تعد طروحات ومؤلفات المفكر احمد عبد الحليم عطية، في "فلسفة الاخلاق واشكالات القيم والابستمولوجيا والانطولوجيا" واحدة من اهم منعرجات الفكر الفلسفي العربي الراهن، لما تضمنته هذه الطروحات من أهمية على مستوى إعادة سؤال الفلسفة والأخلاق، وكذلك على مستوى الأخلاق وتكوين نظرية القيم/ والتقييم التي من خلالها يتم تقويض اثريات الميتافيزيقيا المسيطرة على المتن الفلسفي وعمليات صيرورته وطرق انتاجه في المؤسسات الاكاديمية خاصة والثقافية عامة.
من هنا، يأتي انهماك د. عطية في مناقشة وتحليل وتفكيك تاريخ القيم/ والتقييم في الخطاب الفلسفي العربي/ والغربي على حد سواء، ايمانا منه، ان هذه الإشكالية تمثل أساس الأسس التي تشكل تاريخ الفلسفة وتاريخ النظريات الاستيطيقية والانطولوجية والأبستمولوجية واللسانية الى جانب اللغوية والتحليلية والمنطقية. لهذا، خصص د. عطية معظم مؤلفاته وترجماته وبحوثه، لمناقشة وتحليل بنية القضية الأخلاقية واشكالية القيم/ والتقييم وعلاقتها في السياق الثقافي العربي ومجمل تحولاته الراهنة. وذلك لان، عملية التقييم عنده لم تعد محصورة ومحددة ضمن ذهنية الفلاسفة واشتغالاهم المنطقي/التحليلي المجرد، بل على العكس من ذلك، أن واقع القيم عند د. عطية اصبح يمثل في حد ذاته، سؤال الوجود والفلسفة، او بالأحرى سؤال الانسان عن مصيره في هذا العالم، الذي فقد فيه القدرة على انتاج الفعل والاختيار في التعبير عن مشاكله الأخلاقية التي امست عصية على التحليل والتأويل، نتيجة لسيطرة الرؤى "النظرية المجردة" والمتحولة بدورها الى سلسلة من القواعد والقوانين الطبيعية الثابتة التي طالما سعت الى رد مجمل ممارسات الاخلاق والقيم عند الانسان الى "التحليل المنطقي الاستاتيكي/ غير تاريخي "الذي يمأسس الفعل الإنساني بمجموعة من المبادئ والعمليات المنطقية الكلية الصادقة دائما والمتعالية دوما عن إشكالات الانسان القيمية والأخلاقية والمصيرية. لأن ما كانت تنشغل فيه هذه النظريات المجردة في نهاية المطاف، ليس حقيقة الانسان وعلاقته بالأخلاق وإنتاج القيم والتقييم، بل حقيقة وصدق المنطق وتطبيق تقنياته وادواته ومفاهيمه النظرية وبما يعزز هيمنته على الفعل الإنساني وتحديد مساره بما يتناسب ويتفق مع المقدمات المنطقية والتحليلية الصادقة بالضرورة لهذه النظريات.
لهذا، فأن عملية الكتابة حول مشروع احمد عبد الحليم عطية في فلسفة الاخلاق والقيم والتقييم، لا ينبغي لها ان تكون خطية. بمعنى، انه لابد من التمييز في بنية هذه الكتابات بين المرحلة المبكرة والمتأخرة في مشروعه في "نقد العقل الأخلاقي في الفكر الفلسفي العربي". وذلك لان عدم التمييز هذا، يضعنا في إشكالات منهجية وفلسفة وتحليلية، فمن غير المعقول ان يتم التعامل مع هذه الكتابات بوصفها تمثل "كل بنيوي متسق ومتكامل ومتماسك" من حيث الطرح النظري والاشكالي لفلسفة القيم. فمثلا ان المرحلة المبكرة لتناوله لإشكالات الاخلاق والقيم كما تمثلت في مناقشة اعمال رواد الفلسفة التحليلية والبراغماتية في الثقافة المصرية، تختلف تماما عن المرحلة المتأخرة المتمثلة في إعادة طرح فلسفة الاخلاق، ليس من منظور تاريخ الفلسفة التقليدي، بل من منظور الجينالوجيا وخطابات ما بعد الحداثة، كما هو الحال عليه في اعمال د. عطية المتأخرة حول نيتشه ودريدا وفلسفة ما بعد الحداثة.
ووفق التمييز المذكور اعلاه، تأتي قراءتنا لمشروع الاخلاق والقيم عنده، حيث ان عملية التمييز بين المرحلة المبكرة والمتأخرة في مشروعه لنقد العقل الاخلاقي، إنما يمثل، في واقع الامر، تمييزاً بين مرحلتين لتناول إشكالية الاخلاق والتقييم : المرحلة الأولى ، تتمثل في طرائق تحليل فلسفة القيم من خلال مناهج الابستمولوجيا الوضعية والتحليلية المعيارية المتمثلة في مناقشة اعمال زكي نجيب محمود ؛ محمد مدين؛ توفيق الطويل، واخرين؛ اما المرحلة الثانية، فهي تتمثل في الانتقال بفلسفة القيم من الابستمولوجيا الى الجينالوجيا، حيث تسيطر اعمال نيتشه وفلسفة ما بعد الحداثة على اهتمامات د. عطية والتي انعرج فيها : من تاريخ التقييم الأخلاقي الى خطاب الاخلاق Moral Discourse وبلاغة التقييم، وسوف نأتي لاحقاً على مناقشة مجمل هذه التحولات.
إشكالية القيم في فلسفة التحليل اللغوي والمنطقي:
ذكرنا سابقا، ان د. عطية لم يفصل بين مشكلة القيمة ومشكلة التفلسف القيمي، فهو يرى ان مجمل الأيديولوجيات والمناهج وتيارات الفكر الفلسفي في مصر خاصة والوطن العربي عامة، لا يمكن لها ان تنفصل عن واقع فلسفات الاخلاق من جهة؛ وعن حالة الاهمال التي تعرضت لها تلك الفلسفات وتعطيل منطق البحث والتحري inquiry فيها، خاصة في اقسام الدراسات الفلسفية وحقول العلوم الإنسانية من جهة أخرى. ربما هذا ما دفعه، الى إعادة التفكير في معنى وفلسفة التقييم والأخلاق، لا سيما مع صعود وتطور التيارات التحليلية والمنطقية في الجامعات المصرية. فقد عثر في مؤلفات المفكر الراحل زكي نجيب محمود، على طروحات منطقية وتحليلية قيّمة وعميقة تستحق التوقف عندها والتأمل في : «تحليل فهم زكي نجيب للقيم ومعالجته لقضاياها وتحديده لطبيعتها، وموقفه من وجودها، وذلك في إطار اهتمامه المبكر والمستمر بدراستها، وكتاباته المتعددة فيها والتي تدخل في إطار اهتمام الفلاسفة المعاصرين بدراسة هذا المجال محاولا الإجابة عن عدد من الأسئلة؛ التي تمثل صلب نظرية القيمة المعاصرة، خاصة الاتجاهات الطبيعية وثيقة الصلة باتجاه زكي نجيب محمود العلمي.
ويأتي في مقدمة هذه الأسئلة العلاقة بين الأخلاق والقيم والوجود من جانب وانطولوجيا القيمة وطبيعة وجودها. والعلاقة بين القيم والمعرفة، ابستمولوجيا القيمة وكيفية إدراكها، والتي تؤدي إلى قضية أساسية تتعلق بطبيعة فلسفة القيم. فهل أنكر مفكرنا القيم أو اعترف لها بنوع من الوجود؟ وما طبيعة وجود القيم في نظرته العلمية الوضعية؟ وهل هو إنكار وجود الأخلاق والقيم أو لإمكانية إدراكها ودراستها دراسة علمية؟ حيث إن إنكار لوجود الأخلاق والقيم عند الوضعيين يؤدي إلى هدم البحث في الأخلاق والقيم، أو على أقل تقدير يلقي بها إلى ميدان علم النفس وعلم الاجتماع، كما يرى بعض أقطاب الوضعية المنطقية، فهل كان الفيلسوف العربي وضعيا منطقيا حقيقة في نظرته لها أو تحول عن هذا الموقف إلى موقف آخر»(1).
يتضح من النص أعلاه، كيف ان د. عطية كان يحاول فهم العلاقة الإشكالية بين مفهوم القيمة؛ والبحث في منطقها؛ وصلتها بالفلسفة العلمية عند زكي نجيب محمود. ذلك لأنه كان على ادراك تام ان الفهم الوضعي للقيم يضعنا إزاء إشكالات عديدة دون ان يساعدنا في مواجهتها وحلها. وتأتي في مقدمة تلك الإشكالات، مشكلة الحرية الإنسانية وخلق الأفعال، وقد تناول الراحل زكي نجيب محمود هذه الإشكالية في اطروحته (الجبر الذاتي): «وهو العمل الذي حصل به على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة لندن عام 1948 فكتب زكي نجيب متسائلًا عن ثبات موقفه الفلسفي يقول: تُرى هل يكون الإنسان إنسانًا أكمل لو ظل عشرات الأعوام ثابتًا على فكرة بعينها؟ أو أن الكمال مرهون بالصدق وحده سواء اقتضى هذا الصدق ثباتًا على الفكرة أم انقلابًا عليها؟ ويضيف الحمد لله الذي أنعم عليَّ بصفة الإخلاص لنفسي، أقف عند الفكرة التي أؤمن بصدقها غير عابئ بهجمة الناقدين. إن زكي نجيب حين راجع ترجمة كتابه إلى العربية بعد خمسة وعشرين عامًا من تأليفه وجد نفسه ثابتًا على مضمون الدعوة. وما مضمونها الذي يؤكده لنا سوى حرية الإنسان وقدرته على الخلق والإبداع. تلك قضية أساسية ينطلق منها ودعوة مستمرة يدعو إليها.
