يقدم الناقد المصري هنا عرضا تحليليا لواحد من أحدث الأفلام المصرية التي تقترب من مجتمع المهمشين والفقراء في مصر، وتتناول من خلاله شتى صور القهر والعنف والعنف المضاد في المجتمع المصري الذي انسد فيه الأفق وانسحقت فيه الأحلام.

«حين ميسرة» ثلاثية الفقر والتطرف والفساد

في انتظار الفرج الذي لا يأتي أبدا

عماد عبد الرازق

الخيط الرئيسي الذي تنطلق منه كل الأحداث والخيوط الدرامية في فيلم «حين ميسرة» هو قصة حب مجهض، واحدة من أكثر التيمات ترددا وتكرار في السينما المصرية منذ فجر نِشأتها، ولا يقلل هذا من قيمة الفيلم لا دراميا ولا فنيا بأى حال من الأحوال. لأنها مقدمة هنا في معالجة جديدة، وجريئة وساخنة تكاد تكون غير مسبوقة، ويتم تطويرها دراميا الى حدود قصوى على نحو يستكشف كل أبعادها الميلودرامية والمأساوية. فالمشكلة الأزلية التي تواجه الغالبية العظمى من الشباب في مصر، وتتجسد من خلالها كل أزماتهم وصراعاتهم وإحباطاتهم، كانت منذ عقود طويلة ولم تزل هي العجز المضني الذي يواجهونه أمام مشروع الزواج وتكوين أسرة. أحلام الملايين من هؤلاء تتحطم على صخرة الواقع المزري، والفقر، وانسداد أفاق المستقبل. وتلك أزمة قديمة متجددة في المجتمع المصري تتولد عنها كل يوم المزيد من الأزمات والمحن والمآسي، بدءا بدفع "تحويشة العمر" وغالبا الاستدانة، للحصول على فرصة عمل في إحدى الدول النفطية قد لا تأتي، ومرورا بحلم الهجرة إلى بلدان الغرب، والاصطفاف طوابير على أبواب السفارات دون جدوى، أو الانتهاء طعاما لأسماك القرش في قاع البحار، بعد استقلال أحد قوارب الموت، وليس انتهاء بالتطرف الديني او الوقوع في حبائل المخدرات والإدمان، وكليهما من الحلول الهروبية بامتياز.

تميز الفيلم الرئيسي وجدته في أنه يلقي بنا، وربما للمرة الأولى، في قلب قاع المجتمع المصري، وسط أفقر طبقاته قاطبة في أحد الأحياء العشوائية المنتشرة في أرجاء القاهرة وحواليها. فالسينما المصرية ظلت طوال الشطر الأعظم من تاريخها مهمومة بالطبقة المتوسطة، مع أفلام أقل عن الطبقة العاملة، ومثلها تدور في الأرياف والأقاليم من الصعيد جنوبا الى الدلتا شمالا، ولم تكن هذه ولا تلك تعنى بالضرورة بالطبقات الفقيرة المعدمة. لكن هذا الفيلم على حد علمي هو الأول من نوعه الذي يتعامل مع شريحة كبيرة من المهمشين، الفقراء الذين يكسبون قوت يومهم بشق الأنفس، وتنتشر البطالة والأمراض وسوء التغذية بينهم. لعل وصف أحوال سكان هذه الأحياء بأنهم يعيشون "تحت خط الفقر"، يبدو مخففا او يحمل نوعا من التهذيب او المجاملة لهم. ولا أدري كيف يمكن تصنيف الفقر المدقع الذي يرزح تحته سكان هذه العشوائيات (تعريف الأمم المتحدة لخط الفقر ومن تحته يشير الى أولئك الذين يعيشون على أقل من دولارين في اليوم، اى حوالي اثني عشر جنيها مصريا)، لكن أولئك الناس هم الفقر نفسه: يشاغل أحدهم بائع متجول معدم يبيع رأس الخروف التي حصل عليها كصدقة ليخطفها زميله ليلتهمانها في ركن قصي في الحارة بعيدا عن الأعين، ويتعارك آخر مع أطفال الحارة على لافتة من القماش كانت معلقة في الحارة وينتزعها منهم ويعطيها للخياط ليصنع له منها ملابس داخلية، الكثيرون منهم يقضون اياما وليال دون طعام ودون نقود، ولا يتبقى لهم سوى البحث عن بقايا الطعام في أكوام القمامة.

