شهدت ستينيات القرن الماضي سجالا متصلا حول الهوية الثقافية في السودان، لعبت فيه جماعة "الغابة والصحراء" دورا مرموقا في طرح مفهوم جديد يمزج الافريقانية بالعروبية، ومن أشهر "السجالات" المحاورة الشهيرة بين الشاعرين النور عثمان أبكر، و صلاح محمد إبراهيم، نقدمها هنا للمزيد من المعرفة، وبمناسبة الرحيل المبكر للشاعر الكبير.

جدل الغابة والصحراء في الثقافة السودانية

عصام أبوالقاسم

شهدت فترة الستينيات من القرن الماضي سجالا متصلا حول الهوية الثقافية في السودان، البعض أشار الي ان هذا السجال بدأ في الثلاثينات وهو بعد لم يُحسم. وقد رأي قسم من المبدعين والمثقفين ان الهوية الثقافية للسودانية عربية، فيما رأي القسم الآخر انها افريقية وثمة من رأي انها مزيج من الثقافتين الإفريقية والعربية ورابع قال بالسودانوية وهي جماع لثقافات متعددة وكفى، والشاعر الراحل النور عثمان أبكر (1938/ 2009) هو من صكّ المصطلح الشائع في الأوساط الثقافية السودانية "الغابة والصحراء" ومفهومه يمزج الافريقانية بالعروبية؛فالغابة تحيل إلي البيئة الإفريقية ومناخاتها الاستوائية أما الصحراء فهي تحيل الي الثقافة العربية.

ومن رموز هذا الاتجاه الشعري "الغابة والصحراء" محمد عبد الحي 1944/ 1989 ومحمد المكي إبراهيم ويوسف عيدابي، وقوبل هذا الاتجاه من البعض بالكثير من النقد، حال كل التيارات التي اختارت ان تقارب موضوعة الهوية في السودان، ومن أشهر "السجالات" المحاورة الشهيرة بين الشاعرين النور عثمان أبكر، وصلاح محمد إبراهيم، نقدمها هنا للمزيد من المعرفة، وبمناسبة الرحيل المبكر للشاعر النور عثمان أبكر.

*     *     * 

لست عربيا ولكن؟!

النور عثمان أبكر  


كل ما هو غيبي وعميق في السودان إنما هو عطاء الغاب.. تجريدية الفكر الإسلامي استحالت إلى ليونة المدينة البدائية تأخذ فكرتها من حاجتها المباشرة الخيط الأساس في وجودنا ليس هو الصوفية الشرقية، بل هو الحركة الرخيمة لرقصات الغاب، الطبل، البوق.. أرقب جوقة دراويش أو حلقة ذكر أو زار: النغمة والحركة نبضة طبل ورد فعل القدم والصدر واليدين والوسط والعنق.. الحالة، النوبة، الأخيرة للإنفعال والتقمّص ليست دينية بمفهوم إسلامي، بل بمفهوم بدائي، أفريقي!

الألوان الرئيسية في عمرنا هي الألوان الأولية بصراحتها، الشمس هي أيضاً إرث الغاب، إيقاع عمرنا سماحة وتبذيراً وخمراً واستهتاراً وحباً للهو والمرح. إيقاع بنبض عمرنا أفريقي، بدائي، أما الأمور التي تعد له فهي ما يحتاجه هذا الإيقاع ليعبر هوة الاتصال بينه وبين (جلابته).. التردد في المسائل الأفريقية العربية هو التردد حقيقة في انطلاق جرس هذا الإيقاع بعيداً عن جذوره ومصادر إلهامه الأصيلة. نزاع الغاب والصحراء في عمرنا هو لونية هذه السماحة في علاقتنا مع (اخواننا) العرب و(اخواننا). الزنج في بيت كل عائلة سودانية كبيرة في ام درمان او الداخلة او مدني، خالة، جدة، خال، جد يفرش أرضية سوداء وخشنة لقمح اللون وليونة الخدود وخيلاء الأنف، مستورة أو غبيئة أو مرجان أو بخيت أو خادم الله، ويطبع التستر في عائلات البلد، تبقى أو يبقى ذكراً منسياً.