إن بقية إجابة المفكر العربي لتقتحم مجالًا – كادت كتاباته التالية تنسينا إياه – لا تثبته ولا تنكره، فهو منطقة مجهولة في تفكيره أو قُل منطقة مسكوت عنها، ولن تتضح إلا بإلقاء الضوء عليها في دراسات أخرى، وفي سياقات مختلفة؛ هي منطقة الإنسان، العالم الباطني الداخلي أو مملكة الحرية بلغة كانط. يقول: "فما زالت حتى هذه اللحظة أؤمن إيمانا راسخا بأن الإنسان كائن مريد حر في اختيار ما يريده، وأنه – دون جميع الكائنات – ليس حصيلة سلبية للعناصر الخارجية المحيطة به، بل هو مبدع خلاق يأتي بالجديد الذي يضاف إلى الوجود خلقا جديدا يكون له فضله وعليه تبعته".(2)
في النص أعلاه طرح المفكر زكي نجيب محمود جملة من الإشكالات الفلسفية التالية:
أولا- مشكلة الحرية والفعل الإنساني.
ثانيا- مشكلة الصدق بحسب المعيار الوضعي في الفكرة واللغة والمعنى.
ثالثا- تأويل الوضعية المنطقية لإشكالية التقييم والأخلاق، اعتمادا على المنهج العقلاني التوتولوجي المنطقي.
رابعا- استقلالية الفعل الإنساني عن الوجود السوسيو- ثقافي والاجتماعي، وخضوعه لحتمية القوانين الطبيعية والفيزيقية في العالم التجريبي والحسي.
وعلى الرغم من تأكيد زكي نجيب محمود على إشكالية الحرية والفعل الإنساني، الا ان اهم ما يمكن ملاحظته في ادبيات الراحل الفلسفية والمنطقية، ان مفهوم "الجبر الذاتي" وهو ما يمكن ترجمته بـ الماينبغي "ought to " يشير الى ان الفعل الإنساني يبقى خاضعا لمجموعة من القوانين والشروط المنطقية المطلقة والثابتة. بمعنى آخر، ان د. محمود تعامل مع مفهوم الفعل Action بوصفه يمثل المعيار Norm أي القانون Law الذي يتمفصل مع بنية الفعل الإنساني بوصفه يعبر عن:
اولا- laws of the state مجموعة القوانين التي تمثل ،القضية؛ الحالة؛ الواقعة؛ الحقيقة؛ الوضع؛
ثانيا- laws of the nature القوانين التي تسيطر على الطبيعة.
ثالثا- laws of logic وهي القوانين التي تسيطر على المنطق.(3)
لذا، فأن مفهوم "الجبر الذاتي" هو لا يعبر بالضرورة عن الفعل الإنساني الحر، بقدر ما يصف Prescribe الفعل الإنساني بما "ينبغي عليه" الامتثال الى :
أولا- order صيغة الامر؛ النظام؛ الطلب؛ الفرض.
ثانيا- permit المسموح القيام به من الافعال.
ثالثا-prohibit المحظور او الممنوع من الافعال. (4)
من هنا، فأن مصطلح" الجبر الذاتي" يعبر في واقع الامر عن مجموعة القوانين والأنظمة Regulations المفروضة من قبل جهات سلطوية متعالية، القادرة لوحدها على منح وفرض السستم القانوني والمنطقي norm-authority. ان مفهوم المعيار- صلاحية السلطة المذكور أعلاه، إنما يتوجه مباشرة الى الجماعات اللاعبة والمسيطرة agents على انتاج وتشكيل معيار-الذات norm- subject(s) لتكون السلطة قادرة على التحكم في الذات وجبرها دائما على اتخاذ مواقع مؤكدة ومتناغمة مع العالم القيمي والأخلاقي وسلوكيات الفعل الأخلاقي في العالم الخارجي certain conduct. في الحقيقة، ان إشكالية "الجبر الذاتي" تمثل إشكالية التقويم الأخلاقي. وذلك يعود الى طبيعة التداخل البنيوي والمنهجي والمنطقي بين مفهوم حرية الفعل الإنساني؛ وتشكيل عملية التقويم الأخلاقي، التي لا يمكن لها ان تنفصل عن النظام المنطقي للمنهج الوضعي الذي اتبعه مؤلف الجبر الذاتي.
وعليه، فأن هذا المفهوم هو مفهوم اشكالي بامتياز، فهو من جهة يؤكد على حرية الإرادة والفعل الإنساني؛ ومن جهة أخرى، يؤكد على غائية وعقلنة هذا الفعل، الذي يبقى فعلا متعاليا ومستقلا عن لغة الانسان اليومية التي يتكلم بها، وكأن مواصفات هذا الفعل لا تتصل لا من قريب ولا من بعيد، بعالم اهتمامات الانسان اليومية ومشاكله القيمية والأخلاقية. بمعنى آخر، ان منطق الجبر الذاتي، هو منطق منفصل تماما عما يعرف بـ "عمليات التقييم" process of evaluation . وبالتالي، فهو منفصل أيضا عن عمليات تشكل الحجج وصيرورة العقلنة والاستدلال process of reasoning. ولهذا، يمكننا القول، ان منطق "الجبر الذاتي" يمثل، في واقع الامر، مملكة الفعل الذاتي الحر دون وجود ذات حرة، ذلك لان مفهوم الذات كما ذكرنا سابقا، هو مفهوم خاضع لسيطرة "جماعات المعايير الضاغطة" التي تشكل سلوك الذات حسب تقنيات المنطق الميتافيزيقي/ الشمولي/ الكلي. بمعنى، «اذا اردنا ان نواصل متابعة الفيلسوف وتحليل افكاره في الجبر الذاتي لتأكيد فكرتنا بقول زكي نجيب محمود في قوله ان الإنسان مملكة الحرية وهو مصدر التشريع وانه ملك ومواطن في مملكة الاخلاق وجمهورية العقلاء والافعال الحرة ؛ فالإنسان مصدر القانون الذي يشرعه لنفسه وحريته النابعة من داخله فالإرادة حرة ومشروطة ان من الممكن ان يكون للإرادة سبب وان يكون هذا السبب نفسه مع ذلك حر فالقول بان الارادة مشروطة وحرة في ان معا هو ما يعينه بالجبر الذاتي فالأفعال الارادية ترتبط ارتباطا سببيا بمقدمات معينة تقوم في طبيعة تكوين الفاعل نفسه مادامت هذه الافعال تعبر عن طبيعة الفاعل وتحقق ذاته وهي في نفس الوقت حرة لأنها ليست نتاجا ضروريا لشيء اخر خارج طبيعة الفاعل نفسه فبمقدار ما يكون الفاعل مكثف بذاته في تفسير الفعل الارادي فهو حر الي هذا الحد في هذا الفعل وهو بأنجازه له على هذا النحو يكون محددا بذاته او مجبرا ذاتيا».(5)
هكذا، يغدو كل شيء خاضعا لغائية حتمية؛ ولنزعة طبيعية وثوقيه مشروطة دائما، بشرط الملائمة المنطقية المحكمة. لكن هل هذا يعني ان هذه الحتمية العلمية لا تماثل الحتمية الميتافيزيقية لا من قريب ولا من بعيد ؟ وهل يمكننا ان نعتبر الجبر الذاتي مفهوما ميتافيزيقيا؟ وهل يمكن لمفكر سعى منذ بداية مشروعه العلمي الى مجاوزة الميتافيزيقيا، دون تفكيك الحتمية العلمية ونقد الحتمية الميتافيزيقية ؟ وقد أشار د. عطية، الى المنهج العلمي الذي خطه الراحل زكي نجيب محمود بقوله: «يظهر زكي نجيب في الجبر الذاتي فيلسوفا اخلاقيا يهتم بمشكله اساسية هي حرية الارادة يتجنب في عرضه لها التناول اللاهوتي والتناول الميتافيزيقي ويصوغها صياغة علمية ولا يمكن لنا ان نستنتج من اهتمامه بهذه المشكلة انه صاحب تأمل ميتافيزيقي فالمهم هنا ليس حل المشكلة التي طالما شغل بها الفلاسفة بقدر ما هو حرص المفكر في بداية تفلسفه علي صياغتها صياغة علمية محددة تجنبا للمجادلات اللفظية العقيمة وذلك بتحديد المصطلحات المستخدمة فيها تحديدا منطقيا . وعلى ذلك يمكننا ان نستنتج ان بحث القضايا الاخلاقية من المسائل التي شغل بها مبكرا في مرحلة دراسته للدكتوراه التي تمثل تحولا معرفيا اصيلا وبداية للمرحلة العلمية الوضعية التي انتجها في كتاباته اللاحقة. وهذا الاهتمام الاخلاقي المبكر التي يدور حول مشكلة أخلاقية تقليدية يوضح الاهتمام الكبير بالإنسان ومحاولة دراسته دراسة علمية. ونستخلص من هذا العمل بعض الملاحظات الأولية التي تمهد لنا تناول أعمال زكى نجيب في مجال القيم وطبيعتها ووجودها.
ينتمي عمل زكي نجيب محمود الاول "الجبر الذاتي" الي مجال الاخلاق او الدراسة العلمية للأخلاق والتحليل اللغوي والمنطقي لقضاياها التقليدية أكثر من انتمائه الي الدراسة المعاصرة للقيم. فهو وان كان يوضح اهتمام صاحبه بالأخلاق؛ فهو يسعي لتجاوز المناهج التقليدية الي النقد المنطقي وتحليل القدماء وتفسيراتهم لهذه القضايا.»(6)
الحقيقة الأخلاقية بين النسبي والوضعي منطقي والمعنى الانفعالي
ان منطق التحري الأخلاقي moral inquiry في الفلسفة الوضعية لدى المفكر الراحل زكي نجيب محمود، يطرح علينا، في واقع الامر، جملة من الإشكالات الفلسفية والمنطقية ذات الصلة بكل من: مفهوم الاخلاق؛ وعملية التقييم وإعادة اكتشاف مفهوم المتكلم/والمخاطبين في القول الأخلاقي، ومن ثمة، التحري في بنية النظام الحِجَاجي الذي من خلاله يتم تشكيل عمليات التقييم. وهذا بطبيعة الحال، سوف يقودنا الى تسليط الضوء على المظهر الموضوعاتي والذاتي غير المنفصل عن الحكم الأخلاقي Moral judgment ولغة الاخلاق.