يضعنا الفيلم ومن المشهد الأول مباشرة في قلب الحي العشوائي المكتظ بالعشش المتهالكة وساكنيها، حيث يخيم المكان من اللحظة الأولى على الأحداث والشخصيات والخيوط الدرامية التي تتوالد منها تباعا، لينتصب بطلا في هذه الدراما المترعة بمظاهر الفقر والمعارك الصغيرة التي تندلع لأبسط الأسباب بين سكان الحى وأفراد العائلة الواحدة، في خضم الصراع المرير على لقمة العيش. وعلى نغمات أغنية "حين ميسرة" تظهر أسماء أبطال الفيلم تتخللها لقطات مكبرة لعناوين الصحف المصرية تتحدث عن "30 مليون مصري يعيشون تحت خط الفقر"، أو "60 ألف مواطن يعيشون في المقابر"، و "10 ملايين مصري يعيشون في العشوائيات".

ينطلق الفيلم من علاقة بطليه التي تصنعها واحدة من تلك الصدف التي اشتهرت بها الأفلام المصرية، حين تستقل "ناهد" (سمية الخشاب) سيارة مع غريب لا تعرفه لتوصيلها لأنها لا تملك أجرة الميكروباص، فيحاول الرجل مداعبتها جنسيا فترفض فيزداد شراسة فتصرخ مستنجدة، فيسمعها "عادل" ( الوجه الجديد عمرو سعد) الميكانيكي الذي تصادف أنه كان يجرب سيارة زبون على الطريق، فيهرع لمطاردة السيارة ويوقفها ويوسع صاحبها ضربا ويهربان في سيارته. لكن الرجل يلاحقهما وبعد مطاردة خائبة ينتهي الرجل وسيارته غرقا في مياه الترعة، ويكون نصيب "عادل" من هذه الشهامة ستة أشهر وراء القضبان. ويخرج ليجد "ناهد" في انتظاره في منزل أمه حيث دأبت على التردد عليها لمساعدتها في أعمال المنزل وكنوع من العرفان بجميل ابنها. وبعد مناكفات واعتراض من أمه على بقاء "ناهد" في نفس المنزل مع "ابنها" يصطحبها "عادل"، ليعودان تحت جنح الليل وينامان في نفس الغرفة التي تجمع أمه، وما لا يقل عن عشرة أطفال من أحفادها، بعضهم أولاد ابنها الأكبر الغائب في العراق، والبعض الآخر لابنتها المتزوجة لكنها تجري على رزق أولادها، فتعهد بهم الى أمها. يتسلل الاثنان الى سرير "عادل" وكما هو متوقع يمارسان الجنس وسط أكوام اللحم المحيطة بهم. وفي غضون أسابيع تأتي "ناهد" الى "عادل" لتزف إليه الخبر الصاعق بأنها حامل، وهى في رعب من انكشاف أمر حملها سفاحا، فيرد عليها "عادل" على نحو فوري وصادم، بأنه لا يستطيع ان يتزوجها الآن وإنما "حين ميسرة"، "إذا ربنا فرجها علي حتبقي مراتي واللي في بطنك ده إبني، ولو ما فرجهاش لا انتي مراتي، ولا هو ابني".  