في قاعة الجامعة العربية يلهج الابن بعروبته وفي كوناكري يصر على أفريقيته، مثلما لا يستطيع أن يؤدي فريضة الصلاة كاملة اللفظ والحركة.. هذه المستورة تخرج لدق الريحة وأغنيات السيرة والحنة (بالشَتَم) والغصن الأخضر، نخيلاً أو موزاً، لا يهم، الخضرة هي اللون المهم، والنبض، الإيقاع هو إيقاعها، إيقاع الرعب والفرح، إيقاع الرعب والمجهول اليومي والميتافيزيقي.

مستورة هي الرحم الذي صدرت عنه المشكلة التي تبقيها في أقصى الدار، مستورة زرعت غاباً في الصحراء.. مستورة عرشت كوخاً عوض الخمية، قد تكون هذه (المستورة) هي المجلوبة، الخروج من الغاب إلى الصحراء والوداع المحدد بها تم عن طريق الجلابة أو المارق الذي في بطن ذاكرته أفراح لم ينعم بها، عاد يسترق منها مقاطع يبيعها إن لم يحتفظ بها.. أبو لكيلك وأيامه مرقة من الغاب وعودة إلى الغاب.. الفور أيضاً.. السنغال والفلاتة الحمر. وقد تكون مستورة خاصة في الفترة الخصبة التي بنت ام درمان وعمّرت الجزيرة محاربة لصق زوجها.. هنا جدتي نورة وزوجها بخيت.. يتم التقاء ببخيت آخر ومرجانة، ويكون المارق (نوراً) كيف له إذن أن يدعي أنه عربي؟ باللسان؟ عربيته تطويع لاحتياجات إيقاع الرعب والفرح الوجودي الأولين في التعبير بعد أن فقدوا شكل كلمة القبيلة إذن مثل الجزائري الناطق بالفرنسية سيكون الصدور عن الغاب عن الأوراس عبر لفظة مكتسبة (الكاتب لا يضمر أي تلميح لاستعمار عربي لأرض الزنج).

الثقافة الوجودية الأعمق للمارق الجديد هي عطاء إيقاع الرعب والفرح الميتافيزيقيين لنبض الغاب فصلاً ونهراً.

ولكن كل وعاء يعدل شكل وكمية وبالتالي الكيفية الأخيرة لما يحتويه، ولكنه لا يغيِّر الطبع للمادة الأولى، ولا يلغي الأصالة الأولى وصيرورتها لأصالة جديدة أخيرة، طوعاً، أين بخيت ومرجانة لسان طيع للغة ساكنة النهاية في كلماتها، تطوع بدوره لغة متصرفة المقاطع الأخيرة لمقاطع نبضه.. لاحظ السكون والوقف ومخارج الحروف في (عربية السودان) هل صدق الخليل فرح إذن حين سمى دار عزة (جنة بلال) الإنسان الذي يسكن ويعمّر دار عزة هو إنسان دار عزة هو (سوداني).. دمغة السواد هذه هي جبلته طينته تاريخيته، مصيره، من هنا يبقى ممكناً تعديل دروب فعاليتها تعديل مناحي صيرورتها لا إلغاؤها، لأن إلغاءها صعب.

السودان هو قلب السودان: أم درمان والمدن الجديدة والأحياء الشعبية في كلّ المدن.. هنا تم عبر مستورة المجلوبة ومستورة الزاحفة ثورة عميقة ضد الاستبداد الخارجي.. هنا تم لقاح الصحراء والغاب الحميم.

شمال السودان ـ أرض النوبة ـ كان من قديم الأعصر لقاح الوادي، اجتماع المنبع بالمصب، الفن الفرعوني بمصر العليا هو استلهام لأعالي النيل على الدوام، هو فن احترق بالشمس المحراقة في قلب القارة حيث ينبع النيل فيحرق كبد الصحراء ويطعمه العافية الخضراء والظلال.

