يتخذ الباحث المغربي من وصف حنا مينه بأنه أديب البحر منطلقا لمناقشة مجموعة من الاختزالات والأحكام النقدية المكرورة والمتداولة بين القراء والنقاد على السواء. ويرى أنه قد آن الأوان لإعادة النظر في مثل هذه الأحكام، وتخليص الخطاب النقدي من انعكاساتها السلبية، لتلك المسكوكات الجاهزة.

في نقد الاختزال النقدي

حنا مينه ولعنة البحر

عبد العالي بوطيب

لاشك أن للبحر مكانة خاصة في تجربتي الأديب السوري الكبير المرحوم حنا مينه، الروائية والحياتية على حد سواء، وهو أمر طبيعي بالنسبة لإنسان قضى فترة غير قصيرة في مدينة ساحلية (اللاذقية)، خبر فيها البحر وأسراره، وحياة رواده ومآسيهم، إما عن طريق المعاينة أو المعايشة، خصوصا بعد احترافه العمل بالميناء مبكرا، تحت ضغط إكراهات ظروف مادية صعبة، لتلبية أبسط حاجيات أسرته الفقيرة المكلومة في موت والده، وتحمله أعباء المسؤولية العائلية الثقيلة، في جو مطبوع بويلات الحرب والاستعمار، وما تفرزانه عادة من أوضاع اقتصادية واجتماعية متردية على مختلف المستويات والأصعدة، تماما كما وصف ذلك، بصراحته الصادمة، صديقه الكبير سعيد حورانيه في المقدمة الجميلة التي وضعها لروايته الرائعة (الشراع والعاصفة) قائلا: «على شاطئ (اللاذقية) المدينة السورية الخضراء، التي تستحم في البحر، وتندى ظفائرها بصنوبر جبال العلويين، ولد حنا سنة 1924، من عائلة فقيرة جدا ... تقلب في مهن متعددة، وعوده طري، فهو الذكر الوحيد في العائلة، والأفواه الجائعة بحاجة إلى جني يديه، فعمل مستخدما في بقالية ومساعدا لصيدلي، وصانعا في دكان حلاق مدة طويلة حتى أتقن الصنعة ... وفي سنة 1939 حدثت مأساة اللواء العربي بمعاونة فرنسا، فهاجرت العائلة إلى اللاذقية، حيث افتتح حنا دكانا للحلاقة، وكان زبائنه من الفقراء والبحارة، فاختزن في أعماقه كثيرا من قصصهم الأسطورية عن صراعهم اليومي مع الخطر، وكانت الحرب العالمية الثانية ومعارك الاستقلال قد تركت سورية في دوامة من الاضطرابات»(1).

لهذا السبب، ولقناعته الراسخة:
أولا: بأن الكتابة كالولادة تماما، ينبغي أن تكون طبيعية، تنجز بمواعيد مضبوطة، لا تعرف التقديم ولا التأخير، إلا في حالات معدودة قسرية وقيصرية خاصة، تنعكس آثارها السلبية على طبيعة المولود وقيمته: «يقولون : على الكاتب ألا يكتب إذا استطاع ألا يكتب، يريدون أن حالة الامتلاء لدى الفنان، تتطلب التفريغ في عمل ما، وأنه في هذا الموقف غير مخير، فهو إذا امتلأ بالشحنة الفنية، كان كالمرأة الحامل، عندما يدركها المخاض في الشهر التاسع، لا تقوى على دفعه، ولا قبل لها بتأجيل الولادة، فإذا استطاعت أن تؤجل ذلك، كان معناه أن أيام الحمل لم تستوف بعد، وأن الطلق الذي جاءها كان خلبيا، يصلون من ذلك إلى أن الكاتب مرغم على الكتابة لأن امتلاءه لم يعد يحتمل التأجيل، وفي هذه الحالة فإن أمامه أحد خيارين : أن يكتب أو يموت»(2).