الفرج لا يأتي ابدا
من هذه اللحظة تبدأ رحلة الشقاء لكليهما، وتأخذهما كل في طريق، وكلما حانت فرصة لجمع الشمل تبددت على صخرة الواقع او الصدف الميلودرامية التي تمعن في نسج خيوط المأساة. وعلى طول الطريق الذي يسلكه كل منهما تنفتح أمامنا تباعا صفحات البؤس والاستغلال والضياع التي تنزل بالفقراء والمعدمين من قاع المجتمع، الذي لا يترك لهم خيارات تذكر سوى الجريمة والانحراف أوالتسول أو التضور جوعا أو الموت غيلة، المصير الذي تناله أخت "عادل" على يد زوجها الشرس الذي اعتاد ان يوسعها ضربا بسبب وبدون سبب، لتترك أولادها عبئا جديدا على كاهل أمها المعدمة المثقلة اصلا بأطفال ابنها الغائب في العراق. حين تضيق سبل الرزق أمام "عادل" في الحي المكتظ بأمثاله من العاطلين والمعدمين، ويطول انتظاره للفرج أو "الميسرة" التي تأبى ان تأتي، لا يجد سبيلا أمام إطعام الأفواه الجائعة في المنزل إلا الذهاب الى مقلب القمامة ليجمع منه كسرات وبقايا الأطعمة والمعلبات ويحملها الي أمه وأحفادها ليسدوا بها رمقهم في مشهد يجسد محنة فقراء وجوعى العالم أجمع وليس سكان العشوائيات وحدهم. تشتد الأزمة لكنها لا تنفرج، كما تزعم الأمثال والحكم الشعبية (اشتدي أزمة تنفرجي)، فيقرر "عادل" أن يطرق بابا جديدا إذ يلجأ إلى تاجر المخدرات صاحب السطوة والنفوذ في المنطقة يعرض عليه خدماته ليكون واحدا "من رجالته"، فيمنحه المعلم فرصة على مضض ويعطيه قطعة "حشيش" لبيعها لكنه يدخنها مع رفاقه في ساعة كرب، وينتهي به الأمر مضروبا بوحشيه في وسط الحارة على يد صبيان تاجر المخدرات.

حين يفيق "عادل" الى رشده ويبدأ في البحث عن "ناهد" تكون الحياة قد أخذتها في طريق آخر. يذهب الى منزل أمها، بعد فوات الأوان، ليجد أنها غادرت هربا من تحرشات زوج أمها العاطل الجنسية (سامي مغاوري)، وفي لحظة يأس سوداء تتخلص "ناهد" من رضيعها بتركه على مقعد حافلة نقل عام استقلتها، فيعثر عليه سائق الحافلة، الذي يذهب به مباشرة الى زوجين ميسورين حرما من نعمة الذرية، ويبيعه لهما مقابل بضعة جنيهات. ومرة ثانية حين تفيق "ناهد" الى رشدها، تذهب بحثا عن ابنها الذي تركته في الحافلة فينهرها السائق بغلظة، وحين تلجأ الى قسم الشرطة يسخر منها الضابط ويطردها بعد أن تخبره أنها "نسيت" رضيعها في الحافلة. تستقل قطارا الى الأسكندرية فتلتقي بسيدة تتعاطف معها وتدفع لها ثمن تذكرة القطار بعد أن لاحظت أنها تتهرب من المحصل كلما جاء، وهناك تستضيفها في شقتها الأنيقة، وفي غضون ساعات تكتشف أن عطف المرأة عليها ليس مجانا، فهي سحاقية وتريد ممارسة الجنس معها، فتهرب لتعود الى الضياع في الشوارع من جديد.

ويستبد بها التعب فتنام في العراء لتعثر عليها سيدة عجوز شاهدتها من شرفة منزلها، فتدعوها الى منزلها وتتخذ منها ابنة وهى التي هجرها أولادها الجاحدين، وتقضي "ناهد" خمس سنوات في كنف هذه السيدة إلى أن يعاجلها القدر بضربة جديدة، حين تموت السيدة في فراشها، ويحضر أبناؤها العاقون، ويبحث كبيرهم عن مجوهرات أمه فيتهم "ناهد" بسرقتها، فتسارع هي الى الهروب من جديد لتستأنف رحلة التشرد، فيقودها اليأس الى سيدة القطار السحاقية، هذه المرة تقبل "ناهد" ان تعمل في المأخور الذي تديره السيدة في منزلها، لكنها تشترط ان يقتصر عملها على الترفيه عن الزبائن بالرقص ومجالستهم دون مضاجعتهم. وتقبل صاحبة المنزل التي لا تزال تمني النفس بان تقنعها في نهاية المطاف ان تستجيب لرغباتها الشبقية تجاهها (على الأقل بما أنها ترفض مضاجعة الرجال). وهذه أيضا تيمة قديمة ومستهلكة في السينما المصرية خاصة في المعالجات الميلودرامية، وهى تعكس مفهوما مضطربا ومعوجا للشرف، فلا مانع من الترفيه عن الزبائن بالرقص لهم أو مجالستهم والاستماع لمغازلاتهم وتحمل سفاهاتهم، طالما لم يصل الأمر الى ممارسة الجنس.

