تهدف هذه الدراسة إلى إلقاء الضوء على المسرح الإفريقي التقليدي، وبيان جذوره وأصوله القديمة، ومظاهره وتجلياته في المجتمعات الإفريقية، وأهم سماته في المضمون والشكل، والوظائف والأدوار التي يقوم بها في المجتمعات الإفريقية.

المسرح الإفريقي التقليدي.. جذوره ووظائفه

عـمر عبد الفتاح

المسرح فنٌّ وثيقُ الصلة بالنفس الإنسانية، فهو أحد وسائل تعبير الإنسان عن آرائه ومعتقداته وعلاقاته، وهو أقرب وسائل التعبير الإبداعية تمثيلاً للواقع، وأكثرها ارتباطاً بالمجتمع.

تهدف هذه الدراسة إلى إلقاء الضوء على المسرح الإفريقي التقليدي، وبيان جذوره وأصوله القديمة، ومظاهره وتجلياته في المجتمعات الإفريقية، وأهم سماته في المضمون والشكل، والوظائف والأدوار التي يقوم بها في المجتمعات الإفريقية.

أولاً: نشأة المسرح الإفريقي التقليدي وجذوره:
على الرغم من أنّ إفريقيا لم تعرف المسرح بمعناه الحديث إلا في فترة متأخرة نسبيّاً؛ فإنها عرفت المسرح بمعناه التقليدي منذ عصورٍ تسبق التاريخ نفسه، ولا نقصد بالمسرح التقليدي هنا المسرح بوصفه نصّاً مسرحيّاً أو بناءً وخشبة عرض وممثلين، ولكننا نقصد بالمسرح التقليدي: الدراما، والأداء التمثيليّ بشكلٍ عام، سواء كان هدفه الترفيه، أو التوجيه، أو التثقيف، أو كان مجرد أداءٍ طقسيٍّ اجتماعيٍّ أو دينيّ.

جذور المسرح الإفريقي التقليدي
إذا عُدنا للوراء في محاولةٍ لتتبع البدايات الأولى لنشأة المسرح؛ سنجد أنّ هناك ظاهرتين تعدّان بحقٍّ توطئة وتمهيداً للفنّ المسرحيّ.

الظاهرة الأولى: الطقوس الدينية: هي الطقوس الدينية والاجتماعية؛ حيث كانت هذه الطقوس تؤدى في شكل حركات تعبيرية في شكل درامي ذات مضمون ديني.

والظاهرة الثانية: الرقص: يعد الرقص من أقدم الوسائل التي عبر بها الإنسان واتخذ منه شكلاً ترفيهياً يعبر به عن انفعالاته، أو شكلاً إعلانياً عن وقائع ومشاهد درامية.

وقد أخذت هاتان الظاهرتان شيئاً فشيئاً في التحول التدريجي من المحيط الديني-في المكان والأداء- إلى المحيط الاجتماعي العام ومن التعبير عن أشياء محدودة إلى التعبير عن مختلف مناحي وشئون الحياة باعتباره مظهراً من مظاهر التعبير عن الحضارة الإنسانية(1).

وتعود نشأة المسرح التقليدي في أفريقيا إلى عصور موغلة في القدم ففي شمال أفريقيا شهدت أرض مصر القديمة ظهور هذا اللون الدرامي منذ فترة طويلة أرجعها البعض إلى ما يزيد على ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد.

فالدراما في صورتها الأولى ولدت على أرض مصر، وقدامى الإغريق تلقوها عن مصر وأضافوا إليها، وكل ما يذكر للمسرح بقديمه وحديثه فمرده إلى مصر التي بذرت بذوره ورعته إلى أن استوى على سوقه.

وإذا كان المسرح كفن درامي نشأ في مصر شمال أفريقيا وأثبتته النقوش والكتابات المدونة على جدران المعابد، فإن ذلك لا يعني عدم ظهور النشاط الدرامي في بقية أنحاء القارة الأفريقية. فقد ظل المسرح في تلك المناطق ولمدة طويلة نشاطاً شفوياً مرتجلاً مثله مثل الأدب الشعبي. ويجب أن ندرك أن عدم وجود الأدلة التاريخية لا ينفي وجود هذا النوع من المسرح، فقد عرفت الحضارة المصرية القديمة في الشمال الكتابة والتدوين منذ وقت مبكر، في حين أن الثقافات الأفريقية في الجنوب لم تعرف الكتابة والتدوين إلا في وقت متأخر.

وليس هناك مجال للشك في أن جميع أنحاء أفريقيا شهدت تقديم عروض يختلط فيها التمثيل بالطقوس الدينية، وفي كثير من بقاع القارة الأفريقية كان للمسرح أصول اجتماعية أيضا، فقد نشأ للسمر والتسلية، وهو بذلك يؤدي دوراً جمالياً يقوم على المتعة والفائدة. وهكذا فإن المسرح الأفريقي التقليدي لم ينفصل عن الحياة الجماعية فمهمته هي توصيل ما يريد التعبير عنه. ويشير فرانسواز ليجيه إلى شدة الصلة بين المسرح الأفريقي التقليدي والمجتمعات الأفريقية فيقول: "لقد قدم المسرح كل ما يعبر عن موروث هذا الشعب سواء في شكل رقصات وملاحم أو احتفالات شعبية أو كل ما يدور في الحياة من مناقشات فارغة ومواقف وأنماط مختلفة من الناس. وبهذا المعنى يمكن القول أن أفريقيا قد عرفت المسرح التقليدي منذ زمن قديم للغاية، فارتباط الأفارقة بالطقوس والشعائر الدينية أمر ثابت، وممارسة الأفارقة للرقص لا تحتاج لتعليق.

شواهد ودلائل قِدم المسرح الإفريقي التقليدي
هناك العديد من الشواهد التي دونها العديد من الرحالة والمؤرخين ضمن أعمالهم، تدل على مدى قدم نشأة هذا اللون الفني الدرامي التقليدي في إفريقيا.