وثانيا: بأن مولود الكاتب ينبغي بالضرورة أن يحمل بعض ملامح ذخيرته المعرفية المباشرة (التجارب) وغير المباشرة (المقروءات)، باعتبارها مرتكزه، الأول والأخير، في كل ما ينتجه، وإلا اعتبر عمله لقيطا مزيفا، تماشيا والمقولة النقدية المعروفة القائلة : بأن الكاتب لا يكتب في النهاية سوى عن نفسه، بشكل من الأشكال، وإن كان ذلك لا يعني، بأي حال من الأحوال، أن كتاباته تدور حتما في فلك سيرته ومتعلقاتها، لأن الحديث عن الذات، كما هو معلوم، لا ينحصر دائما وبالضرورة، في هذه الحلقة الضيقة المباشرة المكشوفة، بقدر ما يتجاوزها ليطال جوانب أخرى، أعمق وأوسع، قد تبدو للبعض، ظاهريا على الأقل، منفصلة عن صاحبها تماما، وهو ما يعني بعبارة أخرى، أن الكاتب لا يكتب إلا عما يعرف، وبالتالي عما يحمل في أحشائه من أفكار وتجارب ومعارف، تجعل ولادته / كتابته سهلة طبيعية، تفرض نفسها ولحظتها عليه دون تمحل أو عناء، ولعل هذا ما عبر عنه حنا مينه نفسه في إحدى شهاداته قائلا: «لكنني في كل ذلك لم أكن أفكر بالكتابة، إن الحياة العريضة التي عشتها بكل مرارتها وحلاوتها، قد عشتها لأنها كانت حياتي، قبل أن أفكر بالكتابة ... وبعد أن فكرت فيها وصرت كاتبا»(3).

لذلك كله، كان طبيعيا جدا أن يحظى البحر ورجاله بنسبة عالية من الحضور والاهتمام في أعمال هذا الروائي العربي الكبير، لدرجة ذهب معها البعض لاعتباره، من هذه الناحية: «أحد رواد البحر في الأدب العربي»(4)، علما بأن: «البلاد العربية، كما يقول نفس الناقد، بمجملها واقعة على أطراف البحار، ولكننا منذ ألف ليلة وليلة، لم يعرف البحر سبيله إلى أدبنا، ذلك أننا لا نزال عبيد الجاهلية كما كان أسلافنا، لا نزال نتحدث عن الصحراء والخيل والإبل والسيوف والرماح ونعيش في عبودية مواضع أتى عليها الزمن، نعيش تاريخا ولا نعيش الحياة، نعيش الفارس العربي الفاتح، لنعوض عن ذل الحاضر، ولكن شعبنا أيضا يجترح المعجزات، إنه لا يحتاج إلا إلى عين بصيرة محبة، منزهة عن زجاجية الرؤية، وعن التطلع إلى السماوات، بينما امتداد شعاعها الأرض»(5).