إذن، الزنجي الذي جمح به القارب حتى ابتنى لنفسه هرماً وشاد صرحاً جميلاً ألوانه عاج ومرجان، نوبي شمال السودان، عشية أزهرت بعيداً عن الغاب متصلة الرحم بالغاب عبر النهر والقادمين الجدد، أم هو الجموع الأول الذي أصر على معرفة نقطة إنتهاء جريان كل هذا الماء؟ إلى مغادرة النهر؟ إلى بحر الأزل؟ إلى الرب الأجدر بالعبادة؟ كيف تتم غيبوبة الرؤية والصحو في الغاب؟ الإيقاع لاستئثاره دفقة دموية أكثر وفرة، وتلقيحاً للفعالية التي يمنحها الجسد في دورة فعاليته اليومية العادية.. ثم الحركة العقلية الجامحة لتخدير التصاق معدن التراب بأرضية التراب للتحليق إلى أجواء جديدة، ثم المنبّه المخدر، الخمر أو العرق المخدّر المنبه والبداية بألفاظ شحنتها من المعاني يومية عادية، من بلوغ لحظة التشوش في المعاني والصدور عن فوضى اللاوعي، ثم الولوج بعيداً عن دائرة نطاق فعالية وإسار الوعي واللاوعي، إلى مرتقى جديد هو الصحو في الأبد الميتافيزيقي، في اللحظة الآنية الحقة، لحظة الصورة واللون والمعنى، الخلق والخالق، لحظة الجماع، الكشف، لتدخل حلقة ذكر إذن.. هنا أيضاً نفس الإيقاع، هي (الدقة) هي (الدقة) الزنجية للطبل، وحركة اليد والذراع في حالة الشتم والمزهر هي زنجية ودقة (النحاس) أيضاً ـ مع فكرة التجمع والإثارة ـ بالطبل ـ بدائية زنجية، نفس الإيقاع.. نفس الرتابة في دائرة الحركة، في الاهتزاز وإن كان أبطأ قليلاً هنا.. ويتم إيقاظ الصحو بمقاطع ثابتة (الله قيوم.. الله قيوم) (ارتباط القيام هنا يضمر ارتباطاً بالمسيحية.. كما يستخدم المخدر.. البسطاء يسكرون ثم ينزلون المولد.. الشاي بالقرفة والنعناع لأهل الوقار) (هل تلاحظ غبطة أبناء النوبة حيث يصادفهم مولد أو حلقة ذكر)؟

في حلقات الزار يدوي الطبل.. مصدر الإيقاع والتلاشي في المجهول هو الطبل في عمرنا.. هذا الخواء العادي.. هذا العدم المعطي.. لاختراق دائرة المألوف والاتحاد بالمجهول والنبع لا بد من تحطيم مجموعة من المحظورات ـ التابو ـ شرب الخمر، شرب الدم، الرقص على قدم حاف، التشبه بالجنس الآخر، حتى الأماني معادنها براقة.. ذهب وبرق، الجذوة الجمرة الأولى، الصحو، النهار في ليل الغاب الذهبي لا بد من مثير، وهو الجوهر الغريد، المعدن المعدني البراق هنا.

لاحظ أن التقاليد والعرف في السودان المسلم لا تسمح (بالذكر) للنساء، فإن وجد الرجل حلقة الرقص البدائية في الذكر فإن رهينة الجدران قد أوجدت لنفسها فرصة (الكجور) في حلبة الزار، رقصة العروس والناقة والرسن بركة آسنة الطين لا يمكن العوم فيها، إذن تحطيم تابو بتابو آخر عريق، ما من بيّنة تاريخية تلغي دخول العرب أرض هذه الخلفية الزنجية التي استكشفتها قبل ظهور محمد (صلى الله عليه وسلم)، ما من بيِّنة تاريخية تلغي دور التعاليم الإسلامية البسيطة في شكلها الصوفي الزاهد غير الأكاديمي في إثراء ليل الفكر والوجدان الغيبي في أرض الزنج، لكن معارك الكفاح المشترك وإذكاء الوعي الثوري التقدمي الحضاري هي الكفيلة بتأمين حصاد أوفر من لقاح الغاب والصحراء. 