فابن بطوطة ذكر هذه الدراما التقليدية في رحلته في القرن الرابع عشر الميلادي، وتعددت إشاراته إلى الرقص، والأقنعة، وإلقاء الشعر بطريقة تمثيلية، بل إنه روى عن سلطان مالي القديمة اهتمامه بالشعر والتمثيل، وكيف أنه شهد في مجلسه مطارحات ومدائح شعرية، كما شهد تمثيلية أسماها: (الأضحوكة).

كما أشار المستفرق الفرنسي ديلافوص إلى بعض نماذج لهذه الدراما في غربي القارة(2).

كذلك أشار الكاتب أولوداه أوكويانو، من جمهورية بنين بغرب القارة، في سيرته الذاتية المنشورة عام 1789م، أي بعد نحو خمسة قرون من رحلة ابن بطوطة، إلى تلك المظاهر الدرامية، حيث قال: «نحن نكاد نكون أمّة من الراقصين والموسيقيين والشعراء»، وبعد أن عرض لبعض الاحتفالات العامّة، في مملكة بنين القديمة، أشار إلى مشاهد الحياة الواقعية التي يمثّلها الشباب في تلك الاحتفالات، مثل «المآثر العظيمة، أو العمل الملحمي، أو القصة المحزنة»(3).

مثل هذه الشواهد القديمة يتضح منها، ويتأكد، مدى قِدَم وجود المسرح الإفريقي التقليدي وترسّخه في البيئة الإفريقية، ويتضح لنا مدى تنوّع هذا النوع الدرامي ما بين رقص، وغناء، وإلقاء شعر، واستخدام للأقنعة، بالإضافة لأنواع أخرى من الأداء الدرامي.

هذه الشواهد تدل أيضاً على أنّ المسرح الإفريقي التقليدي قدّم أشكالاً وأنواعاً من الأداء المسرحي؛ تتشابه بشكل أو بآخر مع أشكال الأداء الدرامي للمسرح الأوروبي الأصل، فإشارة ابن بطوطة إلى وجود الأعمال الكوميدية التي أطلق عليه اسم: (الأضحوكة)، وإشارة الكاتب الإفريقي أولوداه أوكويانو إلى أنواع أخرى من الأداء الدرامي كـ«القصة المحزنة، والمآثر التاريخية، والأعمال الملحمية» تستدعي المقارنة بين هذه الأنواع الدرامية الإفريقية التقليدية من ناحية، وبين الأنواع الدرامية الحديثة، كالملهاة والمأساة والملحمة، من ناحية أخرى، ما يدفع الباحث لإدراجها تحت نفس التصنيفات، أو على الأقل إدراجها بوصفها جذوراً وإرهاصات لها.

ثانياً: مظاهر المسرح الإفريقي التقليدي وتجلياته
من أهم تلك المظاهر ما يُعرف بـاسم: (الإنشاد)، حيث تُنشد جلائل أعمال الأسلاف والعظماء ومآثرهم، كما يوجد أيضاً نوع من العروض يُعرف بـ (المناظرات) الكلامية التي تدور عادة بين اثنين، مثل حدّاد القرية وقصّاصها، ويقوم الجمهور بدور الحكم، وينال الفائز مكافأة من الخاسر.

وهناك أيضاً ما يمكن أن يُسمّى بـ(مسرح العرائس)، وهو لونٌ من العروض المسرحية يُسمّى عند قبائل البامبارا في غرب إفريقيا باسم: (شدو الطير)، ويشبه الأراجوز عندنا، ويقال إنه منقول من شمال القارة، ولكنه معروف في السنغال، مثلما هو معروف في النيجر ونيجيريا، وغيرهما من أنحاء الغرب(4).

كذلك رصد بعض الباحثين عدداً من مظاهر الأداء المسرحي التقليدي وأشكاله في منطقة جنوب إفريقيا حين قال: «اتخذت الدراما في المجتمعات الناطقة بلغات (السوثو) و (النغوني) أشكالاً تقليدية، اقترنت بالمجتمعات الرعوية والزراعية في إفريقية، ولم تكن الفعاليات شبه المسرحية للطقوس الدينية التطور الوحيد، لكنّ أشكالاً أخرى مثل: (الانتسومي) لدى (الكسوزا)، و(الانكابنسكواني) (السرد الشعبي) لدى (الزولو)، و(الديبوكو) لدى (السوثو)، و(الايزيبونغو) لدى (النغوني)، قد احتوت هي الأخرى على عناصر درامية متطورة. وأسهم (البوشمن) و(الهوتنتوت) في صقل تجارب مسرحية فيها عناصر (المايم) والموسيقى، حتى إنّ (كريدو موتوا) و(هـ. آي. آي) قالا بوجود مسرحٍ ملحميٍّ متطور في المجتمعات التقليدية القديمة»(5).

وقد تناول معظم الباحثين مظاهر المسرح الإفريقي التقليدي وتجلياته في معرض حديثهم عن المسرح الإفريقي بشكلٍ عام، وتناولوها بشكلٍ موجز ودون تفصيل كبير، ولكننا نجد أنّ المؤرخ الثقافي إي. تي. كيربي E.T. Kirby يحدد بشيء من التفصيل سبعة أشكال أداء، تمثّل طرق الأداء النموذجية للمسرح الإفريقي، والتي تبيّن كيف أبدعت الغريزة الإنسانية أحداثاً مسرحية مميزة(6).

وهذه الأشكال المسرحية السبعة هي:
1- عروض القصّ (الحكي):
يتميّز المسرح الإفريقي، القديم والحديث، إلى حدٍّ كبير، بتركيزه على الحكي أو رواية القصص، فالراوي أو «القاص» يتمتع بمكانة أساسية في العديد من عروض الأداء المسرحية الإفريقية، فمن المعتاد أن نجد أنّ «الجريو» girot، أو «المعالج»، الذي يرتجل قصةً ما بمصاحبة الغناء والرقص. وكثيراً ما يقلّد الرواي السمات الصوتية والجسدية لكثيرٍ من الشخصيات في قصته، على الرغم من أنه من حينٍ لآخر نجد الآخرين يتدخلون للقيام بدور شخصيات معيّنة، وربما تميّز الأقنعة ونوع الملابس الشخصيات. وفي كثير من الأحيان يوظّف كتاب المسرح الأفارقة المعاصرون «رواة القصص» في أعمالهم الدرامية، وعلى سبيل المثال: نجد أنّ مسرحية (الموت وفارس الملك)(7) تُبرز بوضوح شخصية «منشد المدائح».

