يخلص الباحث إلى أن ما بعد الحداثة تلتقي مع الفضاء التقني، لأنها تمثل انفتاحاً في الميدان الفلسفي، وتقرأ العالم قراءة رافضة للهيمنة. وتلتقي كذلك مع الشعرية الجديدة، كونها تطلق مكنونات الذات المبدعة بطروحات مغايرة. وقد استطاع عدة شعراء الغوص في الواقع الافتراضي للتعبير عنه دون التخلي عن الواقع الإنساني.

شعرية الفضاء التقني

رؤية من منظور ما بعد الحداثة

مصطفى عطية جمعة

مقدمة
تتقاطع في قضية الشعرية والفضاء التقني علاقات عديدة، يتصل أولها بالشعر كمفهوم وجماليات ورؤية ودور للشاعر في الحياة، أما ثانيها فيتعلق بالفضاء التقني الرحب أو ما يسمى بشبكة المعلومات الدولية أو الشابكة، ويتصل ثالثها بالرؤية الفلسفية والمذهبية التي تمثل إطارا مرجعيا جامعا.

إن هذا التقاطع يعبر عن حالة إبداعية تقنية رؤيوية، فنحن أمام حالات إبداعية باتت واقعا، يتعامل معه البشر، يقرأون الإبداع الشعري في استلهامه لهذا العالم الافتراضي ذي الأبعاد غير النهائية، والذي منح الإنسان المعاصر عالما جديدا، يسبح فيه ليل نهار، ويتواصل على ما فيه، وعلى مدار الساعة، مع أجناس بشرية عديدة، ومعارف عديدة. إنه عالم مختلف عما عاشه الشعراء طيلة مسيرة البشرية، فالشاعر منذ القدم، يعيش في نفس العالم البشري الحي الفاعل، أما اليوم فبات بين عوالم عدة، منها حي زاخر بالبشر والقضايا والهموم، ومنها افتراضي يلجه عبر أجهزة متصلة بالشابكة (حاسب آلي ثابت أو محمول، هاتف نقال، أجهزة الحاسوب اللوحي.. إلخ)، ومنها أيضا المقروء الورقي في الكتب والصحف والمجلات، والمسموع الصوتي عبر أثير الإذاعات وشرائط التسجيل والأقراص المدمجة، فكان طبيعيا أن تتغير حساسية المبدع، وهو يعيش مناخات مختلفة، عالم حي في حياته اليومية مع الناس، وعالم الصورة والصوت في أجهزة التلفاز بما تبثه من قنوات فضائية لا حصر لها، وعالم افتراضي تقني ممتد في الشبكة العنكبوتية.

لقد تطور التاريخ الإنساني وفق المادة الخام السائدة في كل عصر، والمستخدمة في صنع أدواته، بدءا من العصر الحجري، والبرونزي، والحديدي والصناعي وما بعد الصناعي حتى عصر المعلومات الذي نعيش فيه الآن، وزادت بالتالي معارف الإنسان واختراعاته، لتساعده في التغلب على مصاعب الحياة، والحكمة تقول إن الحاجة أم الاختراع، وهذا كان في عصور سابقة، والآن تستبق الاختراعات حاجات الإنسان، بل تصبح حاجة تضاف لاحتياجاته السابقة، فمثلا لم يكن الهاتف النقال/ المحمول حاجة ملحة، ولكنه بات الآن من لوازم الحياة، وقد تفاعل إبداع الإنسان مع تطورات حياته وأدواته وأجهزته.

إن تاريخ المعرفة التقنية يشير إلى أن الأطر الاجتماعية هي التي تستثير التقنيات الجديدة، أما الآن فبات العكس، حيث تجاوزت التقنيات البنى الاجتماعية، وبالأخص أنماط المجتمعات التي نشأت فيها، ويمكن وصفها كإعصار بين المجتمعات الحديثة، الكل يتسابق للمزيد من ابتكاراتها، ويمكن رصد معارف تقنية أفلتت من عقالها، غير خاضعة لأية سيطرة أو رقابة، وبعض التقنيات في مستوياتها العليا تظهر قوتها التدميرية للفرد والجماعة(1).

فلا يمكن فصل الإبداع الفني عن التطور التقني للبشرية، بل يكاد يكون الإبداع ملهما للاختراع، وحافزا للمخترعين أن يحلموا، وكلنا يستحضر أحلام ليونارد دافنشي التي عبّر عنها في رسوماته، وكانت ملهمة لكثير من المخترعين بعد ذلك بقرون. على الجانب الآخر، فإن المبدع الأدبي لابد أن يكون واعيا للتطور التقني في مجتمعه، ويواكبه، لأن المبدع معبر عن واقع الحياة وإن حلّق في الخيال، معبر عن المشاعر والرؤى والأحداث والتقنيات جزء منها، فهي الأداة التي يستخدمها الإنسان في حياته، تعقدت أو كانت بسيطة.

إن التقنية ترتبط بالمعرفة، وإذا أردنا تحقيق أهداف أفضل في الحياة، لابد أن نحصل على معرفة أوثق بكل جوانب الحياة، فالمعرفة ذاتها لها قيمة فعالة في حياتنا(2)، لأنها تعلم الشخص بما هو علمي وكائن سواء كان ماديا أو معنويا، فيتيقن الشخص منه، ليصبح حقيقة، تمتزج بالعقل والنفس. لذا فإن المتخصصين في نظرية المعرفة يشيرون إلى أنه من متطلبات امتلاك الفرد للمعرفة أن يكون لديه اعتقاد بالافتراض الذي يتكلم عنه، وأن ذلك الاعتقاد لابد أن يكون معرفة حقيقية، حتى يتحدث عنه المرء بثقة(3)، فما بالنا لو كان المرء مبدعا، والمبدع شاعرا، لا يمتلك المعرفة فقط، بل يعرفها، ويجيد استخدامها، ويجعلها عالما يتعايش معها، ويجعله عالما موازيا لعالم الواقع.

وبالطبع فإن كل نفس تتعامل مع الواقع عبر إدراكها الحسي الخاص بها، فيصبح الواقع "واقعية غير مباشرة"، بحيث نكتسب معرفتنا عن العالم الموضوعي من خلال حواسنا وانطباعاتنا(4).

فلا يظن مبدع أنه يمتلك الرؤية الحقيقية أو الدقيقة أو الصائبة عن الحياة، فهو يعبر عما يصل إليه من حواسه، وما يدركه عقله ويستوعبه، وما يشعر به، فتظل تجربته في تعبيره الإبداعي قاصرة أو محدودة بإدراكه، ويصدق هذا مع الفضاء التقني بكل امتداداته، حين يلجه الشاعر، ويعيش في طياته، ويعبر عما فيه.

وهذا لب السؤال الجوهري الذي تطرحه هذه الدراسة: ما أثر الفضاء التقني في الشعرية الجديدة؟ وبتعبير آخر: كيف عبر الشاعر عن الفضاء الإلكتروني؟

وما بين سؤال الماهية والكيفية، سنناقش عبر محاور ثلاثة وهي: الفضاء الإلكتروني، البعد الفلسفي الرؤيوي، الشعرية.

وقد تم ترتيبها على هذا النحو، بادئين بالكلي المادي المحسوس (عالم التقنية الافتراضية)، ثم الكلي الرؤيوي الفكري (البعد الفلسفي)، ثم التطبيق المباشر على الإبداع الشعري ؛ إدراكا منا أن الفعل المؤثر الحقيقي في الإبداع الشعري التقني يتمثل في هذا العالم الجديد، الموازي لعالم البشر، عالم الفضاء التقني الافتراضي، سنسعى إلى بسط القول فيه توضيحا وترسيخا، موضحين أبعاده، وتأثيراته، على البشر جميعهم وخاصتهم. ومن ثم نتناول الأبعاد الفلسفية المحيطة والمواكبة لهذا العالم الجديد، والتي واكبتها جهود فلسفية وفكرية، منها ما تناولها اجتماعيا، ومنها ما ناقشها نفسيا وفلسفيا، ومن ثم تكون مناقشة الشعرية والتخييل كناتج فاعل للمحورين السابقين، حيث سيتم تأـصيل مفهوم الشعرية وعلاقتها بالتخييل والذات المبدعة، ومن ثم التعرض لكيفية التفاعل بين المبدع والفضاء التقني، وتطبيق الرؤى الفلسفية على إبداعه.

* * *

المبحث الأول
الفضاء التقني: الماهية، التكوين، المفاهيم
الماهية:
بداية، فإن لفظة "فضاء Space" تحمل -معجمياً- مجملاً من المعاني منها: المكان الواسع من الأرض، والفضاء الخالي هو الواسع من الأرض(5)، والفضاء من المكان(6) فهو ما اتَّسع من الأرض، وهو الخالي من الأرض، والفَضَاءُ من الدار: ما اتسع من الأرض أمامها، الفَضَاءُ: ما بين الكواكب والنجوم من مسافات لا يعلمها إِلاَّ الله، غزو الفضاء: اكتشاف مجاهله بواسطة الأقمار الصناعية، الفضاء البعيد: مناطق بعيدة عن تأثير الجاذبيّة الأرضيّة(7).

ونلاحظ أن كلمة الفضاء تعني دلالات عديدة تتصل في جلها بمعان: الاتساع مكانيا، والمكان نفسه، والفضاء من المكان، وأيضا الفضاء الخارجي الحاوي للأفلاك. وبالتالي لا نؤيد لفظة "الحيّز" التي فضّلها البعض مقابلا للمصطلح الإنجليزي Space، بافتراض أن لفظة الفضاء في المعجمية العربية دالة على الخواء والفراغ(8)، لأن الفضاء كما تقدمت دلالاته المعجمية ليس فراغا، وإنما هو دال على مساحات محدودة أو متسعة أو غاية الاتساع كما في الصحاري والبراري، أو لا يعلم اتساعها إلا الله كما في الفضاء الخارجي، ولكنها في جميع الأحوال غير حاوية لفراغ، وبالتالي فإن دلالة فضاء هي الأنسب في الاستخدام، سواء على مستوى السرد أدبيا، أو على مستوى الاستخدامات الأخرى في مجالات عديدة، خاصة أنه يأتي مضافا، فنقول الفضاء الخارجي، فضاء الدار، فضاء الصحراء، فتتحدد دلالته أكثر، ويمكن بالطبع أن تكون لها استخدامات مجازية عديدة.

فعندما نقول "الفضاء التقني أو الإلكتروني" فنحن نعني ما وفّرته تقنيات الاتصالات بواسطة "الإنترنت "، من مساحات واسعة، لا تحدها حدود مادية تقليدية بقدر ما تتمدد في مختلف بقاع العالم، متخطية حدود الجغرافيا والزمان.

وقد استخدمت بعض المجامع العربية لفظة "الشابكة"، انطلاقا من كون "الإنترنت" ما هو إلا التقاء لشبكات، وهي شبكة الـ Internet المؤلفة من جَمْعَةٌ من الشبكات والعبّارات المنتشرة عبر العالم، تَستخدِمُ مَوافيقَ TCP/IP للاتصال فيما بينها. تقوم شبكةُ إنترنت على فِقارٍ backbone مكوَّنٍ من خطوط اتصالاتٍ عالية السرعة، تربط بين العُقد أو الحواسيب المضيفة الأساسية، التي تشمل أنظمة معلوماتية تجارية أو حكومية أو تعليمية، أو أنظمة أخرى مختلفة. وتقوم هذه العُقدُ بتسيير المعطيات والرسائل على الشبكة. ولا يؤدِّي انفصالُ بعضِ العُقد عن شبكة إنترنت إلى توقّفها عن العمل، ولا يؤثر في أدائها، وذلك بفضل عدم وجود حاسوبٍ أو شبكةٍ مركزية تتحكّم في عملها. حيث تقدِّم شبكةُ إنترنت اليوم "طيفاً" واسعاً من الخدمات للمستخدِم، مثل: تبادل الملفات، والبريد الإلكتروني، وWeb، ومجموعات الأخبار، والنفاذ إلى الحواسيب من بعد، والمحادثة الإلكترونية، وغيرها(9).

وبالنسبة لكلمة التقنية(10) فهي الاسم العربي للفظ الإنجليزي الشائع التكنولوجي Technology، وأصلها كلمة ﺇﻏﺭﻴﻘﻴـﺔ ﻗﺩﻴﻤـﺔ (Technologea)، ﻭﻫي ﻤﺸﺘﻘﺔ ﻤﻥ كلمتين (Techne) أي: ﺍﻟﻤﻬـﺎﺭﺓ ﺍﻟﻔﻨﻴـﺔ ﻭ(Logos) ﻭﺘﻌﻨﻲ ﺩﺭﺍﺴﺔ، فالمعنى العام لها دراسة المهارة الفنية(11) وهي أيضا دالة على الاختراعات المفيدة التي تحل مشكلات الإنسان في مجالات الهندسة والصناعة، كما تعني الطرق التقنية المستخدمة في الحياة، وتشمل أيضا الاختراعات في مجال التقنيات(12).