صحيفة الصحافة الثلاثاء 19/ 9/ 1976م

*     *     * 

بل نحن عرب العرب


صلاح احمد إبراهيم  


الأستاذ النور عثمان أبكر شاعر ومثقف وصديقي، كتب في عدد سابق من هذه الصحيفة مقالا طويلا بعنوان «لست عربيا.. ولكن!» وفي رأيي ان المقال غير موفق من حيث توقيته على الأقل. فجنودنا الذين في خط النار قد اختاروا مصيرهم هناك، في مواجهة المعتدين الصهاينة. المصريون على شمالهم والجزائريون على يمينهم وقلوب العرب ـ كل العرب ـ ترف عليهم لا تفكر أصابعهم القابضة على الرشاش ما إذا كانت أصابع عربية او زنجية او بين بين، فالسؤال مطروح على صعيد عنصري لا معنى له، ولا يمكن ان تكون له إجابة نهائية او قيمة حقيقية، ولكنه قد يكون تساؤلا سياسيا ومراجعة لمواقفنا الرائعة أو تشكيكا فيها.

والمقال قد كتب بلغة شعرية تنفلت من بين الأصابع كالزئبق، بلغة تقف المناقشة المنطقية والدقة والتجديد حيالها في حيرة وارتباك وعجز، مثل قوله «الألوان الرئيسية في عمرنا» هي الألوان الأولية بصراخها "الشمسي" ومثل قوله «نزاع الغاب والصحراء في عمرنا هو لونية هذه السماحة في علاقتنا مع اخواننا العرب واخواننا الزنوج».

والمقال لا يخلو من أخطاء.خذ أول القصيدة.. اعني مقاله الشعري ـ يقول الكاتب الشاعر «كل ما هو غيبي وعميق في السودان انما هو عطاء الغاب» أليس هذا إسراف ومعاملة ابتسار للحقيقة؟ نزاع الغاب والصحراء ـ اي نزاع بين الغاب والصحراء.. الزنجي بأكثر من النور عثمان، والمفكر الإفريقي بأكثر من النور عثمان، والمناضل بأكثر من النور عثمان، كوامي نكروما أوقف حياته لأن يجلي، ويؤكد، بأن الصحراء لم تكن في يوم من الأيام حاجزا بين عرب الشمال وزنج الجنوب، بل ظلت حتى قدوم الرجل الأبيض طريق القوافل حاملة الملح إلى الاشانتي قافلة بالذهب من كوماسي.

خذ قوله ايضا «الفن الفرعوني بمصر العليا هو استلهام لأعالي النيل على الدوام. اليس هذا إسرافا ومعاملة ابتسار للحقيقة؟ الم تهب مروي كل افريقيا الحديد وفكرة الملكة الأم، وماذا يقول فريزر عن أصل «الزعيم ـ الاله» المعتقد الذي ران على داخلية افريقيا». خذ قوله ايضا، في قاعة الجامعة العربية يلهج الابن بعروبته، وفي كوناكري يصر على افريقيته ان وضع العروبة مقابل للافريقية هو مفهوم خبيث، فالعروبة قد تكون افريقية في الواقع، أكثر من سبعين بالمائة من العرب افريقيون، اما اذا صح التعبير ووضعت كلمة الزنجية فإن المذهب الزنجي في الثقافة مذهب سقطت اهميته وبانت عورته حتى للزنوج الخلص.. مرة ثانية اقرأ نقد كوامي وآخرين له.. اما اصرار كوناكري على الافريقية فهو مثل اصرارالقاهرة والجزائر، ولكن هل رجع النور إلى سلاسل النسبة التي تحتفظ بها كثير من القبائل أو البطون الإسلامية في تلك الجهات.

ان مكتبة معهد الدراسات الإفريقية بغانا مثلا لديها مجموعة وافرة منها، وعلى النور ان يقوم بدراستها قبل ان يطلق القول إطلاقا.

واللغة؟ هل صدر كلام النور عن دراسة للغة، أم انها مجرد تأملات وتوهم؟ في مقال النور شعوبية، وإن قال ان الكاتب لا يضمر أي تلميح لاستعمار عربي لأرض الزنج، وهو في ذلك كمن قال. ومهما كانت دوافع النور في قول مثل هذا القول، فهو لا يقول جديدا.. أعداء العرب الذين يدرسون عورة العرب في المعاهد الخاصة، ويحاولون طعن العرب في كعب اخيلهم يثيرونها بطريقة النور هذه من المحيط إلى الخليج.. اي بلد عربي لم يحاول فيه أعداء العرب بث الفرقة والقطيعة والشقاق بين أبناء البلد الواحد، وعلى رأس ذلك انكار عروبة البلد، ووضعها موضع الاتهام وتجريمها، ومحاولة سلخ البلد عن موكب العروبة.

