بعد مؤتمرات ثلاث كبيرة عقدت في الرياض حضرها دونالد ترامب الرئيس الأميركي الجديد، وزعماء دول الخليج، والعديد من الزعماء العرب و"المسلمين". وصورة كانت تشير الى تأسيس تحالف كبير لمواجهة إيران. انفجر صراع مفاجئ بين السعودية والإمارات والبحرين ومصر من طرف وقطر من طرف آخر، حيث قررت هذه الدول قطع علاقاتها مع قطر، وفرض حصار بري وبحري وجوي عليها، ومطالبتها بعديد من القضايا، أولها "وقف دعم الإرهاب". ولقد ظهر أن ترامب مؤيد لهذه الخطوة رغم ارتباك موقف إدارته، الذي بدا أقرب الى قطر.
إن اتهام قطر بدعم الإرهاب من قبل هذه الدول أمر يثير السخرية، ليس لأنها لم تدعم الإرهاب، فقد دعمته، وكانت الصفقة الأخيرة التي تعلقت بإطلاق سراح 26 من العائلة المالكة جرى اختطافهم في العراق من قبل ميليشيات طائفية "شيعية"، مقابل دفع مليار دولار لهذه الميليشيا ولجبهة النصرة وأحرار الشام، وحيث تضمنت الصفقة تهجير قرى الفوعة وكفريا مقابل تهجير الزبداني رغماً عن السكان، وكذلك إطلاق النصرة وأحرار الشام عناصر من حزب الله وإيران. وكانت هذه الصفقة هي المثال الذي يؤكد دعم قطر للإرهاب، والتي جرى إقناع ترامب على ضوئها بدعم الخطوات السعودية الإماراتية القائمة على تحويل الصراع ضد قطر.
طبعاً، وبالتأكيد، لا يتعلق الأمر بدعم الإرهاب، حيث ان أميركا هي التي صنعت الإرهابيين بدعم مالي سعودي، ولقد عملت السعودية منذ عقود على تعميم الوهابية ودعم المجموعات السلفية، واستثمرت في الإرهاب أكثر من أيّ دولة أخرى. دعمت تنظيم القاعدة، ودعمت جبهة النصرة، ودعمت الكثير من المجموعات السلفية في العديد من البلدان العربية، من مصر الى ليبيا الى تونس والمغرب والجزائر وسورية والعراق ولبنان واليمن، وغيرها، بغض النظر عن الحجج التي تبرر ذلك، سواء تعلق الأمر بمواجهة جماعة الإخوان المسلمين، أو التصدي للميليشيات الطائفية "الشيعية" وإيران، أو غيرها. ولم تبتعد الإمارات عن دعم مجموعات سلفية في سورية واليمن وليبيا وغيرها. وبالأصل كان تأسيس مجموعات إرهابية "إسلامية" من تنظير بريجنسكي، وقامت الإدارات الأميركية المتعاقبة بتغذية الأمر، وهي أساس وجود تنظيم القاعدة وداعش والنصرة والعديد غيرها.
إذن كل هؤلاء دعموا ويدعمون، موّلوا ويمولون، الإرهاب والأصولية. وربما دخلت قطر متأخرة على هذا المجال، لأنها راهنت منذ زمن على جماعة الإخوان المسلمين، ولم يتغيّر موقفها إلا بعد أن فشل مشروعها الإخواني في مصر، وليبيا وسورية، حيث تحوّلت الى دعم مجموعات إرهابية. لهذا لا بد من فهم انفجار الصراع بعيداً عن التبرير الشكلي الذي يكرره إعلام السعودية والإمارات ومصر، والدول التي انجرفت وراء هؤلاء. ويمكن القول بأنه صراع على من يهيمن على المنطقة، من يصبح له القرار في مسار المنطقة؟ وهو صراع بدأ بشكل واضح منذ بداية القرن الحادي والعشرين على الأقل.