فالتقنية -كنهج- تبحث في بلوغ أهدافها وخدمة الإنسان عن طريق التجريب، شريطة أن تتحلى بمواصفات عديدة مثل: الفائدة، قابلية الاستعمال، الأمان، الاستخدام الفاعل لمنتجات العلم، لذا فهي في حاجة إلى الهندسة كأساس في تصميم أجهزتها، والصناعة لصنع منتجاتها، وترويجها، ومن قبلهما هي في حاجة لعقول المخترعين والمبدعين. إنها لا تأتي من العدم، وإنما جزء لا يتجزأ من النشاط الإنساني، فهي التطبيق الصحيح لفروع المعرفة في قضايا عملية، آخذين في الحسبان تفاوت المجتمعات المستخدمة للفنون والاختراعات التقنية(13).

والفرق بين العلم والتقنية، يتمثل في كون العلم يبحث في إنتاج المعرفة، في حين أن التقنية تبحث فيما يفيد البشر، ويؤثر في حياتهم تأثيرا إيجابيا، ففي المنظور الفلسفي فإن العلم طريق الوصول إلى المعرفة الصحيحة، أما التقنية فلسفيا فهي تبحث في تأثير التقنيات على المجتمع والإنسان والتحولات الثقافية والاجتماعية الممكنة، فالهدف الأول للعلم هو اكتساب المعرفة وفهم العالم، في حين هدف التقنية إفادة الناس في حياتهم العملية، ويكمن معيار النجاح علميا في الوصول إلى الصحة في المعلومة والاكتشاف، أما معيار النجاح تقنيا فهو تحقيق المنتج لغرضه الذي أنتج لأجله، وقبول المستخدمين له(14).

التكوين:
الفضاء التقني/ الإلكتروني ناتج عن تطور وسائل الاتصالات والبث الإذاعي والفضائي، وأيضا ظهور الحاسوب؛ الذي مر بثلاثة أجيال متتالية بداية في القرن التاسع عشر وتوجت في نهاية القرن العشرين، فالحاسوب في جوهره آلة حاسبة لأداء عمليات حسابية، بدأت بابتكار عالم الرياضيات في كمبريدج "شارلس باباج" آلة تحديد الفارق والآلة التحليلية، ولم يكتمل اختراعه، وإنما أسس لإمكانية تخزين المعلومات في الماكينة، وظهرت ماكينات للجدولة والتخزين وكذلك ظهر عام 1939م إمكانية التخزين في أجهزة الهاتف الثابت، وفي عام 1943م ظهر أول حاسوب رقمي ذاتي التشغيل وفي العام 1948م ظهر الجيل الثاني للحاسوب معتمدا على الترانزستور كآلية تشغيل وتخزين وجودة في الأداء، أما الجيل الثالث فبدأ منذ عام 1959م حين عندما ظهر حاسوب دائري متكامل في الأداء، ومن ثم أصبح الحاسوب واحدا من أجهزة الاستعمال في الحياة العامة، مع ظهور الحاسوب الشخصي PC وأحدث تطويرا فيما يسمى تكنولوجيا المعلومات، وقد استفاد الحاسوب من التطورات الكبيرة في الأجهزة الكهربائية مثل التلفاز والإذاعة والسينما وتخزين الصوت والصورة على الشرائط والتطور الحادث في شرائح التخزين(15).

وأصبح "الكومبيوتر" الآن فاعل الحضور في مكاتبنا ومنازلنا، وانكمشت أجهزته في الحجم، وتنامت في القوة، وانخفضت أسعاره انخفاضا هائلا، بمعدل متسارع، وأدخلت رقائق الكومبيوتر رخيصة التكلفة في صناعة المحركات والساعات والفرامل وأجهزة الفاكس والمصاعد ومضخات البنزين والكاميرات وماكينات البيع، وأجهزة الإنذار من السرقة، ويصنع أطفال المدارس الآن أشياء مدهشة باستخدام الحاسوب الشخصي، تفوق في أدائها كومبيوترات الجيل الماضي(16).

وأصبح بإمكان وثائق إلكترونية ثرية المحتوى فعل أشياء لا يمكن لقطعة الورق فعلها، فسوف تتيح لها إمكانيات تخزين هائلة، وستكون عملية توزيعها بالغة السهولة، بجانب ما يسمى الكتب الإلكترونية، مما يؤدي إلى إعادة تعريف الوثيقة نفسها(17)، فتصبح الوثيقة ذات التوقيع الرقمي بديلا عن التوقيع الورقي، وستتاح الوثائق المجانية للناس جميعا، وهناك وثائق ستكون بمقابل زهيد لمن يرغب في المزيد من التخصص(18).

أما الشابكة (الإنترنت) الموصولة بأجهزة الحاسوب، والتي هي في الأساس ناتجة عن التطور في مجال الحاسوب المتصل بشبكات والحاسوب الشخصي، فهي في الأصل شبكةً لا مركزيةً تسمّى ARPAnet أنشأتْها وزارةُ الدفاع الأمريكية في عام 1969 لتوفير إمكاناتِ تبادل المعلومات في حال حدوث هجومٍ نووي. وجرى بعد ذلك ربطُ شبكاتٍ أخرى إلى تلك الشبكة، منها: BITNET وUesnet وUUCP وNFSnet. وقد حدثت انطلاقة "الإنترنت" بين سبتمبر 1993م ومارس 1994م، عندما تحولت الشبكة التي كانت مكرسة للبحث الأكاديمي إلى شبكة شبكات وأصبحت متاحة للجميع، وتسارعت تكنولوجيا الاتصالات، وبات ما يسمى "إيكولوجيا الإنترنت"(19)، أو ما يمكن تسميته "بيئة الشبكة العنكبوتية".

لقد نبتت فكرة الربط باستخدام الحاسوب، في مقالة صادرة في 12 مارس 1989م، حررها "تيم برنرز" البريطاني الذي كان يعمل في مختبر تابع للمنظمة الأوروبية في مجال الأبحاث النووية، واقترح فيه تصورا لطريقة يمكن من خلالها الوصول بسهولة إلى ملفات على أجهزة حاسوب مترابطة بشبكة فيما بينها، وقد بدت فكرته حينها جريئة لدرجة ما كانت لتصبح واقعا يوميا، إلا أن "برنرز" نجح في النهاية في إقناع جهة عمله باعتماد فكرته كنظام في العمل، بعدما أثبت جدواه من خلال جمع الوثائق الموجودة في المختبر ضمن دليل إلكتروني، تم وضعه على الشبكة، وكان الطابع المميز للنظام إمكان النقر على روابط لفتح ملفات محفوظة على أجهزة الحاسوب(20).

هناك دلالة واضحة في اصطلاح "بيئة الشبكة العنكبوتية" على تشكّل بيئة موازية جديدة لعالمنا الواقعي، لأن عالم الإنترنت ممتد متسع، لا نهاية له، آفاقه تلتقي مع طموحات الإنسان في المعرفة والتواصل واستيعاب اللغات والمعلومات والأفكار، يلغي الحدود الجغرافية، أي يلغي الزمان والمكان بمفهومهما القديم، أو بالأدق يعيد تعريفهما في ضوء تلاشي الحواجز المادية المتمثلة في الجبال والوديان والمحيطات والصحاري والمساحات الشاسعة التي تترجم في مئات الآلاف من الأميال، وعشرات الأيام، كي يستطيع الإنسان أن يجتازها ويتواصل مع البشر فيها؛ تواصلا معرفيا وثقافيا وإبداعيا وفكريا.

لقد حرص مطلقو ومطورو ومصممو الشبكة العنكبوتية على أن يمر بثلاث مراحل أساسية، ليست متتالية، أي كل مرحلة تلغي سابقتها، وإنما متوازية أي تعمل جنبا إلى جنب، المرحلة الأولى: مرحلة الشبكة، لتتخطى مستوى الشبكة البسيط الذي يربط أطراف مؤسسة ما، إلى مستوى يربط المدن والدول، والمرحلة الثانية: تتصل بالاستخدام الاقتصادي والتجاري للشبكة، وهو ما تعزز مع امتداد الوصلات السلكية واللاسلكية في مختلف أنحاء العالم، واتصل بمختلف أجهزة الحاسوب وأشكالها، وأيضا أجهزة الاتصال المتمثلة في الهواتف المحمولة وكذلك القنوات الفضائية وغيرها. والمرحلة الثالثة: عندما سعت الولايات المتحدة إلى تحويل الإنترنت إلى رمز سياسي، مستغلة انفتاح أي جهاز حاسوبي وأي وسيط اتصال، لغرض خاص أو عام، رافعة شعار "المغلق سيئ والمفتوح جيد"، ولكن السيناريو لم يكن جيدا، فالانفتاح على دائرة فاعلة، جعل الكثير من الجمعيات والمنظمات والأحزاب والتيارات تروج لما تريد سياسيا وفكريا، ويصدق هذا أيضا على الدول والحكومات(21).

وقد تنبأ البعض أن الشبكة العنبكوتية ستكون مركزة بيد من يملك القوة، يتحكم في الشعوب والبشر والأفكار، ويتيح إمكانيات هائلة في التجسس والتحكم المعرفي وتوجيه الأفكار والناس، ونشر قيم وثقافة الأقوى، والهيمنة بالتالي على الأضعف والأقل. وهذا صحيح بشكل كبير، وحادث بالفعل ضمن منطق القوة، من قبل ظهور الشبكة العنكبوتية، كما تجلى في الهيمنة الغربية عامة، والأمريكية خاصة على الصعيد الإعلامي والفني، فالقوي يفرض ثقافته على الضعاف، وبشكل لا شعوري، فإن الضعيف يتبع القوي وإن كرهه، ويترصد خطاه ويقتفيها، راضيا بتحكمه، كما نرى في تاريخ السينما العالمية وصناعة النشر والفن التي صاحبت حقبة الاستعمار العالمي، ثم انحصار الاستعمار بأشكاله التقليدية، وتواصله بأشكال جديدة من الهيمنة التجارية والسياسية والاستراتيجية وأيضا الفكرية والإبداعية، والصورة الآن جلية، بعد تحرر – تقريبا – كل بلدان العالم الضعيف والأكثر فقرا من الاحتلال الأجنبي العسكري، ورضوخه تحت هيمنة ثقافية وفكرية واقتصادية لنفس المحتلين.

فثمة جهود خارقة بُذِلَت ولا تزال تبذل لكي يتخذ العالم هيئة واحدة، وصارت المحصلة النهائية لمثل هذا التطور في المجال الثقافي مثلا سيادة الصراخ والزعيق الأمريكي (Scream)، وفي المجال التجاري ازداد الطلب على السيل الهائل من السلع التي يجري الإعلان عنها والدعاية لها على مستوى دولي، بحيث بدا كما لو أن محراثا يجوب المعمورة ويقلبها ويقلب المراكز التجارية في مدنها رأسا على عقب، وسادت تبعا لذلك الماركات الأمريكية وما دار في فلكها من علامات الشركات متعددة الجنسيات(22)، وتواكب هذا مع صعود الرأسمالية الدولية، وتخطي الشركات الكبرى للحدود، وزيادة تقنيات الإنتاج، ونقل المصانع، وبات الكثيرون ينظرون إلى كثرة أجهزة الحاسوب، علامة على فقدان ملايين الوظائف القديمة، في ضوء اندماج الشركات لتقليل دورة التصميم والإنتاج والتوزيع، فبات الوضع رهن ما تراه الشركات العملاقة التي ترغب في التوسع الجغرافي والامتداد الكبير والترويج لسلعها، على حساب قيم وثقافات كثيرة(23).

فنظم المعلومات المنشأة كانت تستبعد الفرد وتضفي على العملية طابعا غير شخصي أملا في القدرة على التحكم القائمة على رسم حدود الواقع –أي تغيير وضع قواعد اللعبة وحدود المواجهة– على أيدي مصالح لا تتطابق بالتأكيد مع الاحتياجات القومية والاجتماعية والثقافية للشعوب والأفراد، فعنصرا الشبكة العنكبوتية هما: مخطط النظام ومبرمج الحاسوب، والعميل أو المتلقي(24)، ومن ورائهما الممول، سواء كان فرداً أو مؤسسة أو حكومة؛ وله أجندته الخاصة، الموّجهة لسياسة الشبكة أو الموقع.

وإن كان يمكن ملاحظة تمرد على هذا التحكم، بدأ محدودا وآخذ في الاتساع، رافضا الهيمنة والسيطرة في كافة الأصعدة، ويمكن رصد مواقع عالمية (بحثية ومعلوماتية)، يستخدمها مئات الملايين من البشر، تبث ما تشاء من أفكار ومعلومات موجهة توجيها خاصا، وفي ثناياها هناك مواقع صغيرة أشبه بالنقاط المتناثرة في الصفحة الورقية، تزعق بالتمرد والرفض والتميز، ولكنها تبدو في خضم السيل، وفي جسد العمالقة، وفي أحسن الأحوال بقع ضوئية، قد تكبر مرات، وقد تتضاءل أو تتلاشى.

وهذا يفرض الكثير على المبدع، لأنه يكون متصورا أنه في عالم رحب، حدود الحرية واسعة، تكاد تكون بلا سقف، ويكتشف أنه يخضع -شاء أم أبى– لمصممي التقنيات، وهيمنة المواقع الإلكترونية الكبرى، ومصمميها، وكيف أنها تتعامل مع المتلقي وفق مبدأ العميل، وهذا منطقي، لأن الأساس والهدف اقتصاديان، والتوجه تجاري، مما يضطرنا إلى إعادة القراءة والفهم.