2- العروض التمثيلية البسيطة:
يرتجل البوشمان عروضاً تمثيلية؛ يُعدّ صيد الحيوانات فيها بمثابة الحبكة الأساسية، فعلى سبيل المثال: يرتدي أحد الرجال خوذة مصنوعة من عصا متشعبة، ويجسّد دور الظبي، في حين يقوم بعض المقلدين الآخرين بقتله، وتقوم مجموعة من الصبية الصغار بتجسيد دور الكلاب التي تصاحب الرجال، وتعد رقصات الصيد هذه بمثابة عروض وظيفية (فهم يوفرون الطعام للقبيلة)، وروحية في ذات الوقت (حيث يعترفون بأعلى السلطات في الطبيعة)، وهناك عروض تمثيلية أخرى أكثر اجتماعية بشكلٍ واضح.

وهذه الأعمال الدرامية المرتجلة تمثّل الشكل الأساسي للمسرح، وهي أشبه بألعاب التقليد التي يؤديها الأطفال أثناء تعلّمهم لدورهم في المجتمع.

3- العروض الطقوسية:
الطقوس الأفريقية غالباً ما تكتسي بهالة من السحر. وتوجد أمثلة عديدة على مثل هذا النشاط الطقسي في جميع أنحاء أفريقيا اليوم. فاللوجا Loga في وسط أفريقيا لديهم طقوس شعائرية مطولة يتم فيها استعراض المنتجات اليدوية الهامة عبر القرية بينما تنشد الأمثال. وتقود القرويين راقصة طوافة وتتجه بهم نحو كوخ شعائري تم تشييده خصيصا، ثم يقوم المشاركون بتسلق سقف الكوخ بينما تُنشد ثمانية أمثال. ويقع "السحر" عندما تُطرد الأرواح الشريرة من الكوخ وتتلبس الأرواح الخيرة أجساد اللوجا.

4- عروض تقديس الأرواح:
يتمكن «الوسيط»، الذي يُعتقد أنّ الأرواح تتلبسه، من الاستيلاء على «الشخصية» أثناء شرودها، أو في لحظة عدم تمام وعيها، ويقوم «الوسيط»، الذي يرتدي أزياء لافتة ويتحدث بـ«لغة الأرواح»، بحركات وإيماءات غير معتادة، بحيث توهم بأنّ الروح، أو أنّ الإله نفسه، موجود في الواقع، ويحدث تفاعل درامي قوي بين الشخصية والجمهور، والجزء الأكبر من هذا التفاعل يكون مرتجلاً من قبل «الوسيط». وهذه العروض شائعة جدّاً بين الناس في غرب أوغندا، حتى إنّ العالم الأنثروبولوجي جون بيتي John Beattie يشير إليها تحت اسم: (المسرح الوطني التقليدي)، وفي بعض مجتمعات شرق إفريقيا نجد أنّ الروح التي تُدعى shave، والتي تُعرف عن طريق القميص الأبيض والقبعة والحزام، تتلبس العديد من الوسطاء، ويتميز طقس الشرود أو النشوة مع الأرواح بالشرب والرقص والحوار. وتجدر الإشارة إلى أن الرقيق الأفارقة جلبوا معهم عروض تقديس الأرواح إلى الأمريكتين، وعلى سبيل المثال: لا يزال الماكومبا Macumba في البرازيل يستخدمون عروض الأرواح في احتفالات الشفاء.

5- عروض التنكر:
تطورت عروض التنكر عن الاحتفالات التي كانت تقوم بها الجماعات والتجمّعات السرية لتكريم الموتى، والتي ربما لا تزال الشكل الأكثر تمثيلاً للمسرح الإفريقي الأصلي، وتتميّز عروض التنكر بالأقنعة المتنوعة والملونة، والأزياء الفضفاضة (التي غالباً ما تكون مصنوعة من الخوص أو العشب)، كما تتميّز بالرقص المفعم بالحيوية، وغيرها من أوجه التنكر وأشكاله، وفي كثير من الأحيان يقوم السرد الدرامي بالربط بين هذه الأنشطة، فحفلات التنكر لدى الإيبيبيوIbibio ترتجل عروضاً تمثيلية هزلية، وتعدّ الأزياء المستخدمة في الكرنفال في ترينيداد من بقايا تلك الحفلات التنكرية التي جلبها الرقيق الأفارقة إلى الأمريكتين.

6- العروض الاحتفالية:
تجري العروض الاحتفالية، مثلها مثل العديد من العروض المسرحية الأصيلة الأخرى في إفريقيا، بمرافقة الغناء والرقص وقرع الطبول. ويحتفل الدوجون Dogon في غرب إفريقيا بمهرجان الموتى في كلّ عام، وفي هذا الاحتفال يتمّ ذكر مآثر الأجداد، وتجري طوال الليل معارك وهمية، ورقصات أكروباتية بهلوانية، واستعراض للأسلحة، وذلك بهدف تعليم الدوجون احترام ماضيهم، وتوقير أسلافهم، وقبول حتمية الموت.

7- العروض الكوميدية:
لعل الأنشطة المسرحية الأقرب شبهاً للمسرحية، بالمعنى الذي نفهمه من هذا المصطلح، هي العروض الكوميدية التي تُؤدَى في الساحات المفتوحة في قرى العديد من القبائل الإفريقية، وربما تطوّرت هذه العروض عن العروض التمثيلية البسيطة، أو عن عروض التنكر، لتصبح مسرحيات ذات حبكة واضحة وشخصيات محددة.

وبرغم أننا لا يمكننا الجزم بحدوث التطور بهذا الشكل؛ فإنّ وجود مثل هذه المسرحيات القصيرة playlets الكوميدية تشير إلى العملية التي تطورت بها الدراما بمعناها الرسمي في جميع أنحاء العالم.