المصير الذي يحيق بـ "ناهد" ومسلسل المصائب الذي تنزل بها بدءا من تخلي حبيبها وابي طفلها عنها، لا يختلف كثيرا عن مصير "عادل" مع فارق وحيد يتمثل في أن نوعية المصائب التي تنزل بالرجال تختلف عن تلك التي تحط على رؤوس النساء في المجتمعات الشرقية. فالنساء أكثر عرضة للاستغلال والابتزاز لأنهن بحكم وضعهن الدوني في مجتمع ذكوري الأضعف، وإن كن في الحقيقة أكثر صلابة وتماسكا في الشدائد من الرجال. فيما عدا ذلك فالفقر الذي جمع بين "عادل" و "ناهد" يظل المنبع الرئيسي ـ الذي لا ينضب ـ للمصائب والرزايا. حتى الإبن "ثمرة الخطيئة" لا يسلم من هذا المصير، إذ لا يهنأ طويلا في كنف أبويه بالتبني، وذلك حين يرزق الزوجان أخيرا بابن من صلبهما، يقرر الزوج التخلص من الطفل المتبنى، وهو الذي كان معترضا في البداية على تبنيه، لكنه قبل نزولا على رغبة زوجته، فلما رزق بطفل عاد الى سيرته الأولى، وخير زوجته بين ان تتخلص منه أو يعطيه هو لملجأ أيتام، وترضخ الزوجة في النهاية أمام إصرار زوجها رغم بكاء طفلها وتوسلاته. وهو موقف مأساوي لا يقل غرابة عن مشهد التبني قبل سبع سنوات، فالطفل الذي اشترياه مقابل بضع جنيهات تخليا عنه بعد ان صار صبيا، وكأنه لم يعش في كنفهما كل هذه السنين. وكيف للأم التي ربت طفلا في أحضانها وكان محور حياتها لسبع سنوات على الأقل وتعلقت به حتى صار جزءا حميما لا يتجزأ من حياتها ان تتخلى عنه؟ خاصة دون أي تمهيد يذكر من السيناريو في طريقة تصوير شخصيتها، حتى تقدم على عمل بهذه القسوة، وتعهد "بطفلها" إلى صديقة لديها طفلان، لتقوم بتربيته لأسباب غير مقنعة، ولا يستغرق الأمر طويلا بالطفل "ايمن" في منزله الجديد حين يدرك المعاملة المختلفة الذي تخصه بها الأم الجديدة، فيتسلل ذات يوم من المنزل بعد أن ترك وحيدا فيما اصطحبت الأم طفليها الى النادي، وفي تطور عجيب آخر تقود هذه المرة الوحيدة التي غامر فيها "أيمن" بمغادرة المنزل إلى أن يصير طفلا مشردا، وينضم الى إحدى قوافل أطفال الشوارع، بعد أن يلتقي مشردة، وتنعقد صداقة بينهما، سرعان ما تثمر طفل خطيئة لا يعلم أحد على وجه اليقين أباه الحقيقي ـ طالما أن الفتاة نامت معهم جميعا تقريبا ـ وهكذا تقع مصيبة أبوة الطفل على رأس "ايمن" بعد أن تنصل الآخرون منه. في اثناء كل هذا يبدو الصبي مستسلما تماما لمصيره، دون اي محاولة حتى للرجوع إلى أبويه بالتبني، ولا إلى المنزل الذي احتضنه ثانية، لمجرد تلقيه معاملة مختلفة وليست قاسية او بشعة، وكأنما راقت له حياة الشوارع والجوع والنوم في العراء أو داخل المواسير. 

خلطة الفقر والبلطجة والإرهاب
يستمر الفيلم في التنقل بنا بين متابعة مصير كل من "ناهد" و "عادل" و "ابنهما" في ثلاثة خطوط درامية رئيسية لا تلتقي أبدا، لا يلتقيان ثانية منذ ان فرقت بينهما الأقدار وحتى نهاية الفيلم، فيما تتقلب حظوظ كل منهم في خضم ثلاثية الفقر والضياع والانحراف. وفي الحى العشوائي الذي انطلقت منه دراما البؤس والضياع، يطور المخرج شخصية "عادل" على نحو لا يخلو من مفاجآت، مستعيرا هنا تيمة "الفتوات"، إحدى تيمات السينما المصرية المألوفة. "عادل" الذي عوقب بالأمس فقط على يد صبيان تاجر المخدرات الذين أوسعوه ضربا في وسط الحارة، يتحول هو نفسه الى فتوة الحى ـ بعد ان يتورط في مشاجرة دفاعا عن أحد ابناء الحارة سقط ضحية لصبيان تاجر المخدرات. وبعد ان يوسعهم ورفاقه ضربا، يتأهب لانتقام المعلم وصبيانه الذي لا مفر له، فينصب كمينا مع رفاقه وصبيان الحى، حيث يحاصروهم في دائرة نيران يشعلوها ويوسعوا كل من يخرج منها ضربا، حتى يستسلم المعلم ويخر راكعا أمامه فيدين له الحى بأكمله، ويصبح الفتوة الذي لا ينازع سلطانه أحد، يفرض الإتاوات ويرهب كل من يجرؤ على مخالفته.