وعملية التحليل المذكورة أعلاه، سوف تجعلنا نعيد النظر بمفهوم الاتجاه الانفعالي/ الدافعية emotivism والاتجاه النسبي relativism في فلسفة التحليل الوضعي للجملة الأخلاقية Ethical sentence. وذلك بهدف التفكير من جديد في بنية الفعل الأخلاقي / العقلاني المنشطر في ثنائية ديكارتية تتمثل في تموضعه بين قوانين الطبيعة الخارجية؛ والتمركز حول الذات والنزعة الادراكية المنطقية الضيقة. في الواقع، أن السؤال عن معنى الحقيقة الأخلاقية moral truth لا يمكن له ان ينفصل عن منطق العوالم الانفعالية والشعورية التي ترافق عملية تشكيل "التعبير الأخلاقي". بمعنى، اننا بقدر ما نبتعد عن المركزية العقلانية وعن منطق التحري العلمي scientific inquiry الحتمي والمتسق؛ نتجه صوب محيط ومجال التواصل الاقناعي والبلاغي بين المتكلمين في الفضاء الثقافي العامpublic sphere حيث يقتضي الاستناد الى نسبية منطق التحري الأخلاقي moral inquiry. ومن المعروف، ان مفهوم النسبية «قديم قدم الحياة الإنسانية، ويعبر عن مجموعة من التعاليم الفلسفية التي جرى التعبير عنها تاريخيا في عدد لا يحصى من الحجج الفلسفية وغير الفلسفية. اما الدافعية، على النقيض من ذلك، هي حديثة العهد نسبياً وجرى التعبير عنها بأشكال مختلفة. ان كل من النسبية والدافعية اعترضا على الادعاء القائل بأن يكون للحقيقة موضع في الاخلاق....واذا انكرنا إمكانية وجود حقيقة أخلاقية، فقد يمكن لميولنا الطبيعية ان تتبنى بعض الأساليب غير العقلانية في الاقناع الأخلاقي».(7)
ومن الناحية الابستمولوجية والمنطقية، فأن كلا من الاتجاهين النسبي والانفعالي، يدعونا الى التمييز بين: «النموذج غير الادراكي non-cognitive والنموذج الادراكي في الخطاب الأخلاقي».(8) فمن خلال هذا التمييز، يمكننا تحليل بنية المنطق المعياري المسيطر على فلسفات الاخلاق عامة؛ وعلى عمليات تقويم الاحكام الأخلاقية خاصة. وهذا الامر بطبيعة الحال، سوف يكشف لنا بنية المنطق التحليلي المتبع في تحليل معنى الكلمات الأخلاقية Moral words. في هذا الموضع نحن نشير هنا، الى المنهج الفرضي- الاستدلالي hypothetico-deductive وهو المنهج الذي يستعمل في الفكر الأخلاقي لغرض البحث في «معاني الكلمات الأخلاقية وفي بنية المنطق الذي يتحكم في تشكيل تلك الكلمات.. فالأحكام الأخلاقية هنا Moral judgements هي كلية universal او لها إمكانية ان تخضع للتوصيف الكلي والتي تكون اما تحت هيمنة المبادئ او ذات صلة بها».(9)
يتضح من النص أعلاه، ان المنهج الفرضي- الاستدلالي، المتبع في تحليل معنى الكلمات الأخلاقية، هو منهج تسيطر عليه النزعة الوصفية descriptivism والتي تؤسس بالضرورة لكل نزعة طبيعية وموضوعاتية في الاخلاق. ويمكن القول هنا، ان معظم الفلاسفة المشتغلين في فلسفات التحليل المنطقي للقول الأخلاقي سيطرت عليهم هذه النزعة. «فمن الطبيعي جدا ان يسقطوا الكثير من فلاسفتنا في هذا الخطأ، لكونهم يفكرون على الدوام في معرفة معنى الكلمة الأخلاقية. وبالتالي، معرفة فيما اذا كنا نستطيع تطبيقها او عدم تطبيقها في العالم الخارجي. وهكذا، سوف ينشغلون في فلسفتهم الأخلاقية تلك، في البحث عن مدى ملائمة الفعل؛ والناس... الخ، لتلك الكلمات الأخلاقية التي ترتبط فيما بينها، في نهاية المطاف، بواسطة القواعد او المبادئ وبحسب مستعمليها. ولهذا السبب، فأن عدم استعمالها- أي المبادئ- وتطبيقها على الموضوعات الخارجية، يجعلها تنحرف عن الخصائص المطلوبة».(10)
في النص أعلاه، نرى كيف ان المنطق الطبيعي/ الحتمي والوصفي، حوَّل الفعل الأخلاقي الى مجموعة من القوانين والمبادئ النظرية الحتمية المطلقة، «فما هو ذلك السبب الاكثر طبيعية، ليجعلنا نمضي قدما ونفترض صلاحية تلك الأفعال للناس، وخصائصها الثابتة والمؤكدة، من ذلك الموضوع حسب القواعد والمبادئ الجاهزة لكل من يستعمل الكلمات الأخلاقية؟». (11) من هنا، فأن بنية العلاقة بين الفعل الأخلاقي ونظام تشكله المنطقي المحكم، هي التي سوف تكون المسؤولة عن سيادة خطاب أخلاقي ذو نزعة أحادية، مشيدة على أسس طبيعية/وصفية خالصة. لهذا، وقبل كل شيء: «أن فيلسوف الاخلاق الذي أراد ان ينظر الى الاستدلال الأخلاقي مع النزعة الطبيعية naturalism بعين الاعتبار، سيعتبر انه يعتمد النهج الصحيح ويسير على الطريق الصائب دائماً. لأنه وبكل بساطة، يتصور ان لديه من البصيرة التي تؤهله لمعرفة ان طريق اكتشاف قوانين الاستدلال الأخلاقي، إنما يكون في دراسة معاني الكلمات الأخلاقية. غير انه عندما يحاول دراسة جزء معين من تلك الكلمات، سيرى انه من المستحيل معالجتها بواسطة قانون من قوانين الاستدلال الأخلاقي بمفرده. لذلك، نجده سوف يسعى الى العثور عن تلك الأنماط من الأشياء التي يمكن تطبيق "المسندات الأخلاقية moral predicates " عليها كما ينبغي وبشكل صحيح، بحسب الأعراف التقليدية لكل لغة معينة، وان يتم تطبيقها فقط على تلك الأشياء. ولهذا السبب، جرى البحث في هذه الأعراف بوصفها مجرد اعراف لسانية linguistic conventions؛ وترتبط، بذلك، مع كل شخص يرغب في ان يتكلم اللغة بطريقة صحيحة. ان هناك ثمة تماثل في خطأ الخلط بين الاخلاق مع الأعراف اللسانية؛ والاخلاق مع الحدوس اللسانية. لان كل منهما يحمل تأثيراً في ربط طرق استدلالنا الأخلاقي مع الآراء السائدة في مجتمعنا. وهذا احد المظاهر الضرورية في اللغة الاخلاقية، وقد جرى اهمالها من قبل اتباع النزعة الطبيعية، وهو يتعلق بأنه يمكن لنا المضي في استعمال الكلمات الأخلاقية مع معانيها نفسها، للتعبير عن آراء اخلاقية تقع على خلاف تلك السائدة منها، مثلما فعل الإصلاحيون الاخلاقيون من قبل. وسيكون هذا مستحيلا بالطبع، لو كانت الكلمات الأخلاقية مربوطة بشكل وثيق حقاً، بفضل معانيها الخاصة بها، لخصائص ثابتة من الأفعال.»(12)
من خلال النص أعلاه، يتضح كيف ان المنطق الذي تسيطر فيه النزعتين الطبيعية والوصفية، عمل على تثبيت وتحديد وظائف الكلمات الأخلاقية، لتعمل بمعزل عن منطق المتكلم وسياقه التواصلي. على الرغم انه «من الخطأ افتراض ان على جميع الكلمات ان تمتلك معيارا وصفيا مقبولا عموما في التطبيق، قبل ان يمكن استعمالها في التواصل.»(13)
فلسفة القيم: نحو ابستمولوجيا غير معيارية
ان القصد الذي نسعى اليه من خلال مجمل التحليلات المذكورة أعلاه، إنما الهدف منها، رصد المظاهر الشكلية لفلسفة الاخلاق. وهذه المظاهر هي ما يطلق عليها بـ المنطق الفلسفي philosophical logic. فمن خلال هذا المنطق يمكننا ان نفهم كافة العناصر الشكلية للنظرية الأخلاقية. ومن ثمة، نقد وتحليل الاتجاهات المعيارية التي مثلت الأساس النظري للنظرية الأخلاقية. وهي كالتالي:
أولا- نظريات الاخلاق المعيارية normative moral theories التي تسعى الى الضبط الدائم والثابت للتقويم الأخلاقي من خلال وضع مجموعة من المبادئ العامة المتماسكة والمتسقة، لتوجيه التقويم الأخلاقي والتصرفات على حد سواء.
ثانيا- نظريات مصادر التمويل الاخلاقي funding theories for morality التي تزعم توفيرها لحساب عام ومتماسك والخاص بتحديد ما هي طبيعة الأشياء الأخلاقية؛ وما تفترضه مسبقا وما تستلزمه؛ وكيف تبقى على صلة مع النشاط الإنساني وتكوينه العام، وما تحتاج اليه من شروط تجعلها في عمل منتظم جيد. نظرية التمويل الأخلاقي يمكن اقتراحها على اي مجال من مجالات الخطاب الانساني والممارسة. لكونها تسعى الى توفير مجموعة من الأجوبة عن الأسئلة المتعلقة بالمعنى؛ الأبستمولوجيا؛ الأصل، الوظيفة، وميتافيزيقيا ذلك الخطاب وتلك الممارسة.»(14)
مما سبق عرضه وتحليله، تتضح ضرورة الانتقال او التحول بالخطاب الأخلاقي من سيطرة النزعة الادراكية Cognitivism الضيقة والطبيعية والمعيارية بالضرورة، والانتقال الى ما يعرف بـ"اللاادراكية Non-cognitivism والتي تقوم على الفكرة القائلة: «عدم إمكانية معرفة الاحكام الأخلاقية Moral judgments (على انها صادقة). وذلك لأنها لا يمكن ان تكون صادقة او زائفة. فهي لا تحمل شروط الحقيقة Truth-Conditions ... وبالتالي، فأن أولئك الذين يفكرون بأن المعنى Meaning هو مرتبط بشروط الحقيقة يقولون احيانا أن الاحكام الأخلاقية فارغة من المعنى meaningless».(15) بمعنى، ان طبيعة البحث في الاحكام الأخلاقية، هو في واقع الامر، بحث في بنية المنطق التي تشكل وتمأسس وتضبط الجمل الأخلاقية Ethical sentences . ومن ثمة، الانعراج بالأخلاق: من الاخلاق الطبيعية الى الميتا-اخلاق Metaethics التي تتصف بما يأتي:
- الجمل الأخلاقية غير وصفية Nondescriptive
- الجمل الأخلاقية لا تحدد أي من الخصائص غير الطبيعيةCharacteristic Non- Natural الفريدة او البسيطة.