ومن قبيل الصدفة أنّ كثيراً من الشخصيات التي تظهر في هذه الكوميديات تعدّ نسخاً إفريقية للشخصيات الهزلية الشعبية التي وجدت في روما القديمة، وفي إيطاليا النهضة، وفي الأوبرا الصينية، وفي المسرحيات الهزلية اليابانية kyogen. ويقدم الشعب الناطق بلغة الماندي في غرب إفريقيا عروضاً كوميدية تصور الزوجة المخادعة، والزوج الساذج، والمحارب المتباهي، واللص المحتال، وعلى الرغم من أنهم يظهرون أمامنا في عروضهم مطليين بالطين أو بالرماد الأبيض، فإنّ ممثلي هذه القرية ليسوا أقلّ جاذبية لجمهورهم من الكوميديين الإيطاليين أو المهرج (تشو) من الأوبرا الصينية.

وتستخدم الأعمال الكوميدية الحوار، وفي كثير من الأحيان تستخدم الارتجال، وربما يرافقها المطربون والأوركسترا.

وغالباً ما يلعب الرجل دور المرأة، الأمر الذي نجده في كلّ أنواع المسرح بالعالم، خصوصاً في تلك الثقافات التي لا تسمح للمرأة بأن تمارس التمثيل.

وكما هو حال الكوميديا في كلّ مكان؛ نجد أنّ المسرحيات الإفريقية تصوّر الجوانب الاجتماعية لحياة القرية، ففي أحد الأعمال الكوميدية نجد الزوج يعمل في الحقل مع زوجته، ويقوم بحرق كومة من سيقان النباتات التي يختفي عشيق زوجته تحتها، وينتهي العمل بمطاردة هزلية.

ومثل جميع عروض الكوميديا الجيدة؛ فإنّ المسرحيات تكون موجهة «لإظهار التصدعات في المظهر الزائف للإنسان»(8)؛ بحسب عبارة والتر كير Walter Kerr.

وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه المظاهر والممارسات المسرحية لم تندثر؛ فلبعضها وجود في بعض المجتمعات الإفريقية حتى الآن، ففي السنغال لا يزال «الجريو» Griot أو «الراوي» يدور في أنحاء القرى والمدن، ويلتف حوله الجمهور في حلقة ليشاهدوه، وهو يروي ويغني ويعزف على قيثارته أحداث الحكايات والأساطير الإفريقية، ويقدّم ذلك بحركات راقصة وتمثيلية تناسب ما يرويه(9).

وكما يذكر جان بلييا فإنّ شباب الماندنج، في غرب إفريقيا، لا يزالون يقومون بالتعبير عن رغبتهم في الزواج من خلال عروض زاهية غنية بالإبهار، ويسخرون فيها من المتزوجين الذين يكبرونهم في السنّ.

كذلك فإنّ الرابطة التي تهتم بالشؤون الدينية عند اليوروبا ما زالت تعمل على تنظيم أعمال درامية مبنية على الطقوس التي تمجد بطولات الأجداد، بمضمون له شكل وصفي طريف، يؤديه بعض المهرجين واللاعبين بمهارة، ويرتدون الأقنعة التي تمثّل الحيوانات وشخصيات المجتمع اليورباوي(10).

وفي مالي يوجد نمط من أنواع المسرح الشعبي يُطلق عليه: (مسرح كوتيبا)، ينظّمه الشباب مرّة كلّ سنة، ويعطي لهم فرصة لانتقاد كبارهم، وهذه هي المناسبة الوحيدة في السنة التي يستطيعون فيها أن يفعلوا ذلك دون خطورة، فيجهرون برأيهم في المجتمع، ولا يستطيع الكبار أن يعارضوهم(11).

وفي شمال نيجيريا نجد ما يعرف بمسرح الأوو Owu الذي تقيمه جماعة نجواNgwa ، والإجو Ijo، وهو أشبه بمهرجان تمثيلي، يقدّم فيه أكثر من خمسة عشر عرضاً دراميّاً مختلفاً، يعتمد على التنكر بشكل كبير، وتمثل هذه العروض كلّ أرواح ومخلوقات النهر، وكلّ الرجال والحيوانات على الأرض، وتقوم بتوظيفها خلال تلك العروض، وتتضمن عروضاً تنكرية لكلٍّ من المعالج التقليدي والعراف owu dibia، والكائنات المائية الصغيرةowu wmuazu ، وأسماك القرش owu ofirima، والوحش صاحب رأس الكبش owu igirima، والفراشة owu utam، والتمساحowu aguiyi ، وعروس البحر owu mamiwota، والمتباهي owu nganga، وزعيم عروض التنكر owu mgbolo.

وتمثّل هذه العروض الدرامية كلّ ما يتصل بالحياة في النهر أو على الأرض، اللذين يمثّلان مصدر إمداد الشعوب بالطعام والبركة، وتقدّم هذه العروض مرّة واحدة كلّ ثلاث سنوات، وتستمر لمدة سبعة أيام، وخلال هذه الأيام السبعة يقوم الصيادون بصيد القرش والتمساح والوحش، ويتم قتلهم في اليوم السابع، وهكذا يتم عرض نضال هذه الجماعات من أجل البقاء عبر إعادة تمثيل الأسطورة، باستخدام العروض التنكرية والرقص والأداء التمثيلي، في حضور المشاهدين من أهل القرية والقرى المجاورة، ويتمّ كلّ ذلك وسط ساحة سوق القرية الفسيحة(12)، ولا يختلف الأمر في غالبية أنحاء إفريقيا عن ذلك، فلا تزال هذه المظاهر باقية في مثل حفلات الحصاد، والختان، والزواج، وغيرها من المناسبات.

ثالثاً: سمات المسرح الإفريقي التقليدي:
يتميّز المسرح الإفريقي التقليدي بسماتٍ عديدة، تميّزه عن نظيره الحديث ذي الأصول الأوروبية، سواء من حيث المضمون والموضوعات التي تناولها، أو من حيث الشكل.