لكن هذا ليس بيت القصيد في دراما الحى العشوائي، فالمخرج ينسج خلفية سياسية لهذه الأحداث فيقتحم العالم السري للجماعات الإسلامية المتطرفة التي تتخذ من الحى موطنا للاختباء من أعين الشرطة المتربصة بهم، لإدارة نشاطاتهم الإرهابية في التجنيد والتخطيط والتنفيذ لمحاربة "القوم الكافرين". وفي هذا الخضم يجد "عادل" دورا جديدا في انتظاره بعد ان صار فتوة الحارة، حيث يقوم ضابط المباحث بتجنيده كمرشد عن الجماعات الإسلامية، في مقابل ان تغض "الحكومة" الطرف عن نشاطاته في البلطجة وفرض الإتاوات. لكن العلاقة بينه وبين الضابط تتعقد حين يتجاوزه "عادل" (وهو الذي لم يكن يكن له ودا اصلا) برئيسه في العمل (سامح الصريطي) فيشعر بأهميته ويقوم بمد الضابط الكبير بالمعلومات مباشرة والتي تؤدي الى القبض على بعض أفراد الجماعة، فيحرم ضابط مباحث الحى من ادعاء فرصة جديدة لأن ينسب الفضل في القبض على أفراد الجماعات لنفسه، لينال الترقية التي يحلم بها. فيلجأ إلى تهديد "عادل" لكن الأخير لا يأبه بتهديداته، فيلجأ الضابط الى أساليب المباحث التقليدية، فيلفق له قضية حيازة مخدرات يكلف أحد المخبرين بدسها في منزله، ليداهم المنزل بعد قليل ويضبطه متلبسا، وينتهي مصيره الى السجن من جديد هذه المرة لخمس سنوات. ويفرج عنه قبل نهاية المدة، حين تتجدد حاجة المباحث له، لعجزهم عن اختراق الحى العشوائي والحصول على معلومات عن الجماعة، التي تحيط عملها بالسرية واساليب التخفي. 

بين إرهاب الجماعات وإرهاب الحكومة
يكشف لنا الفيلم وعلى نحو جريء جانبا من بطش الحكومة الذي ينصب على الفقراء والمهمشين الذين يقبعون في قاع المجتمع، وكل هذا بالطبع تحت لافتة "محاربة الإرهاب" الشعار الأمريكي الذي وجدت فيه حكومات وأنظمة طغاة العالم الثالث ضالتهم المنشودة، وما فتئت هذه الأنظمة تتاجر به وتزايد على العم سام نفسه، والذي بدوره يغض الطرف عن كل ممارسات هذه الأنظمة تحت ذات الذرائع المزعومة. هذا لا يعني بأى حال أن يد الحكومة الطولى تقتصر في بطشها على هؤلاء، فالحقيقة ان هذا البطش يطال كل من تسول له نفسه تحدي النظام في اي شكل وبأي درجة، فيما عدا استثناء واحداً بالطبع محجوز لأصحاب النفوذ واباطرة الفساد.