- الجمل الأخلاقية هي في المقام الأول غير وصفية. واذا كانت وصفية فبشكل ثانوي فقط.»(16)
من هنا، فأن البحث في بنية الجملة الأخلاقية، هو بحث في فلسفة اللغة والمعنى. وبطبيعة الحال، فأن عملية تفكيك المنطق الثابت والقار لمثل هذه الجمل، هي التي تحدد طبيعة الاختلاف بين المعنى الطبيعي/ الادراكي/المعياري؛ والمعنى التحفيزي. فالمعنى يتصف في المقام الأول بكونه «معنى موجه/ وثابت ومحدد designative meaning ويطلق عليه أحيانا بـ" الادراكي؛ النظري؛ المرجعي؛ والاخباري، ليتم تمييزه عن شكل المعنى الآخر ونعني به هنا، المعنى التحفيزي او الانفعالي»(17)
فالجمل الأخلاقية في المستوى الادراكي، هي «جمل الفعل الدلالي indicative sentences وهي الجمل التي يتم البحث فيها في مجال المنطق فحسب«.(18) ولهذا، فأن هذا الشكل من الجمل، هو مجرد سلسلة من الافتراضات propositions اما ان تكون صادقة او كاذبة. وبالتالي، فهي جمل تبقى محددة بالواقعة المشار اليها fact-stating، فتبقى محصورة ضمن نظام البرهان القائم على مجموعة من المبادئ والمعايير المنطقية العامة او الكلية. فإذا كانت الجمل الأخلاقية المعيارية منغلقة على كينونتها المنطقية /الإدراكية والوصفية المتعالية، فهل هناك ثمة امل للتقريب بين النزعات الوصفية والطبيعية والادراكية والتحليلية للعبارات الأخلاقية، وتوجهات النظريات الانفعالية والدافعية التي تؤكد على الملفوظ او القول الأخلاقي لدى المتكلم في سياقه الثقافي – والسوسيو-لساني.؟
ان المشكلة الأساسية والمعقدة، التي طالما سعينا الى توضيحها وبيانها، تكمن في ان معظم فلسفات التحليل المنطقي والوضعي للأحكام الأخلاقية عامة وللكلمات الأخلاقية خاصة، لم تأخذ بعين الاعتبار وجود ما يعرف بـ "معنى الاقوال او الكلام الأخلاقي" meaning of ethical utterances. هذا القول سوف لا تخضع كلماته للتحليل المعياري والمنطقي، ذلك لان كلماته نفسها ستتحول بذاتها الى " كلمات قيمة Value words". وبالطبع، هي كلمات لا يمكن تحليلها بحسب الأبستمولوجيا الوضعية العامة؛ ومنطق العلاقات الافتراضي، بل ان مفهوم "كلمات القيمة" سوف يحرر تقويم الاحكام الأخلاقية من سلطة النزعة الطبيعية أو ما يعرف بـ "المغالطة الطبيعية" the naturalistic fallacy. بمعنى آخر، اننا سوف نتجاوز مفهوم النزعة الأخلاقية الطبيعية Ethical Naturalism وننتقل الى مفهوم الكلام الأخلاقي moral utterances الذي يعتبر امتداد خطابي وبلاغي لمفهوم آخر هو الكلام غير الادراكي noncognitive utterances. وهذا يعني انه لم يعد من الضروري ان يجري تقويم الاحكام الأخلاقية حسب مبادئ المعنى الوصفي descriptive meaning او ما يعرف بالنزعة الوصفية الضيقة.
فلسفة التقييم الأخلاقي بين التحليلية والمعنى الانفعالي
وبالعودة الى قراءات وتحليلات الدكتور عطية، لقضايا التقييم الأخلاقي في الفلسفة التحليلية عند الدكتور زكي نجيب محمود. نلاحظ كيف انه سعى فيها الى إعادة فتح ملف فلسفة القيم في فكر الراحل محمود، سواء كان ذلك في مصنفه (الجبر الذاتي) او في فلسفة التحليل الوضعي عامة. وقد انهمك د. عطية في إعادة التفكير بالعلاقة الملتبسة بين كل من: فلسفة التحليل المنطقي والتحليل الأخلاقي لمعنى تقويم الاخلاق وإعادة مساءلة احكامها.
من هنا، فأن مناقشة إشكالية فلسفة الاخلاق وتشكيل الاحكام الأخلاقية والبحث في ماهية تقويمها عند الراحل زكي نجيب، يمكن له ان يمثل، بطريقة ما او بأخرى، "الأساس الأخلاقي" لفهم وتأويل مشروع د. احمد عبد الحليم عطية. ذلك، لان د. عطية وضع الحجر الأساس لاهم نظريات الفلسفة الأخلاقية، في الخطاب الفلسفي خاصة؛ وفي مشروعه الأخلاقي عامة. أضف الى ان تحليلاته وقراءاته لفلسفة المفكر الراحل زكي نجيب محمود، سوف تشكل المقدمة الأولية لفهم تطور مشروع عطية الأخلاقي، لا سيما في مرحلة الاخلاق العدمية النيتشوية / وما بعد الحداثة، وهذه المرحلة تمثل المرحلة المتأخرة لمشروع عطية الأخلاقي. ومن اجل التمهيد للانتقال الى عتبات هذه المرحلة، لابد من استكمال مناقشة وتحليل نظريات الاخلاق عند د. عطية، وبشكل خاص في مناقشته مشروع الاخلاق الوضعية عند الراحل زكي نجيب محمود.
في معرض تحليله لاهم أفكار الراحل زكي نجيب محمود، اتضحت عند د. عطية النزعة "النقدية المقارنة" الرامية الى ارجاع الأفكار الأخلاقية عند زكي نجيب محمود لأصولها الفلسفية والنظرية سواء كان ذلك على مستوى مؤثرات الفلسفة الألمانية المتمثل بالحضور الكانتي؛ او في الفلسفة الامريكية المتمثل بحضور نظريات الواقعية الأخلاقية والبرجماتية...الخ.
في الواقع، ان تحليل د. عطية لجينالوجيا مرتكزات الفلسفة الأخلاقية عند الراحل زكي نجيب محمود، لم ينحصر في فلسفة محمود فحسب، بل امتد لعقد مجموعة من "المقاربات التحليلية والنقدية" لفلسفة الاخلاق في الخطاب الفلسفي العربي الراهن. خاصة إذا علمنا، ان مشكلة هذا الخطاب تكمن في التذبذب الدائم في الجمع بين النظريات والمناهج والمقاربات الفلسفية الغربية. ولهذا، سعى د. عطية الى توضيح إشكالية تكوين الاحكام الأخلاقية؛ وإنتاج الفعل الأخلاقي في الفلسفة الوضعية، التي ظلت تتراوح بين مملكة الحتمية الطبيعية في العالم الخارجي؛ ومملكة عالم الانسان العقلاني، او بمعنى فلسفي ادق، تكوين الفعل الانجازي قصديا وداخليا intentionally doing acts. أي ان الفعل هنا، لا يغادر مملكة العقل المتعالي، وهذا ما أشار اليه د. عطية تحديداً: «إننا نؤكد هنا على كانطية زكى نجيب، ليس فقط من ناحية نقده لهيوم ، بل ايضا من خلال تبنيه لمفهوم الارادة واتخاذه من الارادة العاقلة، أو الذات العاقلة معيارا خلقيا يقول: " إن المعيار الخلقي الذى أخذ به واعتبره صادقا هو الآتي ، إن الذات الحقة هي التي يمكن أن توصف حقا بأنه ذات عاقلة ، وأنها ذلك العالم الذى نشغله في أعمق لحظات حياتنا حكمة وروية وبصيرة . وهذا المفهوم يتكرر لديه ويزداد وضوحا ويكاد يقترب من قول كانط خاصة في قوله بالذات الترنسندنتالية التي تتشابه وقول زكى نجيب "بالذات المثالية".
ويرى أنه على الرغم من تعدد الأنظمة المختلفة للحياة فإن هناك نظاما مثاليا يمكن أن يتحقق عن طريق الذات المثالية (وهى الذات العاقلة)، فالأخلاق تعنى السلوك تحت سيطرة العقل، والفاعل بهذا السلوك يحقق ذاته الحق. وليس معنى ذلك أن كل فعل أرادي لابد أن يكون فعلا أخلاقيا، لأن الفعل الإرادي ليس إلا تحققا لذات الفاعل فحسب، وكلما سار المرء في أفعاله وفقا للعقل سما من الناحية الأخلاقية».(18)
هذا يعني، ان الفعل الأخلاقي هنا، لم يتحرر بعد من سيطرة النزعة الوصفية المتعالية. وبالتالي، فأن هذا الفعل يبقى يتحرك في ظل "حتمية طبيعية"، طالما بقي مشروطا ومنضبطاً وفق مجموعة من القواعد والقوانين والمبادئ السابقة على كينونته في العالم. ولذلك، فأن "اخلاقيات الجبر الذاتي" عند زكي نجيب محمود، لم تتحول ابدا الى عالم الخطاب Discourse وعالم ممارسات الأخلاق اليومية ordinary moral practices. وهذا يعود في احد اهم أسبابه الى ان فلسفة الاخلاق عند زكي نجيب محمود خاصة وعند الاكاديميين والمختصين عامة، لم تنتقل بعد من منطق الحقيقة Logic of truth الى منطق الاتجاهات والمواقف Logic of attitudes.