أ- من حيث المضمون:
يتميز المسرح الإفريقي التقليدي بارتباطه الشديد بالحياة اليومية، فهو يعبّر عن فرحة المجتمع وآلامه وهمومه وتطلعاته وآماله، ويشير فرانسواز ليجيه إلى مضمون الأعمال التي يتناولها المسرح التقليدي فيقول: «لقد قدّم المسرح كلّ ما يعبّر عن موروث هذه الشعوب، سواء في شكل رقصات أو ملاحم أو احتفالات شعبية، أو كلّ ما يدور في الحياة من مناقشات فارغة، ومواقف وأنماط مختلفة من الناس»(13).

ويتميّز هذا المسرح أيضاً بوجود الأساطير والحكايات التاريخية، والتي كانت تشكّل موضوعاته الأساسية(14)، وقد كانت معظم الأعمال تدور حول الأساطير والحكايات والخرافات والعادات والبطولات وأمجاد الأسلاف والأخلاق والسلوك(15)، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الأسطورة في المسرح الإفريقي رمزٌ للحياة، إنها أسلوب يعمل على تأكيد النظام الاجتماعي، وقد اعتمد المسرح الإفريقي على الأسطورة والمفاهيم الشائعة حتى يستطيع تحقيق استمراريته وفعاليته.

ويمكن تفسير ذلك بأن الأسطورة الإفريقية تعكس الشعور بالقلق، أو بالفرحة، أو الشعور بآلام المجتمع الإفريقي وآماله العميقة، إنها رمزٌ يثير ويوجّه الطاقة النفسية(16) لأفراد المجتمع؛ ليتمكنوا من متابعة حياتهم والاستمرار فيها وفقاً للتقاليد والعادات والقيم الموروثة عن الأجداد.

وثمّة سمة أخرى تميّز المسرح الإفريقي التقليدي، وهي الرمزية، وقد عبّر الشاعر الناقد الإفريقي الجنوبي مازيس كونيني عن تلك السمة في دراسة له بعنوان: (مدخل إلى الأدب الإفريقي)، حيث يقول: «إنّ التعبير الدرامي الإفريقي يعتمد على الرمزية... وقد تتخذ الرمزية أشكالاً متباينة وفقاً للتاريخ الثقافي لكلّ طائفة اجتماعية بالذات، ففي بعض الجماعات تُستخدم الأقنعة لتبرز المعنى وتلقي عليه الضوء، وللأقنعة نفسها لغة راسخة القواعد، بحيث يمثّل كلّ نمط من الأقنعة مجموعة من القيم»، ولكن هذه الرمزية ليست غامضة، وإنما هي من قبيل المجاز والإيحاء؛ حتى لا يكون التعبير فجّاً، خصوصاً في التراجيديا (المأساة) ذات الموضوعات الجادة(17).

ويشير د. علي شلش لبعض السمات الأخرى التي تميّز موضوعات المسرح الإفريقي التقليدي، فيذكر أنه كان واقعيّاً في معظمه، كوميدي النزعة، يخدم قضايا اجتماعية، ويتسم بطابع تعليمي، ولا ينكر المتعة والتسلية(18).

ب- من حيث الشكل وطريقة الأداء:
المسرح الإفريقي التقليدي قدّم هذه الموضوعات في شكل مشاهد وتابلوهات بسيطة، شديدة الاختلاط بالرقص والغناء والموسيقى في حوارها، شديدة الرغبة في مشاركة الجمهور.

وكانت عادةً ما تُقدّم في المناسبات الاجتماعية المختلفة، مثل البلوغ، والحصاد، وإعلان الحرب، مثلما تقدّم في أمسيات الحياة اليومية(19).

ويتميز المسرح الإفريقي التقليدي بعدد من السمات الشكلية التي تميّزه عن نظيره الحديث، ويشير بيشنس أومولولا Patience Omolola لبعضها فيقول: «يقدّم الفنانون التقليديون عروضهم في الأماكن العامة، ويكمن تفرد عروضهم في اعتمادها على الذاكرة، بالإضافة إلى استخدامهم للغة الجسد، وتوظيفهم للطقوس، إلى جانب مشاركة الجمهور»(20).

كذلك شكلت العرائس والأقنعة جزءاً من كيان المسرح الإفريقي التقليدي، فقد كان تقمّص شخصيات الأسلاف بارتداء الأقنعة ظاهرة واضحة في الشعائر الدينية لقبائل اليوروبا، كما أنه في التقاليد الدينية لقبيلة الإيبو، حيث يقوم المشتركون في احتفالاتها بتعديل هوياتهم عن طريق ارتداء الأقنعة والملابس المختلفة(21).

كما تميّز المسرح الإفريقي التقليدي بوجود كوريفيه (رئيس الجوقة)، وهو الذي يقود الحركة، يسانده في ذلك كورس، كما أنّ الجمهور الملتف حول مكان العرض المسرحي كان يشارك فيه، وهو بذلك يقوم بدور المشاهد والمؤدي(22).

ويعدّ الرقص إحدى السمات الشكلية البارزة للعروض الدرامية الإفريقية التقليدية، وهو غالباً ما يكون مصاحباً لكافة أنواع العروض الإفريقية، دينية أو اجتماعية، كأداء تعبيري، ووسيلة للبوح عمّا في النفس من مشاعر وأحاسيس، ويكاد ألا يخلو عرض درامي تقليدي من مواكبة الرقص له.

ويشير د. على شلش لبعض السمات الشكلية الأخرى للمسرح الإفريقي التقليدي، منها أنه: مسرحٌ مجاني للعاملين فيه والمتفرجين عليه، وأنّ الديكور فيه طبيعيٌّ يوحي بالبساطة والثقة، وأنه مسرح لا يعرف البهرجة والمغالاة في الأزياء، وإن كان للأزياء أهمية خاصة لأنها مرتبطة بالشعائر والأسلاف(23).

أما أسلوب التعبير وطريقته؛ فيرتكز غالباً على فكرة المكان الدائري، والذي يجمع ما بين الكلمة والغناء والحركة، وكانت هذه الطقوس والممارسات تتطلب بالطبع مكاناً وفضاء يأخذان مسحة مقدسة بوجود كاهن؛ حيث يُفترض وجود الآلهة، ولذا يجب أن يكون مكاناً يجتمع فيه حشد، وعادةً ما يكون ذلك المكان على شكلٍ دائري(24).