فإذا كانت السعودية تستعد لقيادة الوطن العربي بعد موت جمال عبد الناصر وانقلاب السادات، فقد أتى توقيع اتفاق كامب ديفيد لكي يعزل مصر ويُضعف دور السعودية، مقابل صعود دور العراق، وقدرة النظام السوري على الهيمنة الإقليمية، رغم علاقته الجيدة مع السعودية. في الثمانينات كانت السعودية مضطرة للوقوف خلف النظام العراقي في حربه ضد إيران بعد أن قادت الثورة الإيرانية الى استلام الخميني السلطة. بعد نهاية الحرب العراقية الإيرانية، احتلّ العراق الكويت، وتدخلت أميركا بقواتها فحجّمت الدور العراقي، لكنها استقرت في الخليج بعدد من القواعد العسكرية. وما أن انتهت آثار حرب الكويت التي كلفت دول الخليج مبالغ طائلة، وحاولت السعودية أن تلعب دوراً قيادياً، وإذا بقطر تتقدم خصوصاً بعد أن استقرت بها أكبر قاعدة أميركية في الخليج، وأطلقت قناة الجزيرة.
ربما هذه المرحلة الأخيرة هي التي نواجه محاولات إنهائها الآن. فقد لعبت قطر من خلال قناة الجزيرة على "تكبير" دورها، بعد أن أصبحت هذه القناة مركزاً إعلامياً مهماً، يجذب الانتباه، والالتفاف من كل حدبٍ وصوب. وباتت "حرية الرأي" فيها تفضي الى أزمات مع الدول المجاورة، والمهنية الى مشاكل عويصة مع هذه الدول. في الوقت الذي كان التنافس فيه يجري على توظيف الفوائض المالية النفطية في البلدان العربية، وبلدان أخرى في العالم، يتصاعد. فكل من دول الخليج العربي تريد الاستثمار في العقارات في مصر وتونس والمغرب وسورية، بالتالي تريد "تزبيط" نظم هذه البلدان لكي تستحوذ على الحكم الأكبر من الاستثمار. ولقد نجحت قطر (بالتفاهم مع تركيا) على "احتكار" الاستثمار في سورية عبر العلاقة الجيدة التي باتت قائمة منذ اغتيال رفيق الحريري، والخلاف السوري السعودي. كما أن الإمارات كانت ترى كيف يكبر دور قطر، البلد الصغير، وهي تتهمش عالقة بين السعودية وقطر. وكانت كذلك تريد الاستثمار في العقارات في تلك البلدان ذاتها، خصوصاً وأن الاستثمار في العقار كان هو الموضة الرائجة.
وإذا كان الصراع السعودي الإيراني في تفاقم خلال هذه السنوات مع ميل إيران للتوسع أكثر، فقد طورت قطر علاقات جيدة مع إيران، وربما كان التقارب مع النظام السوري يسهّل الأمر أكثر. بينما كانت الإمارات تقيم علاقات اقتصادية هادئة مع إيران رغم الخلاف الكبير حول الجزر التي تحتلها إيران. ولقد ظهر واضحاً مع نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أن قطر تطور علاقاتها مع تركيا وإيران والنظام السوري، بينما كانت السعودية (وربما الإمارات) تسير خلف سياسة جورج بوش الإبن، الذي احتلّ العراق وقبلها أفغانستان، وكانت تبدو سياسته وكأنها تصبّ في مصلحة إيران بعد أن أشركها في الوضع العراقي، وسمح للميليشيات التي أسستها لأن تحكمه. وكانت مصر في هذا الصفّ.
الثورات في البلدان العربية عمقت من الخلافات، خصوصاً بين السعودية والإمارات من طرف، وقطر من طرف آخر. حيث وجدت قطر أنها فرصة لكي تفرض هيمنة على المنطقة من خلال التحالف الذي بات وثيقاً مع جماعة الإخوان المسلمين، والذين كانوا قد أصبحوا قوة المعارضة الأساسية، والذين أصبحوا محلّ ترحاب من قبل الولايات المتحدة بعد رئاسة باراك أوباما، الذي كان يميل لإشراكهم في الحكم. ولقد أصبحوا هم السلطة في تونس وفي مصر، ثم مشاركون في السلطة في المغرب، واليمن، والقوة المسيطرة على المعارضة في سورية التي كان يجري الدفع القطري التركي الفرنسي لفرض المجلس الوطني السوري المهيمن عليه من قبل الإخوان بديلاً للنظام. بهذا ظهر أن قطر تتحوّل الى إمبراطورية، وأنها باتت قاب قوسين أو أدى من السيطرة الكاملة على المنطقة العربية.