واللافت، ان فلسفة الاخلاق عند محمود، وعلى الرغم من إقرارها بأهمية نظريات الدوافع والاهواء الانفعالات في الاخلاق، الا اننا نلاحظ ان العلاقة بين المعنى والدوافع او الاهواء والتعبير او المتكلم في المواقف والسياق، ظلت تعمل بالمنطق المعياري والأبستمولوجيا الوضعية والنزعة الوصفية التي جئنا على ذكرها سابقا. والسؤال الذي نود طرحه هنا، هل تم التمييز حقا بين النظرية الدافعية والنظرية الداخلية والقصدية في فلسفة الاخلاق عند محمود ؟ وهل تم التعامل مع نظريات الاهواء والدوافع بطريقة تعيد الاعتبار الى المتكلم من جانب، والتعبير عن المعنى واستعمالات اللغة في السياق الأخلاقي من جانب آخر؟
لكن على ما يبدو، ان محمود، لم يعترف بأهمية نظريات الانفعالات والدوافع في تشكيل/ وتقويم الاحكام الأخلاقية. وما يؤكد على صحة كلامنا، انه ظل متوقفاً عند المرحلة الوضعية المبكرة لفيلسوف اللغة فتجنشتين . في حين ان فتجنشتين قطع مع مؤلفاته الأولى المتمثلة في الرسالة المنطقية والتراكتاتوس الوضعية، لينتقل بنا من المعنى الوضعي positive meaning الى المعنى الانفعالي Emotive Meaning في كتابه أبحاث فلسفية الذي طالما جرى السكوت عنه في ادبيات الراحل محمود الفلسفية والوضعية والاستطيقية؟ ولهذا، نرى كيف، ان محمود ظل يتعامل مع النزعة الذاتية نفسها بوصفها نظرية في الانفعال والاهواء الامر الذي أدى الى تضخم النزعة "الذاتوية المركزية"، فهو: «من البداية يرفض وجهه النظر الموضوعية في القيم التي تعترف لها بوجود مستقل عن الانسان ويدافع عن وجهة النظر الأخرى التي تجعل قيمة الشيء مجرد شعور ذاتي عند الانسان نحو الشيء وليست هي بكائنة فيه. ويعطي لنا مثالا على ذلك بان الجمال في وصفي الوردة بانها جميلة هو شيء اضيف لها من عندي وصف لشعوري ازاءها لا وصف لها هي وهو موقف اقرب الي سانتايانا في كتابه" الاحساس بالجمال" وبيري في "النظرية العامة للقيمة" يستنتج منه زكي نجيب محمود علي عكس صاحبا الواقعية النقدية والواقعية الجديدة من ان العبارة التي تحتوي علي قيمة جمال وهي عبارة تتحدث عما ليس بحس انها عبارة ميتافيزيقية.
ويتابع زكي نجيب فتجنشتين في موقفه هذا فهو يرفض موضوعية القيم ويتبني وجهة النظر الأخرى التي تسري في معظم مذاهب الفلاسفة المعاصرين وتشير كلماته الي هذا الموقف الذي يعود الي صاحب الرسالة الفلسفية المنطقية ولا قناعنا بان القيم جزء من ذاتنا وان العالم الخارج عنا لا خير فيه ولا جمال انما هو عالم من اشياء: ينقلنا زكي نجيب من الميتافيزيقا الي العلم عن طريق اللغة موجها مجهوده الي اثبات ان العبارة التي تتحدث عنها قيمة شيء ما هي عبارة فارغة من المعني. وللغة عنده كارناب وظيفتان هما: التعبير و التصوير أو عند ريتشارد الذي حدد اللغة بالاستعمال ، فهي إما تستعمل استعمالا علميا أو استعمالا انفعاليا حيث تجئ اللغة معبرة عن الحالة الوجدانية لقائلها. وعلي هذا الأساس يقسم مذاهب الأخلاق إلي قسمين : مذهب تصويرية وتعبيرية. يتبني الفريق الأول القول بأن القيمة موضوعية تدرك وتوصف بعبارة وصفية علمية، والفريق الآخر يري أن العبارة الأخلاقية جملة تعبيرية تعبر عما في نفس قائلها مما لا يمكن مواجهته فيه. فهي أشبه بالصراخ مثلا أو بقهقهة الضحك، وهو ينتمي كما يخبرنا إلى هذا الفريق الثاني. وهو يتبني تحليل ستفنسون Stevenson للاختلاف في الحكم الأخلاقي، الذي يكون علي أحد ضربين : إما اختلاف على وصف أمر وتفسيره وصفا وتفسيرا يراد بهما مطابقة الواقع الخارجي "اختلاف الرأي" ، وإما أن يكون اختلافا في الميول والأهواء ، وعندئذ لا يكون ثمة سبيل إلي الاتفاق ، إلا أن يكره أحد المختلفين علي قبول أمر لم يكن يرضاه، وليس الإكراه اتفاقا بالمعني الصحيح».(19)
ان النص أعلاه، يضعنا إزاء أكثر من إشكالية. تتعلق الأولى منها، بالنزعة الموضوعاتية objectivism وآثارها في نظريات القيم والأخلاق وتكوين الاحكام. وهذه الإشكالية هي ابستمولوجية في الأصل، ومتداخلة مع النظريات الطبيعية في العلوم والأخلاق والفلسفة. وتؤكد هذه النزعة على الدراسة العقلانية للمعنى ولعملية تبرير المسوغات او المطالبات الأخلاقية justification of moral claims. وعليه، فأن هذه النزعة غير معنية بأعاده اختبار أسس ومبادئ الاخلاق، لأنها تنظر اليها بوصفها مسلمات تؤسس عليها مجمل الحقائق والتصورات الإنسانية. وبالتالي فهي تختلف هنا عن الميتا-اخلاق Meta-ethics التي تعنى باختبار طبيعة المطالب الأخلاقية والحجج arguments القيّمية، ومن خلال هذا الاختبار سوف نتمكن من فهم وتأويل تقويم الاخلاق والمعنى حسب نظريات الدوافع والانفعالات، التي سوف يتغير معها، نظام تركيب الحجج وتكوين التقييم الأخلاقي.
اما الإشكالية الأخرى فتتعلق بحالة "الضبابية والغموض" الذي اعترى موقف زكي نجيب نظريات من تبني نظرية الدوافع والاهواء في الاخلاق. فقد كان يقف بالضد من طروحات "هيوم" التي تعد بمثابة المرجع الأساسي لهذه النظريات، وذلك من اجل ان يحافظ على حضور الكانتية في الجبر الذاتي من جهة؛ واللسانيات التحليلية وفلسفة اللغة من جهة أخرى. حيث تبقى الابعاد القبلية والمتعالية مسيطرة على عملية بناء الجملة، التي تبدأ وتنتهي دون الإشارة والاحالة الى وجود متكلم حقيقي يتفاعل وينفعل ويتأثر ويؤثر باللغة التي يستخدمها مع نفسه ومع الغير ومع خطابه الثقافي السائد.
من هنا، فأن مفهوم الاحكام الأخلاقية سوف يشكل "قطيعة ابستمولوجية" مع مجمل النظريات الوضعية والمعيارية التي شرحناها سابقا، فالأحكام الأخلاقية سوف تتأسس على خصائص غير طبيعية Non-natural qualities وعلاقات غير طبيعية Non-natural Relations. وبالتالي، فأن «الاحكام الأخلاقية سوف تكون مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمشاعر؛ الاتجاهات او المواقف والاندفاعات الشعورية.»(20) وهذا يعني، ان وظيفة الكلام الأخلاقي Ethical statements لا يمكن لها ان تعمل ضمن وقائع محددة. بمعنى آخر: «ان الكلام او النطق الأخلاقي moral utterances لا يمكن ان يستعمل لتحديد الوقائع او الحقائق المؤكدة، فقانونها الأساسي يتمثل في اللاادراكية noncognitive . وهي غالبا ما تكون تعبيرا عن المشاعر؛ والاتجاهات او المواقف، والاندفاعات الشعورية ولها تأثير على الأفعال والاتجاهات الخ.»(21)
وبالعودة الى إشكالية الثنائية بين نظرية المعنى الانفعالي؛ ونظرية ذاتية المعنى، التي لمسنا أصولها في فكر الراحل زكي نجيب محمود. فعلى ما يبدو، ان إعادة تأويل هذه الإشكالية تحديداً، هو الذي سوف يفك لنا شيفرات العلاقة بين سؤال الاخلاق، والاقناع الحجاجي/البلاغي في نظرية المعنى الانفعالي. وهنا، تظهر إشكالية الثنائية عند محمود، بوصفها اشبه" بالمثالية الذاتية" او "الذات – الموناد" الذي يظهر وكأنه منفصل تماما عن سياقات العالم وتحولاته السوسيو-اخلاقية والثقافية. وهذا يعني، ان هناك سيطرة للمعنى الحرفي/ الأرثوذكسي لمفهوم الانفعال؛ المشاعر؛ الاهواء، عند محمود وغيره من الفلاسفة والأكاديميين الذين جاء على ذكرهم د. عطية في مشروعه المتميز حول تاريخية الاخلاق في الخطاب الفلسفي العربي الراهن.