ويشير جيمس أمانكولورJames Amankulor إلى سمةٍ أخرى مميزة، فالعروض التقليدية ربما تستمر لساعات معدودة كالعروض المعاصرة، وربما تستمر لأمسية كاملة أو ليوم، والمثير أنها قد تصل لأسبوع أو أكثر في بعض الأحيان، كما يحدث في عروض الأوو Owu التي يقيمها شعب نجوا Ngwa والإجو Ijo في شمال نيجيريا(25).

رابعاً: وظائف المسرح الإفريقي التقليدي
يتميّز المسرح الإفريقي التقليدي بأنه مسرحٌ وظيفي في الأساس؛ ويشير د. علي شلش لبعض تلك الوظائف والأدوار، فيذكر أنّ المسرح الإفريقي التقليدي يعتبر مرآة للحياة متصلة بالطبيعة الكونية، وأنه يعدّ أداة للمحافظة على تقاليد الجماعة وقيمها، وأنه أداة تعليم وتثقيف(26)، ويقول الباحث عليون ديوب: «شكّلت العروض المسرحية التقليدية رابطة اجتماعية، وسلاحاً فكريّاً، ووسيلة للوعي الجماعي، وفي أحيان أخرى علاجاً، أو وسيلة قهر، حيث كانت عروض المسرح الأولى مستوحاة من العروض الدينية التي تخضع لها الجماعة»(27).

ويؤكد جان بلييا دور المسرح الإفريقي التقليدي في تشكيل الوعي الجماعي للجماعات الإفريقية قائلاً: «إنّ هذا المسرح يعكس بقوة الوعي الثقافي والسياسي والديني في هذا الوقت للشعوب الإفريقية»(28)، كما يؤكد بابا كار وظيفة المسرح الإفريقي التقليدي في التثقيف وتشكيل الهوية، والنظر إليه كأداة للحفاظ على وجود تلك الشعوب، فيقول: «كان المسرح الزنجي الإفريقي التقليدي ذا دورٍ بارز في التثقيف، وتحديد الهوية، والتكامل الاجتماعي، فقد كان المسرح في المجتمع التقليدي الإفريقي بمثابة «بلازما الوجود» لهذا المجتمع»(29).

ويمكن توضيح أهم الوظائف والأدوار التي يقوم بها المسرح الإفريقي التقليدي، التي أشار إليها الباحثون، فيما يأتي:

الوظيفة الدينية:
هي أقدم وظيفة قام بها المسرح الإفريقي التقليدي، وقد أشار إليها العديد من الباحثين، ومنهم جان بلييا حين قال: «ليس هناك مجال للشك في أنّ «إفريقيا التقليدية»، من السنغال إلى زائير، مروراً بمالي وساحل العاج وجمهورية البنين ونيجيريا، تقدّم عروضاً يختلط فيها التمثيل بالطقوس الدينية»(30).

الوظيفة الاجتماعية:
وربما تكون هذه الوظيفة إحدى أهم وأبرز وظائف المسرح الأفريقي التقليدي الذي لا ينفصل مطلقاً عام عن الحياة الإجتماعية، فمهمته هي توصيل ما يريد المجتمع التعبير عنه. فالمسرح هنا ليس مجرد ظاهرة ولكنه تعبير عن حياة الانسان، والإنسان لا معنى له، ولا يمكن تصوره خارج المجتمع. ومن سمات الإنسان الأفريقي ارتباطه الوثيق بمجتمعه، ولذلك نجد أن أفراد المجتمع يتشاركون سويا في مختلف المناسبات والاحتفالات الاجتماعية كالزواج ومراسم الدفن والبلوغ والختان ومواسم الحصاد ورحلات الصيد وأمسيات الحياة اليومية وغيرها من المناسبات. وتأتي الدراما لتعبر عن هذا الترابط وهذه الممارسات الحياتية.

الوظيفة التثقيفية والتعليمية:
وهي إحدى وظائف المسرح المهمّة، حيث يعرض القصص التعليمية والأخلاقية، والحكايات التاريخية عن الأبطال والأسلاف وبطولاتهم وأعمالهم الجليلة، بهدف توعية الجمهور، وتوجيهه نحو المبادئ والقيم والأخلاق النبيلة، من أجل ترسيخ الانتماء للجماعة العرقية، أو للقبيلة التي ينتمون لها، والاعتزاز بتاريخهم وماضيهم البطولي.

الوظيفة الترفيهية:
وهي وظيفة أساسية من وظائف العروض المسرحية والتمثيلية بشكلٍ عام، في الأمسيات الليلية، للتسلية والإمتاع.

الوظيفة العلاجية:
وهذه الوظيفة لا تتمتع بالانتشار والشهرة كباقي الوظائف السابقة، ويتم فيها توظيف بعض العروض الدرامية في العلاج، وبخاصة العلاج النفسي وطرد الأرواح الشريرة، وقد أشار عليون ديوب لأهمية هذه الوظيفة بقوله: «فضلاً عن كونه (المسرح الإفريقي التقليدي) وسيلة للترفيه، فعليه مهمات أساسية، أكثرها أهمية تتركز في أهدافه التعليمية والعلاجية»(31)، ومن أمثلة تلك العروض العلاجية طقوس (الزار) المعروفة في شرق إفريقيا عامّة، وفي إثيوبيا بشكلٍ خاص.

الخاتمة
«لقد وصل المسرح الإفريقي التقليدي إلى حدّ الكمال، مثله في ذلك مثل مدارس المسرح العريقة»(32)، بهذه الكلمات وصف الباحث السنغالي موريس سونار سنجور المسرح الإفريقي التقليدي، فهل يمكن قبول هذا الوصف المثالي للمسرح الإفريقي التقليدي؟

بالرغم من كلّ مميزات هذا المسرح التقليدي؛ فإنّ المسرحية باعتبارها شكلاً فنيًا مستقّلًا لم تصل إلى مرحلة متطورة كاملة في إفريقيا التقليدية(33)، وكذلك الحال بالنسبة للأداء المسرحي، ولذا لا يمكن القول بأنّ المسرح الإفريقي التقليدي قد وصل لمرحلة الكمال والمثالية، فعلى الرغم من ثرائه وتعدد وظائفه، وعمق وقوة تأثيره، فقد ظلّ مرتبطاّ بمجتمعه البدائي، وتوقف عند تلك الدرجة، ولم يتطور كنظيره الأوروبي الإغريقيّ الأصل.