مفاهيم متعلقة:
أدى ظهور الفضاء التقني/ الإلكتروني، إلى استحداث مفاهيم جديدة، وإعادة تعريف مفاهيم سابقة، في ضوء الثورة المتحققة بفضل هذه الوسيلة.

إن إعادة تعريف التباعدية الزمانية المكانية تعد من أهم سمات التقنية المعاصرة في مجال المعلومات ومن منظور الحداثة Modernism كما يقرر العالم البريطاني أنطوني جيدنس Anotny Giddens، وتعني: الانفصال بين الزمان والمكان بالشكل المتوارث، واللذين كانا مترابطين في المجتمعات التقليدية، وإعادة تركيبهما بطرق مختلفة، فالبريد الإلكتروني مثلا يعطي تفاعلا بين الناس في أماكن مختلفة في زمن واحد، فيضع المستخدمون جانبا اختلاف الأوقات، وتباعد الأمكنة، ليتفاعلوا مع بعضهم(25).

أيضا، فإن مفهوم "التقارب" متولد بين صناعات الوسائط والاتصالات عن بعد، وهو ناتج عن تسارع الثورة الرقمية وثورة البيانات كموجة ضخمة في اتجاه ساحل التنظيم الصخري وهو تنظيم الدولة لقطاع الاتصالات، ومع اقتراب الحوسبة من الاتصال، ازداد التقارب الآلي، وأصبح هناك ما يسمى "أنسنة التقارب"، وهو يعني تغيير طرق حياتنا وعملنا وتبديل مدركاتنا ومعتقداتنا ومؤسساتنا(26).

فتم التقارب على مستوى الأفراد والجماعات والمؤسسات، عبر تعزيز شبكات الاتصال باستخدام التقنيات الجديدة التي أوجدها الحاسوب، وواصلت ما بدأته أجهزة الراديو والاتصالات الهاتفية الأرضية والفضائية، فتقارب العالم ماديا، وتقارب البشر إنسانيا، وتقاربت النفوس والأفكار والتصورات والمعارف.

وعلى المستوى الاجتماعي، فإن الفضاء التقني ساهم في تخليص العلاقات الاجتماعية من طوق بيئات التفاعل المحلية، وهذا لا يقتضي –بالضرورة– أن التفاعل الاجتماعي يجرب من بعد، ولكنه يتم بسبل عديدة، سواء نأى المتفاعلون عن بعضهم أم اقتربوا. إضافة إلى آليات التخلص من القيود الخارجية وانزياح قواعد الثقة، مما يجعلها تقدم أساسا للتحرر من تبعية القواعد والممارسات المعدة سلفا، فالمعرفة في المجتمع المعاصر مؤقتة ومتقلبة، وتُراجَع وتُقيّم باستمرار(27) بالنظر إلى المنجزات التقنية الهائلة المتحققة كل يوم.

فالتقنيات الحديثة في المصانع والاتصالات ؛ ولّدت مجتمعات مختلفة، اتخذت أشكالا جديدة في علاقاتها الاجتماعية، وطريقة تفكيرها، فشاعت قيم العقلانية والتجريبية الوضعية والجماعية(28).

لقد كان لإدخال التصنيع وانتشار المصانع في أوروبا سببا في تغيير كبير للمجتمع والثقافة وتكوين الناس النفسي، فزاد من البؤس والإذلال، وجرت مكننة النشاط الثقافي وامتهانه(29). فقد أوجدت آلاف المصانع صور جديدة من الاستغلال والسيطرة على العمال، واستحداث أفكار ومفاهيم وفلسفات جديدة، تعيد قراءة الإنسان في علاقته بالآلة، وبأرباب العمل. وهذا ما استتبع المزيد من القوانين المنظمة لحقوق العمال، كذلك قوانين في استخدامات التقنيات عامة في المجتمع.

ولنا أن نتصور أن هناك آلاف المهن والتخصصات والاهتمامات التي نتجت عن التقدم المذهل في الصناعة والاتصال والاختراعات المتعددة ذات الصلة بصناعة المعرفة والمعلومات، وهي بدورها أنتجت طرقا متعددة للتفكير والبحث وتغيرات في النفسية الخاصة بالأفراد، وأوجدت علاقات اجتماعية على مستوى الجماعات والمجتمعات.

وظهرت ما يسمى "المعضلة التكنولوجية"، حيث أصبح العالم الحديث معتمدا اعتمادا تاما على التكنولوجيا في نواح كثيرة، وقد أضحت الوسيلة لتوليد الثروة والحفاظ عليها، وفي الوقت الذي تحمل في التكنولوجيا خطرا مدمرا نتيجة الإفراط فيها، خصوصا في مجال تكنولوجيا التسلح والتلوث البيئي والاستخدام الخطأ للأجهزة أخلاقيا وفكريا وثقافيا في غزو الشعوب، وظهور فكرة الأخ الأكبر الذي يستأثر بكل المزايا التكنولوجية ليسحق المظاهر الفردية إلى الأبد، وأنكر البعض –تشاؤماً– وجود أي نفوذ فردي بشري أمام سطوة الأجهزة التكنولوجية العملاقة المتحكمة في كل شيء في حياتنا(30)، ليصبح الفرد في النهاية مسيرا خلف الآلة والشركات والدول المتحكمة فيها.

وعلى الجانب الآخر، فإن التقنيات الجديدة فرضت مؤثراتها و قوانينها على المجتمع، وزادت التهديدات للثقافة الوطنية، وبالنظر إلى المجتمعات المتأخرة، فإن استيرادها للتقنيات جلب لها الإمبريالية الثقافية المتسللة، وهددت الثقافات المحلية، وشككت في تعريف الذات والاستقلال الثقافيين. صحيح أن التقنيات ذأدوات، يمكن توظيفها بحرية، إلا أنها تأتي عادة بشبكة بنية تحتية من الظروف التقنية والاجتماعية والنفسية التي لا تعمل بدونها الآلات والأجهزة(31).

فوسائل التضليل عديدة ومتنوعة، لكن الثابت فيها، أن السيطرة على أجهزة المعلومات والصور على كل المستويات ؛ تمثل وسيلة أساسية، من خلال إعمال قاعدة بسيطة من قواعد اقتصاد السوق، فهي متاحة لمن امتلك رأس المال، فهناك من يجعل وسائله ذات رسالة مباشرة، وهناك من يتوخى بأسطورة الحياة، حيث يخلق واقعا زائفا مما يسمى بالموضوعية(32)، وتحت أسطورة تعدد المنابر الإعلامية والمصادر والوسائل، التي تتيح حرية الاختيار والتنوع(33)، ولكنها في الحقيقة تروج لتقنيتين تشكلان الوعي ؛ الأولى: التجزيئية التي تحصر الاهتمام داخل بؤر بعينها، تغرق فيها المتلقي، وتعتمد آليات التكرار لمزيد من الترسيخ للمراد، والثانية: فورية المتابعة الإعلامية للخبر والحادثة، فتقدمها بشكل جديد ومبهر ومذهل، تجذب المتلقي، وتغرقه في جديدها الذي سيصبح قديما في اليوم التالي(34)، مما يعزز اللهاث وينشر التسطح الفكري، ويعزز فكرة "الفقاعة المائية" التي تلمع دائما تحت الضوء، ولكنها فارغة المحتوى لمن أمعن النظر، وإن مد إصبعه إليها ستتلاشى أمام عينيه.

كما نشأت ما يسمى ثقافة الادعاء والتأكيد (معا)، على حساب ثقافة التحقق والإثبات، بالاعتماد على مصادر مجهولة أو محدودة، وتفاهات متضمنة(35) لا شك أن الادعاء والكذب والتدليس قيم قديمة قدم الإنسان على الأرض، وتم استخدامها في الكتب والمجلات منذ اختراع الكتابة، ولكن توسعت كثيرا على صفحات ومواقع الشبكة العنكبوتية، مما يصعب مهمة التدقيق، لأن من يصنع التدليس يكون ماهرا، ويستخدم الأضواء والإبهار بمراجع بعضها موثوق وكثير منها مكذوب، مما يفرض الكثير على المتلقي والمبدع معا، فهما يريدان المتابعة والاستخدام الإيجابي، ولكن تصادفهما الكثير من القيم السلبية، والخطط التآمرية.

فشرط الإعداد النفسي والاجتماعي والتغيير الثقافي مهم في المجتمعات كافة، خاصة المجتمعات المستوردة لتقنيات الاتصال وتعرضها لتأثيرات ثقافات البلدان المصدرة، فهي تواجه ثقافة غريبة وغربية في المقام الأول. فالصورة الكاملة هي صورة نقل التقنية بوصفها غزوا هيكليا وثقافيا وهو أكثر ضررا من الاستعمار القديم والجديد، لأنه لا يصاحبه وجود غربي مادي(36).

والاستراتيجية الضرورة الصائبة في التعامل الإيجابي الجماعي و الدولي واضحة وضوحا جليا، لا مراء فيه، فلابد من التعاون البنّاء بين الشعوب والدول، فالعلماء المهتمون والسياسيون والمثقفون يطالبون بضرورة تشابك السياسات الوطنية عبر كل الحدود الدولية(37)، لمنع الاستغلال والهيمنة الاقتصادية والفكرية والثقافية، فلا يمكن الفصل بين ظاهرة العولمة Globalization وبين الشبكة العنكبوتية الضخمة، فيمكن أن نقرر أن هذه الشبكة تمددت كظاهرة معبرة عن العولمة بكافة أوجهها، فهي الصورة التقنية للعولمة، وفي نفس الوقت أصبحت أداة العولمة في التوغل في السياسات والاقتصادات والثقافات والإبداعات.

ويقرر "بيل جيتس" أنه لابد من الأخذ في الحسبان أن الحاسوب مجرد جهاز وآلة شأنه شأن الجرار الزراعي وماكينة الخياطة، وكلما ازدادت خبرة الناس في التعامل مع الكومبيوترات الشخصية تعمق فهمهم لما يمكن أن يفعلوه وما لا يستطيعون فعله، فلا مجال للمخاوف المتعددة، مثل سيادة الذكاء الاصطناعي، وتفوقه على الذكاء الإنساني، فلا تزال أبسط مهام التعلم تفوق أجهزة الكومبيوتر الذكية، لأنها مبرمجة على أشياء وخطوات بعينها(38)، يستطيع العقل أن يتفوق عليها، فلا معنى للإفراط في الأحلام التي ستجعل الآلة تحل محل الإنسان، سيظل الإنسان قادرا على المزيد من الإبداع والاختراع بما يفوق الكومبيوتر مهما تعملق. وإذا كانت هناك تأثيرات ثقافية واجتماعية فهذه واردة، ومصاحبة، ومعتادة، ومتوقعة، المهم أن نحسن استغلال الأجهزة وتوجيهها، وقد قيل هذا الكلام من قبل مع كل اختراع له أبعاد ثقافية وفكرية، ونسوا أن الأمر في النهاية مجرد اختراع، سيتجاوزه العقل الإنساني، ويطوره، وقد يأتي بالجديد الذي يقضي عليه.

على قدر المخاوف التي تثار هنا وهناك، تأتي نظرة "بيل جيتس" شديدة التفاؤل على المستوى الأبعد، فهو يرى أن الشبكة العنكبوتية إن أحسن استخدامها ستجعل العالم أكثر ثراء، والحياة أكثر اتساما بالاتزان والاستقرار، مع اعترافه أن الدول المتقدمة ستحافظ على الفجوة الاقتصادية والمعرفية مع الدول النامية، ولكنه يؤكد أن إرادة الأفراد والشعوب ستقلل الفجوة، وستظهر ملايين من فرص العمل غير التقليدية (في مجالات الصناعة والزراعة)، أي ستكون في مجال صناعة المعلومات، بل ستنتقل شعوب بأكملها إلى عصر المعلومات(39)، دون الحاجة إلى المرور بعصر الصناعة بعد الزراعة.

ربما يكون التفاؤل مفرطا عند مؤسس شركة ميكروسوفت التي صارت أكبر وأنجح شركات البرمجيات والحاسوب على مستوى العالم، ولكن تفاؤله مؤسس على رؤية أساسها أن الإنسان قادر على أن يستفيد مما اخترعه، فهي في النهاية مجرد آلات، ولكن الأمر يحتاج إلى زمن ومهارات وإرادات، وأيضا تخطيط ذكي فاعل من قبل الفرد إذا أراد أن يكون مبدعا على المستوى الفردي، وتخطيط من المؤسسات والحكومات والشعوب إذا أرادت أن تبدع على المستوى الجمعي.

إذن، يمكن أن نقرر أن الحاسوب والفضاء التقني علامتين على ثورة علمية وإبداعية كبريين، جعلت الإنسان متحديا الحدود، متجاوزا المسافات، محاورا العقول، وبناء عليه، تغيرت الفلسفة تبعا لذلك، وأعادت تقييم العقل الحداثي الذي ساد قرونا، وبدأت مراجعات ما بعد الحداثة، التي لا شك ستؤسس لفلسفات جديدة تقرأ العقل الإنساني في خضم العولمة، وتعيد تقييم الذات البشرية وسط طوفان الثقافات الذي بات يتزاحم في الفضاء التقني، وهذا ما سنناقشه في المبحث الثاني.