تعليل يبقى على وجاهته هشا ضعيفا غير قادر على الإقناع بسلامة هذه التسمية ومشروعيتها، لأنه يختزل جهود الرجل المتوالية في تحديث الكتابة الروائية العربية، وترسيخها في استبدال موضوعات قديمة بأخرى جديدة، تماما كما فعل أمير الشعراء أحمد شوقي حين اكتفى في فهم الحداثة الشعرية بوصف القطار والطائرة والباخرة عوض الأطلال والهودج والناقة، ولم يذهب أبعد من ذلك في سبر أغوار حقيقة العصر العميقة المتوارية خلف هذه المظاهر الحضارية المادية السطحية. ولعل هذا ما يفسر الحملة الضارية التي شنها عليه، وعلى أمثاله، أعضاء مدرسة الديوان بزعامة عباس محمود العقاد. لذلك أعتقد أن في هذا الوصف النقدي الشائع عن تجربة حنا مينه الروائية كثيرا من الحيف والتجني، لا لأنه يختزلها في بعد فضائي جزئي، يبقى، على أهميته، مجرد جزء شكلي بسيط في جهود هذا الروائي العربي الكبير فقط، وإنما لكونه أيضا يعطي انطباعا مغلوطا للقارئ العادي عن حقيقة هذه التجربة، كما لو أن كل أعمال حنا مينه الروائية دون استثناء تدور في هذا الفضاء وحوله ولا تتجاوزه لما هو أبعد. وهو ما تنفيه نصوص الرجل طبعا وتفنده، ذلك أنه باستثناء روايات معدودة (كحكاية بحار)، و(الشراع والعاصفة) وغيرهما، حيث: «رجال البحر المردة، في صراعهم اليومي المرير مع الموت المتمثل في البحر الهائج، والعواصف الغادرة، يقابلونها بأشرعتهم الممزقة، وقواربهم العتيقة، وعزمهم المستمد من صخور الشطآن»(6). نجد روايات عديدة أخرى لنفس الكاتب لا تتعلق إطلاقا بالبحر، وإن فعلت، فبشكل عابر طفيف، كما هو حال: (الثلج يأتي من النافذة)، (الشمس في يوم غائم)، (نهاية رجل شجاع) و(المصابيح الزرق)، على سبيل المثال لا الحصر، هذه الأخيرة التي وصف موضوعها الناقد شوقي بغدادي في مقدمته الرائعة قائلا: «المصابيح الزرق ـ بكل بساطة، رواية تصور حياة جماعة من الناس البسطاء أيام الحرب العالمية الأخيرة، ومن ورائها حياة اللاذقية، وسوريا، أو بكلمة واحدة تصور الجو المحموم الذي كانت تعيشه بلادنا أيام الحرب، فإذا صح أن تكون لكل قصة عقدة، فعقدة ـ المصابيح الزرق ـ هي أزمة الحرب»(7).

فكيف بعد هذا كله يجوز تعميم فضاء جزئي، مهما بلغت درجة حضوره، على تجربة روائية بأكملها، معروفة بتنوع موضوعاتها وفضاءاتها وأزمنتها ورهاناتها؟ ثم ألا يعتبر ذلك تقزيما لجهود روائي كبير حاول طوال مسيرته الروائية العريضة تطوير كتابته وتجديدها مع طلعة كل عمل جديد، وأخيرا، وليس آخرا، ألا يعد ذلك غبنا لهذه الجهود، وتضليلا ظالما لجمهور قرائه المفترضين، علما بأنه حتى لو كان حضور هذا الفضاء البحري مطلقا، يشمل مجموع أعمال حنا مينه الروائية دون استثناء، فإن ذلك وحده، مع ذلك، لا يعد كافيا، في تقديري، لإضفاء الشرعية على هذا الوصف الجائر، لا لشيء، إلا لأن عنصر الفضاء، على أهميته، لا يراد لذاته في البناء الروائي، وإنما لأهداف تعبيرية أخرى أبعد وأعمق، يلعب فيها الفضاء الموظف بالتأكيد دورا حاسما، لكنه يبقى، رغم ذلك، وفي جميع الحالات، مجرد وسيلة لغاية، أو غايات أخرى، أهم، لذلك لا يستحق أن يختزل بنية العمل ككل، وهي بالمناسبة عادة سيئة انتقلت عدواها للمجال النقدي من الكتابة الصحفية، لدرجة أصبح استعمالها، على سلبياته، عاديا، لا يثير أي اعتراض(+).