وفي هذا السياق؛ لا يمكن إلقاء اللوم فقط على كاهل المجتمعات الإفريقية التي لم تنمّ وتطور مسرحها بشكلٍ مستمر ليصل لمرحلة النضج والكمال، بل إنّ هناك جزءاً كبيراً من المسؤولية عن إعاقة تطوّره يقع على عاتق الغرب وسياساته الاستعمارية، فقد حارب الاستعمار هذا النشاط الدرامي الاجتماعي وأعاقه عن التطور، واعتبره ممارسات متخلفة، وقام النظام الاستعماري، في معظم القارة، بفرض لغاته ونُظمه التعليمية وأحكامه القيمية، ومفاهيمه، وتصوراته الجمالية عن الأدب والمسرح، على جموع الطلاب والدارسين، وفرض أشكالاً ونماذج مسرحية غربية، مثل: موليير وشكسبير، عن طريق إحضار فرق مسرحية أوروبية من الفرق المتجولة، لتعمل على رفع التذوّق الفنّي للشعب الإفريقي وتعليمه اللغة الأجنبية(34)، وبذلك تم تبنّي المسرح الأوروبي بشكله وموضوعاته باعتباره الصورة المثلى والمثالية.

ومن ناحية أخرى، تبنت بعض المؤسسات والإرساليات المسيحية محاربة هذا اللون الدرامي وأعاقته وقامت بتشويهه ومحو الطابع الثقافي له، وأحلّت محلّه أشكالاً جديدة للتعبير، من الأعمال الدرامية المستوردة الشكل والمضمون، وفرضتها على الأفارقة بوصفها الشكل الأمثل للتعبير الدرامي، وبذلك تمّ إحلال مشاهد مأخوذة من التوراة محلّ الطقوس الإفريقية، في صورة عروض مسرحية، مثل قصة آدم وحواء (عليهما السلام)، ويوسف (عليه السلام) وإخوته(35)، ويفسر د. علي شلش لجوء الإرساليات في محاربتها للدراما التقليدية إلى الدراما الأوروبية التعليمية الحديثة والدينية بوجهٍ خاص، بأنها كانت تهدف من ذلك إلى امتصاص طاقة الإفريقيين الدرامية وحبّهم للدراما من ناحية، ونشر اللغات الأوروبية، وتدعيم عملية التحول إلى المسيحية من ناحية أخرى(36).

وبرغم هذا التوقف؛ فإنّ المسرح الإفريقي التقليدي أدى دوراً كبيراً ومؤثّراً في نشأة الدراما الإفريقية الحديثة المكتوبة وتأسيسها، فقد كان، وما زال، نبعاً مهمّاً من منابع الدراما الحديثة التي نشأت واستوت على سوقها في مختلف أقطار القارة، سواء الدراما المكتوبة باللغات المحلية، أو الدراما المدوّنة باللغات الأوروبية.

ولا يزال كتّاب المسرح الأفارقة، في أرجاء القارة الإفريقية، حتى اليوم، يستلهمون من تراثهم وتقاليدهم الدرامية التقليدية التي لا تنضب الكثير من الموضوعات المتميزة، والأقوال المأثورة، والأمثال الموروثة، والشخصيات الفريدة، والصور والأخيلة، وأشكال الأداء المتعددة، الأمر الذي يمكّنهم من تقديم مسرحٍ يمتاز بطابعه الإفريقي الأصيل في إطارٍ مسرحيٍّ معاصر، يعيدون به اكتشاف ذواتهم الإفريقية، ويستعيدون به توازنهم المفقود خلال الحقبة الاستعمارية، ويؤكدون فيه هويتهم الإفريقية وقيمهم الإنسانية.

(أستاذ مساعد بمعهد البحوث والدراسات الإفريقية ، جامعة القاهرة)

(نقلاً عن قراءات أفريقية)

الإحالات والهوامش:
(1) حسين، إلهامي (1977): "تاريخ المسرح"، سلسلة كتابك، عدد 151، دار المعارف - القاهرة، ص ص (5– 6).

(2) شلش، علي (1979): "الدراما الإفريقية"، سلسلة كتابك عدد 100، دار المعارف - القاهرة، ص 25.

(3) شلش، علي (1993): "الأدب الإفريقي"، مرجع سابق، ص 100.

(4) شلش، علي (1993): "الأدب الإفريقي، مرجع سابق، ص 104. وكذلك شلش، علي (1979): "الدراما الإفريقية"، مرجع سابق، ص ص (22 - 23).

(5) انظر: "المسرح في جنوبي إفريقيا"، مقدمة ترجمة مسرحية "البقاء"، لمزيد من التفصيل راجع: سلسلة من المسرح العالمي، مسرحية "البقاء"، تأليف جماعة العمل الدرامي 71، ترجمة صخر الحاج حسين، العددان 310-311، يوليو – أغسطس 1998، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب – دولة الكويت، ص ص (122 – 123).

(6) Michael L. Greenwald, Roberto D. Pomo and Roger H. Schultz (2000): "The Longman Anthology of Drama and Theatre: A Global Perspective", Addison Wesley Longman Publishers, New York, pp.1252.http://wiki.archmereacademy.com/sandbox/groups/bmanelskidrama03701/wiki/eb66a/attachments/bc713/African%20Theatre%20History.pdf?sessionID=f84622dc7584a0db5425494784f833894a71514

(7) تعد مسرحية "الموت وفارس الملك" Death and the King’s Horseman إحدى أشهر مسرحيات الكاتب النيجيري الشهير وول شوينكا، صاحب جائزة نوبل في الأدب لعام 1986، والتي صدرت في عام 1975عن دار نشر: اير ميتيون Eyre Methuen بلندن. وقد تمت ترجمتها للغة العربية، ونشرت ضمن سلسلة من المسرح العالمي الصادرة عن وزارة الإعلام بدولة الكويت، العدد 218 لعام 1987م، ولمزيد من التفصيل راجع : وول سوينكا (1987): "الموت وفارس الملك"، ترجمة علي حجاج، سلسلة من المسرح العالمي، عدد 218، وزارة الإعلام – الكويت.