المبحث الثاني
الأبعاد الفكرية والفلسفية: ثورية علمية وفكرية:
الفضاء التقني/ الإلكتروني أداة نعم، وهو عالم جديد أيضا، وسيلة اتصال وتواصل وتفاعل نعم، وله أيضا آثاره الفكرية والثقافية والاجتماعية، فلا يمكن عزل العقل الإنساني عنها، فيتخيل أي مفكر أو فيلسوف أنه يمكن أن يفكر بدونها أو دون غيرها من مخترعات وأدوات الإنسان، فالإنسان يفكر من خلال أدواته، وحياته، ولغته، وعصره، وقومه، وإلا كان تفكيرا هلاميا، لا يمكن ترجمته إلى واقع، أو حتى قراءته في الواقع، فأي تفكير يُقرأ في تعبيرات وتجليات وبواسطة كتب وأجهزة ووسائل للتواصل، وإلا ظل في عقل صاحبه، يتردد في كلماته الشفهية، منعزلا عن مستقبليه، وقرّائه.

الفضاء التقني/ الإلكتروني معبر عن ثورة جديدة في العلم والتواصل والمعرفة، ثورة ضمن ثورات علمية تتابعت على البشرية، وفي كلٍ منها ساد نموذج من النظريات والفرضيات والتجارب، التي تُرجِمت إلى علوم، سادت العصر، وأثّرت في بيئة الناس ونظم حياتهم وأفكارهم.

الفضاء التقني/ الإلكتروني ثورة علمية بالفعل، حيث تنطبق عليه شروط الثورة العلمية، فهي سلسلة الأحداث التطورية غير التراكمية، الناتجة عن رغبة في استكشاف المزيد في الطبيعة، وتحقيق حاجات جديدة للإنسان، قصرت عن تحقيقها الوسائل والأجهزة والإمكانات المتاحة، وبالتالي يتطلع العلماء والمخترعون إلى ابتكار الجديد ليحققوا طموحات الإنسان ورغباته(40). وسيعمل فريق من العلماء المتخصصين على بذل أقصى الجهد في سبيل اطراد زيادة المعطيات، بالسعي من أجل حل المشكلات القديمة الملموسة، من خلال منظومة علمية جديدة، عبرت عنها الثورة، ومن أجل تعميق الثورة وتعميمها، في المجتمعات العلمية أولا، ثم بين البشر ثانياً(41).

وهذا حادث في عالمنا، فقد جاء الفضاء التقني متوجا لعقود من الجهود العلمية والاختراعات، ورغبة الناس في التواصل السريع والفاعل، وإذابة الحدود السياسية، وتخطي الجغرافيا، والتباعد المكاني، والزماني، فما بين رغبة بشرية في التقارب، وما بين اختراعات علمية في تكنولوجيا الاتصالات، تم التوصل إلى الفضاء التقني، ومن ثم تفجرت ثورة جديدة في مجال العلوم والاتصال.

وتتمثل الثورة التي ترجمت " الأحلام التكنولوجية " في جهاز الحاسوب الذي أصبح أساسيا وليس متمما لحياتنا اليومية، بدءا من ماكينات تسجيل المدفوعات النقدية، حتى آلات الحساب الرقمية، ومشغلات الأقراص المدمجة، وألعاب الفيديو وآلات النسخ والفاكس والهواتف الذكية المتنقلة، وحتى الساعات التي بأيدينا ما هي إلى كومبيوترات مقنعة، ومن الصعب الآن التفكير في أي جهاز إليكتروني لا يكمن بداخله كومبيوتر(42)، وكلما تجانست المعلومات والوسائط الإعلامية، أصبحت أجهزة الكومبيوتر جزءا من كل جهاز من أجهزة الإعلام، بل باتت أجهزة التلفاز والهاتف والفيديو تضطلع بأدوار جديدة، وباتت الرقائق الإليكترونية رخيصة الثمن، وهناك وفرة من القدرة والمرونة الكومبيوترية تتيح لنا إعادة اختراع أجهزتنا الإعلامية، فبات في إمكاننا تصنيع تليفزيون وراديو لديه من المباشرة والتفاعلية ما للكومبيوتر الشخصي، كي نشاهد ونسمع ما نريده حسب رغبتنا، ونحطم قيود جداول توقيتات الشبكة الإذاعية والتليفزيونية، وبدلا من سلبية تلقيها، ندخل الآن في طور من التفاعل مع الوسائط الجديدة(43).

فالحاجة تظهر في شعور عام التوتر؛ يطمح إلى تحقيق رغبة عارمة لدى كثيرين، في تحقيق رغبات الإنسان، والاستغلال الكامل للحظات الحياة والقضاء على عقبات المكان والزمان، وهذا ما تم عبر تقنيات الحاسوب والإنترنت، وكما يشير العالم "كاستلز" بأن ثورة الاتصالات الحالية التي أوجدت عالما افتراضيا أو موازيا جديدا، تعبر عن حاجة لتحقيق تواجد قوي لكل من الشبكة والذات The Net and self، فالشركات الكبرى والتشكيلات التنظيمية الجديدة المتنافسة بقوة، تطمح إلى الاستغلال الواسع المدى للميديا الاتصالية المتشابكة ونماذج التشبيك Network والتي تميز أكبر القطاعات الاقتصادية المتقدمة، وفي نفس الوقت فإن الذات Self والتي تعبر عن ذوات الأفراد الطامحين إلى تأكيد شخصياتهم وهوياتهم، وسط ظروف تجنح بهم إلى التنميط والقولبة في شكل شبكات ديناميكية(44).

إن الصراع بين الذات والمؤسسات، الأولى تريد التواصل الفردي، والاستمساك بالهوية، في عالم تتصارع فيه الهويات، وتنتصر الميديا والإعلام لثقافات بعينها، وفي نفس الوقت، تطمح المؤسسات والتنظيمات الجماعية الضخمة في ميدان جديد وسريع للتنافس والتنسيق فيما بينها، من أجل تحقيق مصالح اقتصادية وسياسية وثقافية ؛ كل هذا ساهم في تطوير وظهور الفضاء التقني، كي يكون مسرحا للصراع والاستقطاب وإثبات الذات.

عندما نتأمل ظاهرة الفضاء التقني/ الإلكتروني، نجد أن فيه الكثير من أوجه القراءة، التي تحتاج إلى التعمق في هذا العالم المترامي، غير المحدود، فيصبح العقل أمامه في حالة من العجز عن الفهم إذا كان صاحبه بلا مهارات حاسوبية أو شبكية، أو فهم ولكنه استوعب جزئيا ما أمامه فانبهر وتخيل أن هذا أقصى ما وصل إليه الإنسان، أو بالأدق "نهاية التاريخ" في الاتصال والتواصل البشري، فغرق في الأداة وأغرقته الأداة وعالمها، وهناك من استوعب الأداة تجربةً ورؤيةً ومهاراتٍ، أي عرفها عن قرب ومعايشة، ومن ثم ابتعد قليلا ليتأمل هذا العالم الفريد بكل افتراضيته ورمزيته وفتنته، طارحا التساؤلات، ساعيا إلى إجابات توضح الأبعاد والآثار والجوانب الفكرية والنفسية والعصبية والاجتماعية والثقافية وغيرها التي تكتنف أبعاد رحابة الفضاء التقني.

لكي نقرأ الفضاء التقني/ الإلكتروني فلسفيا، علينا أن ندرس أولا كينونته من المنظور الفكري والاجتماعي، ومن ثم نتعمق الأبعاد الفلسفية، وندرك أن هذا الفضاء الفياض، إنما هو معبر عن التحول الأساسي الذي نعيشه في عالمنا المعاصر، تحول من المجتمع الصناعي إلى المجتمع المعلوماتي العالمي، نتيجة تغيرات كبرى في بنية العلم والتكنولوجيا والاتصالات والتراكم الرأسمالي(45)، فالمجتمع الجديد ملمحه الأبرز إنتاج المعلومات وتداولها من خلال آلية غير مسبوقة هي الحاسب الآلي ؛ الذي أدّت أجياله المتعاقبة إلى إحداث ثورة فكرية كبرى، في مجال إنتاج وتوزيع واستهلاك المعارف، فإذا أضفنا إلى ذلك القفزة الكبرى في تكنولوجيا الاتصال، في مجال الأقمار الصناعية واستخداماتها الواسعة، لأدركنا أن تشكّل عالم جديد غير مسبوق(46).

فهذه التقنيات تؤسس لثورة علمية كبرى، لا تلغي ما سبقها من ثورات، ساهمت في ازدهار المجتمعات الإنسانية، ونقلها من مجتمعات رعوية إلى زراعية ثم صناعية، بل هي متواجدة، ومتطورة، فلا يستطيع البشر الاستغناء عن الرعي والزراعة والصناعات التقليدية، فعندما ظهرت الصناعة الحديثة لم تقض على الزراعة، بل ساهمت ماكيناتها المخترعة في تطوير الزراعة، وقامت مصانعها على ما تنتجه الأرض من نبات، وما تخرجه الحيوانات من خيرات، وهكذا يتقدم الإنسان، بناء على ما ابتكره، لا يلغي جديدُه قديمه، بل يطوره، ويضيف عليه، ويعده جزءا من تراكم حضارته.

فضاء افتراضي ورمزي:
إن التساؤل المحوري يدور حول كينونة الفضاء التقني/ الإلكتروني، فإذا كان قد أوجد بيئة تكنولوجية موازية لعالم الإنسان، إلا أنها ستظل بيئة افتراضية، وعالما يصنع رموزه وكائناته المعبرة، لذا، هناك من أطلق عليه "الواقع الافتراضي" مستوحيا فكرة "جورج أورويل" في روايته الشهيرة "1984م" التي كُتِبت منذ عقود سابقة على هذا العام، وتخيلت وجود لغة جديدة في العالم، واتصالات عديدة، وهو ما تحقق بعد ذلك(47). والكثيرون أطلقوا عليه "الفضاء الرمزي" وهو مصطلح أساسي في وادي السيليكون، استخدم من قبل أحد كتاب الخيال العلمي وهو "ويليام جبسون" والذي استخدم أيضا مصطلح الواقع الافتراضي، في حين رأى آخرون أن ثقافة الوسائط تعتمد على اللغة والتعبيرات الرمزية، لأنها تمثل تطويرا تاليا لأنظمة إلكترونية سابقة مثل التلفاز والفيديو والإذاعة، وهي تتداخل لتشكل عالما بديلا ومطلقا يدمج المشاهد/ المستخدم بشكل متفرد في دولة غير مركزية مكانيا، ويضعف فيها تأثير الزمان ومتحررة إلى حد بعيد من المادة(48).

ويعرّف وليام جبسون عالم الواقع الافتراضي Cyberspace بأنه: "الهلوسة التوافقية الناشئة في إطار منظومة مكثفة من شبكات الحاسوب، حيث يرتبط الجهاز العصبي ارتباطا مباشرا بالشبكة، بحيث يعمق الصلات الحميمة بين العقل والشبكة الإلكترونية"(49). وهذا يعطي بعدا آخر، يتصل بالجانب النفسي والعصبي بين العقل والحاسوب، فقد بات العقل يفكر وفق ما توفره الآلة المستخدمة من إمكانيات برمجية عالية المستوى.

وكما يشير "بيل جيتس" إلى أن أفضل أوصاف للواقع الافتراضي تستمد مما يسمى "الخيال العلمي السيبرناطيقي المبتذل" مستحضرا كتابات ويليام جيبسون فبدلا من ارتداء طقم الجسم، نجد بعض شخصياته الروائية الخيالية تحصل على الحالة اللمسية من خلال توصيل كيبل كومبيوتر مباشرة بأجهزتهم العصبية المركزية، وسوف يحتاج العلماء إلى فترة من الزمن لكي يكتشفوا طريقة إنجاز ذلك(50).

فتوصيف جيتس للعالم الافتراضي ينحو إلى جانب خيالي، وربما هذا عائد لقدم تأليف كتابه ونشره نسبيا عن يومنا، فلاشك أنه سيراجع جل معلومات كتابه أمام سيل التطور الهائل اليومي في أجهزة الحاسوب بكافة أشكاله، واستخداماته التي وصلت لكل ما في حياتنا، فجنح جيتس إلى الخيال، وكان محقا، فاختراع الكومبيوتر أحدث ثورة في البرمجيات والاتصالات والمعلومات وأوجد عالما افتراضيا؛ الكل يتخيل من خلاله ويحلم ويستطيع إن لم يحقق حلمه واقعيا أن يحققه افتراضيا.

وكما يشير بقوله: "إن الخيال سيصبح عنصرا أساسيا بالنسبة إلى التطبيقات الجديدة، فليس بكاف على الإطلاق مجرد إعادة إنتاج العالم الواقعي..، وأتوقع أن يستمر التجريب من عقد إلى عقد إلى ما لا نهاية"(51).

فالخيال مفتاح أساسي في عالم الإنترنت، وهو متاح للجميع، الصغير والكبير، النخبوي والعاميّ، الكل يتنافس فيه، على قدر طاقته، وعلى قدر خياله ومعلوماته، فقد بات التنافس محموما متاحا، لا يحتاج إلى معامل ولا معدات ضخمة، يكفيه جهاز حاسوب وشبكة معلومات.