في أعقاب حادثة إرهابية تهتز لها كل أجهزة السلطة على أعلى مستوى، لمجرد أنها تضمنت اختطاف مجموعة من السياح الأجانب، تتكثف جهود المباحث لتقصي أفراد الجماعة المسؤولة، ويعلن مدير المباحث الكشف عن خيط يقود إلى الحى العشوائي محور الدراما في الفيلم، ويعرض عليهم صورة "رضا" أخ عادل المسافر من سنين في العراق، وكيف أنه التحق هناك بتنظيم القاعدة، وأنه عاد أخيرا سرا الى مصر، ولاشك أنه سيحاول الاتصال بأهله، ويتطوع ضابط المباحث بتبني القضية، على اساس أنه كان مسؤولا عن هذا الحي قبل ان تتم ترقيته. وبناء على تعليمات رئيسه، فلا شيء يتم بدون علم كبار الضباط في عوالم الشرطة المصرية، يتم القبض على عائلة "عادل" بما فيهم الأم والزوجات، ويخضعهم الضابط لحفلات تعذيب بالكهرباء والإغراق والضرب والتعليق في السقف، ويصل حتى الى حد تهديد الرجال باغتصاب نسائهم أمام أعينهم. لكن كل هذا لا يؤدي الى الكشف عن اى معلومات عن "رضا" لأنهم بالفعل لا يعلمون شيئا عنه منذ أن غادر للعراق.

تتقاطع لقطات تعذيب "عادل" وعائلته مع لقطات وثائقية لسقوط بغداد، وهذه هى طريقة المخرج في محاولة الربط بين حروب الإمبريالية الجديدة تحت مزاعم مختلفة كالبحث عن اسلحة الدمار الشامل، والقمع الذي تمارسه انظمة العالم الثالث من وكلاء العم سام تحت شعار محاربة الارهاب. كما وسبق ان تقاطعت مشاهد اغتصاب "ناهد" على يد أربعة من رفاق صديقها، الذي يسمع صراخها فلا يحرك ساكنا لأنه غارق في شم الهيروين، وبين مشاهد لعملية قصف بغداد في عملية "عاصفة الصحراء". بعد ان يذوق عادل العذاب على يد جلاوزة الشرطة، يخرج ليجد في انتظاره صفقة جدية لمواصلة العمل كمرشد للمباحث، لكن متغيرا جديدا يطرأ على الموقف، حين يختطف هذه المرة على يد "الجماعة الاسلامية" المتمركزة في الحى، ويحاول زعيمهم (أحمد بدير)، الذي يعيش في الحى كسائق تاكسي كتمويه عن نشاطه الارهابي، إغواء عادل بالانضمام للجماعة، او العمل معهم على الأقل، فيقبل على مضض التعاون معهم، بعد أن يوفروا له الحماية بالتصدي لتاجر المخدرات ورجاله.

ليعود "عادل" فتوة الحي بلا منازع، ويقرر العمل لحساب نفسه، اي التعاون مع كل من المباحث والجماعات، يمد الأولى بأسماء افراد الجماعة، ويخبر الجماعة بالمعلومات التي كشفها للمباحث، وأيضا الخطط التي يعدها الضباط للقبض عليهم. وحين يحين موعد العملية الكبيرة لاقتحام الحي العشوائي بقوات غفيرة من الأمن المركزي، تكون الجماعة الاسلامية على أهبة الاستعداد، بالقنابل والمدافع الآلية، فينصبون مجزرة لقوات الشرطة، حتى يستعين قائد العملية برئيسه الذي يبعث اليه بإمدادات، ويحصل على تفويض من اعلى مستوى بهدم الحي بأكمله، بعد إجبار السكان على إخلائه، وتصل الجرافات لإزالة الحي ومحوه من الوجود. هل يذكركم هذا بما فعلته الجرافات الاسرائيلية في جنين، وفي مممارسات متكررة لهدم منازل الفلسطينيين بدعوى عدم حصولهم على التراخيص؟ اختلفت الأسماء والبطش والقهر والظلم واحد. وتوقع الجماعة الاسلامية انتقامها الأخير بقوات الشرطة، فتقوم بتفخيخ الحي بأكمله قبل انسحاب افرادها، فيسقط المزيد من الجنود والضباط، دون أن يتم القبض على أى من أفراد الجماعة، وتنتهي العملية بالفشل الذريع.

