطوة سبعة أخوة يقررون مسار حياتها مثل دمية مركزةً على المفاصل الجوهرية النفسية والاجتماعية وتأثير ذلك على بنية وتكوين المرأة في التجربتين.

قصتان

حزنت مرتين ...و بنت وسبعة أخوة

فاطـمة جلال

حزنت مرتين
لا زلتُ أتذكر كل عبارة قالتها لي في الليلة الماضية ..
أرى جسدها النحيل يتأرجح في وسط الغرفة، حول عنقها حبلٌ قديمٌ مهترئ ولكنه خنقها ..
في راحة يدها المتقلصة الخاتم الذي أهداه والدي لها وورقة صغيرة قرب السرير بخط يدها مكتوب فيها
" *خلف التلال في أعماق البحار بين الغيوم .. ستجدني*
- لم أدرك لماذا تركتني رغم حبها لي؟ لماذا تركتني وأكملت رحلتها في العبور من طريق الحياة إلى الموت؟ .
- هل كنت غبي! أحمق!.
أتلفت حولي ولكن لا أرى احد بجانبي بالرغم من وجود أقربائي،
أراهم بقلبي فلا احد بجانبي ليواسيني بقلبه ..
ارتدى والدي خاتم الزفاف الذي كان يخبئه في الخزانة .
الاثنان هجرا الخاتم.. هيَ حضنتهُ في لحظاتها الأخيرة وهوَ ارتداه في مراسم الجنازة.
أما أنا فقد ارتديتُ السواد حزناً على نفسي التي باتت وحيدة بعدها. حزنتُ مرتين حين ودعتني في الليلة الماضية وأنا اكرهُ لحظات الوداع وحين كانت أنانية ، فضلت أن تتخلص من هذا العالم وتتحرر من كل القيود على أن تظل بجانبي ..

 

بنت وسبعة أخوة
أكملتُ المرحلة الأولى من الثانوية في أيام خدمته العسكرية، وبعد أن تسرح بأسابيع، رأيته وأنا في طريق عودتي من المدرسة يقبل نحو من نهاية الشارع ويقترب مني صارخاً بصوتٍ أرعبني:

- "فاتن" ..

ثم بدأ بضربي وجر شعري وَرَمي على الأرض من دون رحمة، ومزق كتبي ودفاتري أمام مرأى كل من حولنا بالشارع. لم يتجرأ على التدخل أو الدفاع عني ولو بكلمة.

لا اعلم كيف هربت من ضرباته التي لم تؤذِ جسدي أبداً .. فأثرها زال ولكن ظلت في قلبي جروحاً.

دخلت مسرعة إلى الغرفة المشتركة بيني وبين أخوتي الصغار ، لم ابكِ ..لم اذرف دموعاً بل خبأتها لفاجعة وفاة أمي بمرض السرطان.

لبثتُ أرتجف في زاوية الغرفة بينما ظل يطرق على بابها الخشبي بقوة، إلى صرخت زوجته "دعاء" وزوجة أخي الآخر "مريم" كي يتركني وشأني. فتوقف القرع وسمعته يقول لهن بصوتٍ حازم:

- ما كو مدرسة بعد اليوم!.

وخرج إلى الشارع ليجمع كتبي الممزقة والمبعثرة ويحرقها.

كانت المدرسة من أجمل أيام حياتي وسوف لا أجد مثلها إلا حينما أزوج أولادي الثلاثة. وأشارت إلى أولادها الجالسين في الغرفة الأخرى، قبل أن تعاود الحديث؛

بعد عدة سنوات من انتهاء الحرب عشنا ظروف صعبة زمن الحصار. أصبح عمري ستة عشر عاماً، في أحلى أيام صباي. اعتنيت بأمي بدل أن تعتني هي بي، ولكني فقدها في وقتٍ مبكرٍ من حياتي. إذ قمتُ بغسل جسدها مع قريباتها. لم أكن أدرك وقتها ما يحصل بالضبط. كنت أبكي بحرقةٍ لأني لم أعد أستطيع رؤيتها مرة أخرى.

وقبل أشهر فقدتُ ابنتي الوحيدة بمرضٍ أجهل اسمه، فجعلت أسأل الرب:

- لماذا أخذت مني والدتي وأنا صغيرة ؟

- وابنتي وهي كبيرة؟

صمتت قليلاً ونظرت إلى السماء خلف النافذة وكررت أسألتها للرب، ثم أكملت:

- علقت آمال كبيرة عندما رأيت شخصاً جذب اهتمامي جذبا يختلف عمن مرَّ بحياتي.