إن الفضاء الرمزي -على خلاف التلفزيون والسينما- مثل القراءة لا يخضع للرقابة والقيود المنطقية، فهو يشيد مدنا وعوالم وبشرا من الصورة والصوت، في حين تقدم الأفلام والمسلسلات التلفازية الواقع كثيرا وقد تشطح إلى الخيال قليلا، ونفس الأمر في عالم الإنترنت ومواقعه، ولكن حجم الخيال أضخم بكثير جدا من الواقع، بل يكاد يكون الخداع سمة أساسية فيه، وقد ظهر ما يسمى "الكائن الرمزي Cybernaut" الذي ينتقل ويعاين هنا وهناك في فضائه الرمزي الجديد، ذلك العالم الذي يمكن للأطفال أن يتجولوا فيه، ويصعب بالتالي تعريف كلمة "مجتمع"، إذ ستتخذ معاني جديدة وأكثر خلافية، لأنه مجتمع افتراضي ينشأ بعيدا عن الزمان والمكان (التقليديين)(52).

لذا يتفق كثير من الخبراء الدارسين للفضاء الرمزي على أنه يقدم الخداع والواقع بشكل مباشر، مغاير كثيرا لما كانت تقدمه تقنيات الفنون البصرية المتحركة في بدايات القرن العشرين، بل يعدون ما كانت تقدمه أقرب للسذاجة في خداعها بالقياس إلى العالم الرمزي(53)، وفضائه، وأجهزة حاسوبه التي تصنع محتوى فضائه، مثل هي صانعة لكل مكونات العالم الواقعي المعيش.

ويمكن تمييز أمور مضافة في الفضاء الرمزي أو الافتراضي عن الواقع، تتمثل في الخيال والمتعة والحلم(54) فيمكن للشخص أن يهرب من واقعه الحياتي إلى حلم في يقظته أو منامه، أما الآن، فيستطيع في أي وقت شاء، أن يهرب من واقعه إلى حاسوبه أو جهاز اتصاله، ليدخل في عالم رمزي فاتن عجيب، يختار ما يشاء من أحلام وتخيلات، فيستمتع بها، ويعيش فيها، ويمكن أن تكون كلها صناعة خيالية رمزية، لا بشر ولا حياة فيها، وإنما واقع جميل مصمم افتراضيا.

وفي المصطلحات الموصوفة لعالم الشابكة ما يوضح أجواءها وطبيعتها بشكل أو بآخر، فعندما نقول أنها "فضاء تقني"، لأنها منطلقة من أجهزة تكنولوجية، وما هو إلا تجل لها، وناتج متطور من نواتجها، فنعت لفظة "فضاء" بلفظة "تقني" تمييز لها عن فضاءات أخرى، فهناك فضاء مكاني، وفضاء الصحراء، وفضاء الدار، وأيضا هناك التقنيات المادية المألوفة كما في التلفزيون والأجهزة المنزلية، وهي لا تصنع فضاءات خاصة بها، وإنما مجرد وسائل للمعرفة والفنون والتواصل والأخبار، أما الفضاء التقني الإنترنت يعتمد بالفعل على تقنية رقمية، ولكنه يأخذ الإنسان إلى عالم وفضاء جديد كل الجدة، يمكن أن يغرقه في ثناياه، الذي يخالف قطعا التقنيات العادية، ويجعله متلقيا ومرسلا في آن، مبدعا ومستقبلا للإبداع في آن آخر، بل يمكن أن يصنع كائناته الخاصة به، ففيه الصوت والصورة والكتابة.

أما مصطلح "فضاء افتراضي" فهو يقدم رؤية مختلفة لعالم الشابكة، لأنه يجعله فضاء مختلفا، مغايرا، عن العالم الحياتي المعيش، إلا أن اللفظة تفسح المجال لفضاءات افتراضية أخرى، لأنها عامة غير مخصصة بمجال أو بتقنية ما، فيمكن أن يكون هناك فضاء افتراضي في الصوت أو الصورة أو الخيال.. إلخ، ويبدو أن هذا المصطلح كان في بدايات ظهور الشبكة العنكبوتية، وما أثارته من أفكار، فافترض مطلقو المصطلح أنهم بإزاء عالم جديد، يستطيع المستخدم والمصمم أن يبتكر بنفسه أو بمعونة الآخرين ما يود ابتكاره، ويتناسب مع رؤاه، لا تحده حدود ولا تمنعه عوائق، ويستطيع أن يبثه ليصل إلى الملايين خلال لحظات، إذن، ليكن عالما افتراضيا قبل نعته بنعوت أخرى، أما الآن فقد تمايز، واتضحت معالمه وتحددت خصائصه.

أيضا، فإن مصطلح "فضاء رمزي"، يلتقي في الوصف مع الفضاء الافتراضي، فالرمزية أكثر عمومية، تشمل الشابكة وغيرها، ويمكن أن يطلق على عالم الشبكة العنكبوتية وغيره من العوالم في المجالات المختلفة، فكل مجال أو عالم يصنع رموزه، وكائناته، وتعبيراته. وكما تقدمت الإشارة، فإن كلا المصطلحين: الرمزي والافتراضي، جاءا من ميدان الأدب، فالافتراضي من رواية جورج أوريل والرمزي من الخيال العلمي لويليام جبسون، فهي نعوت فردية، تم استحضارها من عالم الأدب، لتوصيف العالم الجديد المتخلق عند ظهوره. وبالتالي يظل مصطلح "الفضاء التقني" هو الأقرب للدلالة المقصودة والتعبير عن عالم الشابكة بكل تعقيداته وامتداداته، وهو الأقرب للتداول والشيوع الآن.

القراءة الفلسفية ورؤية ما بعد الحداثة:
عبّر عالم الاجتماع الأمريكي "دانيل بِل" عن ثورة الاتصالات وتفجر المعلومات والشبكة العنبكوتية والمجتمع الشبكي Network Society وما يحيط به من تطورات بما يسمى "المجتمع ما بعد الصناعي" والذي تبين أنه هو مجتمع المعلومات العالمي، الذي أصبحنا نعيش فيه كأحد تجليات العولمة وتمددها(55).

وفي هذا يلتقي مع ما ظهر من مصطلحات مصاحبة وفي نفس التوجه والتي بدأت بلفظ "ما بعد"، مثل ما بعد الحداثة، ما بعد الكولونيالية، ما بعد البنيوية، ما بعد الدولة .. إلخ، وهي تشير إلى نوع من المراجعة للمصطلحات المذكورة، وإعادة قراءتها في ضوء تطورات الواقع، وتجربة الإنسان المعاصر، ولا شك أن كل الــ "ما بعد" يتقارب ويتحاور، بل يكاد يناقش أسئلة وفرضيات وإشكاليات، تتماس في جوهرها مع التطورات المتلاحقة للحياة المعاصرة، والأهم آثارها على الإنسان السلبية والإيجابية. فالقضية ليست أن يكون هناك تطور، ولا الصخب والترحيب بكل جديد، وإنما مدى استفادة البشرية منه، وهل ساهم في رخاء الناس وأمنهم وسلامهم، أم كان وبالا عليهم في حياتهم.

فمناقشة التقنية فلسفيا، تعني آثار هذه التقنية على عقله ونفسه وحياته الاجتماعية، فمثلا من المفاهيم المتربطة بالتقنية، مفهوم المعرفة التقنية فهي ليست مجرد معرفة الوسائل المستخدمة في الحياة، ولا المعرفة بالعلوم المطبقة كما تشير الفلسفة الوضعية، وإنما هي معرفة قائمة بذاتها، لا تقبل الخفض إلى مرتبة أدنى، مسكونة برغبة السيطرة على العالم، واستعماله، وتشغيله، وتوجيهه، إنها جزء منشئ للفعل، وهي صريحة على قدر ما ترتبط بالمراس والمهارة، وميدانها أوسع بكثير من ميدان استعمال المادة، فهي -بعبارة أخرى– معرفة كل الاستعمالات الفعّالة، المصنعة والعادية، دقيقة في استعمالاتها، قابلة للتناقل(56).

بناء على ذلك، فقد تخلى الإنسان عن ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، ولا معنى لأن يجعل ذاته مركزا للعالم، خاصة المبدعون والعلماء والفلاسفة، وكل من ادّعى البحث عن الحقيقة، فالثابت أن الحقيقة هي نسبية، وهي غير موضوعية جذريا(57)، وأن ادعاء الموضوعية في الحكم يسير جنبا إلى جنب مع مفهوم القابلية للخطأ، واعتقاداتنا يمكن أن تكون زائفة، وشكل ضعيف من الموضوعية ينص على أن ما نعتقد فيه الآن ربما يكون زائفا، وأنه لابد التمييز بين الحقيقة والرأي، فالحقيقة مبنية على وقائع ومعلومات وتحليلات، والرأي يمكن أن يستند إلى ما سبق أو لا يستند، وفي كل الأحوال من الصعب أحيانا التمييز بين ادعاء الحقيقة المستند على معلومات وبين الرأي المستند على نفس المعلومات، فالأمر نسبي، والنسبية هي وجهة النظر تتضمن أن الحقيقة هي مجرد أن نعتقد أنه الشيء الحقيقي، وهي تدحض نفسها بنفسها، فكل إنسان سيرى أنه يمتلك الحقيقة من وجهة نظره(58).

وبهذا تسقط النظرة التي يتبناها البعض من المبدعين والفلاسفة التي تدعي أنها ترى العالم بشكل أوثق وأدق، وتُعَدُّ نظرتها مجرد اجتهاد منها. ولكن ما يميز رؤية الشاعر للعالم أنه رؤية تجمع ما بين العقل والإحساس والجمال، هو يريد أن يهضم العالم في عقله، وينغمس فيه بمشاعره، ويقرأه برؤيته، ويعبر عنه بموقف جمالي، فتظل تجربته مرهونة بحواسه وإدراكه وقلبه، يمكن أن يعبر عن آخرين من البشر، ولكنه لن يعبر عن كل البشر، يمكن أن يصوغ رؤى تعجب الكثيرين، ولكنه حتما ستجد من يختلف معها.

على جانب آخر، فإن وعيا جديدا يتشكل، يمكن أن نطلق عليه "الوعي الكوني"، والذي سيتجاوز –ولا يلغي– الوعي الوطني وتفريعاته، والوعي الاجتماعي، والوعي الطبقي، والوعي القومي، كي يعبّر عن قيم إنسانية عامة، تشتد في الوقت الراهن معركة حول صياغتها واتجاهاتها ويتأسس الوعي الكوني على مجتمع المعلومات الكوني، وفيه تكون المعلومات غير قابلة للاستهلاك والتحول والتفتت، لأنها تراكمية الطابع، وستستخدم أكثر الوسائل فعالية لتجميعها وتوزيعها، على أساس المشاركة في عملية التجميع، والاستخدام العام والمشترك لها بواسطة البشر، مما سيساعد على تنمية قدرة الإنسان على اتخاذ أكثر القرارات فعالية، وستظهر مهن جديدة تستند إلى تركيز ذهني عال، وتعميق الأعمال الذهنية من خلال إبداع المعرفة، وحل المشكلات، وتنمية الفرص المتعددة لدى الإنسان، والتجديد في صياغة الأنساق الاجتماعية(59).

فالوعي الفردي سيتجدد بالوعي الكوني المتشكل، والوعي الكوني سيدعم من خلال إبداعات الوعي الفردي، وستكون هناك أشكال كثيرة للتواصل الثقافي والفكري، وأيضا مشاعر جديدة، وخيالات مبدعة في دوائر جديدة.

إذا كانت ثورة الاتصالات، وتخلّق مجتمع المعلومات الجديد، مجتمع ما بعد الصناعي، وظهور أنماط كثيرة من الوعي والخيال والتواصل بين البشر، فإن هذا تواكب مع صعود فلسفة ما بعد الحداثة Post Modernism، والتي جاءت أفكارها وقيمها تمثل مراجعات لفكر الحداثة الذي سبقها، وتواكب مع الثورات العلمية السابقة، ومنجزات المجتمع الصناعي، فيمكن القول: إن الفضاء التقني هو التجلي العلمي التطبيقي لرؤى ما بعد الحداثة بكل انفتاحها على الثقافات، وبكل ما حملته من قيم إيجابية وفكرية جديدة، ورفض المركزيات الثقافية، وإدانة الحقبة الكولونيالية فما بعد الحداثة، تمثل –فيما تمثل– قراءة جديدة مواكبة لثورة الاتصالات، وتقارب البشرية، وظهور فكر العولمة، وبزوغ نزعات وطنية وهويات ثقافية، طُمست في حقب سابقة، تحت طغيان المركزيات والأنساق الثقافية الكبرى، التي أرادت صبغ العالم بفكرها، وإعادة رسمه حسب مصالحها.

لقد تواكبت فلسفة الحداثة مع حركة التقدم والتحديث الكبرى في العصر الحديث، التي ارتكزت على إعلاء العقل على النقل، بعد أن أصبح التقليد مقصورا على إعادة إنتاج السابق، وهو ما يسمى الفكر المدرسي في العصر الأوروبي الوسيط ، ومن ثم صار الإعلاء من شأن العقل على حساب النصوص الموروثة والتقاليد العتيقة. حيث بدأ مشروع الحداثة الغربي أساسا من عصر التنوير الأوروبي، وبالطبع تراكمت أفكاره وفلسفاته المتتالية، على مبادئ عديدة، أبرزها إطلاق الفردية والعقلانية والإيمان بفكرة التقدم الإنساني المطرد، والحتمية في التاريخ والطبيعة أو ما يسمى بالاتجاه الميكانيكي للعالم، على أساس أن أحداث العالم مترابطة بعلل وأسباب، وأن الحركة هي الظاهرة العامة في الطبيعة ولها قوانينها الخاصة(60).