نحو مقاربات حِجَاجية في بلاغة الفعل الاخلاقي
على ما يبدو، ان سيطرة الطابع الحرفي لنظرية المعنى الانفعالي، يعود في احد اهم أسبابه الى سيادة وهيمنة نظريات المنطق العقلاني؛ والتحليلي، التي يؤسس لمفهوم الحقيقة الكلي والمطلق، سواء كان ذلك في اقسام الفلسفة ومناهجها؛ او في اقسام الدراسات الحجاجية وحقولها المعرفية المتعددة. اذن، نحن هنا بصدد اماطة اللثام عن الخوض في كل ما يتعلق بشؤون العوام. وسبيلنا الى ذلك لا يكون إلا في إعادة تأويل نظريات المعنى الانفعالي، لا سيما لتلك التي تجلت في ادبيات الراحل زكي نجيب محمود خاصة والخطاب الفلسفي عامة. وقد نوهنا الى ضرورة إزالة اللبس والخلط المعرفي والاصطلاحي والفلسفي، بين الاحكام الذاتية؛ والاحكام الانفعالية. وعلى ما يبدو ان الراحل محمود، لم يولِ الأهمية الكافية لتفعيل هذا التمييز، وقد يكون ذلك راجعا، الى سيادة خطاب الاعلاء من مفاهيم العقل والعقلانية والحط من كل ما هو انفعالي وشعوري سواء كان ذلك في فلسفة الاخلاق واللغة واللسانيات والبلاغة والحجاج. فأغلب المشتغلين في هذه الحقول والنظريات، سعى الى التعامل مع الجمل والكلمات، بوصفها كيانات طبيعية قائمة بذاتها، ومن ثمة، فهي منفصلة عن أيديولوجيا اتجاهات ومواقف المتكلم/والسامع/ والمتلقي. فحينما تساءل زكي نجيب محمود : «عما تدل عليه كلمة "خير" أو كلمة "جميل" أو غيرها من الكلمات الدالة على "قيم" حين ترد في عبارات الحديث بين متكلم وآخر؟ إنها كما يخبرنا تدل على حالة نفسية عند المتكلم نفسه، إنها تدل على أن للمتكلم إنفعالاً بالحب أو الكراهية نحو شيء بعينه، إذا نظر الرائي إلى شيء فقال عنه "هذا خير" أو "هذا جميل" كان بقوله هذا مشيرا إلي حالته الداخلية إزاء هذا الشيء، دون أن يدل علي شيء خارج نفسه. إن المتكلم هنا يعبر عن ذات نفسه أو قل إنه "ينفعل" إنفعالا معينا، ويضع انفعاله هذا في كلمة يقولها مثل كلمة «خير" أو كلمة "جميل" وبالطبع لا سبيل إلي مناقشة المنفعل في انفعاله إن عبارات القيم لا تصف شيئا ولا تقرر شيئا إنما هي تعبر عن انفعال المتكلم».(22)
في الواقع، ان النص أعلاه، لا يتكلم عن الاحكام الأخلاقية بوصفها تمثلات ذاتية، بقدر ما يصف ويحلل تحولات الجمل والكلمات من المركزية المعيارية والعقلانية المحكمة؛ الى المعنى الانفعالي Emotive meaning الذي نوجزه بالنقاط التالية:
- الاستعمال الانفعالي للكلمات هو امر ابسط بكثير من الاستعمال الرمزي. انه يعني استعمال الكلمات لغرض التعبير او لأثارة المشاعر والاتجاهات او الميول.
- ربما تشير الجملة، في جزء منها، الى التعبير عن شعور يحس به المتكلم. ومن المؤكد، انه يمكن استعمال الجملة، الى حد ما، لتثير نوعاً من الانفعال عند المتكلم.
- لقد وضع في الاعتبار أيضا، ان تكون المصطلحات الأخلاقية مثيرة لشعور معين عند المتلقي، أي، لتحفزه نحو فعل ما.
- نحن ننظر الى مصطلحات الاخلاق بوصفها تعبيرات ومؤثرات للمشاعر.
- المعنى الانفعالي للكلمة هو ميل او اتجاه او نزعة تتضمنه كل كلمة، وقد ظهر ذلك المعنى خلال تاريخ استعمال الكلمات، ليفضي الى انتاج استجابات مؤثرة عند الناس. انه اشبه بهالة مباشرة من المشاعر التي تحوم حول الكلمة، حسب ستيفنسون.
- المعنى الانفعالي لعلامة sign معينة هو استجابة انفعالية للعلامة تنتجها العلامة نفسها بانتظام عند أي مستمع سوي متآلف مع استعمالها.»(23)
مما سبق، يتضح لنا، ان "الخطاب الأخلاقي" قد شهد سلسلة من الانعراجات بدء من الانعراج الفلسفي واللغوي الى جانب البلاغي والحجاجي، الذي سوف يشكل "المنطق البديل" لإعادة "تأويل تاريخية عمليات تشكيل الاحكام الأخلاقية". من هنا، جاء اشارتنا الى مفهوم "المعنى الانفعالي"، فمن خلاله يمكننا ان نفهم بنية التوجهات والمواقف والخطابات التي تمثل بمجملها أنظمة أخلاقية وعلامات سيمائية، يمكنها ان تقودنا الى البؤر الأيديولوجية التي يتكون فيها الفعل الأخلاقي/البلاغي. وهنا لابد من الإشارة، الى ضرورة قراءة وإعادة تأويل مفهوم Act (عمليات انجاز الفعل او أدائه؛ او شيء ما حصل او انجز من قبل) من حيث علاقته بالنظام الأخلاقي من جهة؛ وبالنظام الابستمولوجي الطبيعي/ والمعياري، الذي يؤسس للوجود الأخلاقي الصادق دائما، من جهة اخرى.
وبطبيعة الحال، ان تفكيك مفهوم الفاعلية/ الإنجاز/ الأداء Act يمثل المدخل الأساسي لفهم "جينالوجيا ذاكرة الحدث الأخلاقي" الذي، يختلف عن مفهوم " الواقعة الأخلاقية". فالأخير يمثل " نزعة طبيعية في الاخلاق moral naturalism او نزعة طبيعية ميتافيزيقية metaphysical Naturalism. في حين ان الأول يمثل مقدمة أولية عن الاخلاق العدمية المعادل لماهو غير ادراكي/وضعي Nihilistic ethics= Non-cognitivism التي لا نستعمل فيها "كلمات معيارية" تحيلنا بالضرورة الى وقائع معياريةNormative Facts . ومن هنا، فأن عملية انجاز/ وأداء الفعل في ظل سيطرة النزعة الطبيعية، سوف تجعل من الفعل الاخلاقي "مجرد نسخ ماضوي تقليدي لميثولوجيا الخصائص الطبيعية الصادقة. بمعنى آخر، أن «الأفعال هي صادقة أخلاقيا إذا وفقط، او عندما فقط، تملك هذه الأفعال خاصية طبيعية يقينية.»(24)
هذا يحيل بالضرورة الى إشكالية الفعل/ وتجسيد الفعل من خلال الإنجاز او الاداء الذي يبقى فعلاً محددا ومسبقا وثابتا ضمن مجموعة من الأسس والاطر النظرية والقواعد المعيارية السابقة على وجود المتكلم والجمهور والخطاب. بمعنى آخر، «عندما نتكلم عن انجاز وأداء الفعل performance an action إنما يكون بالمعنى التوتولوجي، منذ ان اصبح مفهوم ان يكون مؤدياً لفعل معين to perform يعني ان تنجزه بطرق مؤكدة فحسب».(25) في هذه الحالة، فأن مفهوم الفعل/ الإنجاز/ الأداء، أصبح محددا بشرط توفر الحقيقة الطبيعية، «منذ ان أصبحت الخصائص الطبيعية نفسها هي التي تجعل الأفعال صادقة او صحيحة.... هذه الخصائص هي طبيعية فقط بالنسبة لما قد حدث سابقا بشكل مناسب وملائم being right».(26)
ان عملية إعادة فهم العلاقة، بين كل من: الفعل الأخلاقي؛ والفعل الكلامي؛ تمثل في واقع الامر، عملية إعادة تقييم لطبيعة الكلام من حيث صلته بالفعل؛ وإنتاج الفعل، بعدما يكون قد تجاوز العناصر والخصائص الطبيعة/المعيارية. ومن ثمة، يصبح: «الكلام يمثل احد عناصر السلوك الإنساني، ومرتبط بالعمليات الأدائية performances بطريقة مختلفة عن تلك التي يرتبط فيها الفعل برد الفعل. بطريقة او بأخرى، ان الكلام بوصفه عنصرا للفعل بمقدوره ان يكون خارج الفعل نفسه. بإمكانه ان يكون فقط وسادة ومرآة للفعل... لقد ميزنا الفعل الأخلاقي عن فهم المؤدي او المنجز (agent) لفعل معين في موقف معين، وكذلك عن طبيعة ذلك المؤدي او المنجز للفعل، والتي تعد اصل كل من فهمه وسلوكه على حد سواء.»(27)
هكذا، يتوسط الفعل الأخلاقي بين قوة الكلام/ كلام القوة؛ وسلطة الافراد والجماعات التي تدير هذا الفعل، من خلال أيديولوجيا المنطق وسلطته المعيارية. وعليه، فأن العملية توتولوجية تتنقل من التراتبية المنطقية logical hierarchies الى الاخلاق التراتبية moral hierarchies وهكذا دواليك. من هنا، جاء تركيزنا على معالجة إشكالية السلوك الكلامي، بوصفه يمثل جسد الخطاب الأخلاقي واشكاله البلاغية والاستعارية، والنظام الزمني لتاريخية الفعل في الوجود والعالم.