(8) Michael L. Greenwald, Roberto D. Pomo and Roger H. Schultz (2000): "The Longman Anthology of Drama and Theatre: A Global Perspective", Op. Cit. ,pp. 1252-1253

(9) شلش، علي (1979): "الدراما الإفريقية"، مرجع سابق، ص 19.

(10) بلييا، جان (1995): "دور المسرح في التنمية الثقافية في إفريقيا"، في "قضايا المسرح الإفريقي: مجموعة أبحاث (1995): ترجمة فيفي فريد، الطبعة الثانية، أكاديمية الفنون– وحدة الإصدارات، مسرح (5) - القاهرة، ص 16.

(11) الخضر، عبد الباقي: "المسرح الإفريقي... لحظات من الانطلاق". http://www.startimes.com/?t=9587372

(12) Amankulor, James Ndkukaku (1976): "Traditional Black African Theatre", Ufahamu- Journal of African Studies, University of California, Volume 6, Issue 2, 1976, pp.34-35.

https://escholarship.org/uc/item/62h239n3

(13) ليجيه، فرانسواز (1995): "المسرح الإفريقي والمسابقات المسرحية بين الدول الإفريقية"، مرجع سابق، ص 146.

(14) سنجور، موريس سونار (1995): "المسرح السنغالي"، في "قضايا المسرح الإفريقي: مجموعة أبحاث (1995): ترجمة فيفي فريد، الطبعة الثانية، أكاديمية الفنون – وحدة الإصدارات، مسرح (5) - القاهرة، ص 33.

(15) شلش، علي (1993): "الأدب الإفريقي"، مرجع سابق، ص 101. وكذلك بلييا، جان (1995): "دور المسرح في التنمية الثقافية في إفريقيا"، مرجع سابق، ص 16.

(16) ديوب، عليون أونج (1995): "تأملات حول المسرح الإفريقي قبل الاستعمار المعاصر"، مرجع سابق، ص ص (104 ، 105).

(17) شلش، علي (1979): "الدراما الإفريقية"، مرجع سابق، ص ص (23 – 24).

(18) شلش، علي (1993): "الأدب الإفريقي"، مرجع سابق، ص 101.

(19) شلش، علي (1993): "الأدب الإفريقي"، مرجع سابق، ص 101. وكذلك بلييا، جان (1995): "دور المسرح في التنمية الثقافية في إفريقيا"، مرجع سابق، ص 16.

(20) Omolola, Patience (2006): "Traditional African Theater: The Case Study of The Gambia and Senegal", Performing Language: International Conference on Drama and Theatre in Second language Education, February 3rd - 5th, 2006, University of Victoria - CANADA.

http://web.uvic.ca/~hnserc/IAPL/en/conference/pre/abpre/200616.pdf

(21) انظر: مقدمة ترجمة مسرحية "هرج ومرج في المنزل"، بقلم نايف خرما، ص 5، لمزيد من التفصيل راجع: سلسلة من المسرح العالمي، مسرحية "هرج ومرج في المنزل"، تأليف كويسي كاي، ترجمة نايف خرما، العدد 199، أبريل 1986م، وزارة الإعلام - الكويت، ص 5.

(22) سنجور، موريس سونار (1995): "المسرح السنغالي"، مرجع سابق، ص 33.

(23) شلش، علي (1979): "الدراما الإفريقية"، مرجع سابق، ص 21.

(24) ديوب، عليون أونج (1995): "تأملات حول المسرح الإفريقي قبل الاستعمار المعاصر"، مرجع سابق، ص 104.

(25) Amankulor, James Ndkukaku (1976): "Traditional Black African Theatre", Op. Cit., p. 35.

https://escholarship.org/uc/item/62h239n3

(26) شلش، علي (1993): "الأدب الإفريقي"، مرجع سابق، ص 104. وكذلك شلش، علي (1979): "الدراما الإفريقية"، مرجع سابق، ص 23.

(27) ديوب، عليون أونج (1995): "تأملات حول المسرح الإفريقي قبل الاستعمار المعاصر"، مرجع سابق، ص 104.

(28) بلييا، جان (1995): "دور المسرح في التنمية الثقافية في إفريقيا"، مرجع سابق، ص 16.

(29) با، بابا كار (1995): "المسرح الزنجي الإفريقي ونظام ثقافي جديد"، في "قضايا المسرح الإفريقي: مجموعة أبحاث (1995): ترجمة فيفي فريد، الطبعة الثانية، أكاديمية الفنون – وحدة الإصدارات، مسرح (5) - القاهرة، ص 172.

(30) بلييا، جان (1995): "دور المسرح في التنمية الثقافية في إفريقيا"، مرجع سابق، ص 16.

(31) ديوب، عليون أونج (1995): "تأملات حول المسرح الإفريقي قبل الاستعمار المعاصر"، مرجع سابق، ص 105.

(32) سنجور، موريس سونار (1995): "المسرح السنغالي"، مرجع سابق، ص 33.

(33) انظر: "حول الأدب المسرحي الإفريقي"، مقدمة ترجمة مسرحية "الموت وفارس الملك"، لمزيد من التفصيل راجع: سلسلة من المسرح العالمي، مسرحية "الموت وفارس الملك"، تأليف وول سوينكا، ترجمة علي حجاج، العدد 218، نوفمبر 1987، وزارة الإعلام - الكويت، ص 6.

(34) بلييا، جان (1995): "دور المسرح في التنمية الثقافية في إفريقيا"، مرجع سابق، ص 17.

(35) بلييا، جان (1995): "دور المسرح في التنمية الثقافية في إفريقيا"، مرجع سابق، ص 17.

(36) شلش، علي (1993): "الأدب الإفريقي"، مرجع سابق، ص 100.