إن حركة الحداثة ارتبطت بوسائل اتصال سادت خلال القرون الماضية، حيث واكبت الحداثة تطور أدوات الاتصال، بدءا من "التفاعل وجها لوجه" بين العالم والفيلسوف والنخبة المحيطة به، وقد ظل هذا موجودا بشكل كبير، بحكم صعوبة المواصلات، وتباعد القرى والمدن والأقطار، حتى ظهر ما يسمى التفاعل عبر التجربة المتواسطة، والذي تواكب مع الاختراعات المتلاحقة لأجهزة الاتصال والمراسلة، بدءا من الرسالة البريدية المكتوبة، مرورا بالبرق والهاتف الثابت والإذاعة والتلفاز، وباستخدام مواد عديدة في كل وسيلة (مثل الورق والأسلاك الكهربائية والموجات الكهرومغناطيسية..)، التي شكلت مرحلة من مراحل التواصل الإنساني، وأيضا التقارب الفكري والاجتماعي والثقافي والشعوري بين الناس ،وكان التواصل عبر وسائل الإعلام (الكتب والصحف والراديو والتلفاز..)، تواصلا غير حواري، ذو طبيعة أحادية (مونولوجية)(61)، تعتمد على ما يبثه القائمون على هذه الوسائل من خطابات موجهة، وقد تسمح باستقبال الرأي الآخر، وردود فعل الناس في نطاق يتسع أو يضيق حسب مساحات الحرية المجتمعية وما تسمح به الحكومات، وبقي دور الفرد العادي في وضع المستقبل، غير المتفاعل غالبا.

في حين تغير دور الفرد العادي، فبات يتفاعل كما يشاء ويتواصل مع من يشاء، متخطيا الحدود والقوانين، باستخدامه تقنيات الثورة المعلوماتية والاتصالية الحالية، والتي جعلت الإنسان المعاصر يتواصل مع العالم كله، متى، وأين ذهب، عبر استخدامه الحاسوب، والقنوات الفضائية، والأقمار الصناعية وشبكات الكيبل، والهاتف النقال، بجانب ترابط كل هذا عبر شبكة المعلومات الدولية، فتغير مفهوم الزمان والمكان، وتواكب هذا مع صعود فكر ما بعد الحداثة بكل تجلياته، وقراءاته للعالم: فلسفيا، فكريا، اجتماعيا، ثقافيا، إبداعيا.

وبناء على ذلك، بات من الممكن ظهور ما يسمى "الثقافة العالمية" التي بشّر بها المفكر الحداثي "أولف هانرز Hannerz"، مستندا إلى أن الترابطية المعقدة التي بات عليها العالم عبر وسائل الاتصال التقليدية (السابقة)، وتزايد العلاقات الاجتماعية بين الناس وتدفق المعاني بالإضافة إلى الأشخاص والسلع بين أقاليم العالم، فظهر ما يسمى الدمج أو التشبيك Networking الذي أنتج أشكالا للممارسات والخبرات الثقافية بين الشعوب، بما يمكن أن يسمى "ثقافة عالمية"، إلا أن هذه الثقافة، كما يرى "هانرز" لم تصل بعد، ومن المحتمل ظهورها في المستقبل القريب(62)، وهي تتفق مع الوعي الكوني أو العولمي الذي مر ذكره.

لقد تشكل المزاج مابعد الحداثي في عقد الستينيات عندما تصادف وقوع تغيرات في المجتمعات الغربية مع تغيرات في التعبير الفني والأدبي ؛ تمثلت في ظهور ما بعد التصنيع، والهيمنة المتزايدة للتكنولوجيا والنزعة الاستهلاكية المتسعة وإعلانات الموضة وانتشار الديمقراطية وزيادة عدد المتعلمين بالثانوي والجامعة، وظهور أصوات الثقافات التابعة (المهمشة)، وانتشار التكنولوجيا ووسائل الاتصال وصناعة المعرفة، فضلا عن التراجع في الاستعمار والمثالية في السياسة وظهور سياسات جديدة تتعلق بالهوية وتقوم على العرق والنوع والتكوين الجنسي(63).

فخلال سنوات الستينيات من القرن العشرين، انتهت حقبة الاستعمار الغربي، الذي أراد فرض هيمنته العسكرية والسياسية والثقافية، وسقطت نماذج حداثية سياسية وفكرية في العالم، وساد الشك في ماهية الحداثة وطرائقها في إسعاد البشرية، واتسع حجم النقاش من النخبة والعامة، وازداد التواصل وتعمّق عبر التقنيات الجديدة التي قاربت بين المسافات والعقول.

لقد تكوّن فكر ما بعد الحداثة بجهود مجموعة من أبرز الباحثين الطليعيين في مجال النقد الأدبي والعمارة والفلسفة وعلم الاجتماع، واعتمدت على مراجعات فكرية لفكر الحداثة وفلسفاته وقيمه وأخلاقه، وارتكزت على نقد الحداثة التي عجزت عن قراءة العالم، وتحقيق السعادة للإنسان، ولم تفِ بوعودها لا على مستوى العقل ولا الإنسان، على الرغم من انتصارها علميا وسيادة أفكارها قرونا، لقد قدمت أنساقا فكرية مغلقة، تجمدت مع الزمن، رغم أنها زعمت تقديمها لتفسيرات كلية، وفشلت في ذلك، وربما كانت الماركسية هي الحالة النموذجية المعبرة عن هذا النسق الكلي المنغلق وأيضا الجامد، والذي سقط سقوطا مروعا قبل نهاية القرن العشرين بعقد من الزمان، كما أسقطت فكرة الحتمية في التطور سواء في العلوم الطبيعية أو التاريخ الإنساني، ورأت ما بعد الحداثة أن التاريخ مفتوح على احتمالات متعددة، وأن العالم غاية في التعقيد، ولا يوجد مفكر يدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة، فقد ضاع زمن اليقين، ودخلنا في مرحلة الشك العميق، في النظريات الجاهزة، وأيضا في البديهيات والمسلمات، ورأوا أهمية وضع العقل الحداثي موضع الشك، وأدانت بشدة أن توضع نتائج العلم في خدمة التطبيق التكنولوجي الذي أدى إلى عقل الأزمة، واعتمد على مبدأ التراكم في الربح للإنسان، على حساب حريات وكرامة وحقوق ملايين البشر(64).

ومشكلة مصطلح ما بعد الحداثة أنه مصطلح تكويني بقدر كونه وصفيا، فتعريفاته تميل إلى أن تكون محملة بالقيمة، لقد جاء هذا المصطلح ليحدد ويصنف عددا متنوعا من السرديات الصغرى، ويعبر عن الإحساس بالأزمة في الخطابات الفلسفية والسياسية للتنوير الأوروبي، والنظر إلى المفاهيم المجردة والكليات المستقرة على أنها مجرد أسماء لا أكثر، حيث كانت وصارت لا تتمتع بوجود حقيقي، ورفض ما يسمى "الغطرسة الفكرية" التي لوحظت لدى منظري الحداثة واستعلائهم على من يختلف معهم(65)، فقد لوحظ أن مفكري ما بعد الحداثة قد يصدرون أحكاما تقييمية عامة، قد تقبل أو ترفض أعمالا فنية، دون الاستناد إلى معايير واضحة، ذلك أن ما بعد الحداثة تمثل مراجعات ومناقشات ورفضا لما آل إليه الفكر الحداثي، فيمكن أن نخرج من الرفض بأحكام عامة وقيمية، دون تأسيس لمفاهيم مستقرة أو على الأقل مفاهيم مجمع عليها. وبالطبع لسنا بصدد الوصول إلى تعريف ماهية ما بعد الحداثة، بقدر ما نريد تقديم قراءة للعقل الإنساني وما حققه المنجز الفلسفي إلى يومنا، الذي لا ينفك عن المنجز العلمي والمعرفي والتقني.

لذا، دعا مفكرو ما بعد الحداثة إلى رفض الأنساق الفكرية الكلاسيكية والسائدة مثل: الماركسية، والنظرية الوضعية، ودعوا النظرة التجزيئية المتشظية إلى الواقع ضد سيادة هذه الأنساق، ورفضوا السلطة الواقفة خلفها لترويجها، وقالوا بسقوط قوة الدولة والحكومات التي تنشر أفكارا بعينها، وإفساح المجال لتقديم كافة القراءات والرؤى وإعادة النظر في المفاهيم المستقرة التي أرستها الحداثة عبر تاريخها، ونادوا بالتكاثر والتعدد ضد الهيمنة لفكر وإرادة واحدة(66).

وهي تلتقي مع ثورة المعلومات والمعرفة الجديدة، في كونها تنطلق من أفكار المجتمع ما بعد الصناعي، حيث رفضوا ما استندت إليه الحداثة المواكبة لعصر الصناعة في اعتمادها على الصناعة والإنتاج الاقتصادي الوفير، في قياس تطور الإنسانية، بجانب الأخذ بالنظريات والأنماط الفكرية والاجتماعية التي دعت إلى تسيدها، أما بعد الحداثة، فقد استندت إلى التقدم المعرفي المعلوماتي الهائل الذي بدا في الوسائل العديدة: الشبكة العنكبوتية، القنوات الفضائية، الحواسيب، الهواتف النقالة .. إلخ، فلم تعد القيم الثقافية والاجتماعية هي السائدة، بل أضحى الإنسان رهينة لعشرات الرموز والعلامات التجارية التي تروجها الأسواق، وازدهار الخدمات وخبرات جديدة، أيضا رفضوا تماما القراءة الأحادية للنصوص، وتمسكوا بدراسة النسيج النصي في قراءات متعددة، منكرين تسيد منطق واحد أو قناعات مسبقة، الاغترار بنموذج ثقافي أو فكري واحد(67).

فالأمر المؤكد أن العولمة غيرت ظروف وشروط إنتاج الخطاب الفلسفي، فحياة الفلاسفة والمفكرين تسير على إيقاع المستجدات التقنية، وباتت القضايا الفلسفية التقليدية مهجورة، وأصبح الجميع يتناقش في قضايا الإنسان المعاصر، وما أحدثته الثورة المعلوماتية المتفجرة، وتقارب الشعوب والثقافات(68)، وهو ما جعل ظاهرة المثاقفة بين الشعوب حقيقية، وباتت الثقافات المحلية في حالة ديمومة وتسارع وتصارع مستمر بفضل التطور المذهل والثورات المتلاحقة في الإعلام والمعلومات والتواصل، كما تشابهت أساليب الحياة والسلوك بين الشعوب، ولم تعد الحواجز السياسية والاستراتيجية قادرة اليوم على الصمود أمام الثورة المستجدة كل لحظة(69).

كما يعبر "جان فرانسوا ليوتار" أحد أبرز منظري ما بعد الحداثة حيث يقول: "فرضية العمل لدينا هي أن وضع المعرفة يتغير بينما تدخل المجتمعات ما يعرف بالعصر ما بعد الصناعي والثقافات، أو ما يعرف بالعصر ما بعد الحداثي" وينظر ليوتار نظرة شاملة إلى تلك الحركة، حيث يجعلها مرتبطة بالعلوم اللغوية الفنولوجيا والنظريات اللغوية، ومشكلات الاتصال والسيبرنطيقا، ونظريات الجبر والمعلوماتية الحديثة، والكومبيوترات ولغاتها، ومشكلات الترجمة والبحث عن تساوق بين لغات الكومبيوتر، وعلوم الاتصال عن بعد، وعلم التناقض(70).

وهكذا تتم قراءة المنجزات العلمية، وآثارها الاجتماعية، في ضوء الآثار الثقافية والفكرية التي لحقت بالمجتمعات المعاصرة، وفي ضوء الفلسفة المواكبة لتغيرات الإنسان المعاصر في حياته.

في ضوء ما تقدم، يمكن القول إن ما بعد الحداثة أرست مفاهيم وأسسا، أبرزها:

- تحجيم الذات والعقل، فلم تعد الذات مقابلا للموضوع، وإنما صارت جزءا صغيرا أمام عالم منفتح، فأدركت الذات كنهها المحدود، وسط طوفان المعلومات والثقافات والرؤى، ولم يعد العقل مركزا، وإنما اكتشف أنه محدود مؤطر بحجم الإنسان، وبتأثيرات الأجهزة التقنية وتحكم وسائل الإعلام فيه.

- إعادة النظر في مفهوم التخصص الدقيق، وإغراق العقل فيه، مما يعميه عن حقائق كثيرة حوله، ويجعله أكثر انغلاقا، وأيضا رفض الثنائيات المختلفة بين النفس والجسد، والذات والموضوع، والأنا والآخر. وصار الهدف استعادة الإنسان من تحت ركام ما تعرض له بسبب العقل الحداثي، التي أدت إلى خراب في العالم تجلى في الحربين العالميتين والنزاعات العرقية والمذهبية والاستعمار ونهب ثروات الشعوب واختراع أدوات الحرب والدمار الشامل، وهذا سبب العقلانية التطبيقية التي طورت العلوم دون النظر إلى توابعها المدمرة على الشعوب(71).