الفعل الأخلاقي: بين الوظيفة الدلالية والمقصد البلاغي
أن عملية البحث في وظيفة الكلام داخل الفعل الأخلاقي / وتكوين الاحكام الأخلاقية، إنما تعني دراسة ابعاد اللغة المتمثلة في البعد الدلالي semantic والمقصد البلاغي rhetorical purpose. فالأول «بوصفه يمثل وظيفة اظهار الكلام وعرضه فحسب، لا يأتِ بجديد لموقف المؤدي للفعل، كما تفعل ذلك الخيارات العملية. انه يكتفي ببيان ما هو موجود فقط. في حين ان الوظيفة البلاغية للكلام تأتي بشيء جديد للعالم. فهي تنتج، في المقام الأول، قناعة او موقفاً عند جانب من المتحاورين interlocutors الذين يدركون ويقيّمون ما يوجد في العالم، أولئك الذين من اجلهم يقع عرض الكلمات والاشياء والمواقف. الوظيفة البلاغية للكلام تجعل من العالم ووقائعه ايضا يبدوان مختلفان لأولئك الذين يسمعون الكلام. رغم ان التأثير البلاغي لا يعبر عن واقعة جديدة ينبغي ان ينظر اليها المتحاورون بعين الاعتبار، مثلما يكون عليه الحال مع ما ينبغي عليه ان تكون نتائج الاختيار العملي.»(28)
ما نريد ان نخلص اليه، هو ان عمل الوظيفة البلاغية والسيمانطيقية للكلام، يمكن ان تماثل البنية الفوقية والتحتية للمخاطبين ولصيرورة حركة الخطاب. باعتبار ان التأثير البلاغي يقع في مركز الخطاب. وبالتالي، فأن فعل الكلام، لا ينحصر تأثيره على الجانب الذاتي/ الشخصي فحسب، ذلك لان: «الصور البلاغية في المجاز والاستعارة تعمل من داخل منظومة الكل التركيبي للكلام جميعاً، وليس على مجرد تشكيل العلاقات الإنسانية فقط. حتى لو كان الكلام مبتكراً لغرض تقديم شخصية المتكلم بوصفها جديرة بالثقة ومنشغلة برفاهية جمهورهم من المستمعين، فأن الهدف من مثل هذا النوع من الاقناع، ليس في جعل الجمهور اكثر ثقة بالمتكلم في حياته الواقعية، وإنما في اقناعهم ضمن سياق خطابه الحالي».(29)
من خلال النص أعلاه، يتبين لنا كيف ان واقع الفعل الكلامي والمؤثرات البلاغية، باتت لا تعبر عن مجموعة من القواعد Rules والاطر المعيارية الثابتة؛ والتي بمقتضاها يتكون المعنى في فلسفة اللغة واللسانيات؛ وطالما تجاوزت على مفهوم "المعنى الانفعالي" بحجة انه لا يخضع للضبط التقني والمنطقي، ويفتقر الى (العقلنة الحجاجية). بأعتبار ان المعنى الانفعالي يعبر عن (بلاغة الاخلاق الحجاجية) الجديدة التي من خلالها تتشكل الاحكام الأخلاقية من جانب؛ ويجري تقويم/ وإعادة تقويم هذه الاحكام، بوصفها تشكل بنية ومشاعر وتوجهات المتكلمين والمتحاورين في العالم الذين اصبحوا يشكلون "المعنى الانفعالي" بوصفه ما يلي:
- هو "كلام تصريحي declarative statement "...الذي يصف موقف وسلوك وتوجه المتكلم
- انه ينتج توكيداً حول الحالة التي تكون عليها ذهنية المتكلم، ومثله مثل أي تصريح سيكولوجي، انه منفتح على التأكيد التجريبي او عدمه، سواء كان استبطاني او سلوكي.(30)
من هنا، فأن تشكيل الاحكام الأخلاقية/ والثقافة القيمية، سوف لا يعبر بالضرورة عن حالة او قضية State of mind العقل بقدر ما تمثل مسألة بلاغية mater of rhetoric. لهذا، وجب الإشارة الى ان عملية التقييم الأخلاقي هي في الأساس تمثل عمليات لمراجعة اللغة التقييمية evaluative language وعلاقتها مع انتاج المعنى الانفعالي. اذن، «الأهم جدا يبقى ، ان اللغة التقييمية سوف لن تكون ديناميكية ابدا، بأي شكل من الاشكال في علاقتها مع المتكلم؛ ان استعمال اللغة التقييمية هو مجرد نتيجة لاستجابة المواقف والانفعالات التي تحملها هذه اللغة مسبقا. وهكذا اللغة التقييمية، بحسب هذه النظرية، لا تكون ابدا توجها- ذاتيا؛ لتقول لشخص ما، ان ما ينبغي عليه ان ينجزه ought to act من أفعال بطرق مؤكدة سيكون نتيجة لحصوله- أي الفعل- مسبقا على مواقف جيدة او ملائمة نحو الفعل/ الإنجاز، وليس لإعطاء شخصا ما أساسا للفعل. وهكذا افضى تعريف ستيفنسون- احد اهم فلاسفة المعنى الانفعالي في الاخلاق- لمفهوم المعنى الانفعالي الى ان يمنح قيمة كبيرة لدور اللغة التقويمية في تغيير اتجاهات ومواقف المستمعين».(31)
اصبح من الواضح اذن ، ان طبيعة العلاقة الإشكالية بين كل من: لغة التقويم؛ وبنية الاتجاهات والمواقف؛ وبنية الأفعال والكلمات، هي طبيعة منطقية. وهذا بطبيعة الحال يعود الى ان «مفهوم التفكير الانفعالي، الكلمة والفعل ، جميعها منطقية متصلة بحتمية الموقف والسلوك للشخص...وينبغي التمييز في ذلك بين: حتمية السلوك او الاتجاه باعتباره مطلب انفعالي مناسب وملائم؛ والانفعالات المؤكدة التي تذهب بشكل طبيعي مع بعض السلوكيات والاتجاهات...وعندما نريد تحديد طبيعة السلوك الثابت /المؤكد/ الحتمي لشخص معين، فهو امر متداخل ومتشابك مع نماذج ذهنية مؤكدة؛ اعتقادات؛ مشاعر؛ انفعالات، وكلمات وافعال.»(32)
بمعنى آخر، ان مفهوم التقييم هنا، يختلف تماما عما كان عليه في الاتجاهات المنطقية والتحليلية والوضعية المعيارية، كما اسلفنا سابقا. وذلك، لان مفهوم "الاخلاق" انتقل الى حقل السوسيولوجيا، وعليه وجب ان يتحرر من كافة الاشكال الحتمية التي كانت تمأسس ماهية الفعل الأخلاقي في الحياة اليومية والعادية. وبالتالي، فأن الاشتغال على الفضاء الثقافي العام للخطاب الانفعالي، سوف يجعلنا نطرح هذا التساؤل: هل هناك إمكانية "لتفكيك اشكال الحتمية الموِّلدة والمتوِّلدة" داخل طبيعة الاتجاهات والمواقف في المعنى الانفعالي؟
من هنا، فأن مفهوم اللغة التقويمية، سوف يشكل بداية جديدة لولادة ابستمولوجية راديكالية/ بلاغية ، تعمل على إعادة مساءلة صلاحية الحجج الأخلاقية وتفكيك جينالوجيا القمع الكامن في اشكالها النظرية والعملية ، التي تحولت الى "معايير طبيعية" دائمة الصلاحية والمصداقية. وهكذا، فأن مجرد : «استعمال اللغة التقويمية يعني استحضار الوسائل الفعالة لتغيير السلوكيات والانفعالات التي سوف لا يمكن ان يكون فيها مكان لتمييز صلاحية وعدم صلاحية الحجة في التقويم؛ ولا يمكن ان يكون هناك ثمة تمييز بين اعتبار ذا صلة او ليس له صلة منطقية بالموضوع عند اجراء تقويم معين. سيكون هناك فقط ذلك النزوع الذي يحملنا على التأثير الاقناعي او الذي لا يفضي الى ذلك؛ وذلك منذ ان تم النظر الى اللغة التقويمية بوصفها لغة تفضي الى تغيير في الاتجاهات وربما لتعزيزها».(33)
من هنا، فأن إشكالية المعنى الانفعالي؛ واللغة التقويمية؛ وبلاغة الفعل الأخلاقي، سوف تجعلنا نعيد النظر بمفاهيم المشاعر والانفعالات والاهواء، فهذه المفاهيم طالما تعرضت الى التشويه الذي لحق بها جراء سيطرة الفلسفات العقلانية والتحليلية المنطقية والاكسيوماتية الرياضية الخ... مما أدى الى عزل هذه المفاهيم تماما عن فلسفات الاكسيولوجيا والأخلاق، على الرغم من ان هذه المفاهيم تحتل مكانة كبيرة في بنية الخطاب السوسيو- ثقافي والسوسيو- بلاغي، فنحن لايمكننا ان نتصور مجتمعات انفصل فيها "الفعل الأخلاقي" عن مظاهر الخوف والهلع والقلق والرعب وحالات الانفعال المفاجئ التي تحدث نتيجة لحصول بعض التحولات السياسية والجيوسياسية.
وعليه، لم يعد في الإمكان الحط من قيمة كل ما هو انفعالي، وذلك لان مجموع هذه الانفعالات اصبحت تمثل ما يعرف سياقا طبيعيا natural context لتشكيل الاحكام الأخلاقية التي تحولت بفضل صلاحيتها المنطقية الى دوغمائية اجتماعية social dogmatism تعمل بمنطق قوة المعيار normative force. ولقد تحول هذا المنطق الى مجموعة من القضايا الواقعية والطبيعية التي يمكن التعبير عنها بمصطلح السياقية contextuality التي تمأسس قيمنا وافعالنا وكلماتنا واحكامنا. وعليه يمكننا القول، ان المعنى الانفعالي هو معنى سياقي، وبالتالي هو فعل أخلاقي، يتكون من مجموعة من اشكال الخطاب والمبادئ السياقية المطلقة. بمعنى آخر، اننا نسعى الى إعادة اكتشاف هذا الفعل قبل مأسسة السياق pre-established context. وبطبيعة الحال، اننا نحتاج هنا الى إعادة تفعيل البلاغة والحجاج الاقناعي في فلسفة الاخلاق والقيم، وذلك بهدف كسر هيمنة السياق وتفكيك الاشكال الطبيعية للعقلنة natural forms of reason، وبالتالي، إعادة اكتشاف الفعل/الإنجاز act باعتبار انه سوف يغير السياق والاتجاهات السائدة.
العدمية الابستمولوجية القيمية ونهاية الاخلاق التقليدية
ذكرنا سابقا، في بداية مقدمة الدراسة، ان الباحث في مصنفات د. احمد عبد الحليم عطية الأخلاقية، سيجد كيف ان طبيعة البحث والتحري inquiry في فلسفة الاخلاق ونظام اشتغال مفاهيمها في العالم، تقسم الى مرحلتين: المرحلة المبكرة؛ حيث كان البحث فيها منصبا على تصنيف الاخلاق بحسب المناهج والمقاربات والاتجاهات الفلسفية، كما هو الحال عليه، في الاتجاهات الوضعية والتحليلية والواقعية والجديدة... الخ. والمرحلة المتأخرة، حيث نلاحظ فيها حصول ثمة تحولات انعراجات في مسارات منطق البحث والتحري في الإشكالية الأخلاقية، خاصة فيما يتعلق بالمرحلة النتشوية الأخلاقية/ العدمية. إذ نلحظ، كيف ان تقنيات الكتابة الفلسفية عند نيتشه، أصبحت مختلفة تماما عما سبقها من كتابات فلسفية تقليدية حول الاخلاق كما كان الحال عليه في مرحلة "سيطرة الفلسفة النقدية الكانتية" والفلسفات المعيارية و ما شابه.