في السنة الماضية أثاروها فتنة شعواء في موريتانيا، لأن موريتانيا العربية قررت إدخال العربية في تعليمها الرسمي. وقالت السنة الاستعمار المحلية ان شنقيط ليست عربية. في المغرب يسعون بالوشاية بين عرب المغرب وبربرها.. في الجزائر يقولون ان التعريب نكسة للوراء، فالجزائر ينبغي ان تظل «فرنسية» وان تظل «قبلية».

في تونس خائن العروبة بورقيبة يأخذ زمام المبادرة مع سنغور في الدعوة لمجموعة البلدان المتكلمة بالفرنسية، تلك الدعوة التي ركلتها الجزائر التي هي اكثر اعتمادا على الفرنسية.

في مصر أصوات ما فتئت تسمع من حين لحين تقول بالفرعونية وبطريق «مصري» منفصل.

وفي لبنان لا يزال في لبنان صراع ضار من اجل اثبات عروبة لبنان.. هناك من يبكون على أجدادهم الصليبيين، ويحنون الى فرنسا الأم الحنون، وهناك من يبكون على فينيقيتهم، وعلى صور وصيدا.

وفي سوريا ما فتئ القوميون السوريون يعملون على إطفاء نور العروبة في اعز قلاع العروبة، وهناك من يبكي للسان السرياني، ولا يرى في العروبة الا طاعونا وبيلا وصليبا تحمله سوريا.. وهكذا.. وهكذا.

ثم اين هم العرب الخلص.. ما من شعب عربي في قطر عربي الا وامتزج بدماء الاعاجم «كل لغة لدى الهوسا لغة ـ لارابنشي او يورمابانشي مثلا الا لغة الهوسا فهي الهوسا وكفى، ولكن كان نصيبنا أن يظهر من اختلط بهم اجدادنا في اللون والقسمات.. نسبة الاختلاط واحدة او تكثر او تقل، ولكنها لا تقلل من عروبة السودان.. في الجزائر ولبنان بل حتى في المنصورة قد يعبر الامتزاج العنصري عن نفسه بازرقاق العيون ونصاعة البشرة.. والمهم انه قليلا ما تقابل عربيا قحا او خالصا في معظم البلدان العربية.. وهذا من تسامح العرب وتسامح الاسلام، ولعل اروع ما يقدمه العرب وقدمه دينهم ان رمز شجاعتهم هو عنترة بن شداد، وان نصيبا هو أشعر بني جلدته وجلدة من قال ذلك، وفي نظر شاعرهم الجاهلي «ان من يريد عرارا بالهوان فقد ظلم» وان غفاريهم وهو من الاقحاح، قد وضع خده على التراب ليطأ عليها بلال برجله، لانه قال له «ايا ابن السوداء» مما اثار حفيظة محمد «صلى الله عليه وسلم».

وقبل ان يتسرع النور بمثل مقاله كان عليه أن يقرأ «العربية في السودان» للشيخ عبد الله عبد الرحمن و«العروبة في السودان» للشيخ محمد عبد الرحيم على سبيل المثال، وغير ذلك من المراجع الامينة ـ بل وحتى غير الأمينة، فإن الذين يريدون ان يشككوننا في عروبتنا كثر، وعلى رأسهم علماء السلالات البشرية، ويجدر بنا ان نذكر ان اول قطر أسعف ادوارد عطية بمثال وهو يريد تعريف العرب، هو السودان.