فأرادت ما بعد الحداثة القضاء على العقل الحداثي بمعناه العام، العقل الذي اتسم بالأداتية وتغطرس على الذات الإنسانية، وأصبح شغله الشاغل هو المردودية والإنتاجية والنجاعة مما أوصل الحداثة إلى أزمتها، وتمسك بأنساق ثقافية كلية، تجاهلت وظلمت الكثير من الثقافات والأفكار الأخرى(72).

- الاحتفاء بالمشتركات الإنسانية، ورفض الهيمنة الفكرية والمركزيات الثقافية، التي سادت خلال الحقبة الاستعمارية، واعتبرت الغرب مركزيا في الحكم على العالم، وأن التصورات الغربية هي الأساس والنموذج.

فلابد من تضافر الجهود بين العلماء والمفكرين المعاصرين من أجل إرساء دعائم عقلية تواصلية، انطلاقا من فكرة النشاط التواصلي للبشر، واسترشادا بمدونة أخلاقيات المناقشة، وطرح رؤى فلسفية للعلاقات الإنسانية في المجتمعات المعاصرة، وتحقيق تفاهم متبادل بين الأفراد والجماعات، وهذا ما أتاحته التجمعات الافتراضية على شبكة المعلومات، في المنتديات وشبكات التواصل الاجتماعي، مما أدى إلى نسج علاقات اجتماعية وفكرية وثقافية جديدة، ووجود قيم اجتماعية جديدة، مما سيؤدي إلى ثورة اجتماعية تجعل مجموعات من الناس يعيشون في أماكن مشتتة جغرافيا يتواصلون فيما بينهم، ويحدثون تأثيرات في السياسة والفكر(73).

- إعادة تعريف الفلسفة، وربطها بمشكلات الإنسان الحقيقية ورفض الخطابات الكلية (الأنساق) للحداثة، التي لا تنظر إلى هموم الفئات المهمشة والمحرومة، وأن يسعى الفيلسوف إلى مناصرة حريات الإنسان، وحماية حقوقه الآدمية(74)، ونهاية للعقل المتحذلق الذي لا ينفك عن دأبه في الثرثرة بالطنطنات الرنانة والقواعد الجامدة سابقة الإعداد، والقوالب الجاهزة التي يحشر الواقع في أجوافها الباردة، فتحبس فيه عناصر الانعتاق والتفتح فتقتله كمدا قبل أن تظهر أنواره أو يعي حتى بوجوده(75).

- إعادة الاعتبار للثقافات المختلفة، ولا فرق بين النخبوي والهامشي، ولا الشعبي والرسمي، فكلها تشكل الوعي والمجتمع، ولا استعلاء لحضارة على حضارة، ولا ثقافة على ثقافة، ولا معنى للمركزيات الثقافية.

فلابد من إيجاد أخلاقيات جديدة أساسها رفض الإكراه والضغط والمنع، ومواجهة الأخطار المهددة للإنسانية مثل الاحتباس الحراري والبطالة وأسلحة الدمار، وتنمي قدرة الفرد على مقاومة فوضى ووحشية العولمة، فالتقدم العلمي ليس كافيا، ولابد من أخلاقيات سامية تحميه، كذلك الاحتفاء وتنمية الديمقراطية الليبرالية لأنها تحمي حقوق الإنسان، وتحتضن الأقليات، وتقدر الحياة الشخصية للناس(76).

- جعلت الفرد من كونه متلقيا للمعلومات والتوجيه الإعلامي إلى مرسل ومناقش ومتفاعل، مستفيدا من إمكانات الفضاء التقني، وما أتاحه من حرية واسعة، في تلقي العلم والفنون، ومناقشة العلماء والمبدعين، وإطلاق حرية العقل، والاحتفاء بكل الأفكار المبدعة، وكل العقليات وإن صغرت وتهمشت.

مما يعني نهاية العقل القديم وتدشين عقل جديد بديل قادر على تمثل واستيعاب مستجدات الواقع وأزماته التي لا تنتهي، عقل لا يفرض أحكامه المسبقة، التي لا يمتلكها أصلا، ولا يجول ويصول في بديهيات ومسلمات ومصادرات مرتبة على الطرز الكلاسيكية القديمة(77).

- جعلت الذات المبدعة تتعايش وتبدع في عوالم جديدة وبأخلاق جديدة، فالفضاء التقني وما فيه من واقع افتراضي ورمزيات، يفرض على الذات المبدعة رؤى وتجربة جديدة، تجعلها تفكر وتتخيل بشكل مختلف.

أيضا، فإن الذات المبدعة لن تكون منغلقة على ذاتها وهمومها، وإنما سترتفع إلى مشكلات الإنسان، وهمومه، بحكم الوعي العولمي الذي بات متوافرا بشكل يومي، في مواجهة توحش الشركات والحكومات، وزيادة الأخلاقيات العالمية بين الناس، كما أن فلسفة ما بعد الحداثة سمحت للإنسان في العالم النامي والجنوبي أن يقوم بعملية نقد للحداثة الغربية، وقراءة دور الغرب الاستعماري وما فعله بالشعوب(78).

وفي المبحث الثالث، سنتناول دور الفضاء التقني في الخيال الإبداعي، والإطار الفلسفي الذي يدور فيه النص الشعري.

المبحث الثالث
الشعرية والإبداع والتخييل: إبداع الخيال تقنيا:
الشعر فن إبداعي أساسه اللغة والشعور والرؤية، إنه فن تشترك فيها سائر الأمم والحضارات، ولكنه عند العرب ديوانهم، وعلامتهم المميزة الأولى في عالمهم الإبداعي، منذ الجاهلية إلى يومنا، فالعلاقة بين الشعر والحياة والناس والأشياء تضرب بجذورها في المخيلة الإبداعية العربية، مثلما هي مؤصلة في الوجدان الجمعي والفردي العربي. فإذا امتلك الشاعر أدواته الشعرية، كان عليه أن يتخيل، أو يعيش التخييل، ولأن الشاعر في الفضاء التقني عليه أن يتخيل، فهو يحيي بذلك أساسا شعريا، لا غنى عنه، عندما يطلق ذهنه خيالا، ويجعل فؤاده محلقا في فضاءات ليست في السماء، وإنما في عالم افتراضي ممتد.

وفي التخييل عرّف النقاد العرب الشعر منذ القدم، على نحو ما يذكر حازم القرطاجني: "الشعر كلام مُخيَّلٌ موزون. مُختصٌّ في لسان العرب بزيادة التقفية. والتئامه من مُقدَّمات مُخيَّلة، صادقة كانت أو كاذبة، لا يشترط فيها -بما هي شعر- غير التخييل"(79). فالتخييل هو المُعْتَبرُ في صناعة الشعر. فـــ"صنعةَ الشاعر هي جودةُ التأليف وحُسن المحاكاة. وموضوعها الألفاظ وما تدلّ عليه". وبالتالي إذا حصل "التخييل والمحاكاة كان الكلام قولاً شعرياً. لأن الشعر لا تُعتبر فيه المادة. بل ما يقع في المادة من التخييل"(80)، أَيْ أنه بالنسبة إلى حقيقة الشعر، لا فرقَ بين أن تكون المعاني مما يشترك فيه العامة والخاصة، أو تنفرد فيه الخاصة دون العامة.. إذا كان التخييل في جميع ذلك على حدٍّ واحد. إذ المُعْتَبر في حقيقة الشعر إنمَّا هو التخييل والمحاكاة في أيّ معنى اتّفق ذلك، المهم أن يكون الخيال فريدا جديدا، يمكن للقارئ العادي أن يتخيل، مشتركا في ذلك مع الشاعر، ولكن الشاعر يبزُّه بالموهبة التي تحيل الخيال نصا، بألفاظ وصور وعالم مبدع، قد يجد فيه القارئ ما تخيله، وما يمكن أن يتخيله، مثلما يجد أحلامه وأحاسيسه.

وقد أكّد القرطاجني هذا المعنى حين ذكر أن التخييل في الشعر إنما هو إنشاءُ صورةٍ أو صور في ذهن المتلقّي ترتبط بالنفس وتُحرّك فعاليَّتها، سلباً أو إيجاباً. يقول: "التخييل أن تتمَّثل للسامع من لفظ الشاعر المُخيّل أو معانيه أو أسلوبه ونظامه، وتقوم في خياله صورةٌ أو صورٌ ينفعل لتخيّلها وتصورها، أو تصّور شيء آخر بها. انفعالاً من غير رويَّة إلى جهة من الانبساط أو الانقباض"(81).

بداية لابد أن ندرك أن الخيال المبدع وسيلة لإحداث التغيير الروحي، مصحوبا بالحب للعالم الجديد، والأشياء فيه، فالحب هو القيمة الروحية التي تفجر الفن، لذا تجب العناية به من لدن المبدع، والتمييز بينه وبين طلب الشيء، أو إرادة الشيء، كما يجب التمييز بينه وبين التوهم وأحلام اليقظة(82).

ليس المقصود بالحب هنا عاطفة الحب المعتادة في القلوب، والتي كانت عنوانا للمدرسة الرومانسية، وجعلت الأحاسيس بوصلتها في الحياة والأدب، وإنما الحب بمعنى الحميمية التي يقيمها الأديب مع العالم من حوله، أيا كان هذا العالم، عالم يعيشه ويأتلف معه سواء كان بشريا، نباتيا، جبليا، صحراويا، افتراضيا، واقعيا، حتى لو خياليا، فلا إبداع لمن لم يتعايش مع العالم المراد الكتابة عنه، والتعايش أساسه الانحياز والحب والألفة. ومن جانب آخر، لا معنى لخيال مبدع، يفتقد التواصل مع القارئ، فيمكن للمبدع أن يتخيل ما لا يتوقع، ويكون السؤال ماذا عن القارئ ودرجة تقبله لهذا وتذوقه لجماله، واستيعابه لطرحه. إن "الخيال المبدع مثل المغناطيسية، يحتاج إلى قطبين، حتى يوجد قطب موجب وقطب سالب، فهو ليس فعلا واحدا، بل متبادلا: إعطاء وتلقيا، وهو يحتاج إلى توتر يصل بين المعطي والمتلقي، والفن أحد أشكال هذا التوتر"(83).

فالإبداع أساسه العمل الخلاق كما يقول شتاين Stein بأنه "عملية ينتج عنها عمل جديد يرضي جماعة ما، أو تقبله على أنه مفيد"(84) وهو هنا يربط الجَدّة في الإبداع بمدى تقبل القارئ له، فلا معنى لإبداع ملغز على القارئ، والقارئ ليس مفردا، وإنما جماعة من القراء، يقرأون الإبداع، ويتذوقونه ومن ثم يتعاطفون مع تجربته، وينهضون لاستقبالها واستتقبال أشباهها على طريقتها.

على جانب آخر، فإن المبدع الذي يحصر نفسه في عالمه الخاص، ويدير حياته على نمط تقليدي ويكرس جانبا من حياته للتأمل والإتقان البطيء لصناعته، غير ناظر إلى عالم البشر الزاخر بالجديد والساخن والمتطور بكل همومه وتطلعاته، لهو أناني في انعزاله الظاهر، يتعرض لسؤال: ما قيمة فنه في عالم مائج مضطرب(85)، ومن جوانب العزلة أيضا، أن يعجز المبدع عن رؤية شكل الأشياء من حوله، جديدها وقديمها، فليست قيمة/ دور المبدع الأولى أن يضع أمام الإنسان مرآة تمكنه من رؤية ما كانه وما يصير إليه، ومن أن يجعل نفسه متميزا من خلال الالتحام بالطبيعة، وإنما تكون قدرته في وضع أمام الإنسان/ المتلقي مرآة تمكنه من رؤية حاله وما يصير إليه(86).

وبهذا تتحول ذات المبدع من مجرد واصف لما في الحياة والطبيعة، أو معبر عنها من خلال مشاعره وفكره، إلى إعادة تقديم الحياة كمرآة، بزوايا مختلفة، تتيح لمتلقيه أن يراها بأشكال جديدة، وهذا لن يتأتى إلا بالتلاحم مع الحياة والعالم المراد التعبير عنه، تلاحما بنّاء، معبرا، غائصا في تفصيلاته.

ويأتي تعريف سيمبسون Simpson مؤكدا ما تقدم، فالإبداع هو "المبادرة التي يبديها الشخص بقدرته على الانشقاق من التسلسل العادي في التفكير إلى مخالف كلية"(87). فالمبدع مختلف عن الناس، لأنه مُنِح موهبة، جعلته ينظر ويتخيل ويعبر بشكل مغاير، وكلما استطاع أن يأتي بالجديد، منشقا عن المألوف والعادي وإن كان إبداعا، يكون مضيفا مبهرا، والأهم لو خالف التفكير السائد، والذائقة السائدة، واستطاع أن يأخذ المتلقين لطرق جديدة في التفكير والذائقة.

ويؤكد كلوبفر Klopfer على منحى آخر، فالشخص المبدع تكون لديه القدرة على تطوير ذاته وقيمه كي تتوافق مع الخارج، يقول إنه "استعداد الفرد لتكامل القيم والحوافز الأولية بداخل تنظيم الذات والقيم الشعورية، وكذلك تكامل الخبرة الداخلية مع الواقع الخارجي ومتطلباته"(88).