في المقابل كانت السعودية والإمارات ضد الثورات، حيث تمسكتا بالنظم القائمة، التي كانت في تواشج معها (فيما عدا النظام الليبي، والعقيد القذافي). وكانتا تريان أن ما يجري يهزّ كل المنطقة، وربما يسقطها كلها. لهذا دعمتا بن علي وحسني مبارك، وناورتا في اليمن لإبقاء علي عبدالله صالح، ثم اضطرتا لإزاحته لمصلحة شخص من بنية النظام ذاته. وفي سورية كانتا مع النظام السوري، في السرّ، رغم التصريحات العائمة المعلنة، ودعمتاه بالمال، وساعدته السعودية على "تخريب" الثورة من داخلها. وإذا كانت أميركا قد نقلت الملف السوري من قطر الى السعودية بداية سنة 2013، فقد أدى دخول حزب الله والميليشيا الطائفية الإيرانية والمدعومة منها وسيطرة إيران على القرار السياسي السوري الى اختلاف سعودي مع النظام دون أن يعني ذلك دعم الثورة.
ربما كان تضخّم دور إيران بعد أن باتت تعلن أنها تسيطر على أربعة عواصم عربية، وميل باراك أوباما للتفاهم معها، وتحويل وجهة أميركا نحو إيران، هو الذي دفع نحو "مصالحة" قطر بعد الأزمة التي حدثت سنة 2014، والتصالح مع جماعة الإخوان المسلمين من طرف السعودية، حيث كان الجهد ينصبّ مع استلام سلمان بن عبد العزيز الحكم على تشكيل "تحالف سني" ضد إيران. وبهذا شاركت قطر مع كل من السعودية والإمارات ودول أخرى في التحالف الإسلامي الذي تدخّل عسكرياً في اليمن بعد سيطرة علي عبدالله صالح والحوثيين عليه. رغم استمرار التنافس في ليبيا الذي أجج الصراع المسلح، وسورية الذي فكك الكتائب المسلحة وأوجد لكل دولة أدواتها. وحتى في اليمن لم ينعدم التنافس، رغم أن ما يبدو هو أنه تنافس بين السعودية والإمارات.
وشهدت هذه المرحلة تقارباً مع تركيا، وتطويرٍ للعلاقات الاقتصادية والسياسية، وحتى العسكرية، مع روسيا. وكان يبدو أن دول الخليج تتسابق نحو روسيا، وأن كل منها يريد أن يستثمر فيها.
ربما ظهرت الإمارات أكثر تحفظاً في العلاقة مع قطر خلال هذه الفترة، وظلت تشدد الصراع ضد جماعة الإخوان المسلمين، لكن كان يبدو أن الأمور تسير نحو إنجاح التقارب في مواجهة إيران. خصوصاً أن قطر بعد أزمة سنة 2014 تراجعت قليلاً في طموحاتها، وقللت من دورها الخارجي، وبدت أنها ليست في وارد تصعيد الصراع أمام وضع إقليمي ودولي مرتبكين، وعالم يعاني من ضبابية في المواقف والتحولات. وأن ميل أميركا أوباما نحو إيران كان يفرض استمرار تماسك التحالف الخليجي هذا، والسعي لتطوير العلاقات مع روسيا وتركيا، لأن هذا هو الخيار الذي ربما يعيد التوازن في المنطقة، ويحدّ من أثر التقارب الأميركي الإيراني.