من هنا، يتضح كيف ان قصة الانقلاب الاسلوبي في فلسفة نتشه، لا يمكن له ان ينفصل عن قصة انقلاب القيم وتحولات الاخلاق والانعراج في العلاقة بين الفلسفة والدلالة والبلاغة واسلوبيات الكتابة الفلسفية. بمعنى آخر، ان النظام الاسلوبي الجديد في الكتابة النتشوية مثل قطيعة ابستمولوجية مع مختلف أساليب الكتابة في تاريخ الفلسفة الغربية، هذه الأساليب التي طالما اتصفت فيها الجمل والعبارات، "بالنسقية الواحدية" و"الاحادية الميتافيزيقية" التي تؤسس دائما لكل ما هو مطلق وحقيقي وكلي . لذلك، فأن العبارة النيتشوية هي في الأصل ما بعد الخير والشر الفلسفي المجرد/ والوضعي. وهو ما شكل بيانا جديدا في "فلسفة الاخلاق" التي شهدت جملة من التحولات التاريخية والثقافية والقيمية، خاصة بعدما شخص نتشه لجينالوجيا العلاقة الإشكالية بين التراتبية المنطقية والتراتبية الأخلاقية. فقد ميز: «نيتشه في كتابه "ماو راء الخير والشر" بين ثلاث مراحل في تطور الاخلاق. الاولى، وهي الفترة الأطول في التاريخ البشري، والتي (استنبطت قيمة الفعل) من النتائج المترتبة عليه وليس من الفعل ذاته. ويسمي هذه المرحلة ما قبل الاخلاق، في المرحلة الثانية. تم تحول إضفاء الخير؛ لا على نتائج الفعل بل على نسبه، نتيجة سيادة القيم الارستقراطية والايمان "بالنسب"، الأصل، في المرحلة الثالثة التي يطلق عليها، المرحلة الأخلاقية نتيجة ادراك "الأنا" ،"الذات" ومن هنا علينا إعادة تأكيد الذات، فهي المنوطة بعملية قلب القيم، وتحويل أساسها وذلك ما يطلق عليه نيتشه ؛ خارج ، او ما وراء الاخلاق.»(34)
من خلال النص أعلاه، نجد كيف ان نتشه نجح في طرح اهم إشكالية في تاريخ الفكر الأخلاقي، واعني بها هنا، الصراع بين الفعل/ الإنجاز act ووقوعه تحت سلطة وهيمنة القوة التي تنتجه وتعيد انتاجه agent. يأخذ هذا الصراع اشكال عدة، فتارة صراع السادة والعبيد؛ وتارة أخرى، صراع القيم الارستقراطية والعامة، وهنا، فأن استعمال نتشه لمفهوم ( اللاأخلاقي) هو استعمال ميتافوري ، لا يتوقف عند المعاني الحرفية فحسب، بل انه يعبر عن الوجه الآخر لبلاغة أخلاقية جديدة، تعيد مساءلة جينالوجيا الاحكام القيمية وتاريخ الممارسات الأخلاقية الأرثوذكسي، المتصف "بالصلاحية الميتافيزيقيا المطلقة". وعليه، فأن مفهوم "اللاأخلاقي" هو بمثابة ابستمولوجيا عدمية/ أخلاقية تقف بمعزل عن الوقائع الطبيعية واللغة المنطقية الشكلية. لهذا، يكون معنى: «اللاأخلاقية ليس ضد الاخلاق (السائدة) التي يمكن ان نصف من يتبعها بالأخلاقي، ومن لا يتبعها- وان كان يؤمن بها ويخضع لها- باللاأخلاقي بل ان المقصود باللاأخلاقي هنا هومن يقف خارج هذه الاخلاق السائدة ، اخلاق السادة والعبيد، بمعزل عن الخير والشر المتعارف عليه.
ان ما يرفضه نتشه في اخلاق عصره والتي ترجع الى الافلاطونية والى سقراط، والتي دعمتها المسيحية اخلاق العبيد والقطيع، انها نمط واحد من الاخلاق الإنسانية من الممكن ان يوجد معها والى جوارها وخلفها اشكال أخلاقية عديدة، لقد كان يؤكد على انه لا توجد اخلاق مطلقة، وان الحكم الأخلاقي يعتبر وهم وانه لا توجد حقائق أخلاقية ثابته. والقضية الرئيسية بالنسبة له عدم وجود ظواهر او قائع أخلاقية ولكن يوجد فقط تفسير اخلاقي لتلك الظواهر».(35)
الخاتمة
أولا: ان مشروع إعادة نقد العقل الأخلاقي في تاريخ الفلسفة العربية، لدى أ. د. احمد عبد الحليم عطية، لا يقتصر دوره على مرحلة معينة من مراحل تطور الفكر الفلسفي العربي، بل انه تتعاصر فيه الحقب والازمنة لتيارات ومناهج ومدارس الفلسفات العربية والغربية.
ثانيا: ان إشكالية العقل الأخلاقي في مشروع د. عطية، لا يمكن لها ان تنفصل عن إشكالية سؤال الفلسفة/ وفلسفة السؤال في الحياة الاكاديمية والحياة العامة واليومية.
ثالثا: شكلت فلسفة الاخلاق واشكالات القيّم في مشروع د. عطية، البداية الحقيقية لإعادة قراءة ومساءلة وتحليل بنية المشاريع الفلسفية العربية، كالبرجماتية؛ والوضعية؛ والوجودية، والماركسية؛ والواقعية/ وما بعدها.
رابعا: ان العلاقة بين فلسفة الاخلاق والابستمولوجيا وفلسفة اللغة، تعد واحدة من اهم انجازات مشروع د. عطية في العقل الأخلاقي الفلسفي.
خامسا: ان استذكار رواد الخطاب الفلسفي العربي، يشكل ممارسة أخلاقية وفلسفية في حد ذاته، سعى مشروع العقل الأخلاقي الفلسفي الى أحيائها وتأصيلها في سياق خطابنا الثقافي والأكاديمي.
سادسا: من اجل فهم طبيعة مشروع "نقد العقل الأخلاقي" في الخطاب الفلسفي العربي لدى أ. د. احمد عبد الحليم عطية، اقتضى التنويه الى وجود مرحلتين في هذا المشروع: الأولى، المبكرة: حيث سيادة القراءات الوضعية والتحليلية والواقعية وما بعدها؛ الثانية، المتأخرة، حيث برزت القراءات والتأويلات "للحدث الأخلاقي" بوصفه يمثل فعل بلاغي، متمفصل في نظريات المعنى الانفعالي وبلاغة الاهواء القيمية، التي تمثل جميعها مفهوم "السياقية" في الثقافة والوجود وسلوكيات الحياة اليومية.
سابعا: ان هدف الكتابة عن مشاريع الفكر الفلسفي عامة؛ والفكر الأخلاقي خاصة، يمثل محاولة منا سعينا فيها ، الى تأسيس ما يعرف (بعلم المقاربات التطبيقية في الفلسفة واللغة والبلاغة) التي نتمكن من خلالها من إعادة تفكيك بنية الفكر النظري/ والمعياري التقليدي، المسيطرة على مفاصل الكتابة الفلسفية الفردية و الفلسفية الجماعية، التي اهم ما يلاحظ عليهما، هو غياب التفاعل الثقافي والتاريخي بين المناهج الفلسفية والمقاربات اللغوية و الحجاجية والسوسيواخلاقية.
الهوامش:
*باحث من العراق – متخصص في فلسفة الدراسات الثقافية/ومابعدها
- د. احمد عبد الحليم عطية: الاخلاق الوضعية، ص 132.
- المصدر نفسه، ص133.
(3) Georg Henrik von wright, norm and action logical enquiry, international library of philosophy and scientific method, the humanities press,
(4) Ibid., p. 4.
(5) د. احمد عبد الحليم عطية: الاخلاق الوضعية، ص 132.
(6) المصدر نفسه، ص.ص 144-145.
(7) Jason Hannan, THE PLACE OF TRUTH IN MORAL Discourse, net., pp. 5-6
(8) Ibid., p. 6.
(9) R. M. HARE: MORAL THINKING, ITS LEVELS, METHOD AND POINT,
(10) Ibid., p. 67.
(11) Ibid., p. 67.
(12) Ibid., p. 69.
(13) Ibid., p. 70.
(14) JOCEELYNE COUTURE AND KAI NIELSEN, ON THE RELEVANCE OF METAETHICS, CANADIAN JOURNAL OF PHILOSOPY,1995,P. 82.
(15) Ibid., pp. 67-68.
(16) Ibid., p. 7.
(17) R. M. HARE: PRATICAL INFERENCES, MACMILLAN, 1971, p. 2.
(18) د. احمد عبد الحليم عطية: الاخلاق الوضعية، ص 142.
(19) المصدر نفسه، ص ص. 146-147.
(20) PAUL EDWARDS: THE ENCYCLOPEDEIA OF PHILOSOPHY, VOULME 3, MACMALLAN,
(21) Ibid., p. 107.
(22) د. احمد عبد الحليم عطية: الاخلاق الوضعية، ص 149.
(23) J.O. URMSON: THE EMOTIVE THEORY OF EHICS, HUTCHINSON,
(24) Derek Parfit: On What Matters, Vol. 2,
(25) Patrick Campbell: analyzing performance acritical reader,
(26) Derek Parfit, pp.298-299.
(27) Robert Sokolowski, moral action a phenomenological study ,
(30) J.O. URMSON, p. 49.
(31) Ibid., p. 39.
(32) Ibid., p. 43.
(33) Ibid., p. 48.
(34) د. احمد عبد الحليم عطية، اتيقا الحداثة: من الاخلاق النظرية الى الاخلاق التطبيقية، د.ت. ص. 59.
(35) المصدر نفسه، ص. 60.