«نحن قبيل عرب، وكبش الكتيبة ورأسها، وما فيش غريب على اي حال، عرب الجنوب زاروا الشمال» وشعر الشعب بكل بساطته يؤكد ما تريده ان تنكره يا نور «يا صاح خبر ماكدونالد سودان عرب ما هم هنود، ما بنخشى طياره وجنود. وسط العراك بالروح نجود» بل قبل ذلك بكثير ربما من ايام سنار ما كان يردد الصغار:

«فزارة حاربونا ـ شدوا جمالهم جونا» وبعد ذلك أقبلت جهينة بوادرة وأم بادرية الخ.. بل ان كل ما هو عزيز لدينا شعورنا بالكرامة ونهضتنا القومية وحركتنا الوطنية سببها العروبة.. «امة اصلها للعرب» كنا نتحدى بها طغيان الانكليز ونغني بها في المقاومة في نشيد المؤتمر. لا يا نور.. بل نحن عرب العرب.. نحن الذين لا زلنا اقرب الى الصحراء، والبداوة والفطرة هي ما تمثل العربي الحق.. فنحن عرب العرب بأخلاقنا وقيمنا ومثلنا وروحنا، نحن عرب العرب بعاداتنا وتقاليدنا.. نحن عرب العرب لأننا اقرب الى النموذج الكامل للعربي. ونحن فخورون بهذا الانتماء ولا نرفع هذا اشعارا ضد من ليس له في العروبة شيء، بل العروبة تفتح ابوابها لاستقبال المزيد من الابناء، فكما يقول النبي "ليست العروبة لكم بأب ولا أم، انما هي اللسان"

لقد قرأت خبر تكوين حزب يسمى بالحزب القومي الأفريقي، ووقفت طويلاً لدى التسمية، لماذا «الإفريقي» وليس السوداني ان كان لا بد اسم يطلقه من لم يكن له من قبل قط إحساس بإفريقيا، ومن لم نسمع له قط صوته بجانب صوت أنصار الحرية في افريقيا، ومن لم ترتفع له قط عقيرة بالغناء لآلام إفريقيا ولآمال إفريقيا، انما هو التمحك وإضمار ما ستنجلي عنه الأيام. في ايام حكومة أكتوبر وقف وزير من الجنوب يطالب بألا تمر المساعدات للكونغو الجار الشقيق «ببلاده» يعني جنوب السودان، لأن ذلك يعرض بلاده لانتقام تشومبي.. وهكذا الشعوبيون الذين يستخدمون اسم افريقيا لمعاداة العرب ـ تنفيذاً بوعي منهم أو بغير وعي ـ لمخطط وضع منذ ان وطأ الرجل الأبيض والمبشرون وعلماء الأجناس هذه القارة، وطور اليوم ليلائم إستراتيجية الاستعمار المحدث، هم آخر من يعرفون ما يدور في أفريقيا وما تريده افريقيا، ولا ينظرون على أفضل تقدير أبعد من مواطئ اقدامهم، من مصالحهم الضيقة. ذلك المخطط الذي يقول بعزل عرب افريقيا عن بقية افريقيا، وبث الشعوبية في البلد الواحد، فتارة هو الإسلام وتارة هي العروبة.

من نحن؟ وهل نحن عرب أم إفريقيون؟ وهل نحن عرب؟ أسئلة تطلق أحيانا في براءة وأحيانا في خبث.. أسئلة تنبع من جهل صادق احياناً واحياناً من خطة ماكرة.. ولكننا لن نتحملها اطلاقا.. الجاهل ينبغي أن يبذل جهداً لكي يتعلم، ينبغي ألا يدلي بكلمة في الموضوع قبل أن يقرأ كثيراً وان يفكر كثيراً، وان يتواضع أمام الحقيقة، وان يتوخى الدقة والحذر.. أما من يسير في الطرقات ينكر عروبتنا أو يشكك فيها أو يتشكك فيها، فهو يفعل فعلاً سياسياً بعمد وسبق إصرار، وينبغي ألا نسمح له بذلك، فنحن في حالة حرب ضروس لا تحتمل بث الوهن في المؤخرة وبين الصفوف، وإضعاف الروح المعنوية.

لا يا نور.. بل نحن عرب العرب.. جمعنا خير ما في العرب من نبل وكرم، وخير ما في الزنج من شدة وحمية، فكنا كما قال صالح عبد القادر بلسان عربي مبين:

وأنا ابن وادي النيل لو فتشتني
لوجدت في بردي بطش أسود
وأنا ابن وادي النيل لو فتشتني
تجدين مجموع الكرامة والنهى
تجدين حلم البيض جهل السود 

صحيفة الصحافة الثلاثاء 25 /1كتوبر 1976م