في خضم المجزرة التي حولت الحي العشوائي الى خراب مقيم، تلوح "عادل" فرصة ذهبية ونادرة للانتقام من ضابط المباحث الفاسد الشرس الذي طالما سامه العذاب ورمى به في السجن مرتين، وذلك حين تقع المواجهة الأخيرة بينهما، ويشاء حظ الضابط التعس ان يقع مسدسه في يد عادل، الذي يصوبه نحو رأسه بنية قتله، لكن الضابط فجأة يخلع لباس الغطرسة والشراسة واحتقار البشر الذي ارتداه طوال الفيلم، ويركع على ركبيته متوسلا والدموع في عينيه أن يسامحه من أجل أسرته وأولاده، وهنا يكتفي عادل بهذا النصر المعنوي الكبير ويتركه يذهب طليقا. لا أدري إن كانت المواقف المسبقة للمخرج، على اساس إيديولوجي، قد لعبت دورا في الصورة المضطربة التي قدمها للجماعات الاسلامية، أم أن هذا اضطراب قائم في ذهنه اصلا، وإن كنا نشك أن هناك فرقا كبيرا. فهذه الجماعات مقدمة كنبت شيطاني لا فكر لها ولا إيديولوجية، كما أن تصويرها يقدمها أقرب الى حفنة من المجرمين والخارجين عن القانون، رغم الصلاة الجماعية التي يقيمونها في قلب الحي في الأعياد. هذا التصوير يعتبر اختزالا مخلا ومضللا لظاهرة التطرف الديني عموما ولواقع هذه الجماعات تحديدا.

المشهد الختامي للفيلم جاء بالغ الدلالة في اختزاله لمأساة فقراء المجتمع على نحو بليغ. فبعد أن يهرب عادل من موقع المجزرة بمكافأة المئة ألف جنيه التي اتفق عليها مع زعيم الجماعة، دون أن يعلم أنها نقود مزيفة، يقرر الرحيل الى الأسكندرية ليختفي عن أعين الشرطة، الى مصير مجهول ربما لن يذهب به بعيدا عن السجن. المشهد الختامي يجمع أفراد الأسرة الثلاثة دون علمهم. في نفس القطار الذي يستقله "عادل" الى الأسكندرية فارا بالنقود بعد ان رفضت أمه اللحاق به، وتمسكت بالبقاء في الحي مع صغارها، تكون "ناهد" في عربة أخرى على وشك أن تستأنف رحلة الضياع من جديد، بعد هروبها في اللحظة الحاسمة من "عوامة" عشيقها الثري إثر مداهمة الشرطة للجميع، لحظة اتمام صفقة مشبوهة بمساعدة موظف حكومي مرتش. وعلى سطح القطار ذاته، يكون ابنهما المشرد، طفل الخطئية "ايمن" مع زوجته رفيقة التشرد، ورضيعهما أو طفل الخطيئة الثاني، قادم جديد ينضم الى قوافل ابناء الشوارع.

لا شك ان من أبرز عناصر الجودة في الفيلم، اختيار الممثلين وهو ما يشير الى حساسية المخرج خالد يوسف وتمكنه من أدواته. في مقدمة هؤلاء عمرو عبد الجليل في دور "فتحي" العاطل، المزواج، العاقر، الرعديد، ولعله أفضل أدواره حتى اليوم منذ أن اكتشفه الراحل يوسف شاهين في واحد من أفلام ثلاثيه سيرته الذاتية، والنجمة سمية الخشاب المتميزة دائما في كل أدوارها، والوجه الجديد "عمرو سعد" في دور "عادل"، وهالة فاخر في دور الأم، حتى الأدوار الثانوية لسامح الصريطي وغادة عبد الرازق، وخالد صالح الذي يظهر كضيف شرف في مشهد واحد حيث تحلم به أمه وقد عاد من العراق محملا بالهدايا والنقود التي ينثرها على أهل الحارة، واحمد بدير في دور سائق التاكسي/ زعيم الجماعة الاسلامية.. لعل تميز الفيلم الأكبر أنه يقدم نوعا أو درجة جديدة من الواقعية، تولي اهتماما كبيرا للتفاصيل المشهدية، وترصد الواقع الاجتماعي في تجمعات البؤس والفقر دون الوقوع في فخ الكليشيهات التي ادمنت عليها السينما المصرية. وقد تجلت قدرات المخرج في تحريك ممثليه في مشاهد بعينها مثل مشهد اغتصاب "ناهد" الذي كان مؤلما في واقعيته، كما تميز الفيلم بثراء قيمه الانتاجية خاصة في مشاهد المجاميع، التي عادة ما تكون فقيرة الامكانيات والتنفيذ في السينما المصرية، كما في معركة اقتحام قوات الأمن المركزي الحي العشوائي، والمعركة التي نشبت بين "عادل" ورفاقه من ناحية، وتاجر المخدرات وصبيانه من ناحية أخرى.