كان ترامب قد أعلن العديد من المواقف خلال حملته الانتخابية، ومنها اعتبار إيران هي الخطر الأول في المنطقة، والتشدد ضد جماعة الإخوان المسلمين، وفرض "خوّة" على دول الخليج العربي، واتهام السعودية بأنها تدعم الإرهاب، ووضع قانون جستا الذي يفرض عقوبات عليها نتيجة أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001. لكن يبدو أن "الترتيبات" التي سبقت مؤتمرات القمة الثلاث في الرياض قد أقنعت السعودية والإمارات بأنه يمكن توجيه الصراع ضد قطر، رغم أن هدف المؤتمرات هذه كان تشكيل تحالف مضاد لإيران. ربما اقتنعت كل من السعودية وقطر إزاء "سلبية" نظرة ترامب لقطر، أن بإمكانها أن تصفّي الحساب القديم، وأن تنهي دورها، وتنهيها كذلك. فالسعودية تريد إنهاء كل احتمالات المعارضة لقيادتها المنطقة في المرحلة القادمة، وحسم سيطرتها الأيديولوجية والسياسية. وما ظهر أنه يتحدى ذلك هما قطر وجماعة الإخوان المسلمين. والإمارات كذلك تريد أن تلعب دور البديل عن قطر، وأن توسّع سطوتها. ويبدو أن حاكم أبو ظبي ذو طموح كبير، حيث يبدو أنه يحلم بوضع اليد على قطر كما فعل مع إمارة دبي، ويكون بذلك قد أصبح منافساً للسعودية (وهو ينافسها الآن في اليمن).
لكن السؤال المطروح هو: ما السبب الذي جعل دونالد ترامب يتخذ هذا الموقف، رغم أن إدارته لا تميل الى ذلك؟
هل لأن قطر تستثمر معظم أموالها خارج أميركا؟ حيث يظهر واضحاً أن استثمارات قطر في أميركا محدودة، فهي تستثمر في إنجلترا وفرنسا وإسبانيا، كما في آسيا، ولقد طورت استثماراتها في روسيا، ليبدو أن ما تستثمره في أميركا محدود، وهذا أمر لا يريح الإدارات الأميركية التي تحرص على إبقاء الدولارات النفطية في أميركا. وإذا كان ترامب مصمم على جلب الاستثمارات الى أميركا كما وضع في برنامجه الانتخابي، سيكون على قطر أن تخضع لذلك. ولقد أشير الى أن على قطر أن توقّع مشاريع وشراء أسلحة بما يقارب ما خصصته السعودية (وعلى الإمارات أن تفعل الأمر ذاته). ربما كان ذلك سبباً في سياسة ترامب "المضادة" لقطر، لكن يمكن ملاحظة أنه في التنافس العالمي القائم ظهر اصطفاف قطر مع تركيا، وفي تقارب مع روسيا (حيث لديها استثمارات كبيرة)، وتميل للتفاهم مع إيران، وربما الصين. وهو أمر لا يريح أميركا، ولا ترامب الذي أتى لكي يعيد "مجد أميركا" بعد أن تلاشى فترة رئاسة باراك أوباما كما يعتقد هو. ولهذا يبدو أنه يريد الاستثمارات، لكنه يريد أن يضمن منع اصطفاف قطر في تحالف خارج السيطرة الأميركية، في عالم بات يعاني من سيولة في التحالفات والاصطفافات.
لهذا يمكن القول أن صراعات دول الخليج تتمثل في مَنْ الذي يجب أن يهيمن، ومن الذي يسيطر اقتصادياً، في ظل الميل الأميركي لنهب أموالها كلها، وإعادة اخضاعها للهيمنة القديمة بعد أن سمح تراجع أميركا في ظل أوباما لتفلّتها وميلها لتطوير علاقاتها مع روسيا وأوروبا. بالتالي ستعود أميركا الى ترتيب الوضع الخليجي بعد أن تكون قد "أخضعت" قطر، قطر التي تحوي أضخم قاعدة أميركية في المنطقة وبعد أن تكون قد تحصلت على أموال طائلة تحت مسميات شراء سلاح واستثمار في أميركا.
كما أشرت منذ البدء ليس دعم الإرهاب هو سبب حصار قطر، فليس السعودية أقل دعماً له على العكس هي البلد الأكثر دعماً للإرهاب، وهي بتعميمها الوهابية ودعم السلفية، و"الجهاديين"، تقوم بالدور الأكبر في سياق تناسق مع الولايات المتحدة. والإمارات تدعم مجموعات إرهابية سلفية في اليمن وليبيا وسورية وربما في بلدان أخرى، كذلك فعلت قطر. لهذا يمكن التأكيد على أن الأمر يتعلق بمن يهيمن في الخليج وفي المنطقة العربية، هذا هو الأمر الجوهري، وما يجري هو إنهاء أو تقزيم لقطر كي تكون تحت جناح السعودية أو تُباع لإمارة أبو ظبي.