في يومٍ كنت كعادتي في المطبخ أعمل، وكانت زوجات أخوتي بالسوق مع أطفالهن لشراء ملابس العيد. وكان منزل أهلي القديم في وسط السوق يستقبل عادةً الضيوف وكأنهم من سكان المنزل. في ذلك اليوم دخل كعادته، لم يجد احد في الباحة الكبيرة التي تتوزع الغرف حولها. خرجت من باب المطبخ مسرعة خوفاً من أن يأتي شخص فيرانا وحدنا. أخبرته بمخاوفي خجلة وعيني محمرتان من تقطيع البصل:

- محد بالبيت ..الكل بالخارج!.

-إي ، أدري بس أجيتْ اشوفكْ "فاتن"

خرست وأنا الجريئة صاحبة اللجاجة، أمسك يدي وقَبّلها وقال:

- احبك فاتن!.

شعرتُ أنها مختلفة خرجت من أعماق قلبه. سحبتُ يدي بغضب فأنا صارمة بطبعي. كنت
أرتجف خوفاً من دخول أحد أخوتي فجأة.

غادر بطلب مني ، جلستُ على الأرض بملابسي الرثة وجسمي النحيل أبكي فرحاً للوهلة الأولى، لكن وجوه أخوتي القساة حولت بكائي حزن . قطعتُ البكاء هاتفةً مع نفسي:

- لا.. لا.. مازال الطريق طويل أمامي.. سأدخر دموعي!.

فرحتُ لأني وجدت حباً وحناناً فقدته منذ كنت صبية صغيرة.

نهضت وعدت أكمل إعداد الطعام خوفاً من سامر كي لا يجدني متكاسلة فيبدأ بضربي مرة أخرى. مضت أسابيع عدة وأنا انتظر عودته مرة أخرى ولكنه لم يعد. سمعتهم يتكلمون عن تحضيرات عرس وأمور أخرى. ظننت أن أحد أخوتي سيتزوج لكن تبين لاحقاً أنهم يتكلمون عني ويقررون بدلاً مني. وأنهم سيقومون بمبادلتي بابنة خالتي لأخي وأنا لأبنهم.

لم أكن مصدومة من الوضع الذي وجدتُ نفسي فيه، لكن حصل شيء جعلهم لا يطرقون الموضوع؛ توفي والدي من دون أي عارض أو سبب مقنع. كنا نجلس حول صينية الطعام. فطلب من أخي الذي يصغرني بسنتين "صلاح" أن يجلب له الفجل من محل البقال المجاور كان يرغب بأكل مرق الفاصوليا مع الرز والفجل. عندما عاد أخي حاملاً الفجل وجده يحتضر. كلنا حوله. كان يرغب برؤية أخي الكبير والأصغر منه لكنهما كانا يخدمان العسكرية أغمض عينيه ورحل.

بعد اقل من أربع سنوات وضعوا الحلقة في يدي اليمنى ـ

لم يتم زواج أخي من ابنة خالتي فاستغل سامر الفرصة سامر محاولا تعطيل أمر زواجي لكن الخيار كان بيد أخوتي الثلاثة الأصغر منه:

قال وهو يجلس في الباحة الفسحة على الأريكة

-ابن خالي ... خطب فاتن .. ترضون؟!.

كان يحيط به أخوتي الأربعة. اعتزل الذي أكبرهم بسنه عن الإجابة، بينما وافق الثلاثة على زواجي فتم السرعة ولامبالاة.

في يوم مراسم الحنة .. لم يكن لدي شخص قريب ليقوم بلف يدي على عجين الحناء لأجل ثبيت لونها الأحمر كباقي العرائس. زوجات أخواني مهتمات بأنفسهن. وأنا العروس لا احد يهتم بي. دخل أخي "صلاح" ، فوجدني ابكي في الباحة وسط المنزل.

- اشبيج فاتن ..ليش تبكي

- ...

لم اجبه فقد زاد تدفق عيني. فهم وضعي لحده، فقام بلف يدي ودموعه راحت تتساقط أيضا على وجنتيه، ثم قال عبارة من بين دموعه يستحيل أن أنساها. وإلى الآن يتردد صوته بأذني:

_"أنت لا تملكين أم وأب او أخت كبيرة ولكن تملكين سبعة أخوة ..وأنا ..يمكنك أن تعتبريني نصف أخت ونصف أخ ".