وهكذا أصبح نجيب محفوظ روائي القاهرة، وإبراهيم الكوني روائي الصحراء أو الطوارق، تماما كما اختزلت جهود روائيين آخرين، على كثرة ما راكموه، في عمل واحد يخفي، بشكل ظالم، كل الأعمال الأخرى، وما قد تحويه من إضافات فنية وفكرية هامة، وهكذا عرف نجيب محفوظ ب (الثلاثية)، وحيدر حيدر بـ(وليمة لأعشاب البحر) وعبد الرحمان منيف ب (مدن الملح) ومحمد زفزاف ب (المرأة والوردة ) والقائمة طويلة. لذلك فلا غرابة إذا ما وجدنا بعض الروائيين يعلنون صراحة تذمرهم الكبير من مثل هذه الألقاب (الأحكام الجزافية)، على حد تعبير نبيل سليمان، التي لا تعكس في شيء حقيقة تجاربهم، بقدر ما تشوهها وتختزلها، وما الرغبة الغريبة التي عبر عنها المرحوم محمد شكري، مرات عديدة، في قتل عمله الروائي الرائع (الخبز الحافي)، وتحرير تجربته بالتالي من قيود هيمنته، سوى دليل قاطع على ما نقول، لأن اهتمام النقاد الزائد به دون غيره من أعمال الكاتب الأخرى، جعله يشعر كما لو أن تجربته، على تنوعها، اختزلت نقديا في هذا العمل وحده . وهو ما يرفضه قطعا. إحساس لا أعتقد أنه يقتصر على شكري وحده، ولو أنه انفرد، دون غيره بالتعبير عنه جهارا، وفي غيرما مناسبة، وإنما يتقاسمه وإياه أدباء كثيرون شوهت تجاربهم أحكام نقدية سريعة ومبتسرة كهاته التي التصقت ظلما بأعمال حنا مينه الروائية.

لذلك أعتقد أنه آن الأوان لإعادة النظر في مثل هذه الأحكام، وتخليص الخطاب النقدي من انعكاساتها السلبية، إحقاقا للحق، وإنصافا لأصحابه، إذ من غير المعقول أن يستمر النقاد في ترديد مسكوكات جاهزة كهاته مناقضة تماما لطبيعة المهام والمسؤوليات المعرفية النبيلة الملقاة على كواهلهم، والمتمثلة اساسا في تقويم الإبداع وتصويب اعوجاجه، دون أن يبدأوا بإصلاح خطابهم أولا، وتحريره من مثل هذه الأوصاف الجائرة، خصوصا عندما يتعلق الأمر بأوصاف مناقضة تماما لحقيقة التجارب الموصوفة، كما هو الحال بالنسبة لتجربة حنا مينه الروائية، لما لها من مضاعفات سلبية كبيرة تتجاوز حدود الكاتب المظلوم لتطال المشهد الأدبي والنقدي برمته: «فمثل هذا الصنيع، يقول نبيل سليمان، ليس في المحصلة مساعدا للرواية السورية أو للنقد الأدبي على تطوير سيرورتهما التي حاولنا أن نقدم في هذه الدراسة صورة أولية لهما، فهاتان السيرورتان تحتاجان إلى جدية أخرى وحوار آخر، إلى موقف آخر وغطاء نظري ونقد تطبيقي غير هذا»(8).

 

باحث وناقد من المغرب

 

بيا ن الهوامش والإحالات:
1/ سعيد حورانيه: مقدمة رواية الشراع والعاصفة، منشورات دار الآداب، بيروت، الطبعة الثانية، 1977، ص: 7.

2/ حنا مينه: هواجس في التجربة الروائية، مجلة الطريق، عدد : ¾، سنة 1981، ص:13/14.

3/ حنا مينه : شهادة مذكورة، مجلة الطريق، عدد: ¾، سنة: 1981، ص: 12.

4/ سعيد حورانيه : مقدمة مذكورة، رواية الشراع والعاصفة، منشورات دار الآداب، بيروت، الطبعة الثانية، 1977، ص: 10.

5/سعيد حورانيه: مقدمة مذكورة، رواية الشراع والعاصفة، منشورات دار الآداب، بيروت، الطبعة الثانية 1977، ص: 10.

6/ سعيد حورانيه: مقدمة مذكورة، رواية الشراع والعاصفة، منشورات دار الآداب، بيروت، الطبعة الثانية، 1977، ص: 9.

7/ شوقي بغدادي : مقدمة رواية المصابيح الزرق، منشورات دار الآداب، بيروت، الطبعة الثالثة، 1979، ص: 9.

+/ أنظر بهذا الخصوص إشارة الأستاذ نبيل سليمان الواردة في دراسته الموسومة بالنقد والرواية السورية، مجلة الطريق، عدد: ¾، سنة : 1981، الصفحة : 227 وما بعدها.

8/ نبيل سليمان : دراسة مذكورة، مجلة الطريق، عدد: ¾، سنة :1981، ص: 232.