وهذا أمر عظيم الأهمية، فهل يمكن أن ينظم شاعر قصيدة عن الطائرة وهو لم يركبها؟ أو عن شبكة المعلومات ولم يلجها؟ سيكون أشبه بالسابح على البر، والراغب في الطيران وهو واقف في النافذة ؛ كلام بلا حياة، وحياة مصطنعة. فمن أراد التعبير عن عالم مختلف، عليه أن يعيش هذا العالم، ويتفاعل به، ويمتزج شعوره بما فيه، ومن ثم ينظّم ذاته وقيمه الشعورية، فيمتلك من الخبرة ما يجعله يقدّم هذا العالم بروح جديدة، وإبداع متجلٍ.

على صعيد آخر، يثير تورانس قضية أهم، تتصل بدور الإبداع في الحياة، حيث يعرّف الإبداعية بأنها: عملية يصبح الفرد بها حساسا للمشكلات والنواقص والفجوات في المعرفة والعناصر المفقودة وغيرها(89).

فالمبدع الفذ لا يكتفي بإعادة إنتاج الإبداع السابق، وإنما يبحث عن مساحات جديدة يغوص فيها، ويدرسها، ويعبر عنها، إنه يبحث عن نواقص الجماعة فيكشفها، وعن أثر التقنيات والمعارف الجديدة فيبينها، وكأنه يتبنى لسان حال الجماعة، يشعر بشعورها، ويعبر عن أحاسيسها، ويغزو عوالمها الجديدة، خصوصا إذا باتت التقنيات ممتزجة باللاشعور الجمعي، وصارت جزءا لا يتجزأ من بنية المجتمع الثقافية والفكرية والحياتية.

الإبداع بين التخييل والوسيلة:
لا يمكن أن نتصور إبداعا دون خيال، ذلك لأن المبدع يرى ما لا يراه الإنسان العادي المفتقد للإبداع. فالخيال هو اللمسة المختلفة التي توهب للمبدع، وتجعله قادرا على تقديم ما يدهش الآخرين، ويفاجئهم فنيا وإبداعيا.

لذا، من المهم التفرقة بين: التخييل، والتخيّل، والمتخيل، والخيال ذاته.

فالتخييل هو النشاط الحر الذي يقوم به الإنسان فيما يشبه أحلام اليقظة، فهو ينتقل من موضوع إلى آخر على نحو حر تماما، ودون الالتزام بروابط أو نظام أو قوانين. أما التخيّل فهو نشاط حر ولكنه موجه على نحو غير مباشر نحو موضوع معين، ويكون بؤرة للنشاط الخاص بالتفكير البصري، ويتجمع حوله كل ما يؤكده ويدعمه ويعمقه من الصور والذكريات والانطباعات والانفعالات، وهو نشاط يقوم به الصانع أو المبدع للخيال أو المتلقي له، أي أنه شكل من أشكال الذاكرة التي تحررن من روابطها، في حين، يكون المتخيل هو: موضوع التخييل أو التخيل أو التفكير البصري، وقد يتجسد في أشكال فردية أو جماعية، داخلية أو خارجية، وقد تقوم أمم وحضارات وثقافات في ضوء هذا المتخيل. أما الخيال فهو العملية الكلية التي تضم كل العمليات الفرعية السابقة(90).

فالقاسم المشترك بين المصطلحات السابقة، هو وجود الخيال، الذي هو طريقة للاستكشاف العقلي على نحو إرادي مرن واحتمالي، خلال العوالم الخاصة بالصور، بل يكاد يكون الخيال في جوهره عملية تحويل للصور(91)، والذي لا شك فيه أن الخيال هو جوهر الإبداع، أيا كان نوعه وشكله، لأن المبدع أو المخترع أو المبتكر أو الحالم أو المتخيل، يرى في النهاية ما لا يراه غيره، وعلى قدر قوة إبداعه، وصقله في التخييل، وقوة الموهبة ذاتها، يكون المبدع متوهجا، والاختراع مؤثرا.

فالخيال يجعل الإنسان -وهو في كامل يقظته- يجول بعقله في عوالم رؤى شتى، بعضها واقعي وكثيرها غير واقعي، وربما تكون ترجمتها في صور هي الأقرب له، خاصة في مجالات الإبداعات ذات الطابع البصري مثل الفنون التشكيلية والسينما والمسرح، أما في المجال الأدبي، فإن الكلمة هي الأساس في التعبير، صحيح أن الكلمة تعبر عن صورة بصرية، إما بتصوير خيالي في الصورة الفنية الشعرية، أو بوصف مفصل لما هو واقع بصري، أو بوصف حركة وأحداث وشخصيات باستخدام الكلمة، ولكن بتعبيرات دالة على البصر.

وفي هذا الصدد، يجدر بنا أن نناقش الوسيلة الأساسية في تحقيق الخيال، فالفنان التشكيلي مثلا يستخدم خامات عديدة مثل الحجر أو الألوان أو الأخشاب أو المعادن في صياغة ما تخيله فنيا، أما الأديب والشاعر، فإنه يستخدم الكلمة، ولكنها ليست نهاية المطاف، فهناك وسائل أخرى مع الكلمة، تتصل بسبل نشر الكلمة؛ إما على الحجر أو الأوراق المخطوطة أو المطبوعة أو مواقع الحاسوب.

فالإنسان يفكر ثم يعبّر وفق ما تقتضيه الأدوات المستخدمة في التعبير، فقديما كان يفكر في حدود ما سيدوّنه على الحجر أو الخشب أو العظام، فيكون حجم الكتاب صغيرا، محدودا في الكلمات، بغض النظر عن رغبات القارئ، والانتشار متوقف على مدى عدد القراء ومدى قدرتهم على الوصول إلى الكتاب، فما إن توصل إلى الرّق ومخطوطات البردي، ابتداء من القرن الرابع الميلادي فصاعدا، حتى ظهر الورق في القرن الثاني عشر الميلادي في إيطاليا، وكان الكتاب المصنوع من الرق يوضع في درج، حتى يقال إن الإلياذة لهوميروس كانت في أربعة وعشرين مجلدا لأنها وضعت في أربع وعشرين درجا، يتسع كل درج لحجم المجلد فقط، وعندما ظهر الورق، ثم اختراع الطباعة، تغير شكل الكتاب، واتسع انتشاره، وزاد عدد القراء، وتطور تدريجيا إخراج الكتاب، وبدأ يلبي رغبات القراء، وهذا ما راعاه المؤلفون والطباعون(92).

لقد كان المؤلف يصوغ نصوص كتابه وفق الآلية المتاحة له للتسجيل والنشر، أي أنه يفكر ضمن ما يفكر في السبيل، ويراعي القارئ، وحاجاته النفسية.

وهو ما يفسر ظهور عشرات الأشكال من الأعمال الأدبية والعلمية ما بين كتب روائية (رومانسية وبوليسية وواقعية..) وشعرية وغنائية وكتب علمية مبسطة أو معمقة، وكتب الخيال العلمي، فيمكن القول إن القارئ شريك في تكوين النص وإنشائه من خلال تفاعله مع الكاتب مباشرة وشرائه للكتب(93).

أيضا، هناك علاقة روحية بين الكتاب والقارئ، تختلف عن العلاقة بين الإنسان وأدواته المستخدمة في الحياة، مثل الأثاث والملابس، فالكتاب له وظيفة رمزية(94)، والمبدع بوصفه قارئا في الأساس، ينظر في هذه العلاقة، وينشئ إبداعه وفقا لها، ونفس الأمر مع صانع الكتاب وناشره.

فما دامت الوسيلة جزءا من تكوين النص، ومادام المؤلف المبدع يأخذ في حسبانه وسيلة النشر، وحاجات القراء المتلقين، فإنه بلاشك سيبدع ضمن هذه الدائرة. وعندما ننظر إلى استفادة المبدعين من تقنيات الحاسوب، وما يتيحه الفضاء التقني من انتشار وتفاعل مباشر فإن هذا سيؤثر على مجمل العملية الإبداعية: تأليفا وتلقيا.

وفي جميع الأحوال، وفي ضوء مسيرة تطور العلاقة بين المبدع والقارئ والأداة وصناعة النشر، فإننا في حاجة إلى قراءة عميقة للفضاء التقني، بعدما استقر وأصبح واقعا يلاحقنا في حياتنا، ونلاحقه متى وأينما ذهبنا، فهو حافل بالكثير، الذي يجعل العقل البشري في حاجة إلى تأمله، والتعامل معه، بل على الإنسان المعاصر أن يغير من طرق تفكيره، ومهاراته الخاصة في تحصيل المعرفة كي يواكب الثورة المعلوماتية الجديدة بفضائها ووسائلها المختلفة، والتي استطاعت أن تفرض عشرات التحديات على العقل المعاصر، وهي تحديات جديدة لأنها تتصل بالبناء المعرفي والمهاري للإنسان.

وهذا ما دعا "بيل جيتس" إلى اعتبار التعليم وسيلة أساسية في تنمية مهارات الإنسان المعاصر، ولا يحصره في التعليم النظامي، وإنما في التعليم المستمر طوال الحياة، لأن العالم مطرد التغير، وكلما ارتقى الأفراد معرفة ومهارةً صاروا هم الأفضل أداء، لأن الأهمية التي يسبغها المجتمع على مهارات الكومبيوتر آخذة في التزايد(95)، وتجد مساحات كبرى من الاهتمام الفردي والأهلي والحكومي.

على المبدع أن يقرأ مجتمعه بشكل كلي، يشمل الثقافي والاجتماعي والشعوري والتقني، وكلها علاقات متشابكة، فإذا قبِل أفراد المجتمع التقنية، فعلى المبدع أن يدرس عوامل السببية الاجتماعية(96) التي جعلتهم يقبلونها، فالتقنية في نهاية الأمر تتوجه للناس، وعلى قدر تقبل الناس لها، تنتشر، وعلى المبدع أن يدمجها في ذاته عندما يروم التعبير عن مجتمعه.

فالمبدع في الفضاء التقني يشكل عضوا بالفئة المتمردة، ضد الهيمنة السياسية والفكرية والثقافية التي تصدرها مواقع البحث الكبرى، والمواقع المعلوماتية الأساسية، لأنه يتمتع بالفردية التي تجعله يقف أمام هذه الهيمنة، يقرؤها وينثرها شعرا وفنا وأيضا يتحداها.

إنه يتناغم في هذا مع التوجه المستقل القوي، والذي واكب تمدد الشبكة العنبكوتية، منطلقا من أن هذه الشبكة مثل القطار يركبه غرباء، وينزلون منه، وكل غارق في أفكاره وأحاسيسه، وإن كان هناك مشتركات دون شك. وهذا التوجه ينمو بعيدا عن توجيه الحكومات، ضد أباطرة الاتصالات عن بعد، الذين يتوقون إلى ممارسة سيطرة احتكارية ليس فقط على السلع المادية مثل الفحم والنفط والصلب والسكك الحديدية، بل أيضا على الوسائل الأساسية للقوة في حضارة تقوم على المعلومات(97)، فإذا وعى الشاعر هذه الهيمنة العملاقة بالقوة المتسلطة في العالم الإلكتروني، فسيكون لديه دور أساسي في مواجهتها، وفضح هيمنتها، وسيطرة الرأسماليين المتحكمين في صناعة المعلومات.

النص الإبداعي في الفضاء التقني:
يمكن تعريف الواقع الافتراضي الذي أتاحه الفضاء التقني بأنه: ذلك النشاط الذي يسمح لنا ومن خلال التفاعل مع التكنولوجيا، بأن نستغرق بأنفسنا ونندمج في الصورة وعالمها وأن نتفاعل معها أيضا. فقد جعل الإنسان يعيش عوالم يوجدها الحاسوب بأنظمة تمزج بين طرائق التصوير والصوت والأنظمة الحسية المحوسبة، بحيث يشعر الإنسان أنه مندمج في عالم بمستويات حسية مختلفة، ومتفاعل معه. فهناك عوالم بصرية شبه واقعية ثلاثية الأبعاد، ومخلقة بوساطة الحاسوب، ويتفاعل المرء معها في بيئات افتراضية كالغابات والمعارك العسكرية والفضاء الخارجي وأعماق البحر والأسواق ... إلخ(98).

وعلى الصعيد الأدبي، فإن الفضاء التقني كان سببا في ظهور نصوص جديدة، تكتب بتقنيات جديدة، تشمل الطريقة التقليدية في الكتابة، وأيضا الاستفادة من الإمكانات الكبيرة التي أتاحها الحاسوب على صعيد تصميم وإخراج النص، وهذا ما شجع على ظهور ما يسمى "النص المتشعّب Hybertext" المتميز عن النص الورقي المكتوب، "فالنص الإلكتروني عبارة عن كتلة لغوية متحركة في الاتجاهات كافة، فهي تأخذ طابعا متشعبا، لكن درجات هذا التشعب مرهونة بنوعية الشبكة ومدى ليونة أو صعوبة أو تعقيد وصلاتها، كذلك بنوعية المعرفة الموزعة من قبل الشركة، التي تتحكم في مساراتها واتجاهاتها الإيديولوجية"(99).

عندما يتعامل المبدع مع الحاسوب، وقد امتلك مهاراته، وأدرك عوالمه، سيعرف أنه يتيح إمكانات عالية في تشكيل النص على مستوى الشكل، وأيضا على مستوى المضمون، فالنص الإبداعي المصاغ على الشبكة العنكبوتية بواسطة برمجيات الحاسوب، يتميز بسمات عديدة، تستقر في نفس المبدع، قبل وأثناء وبعد عملية التكوين الإبداعي لنصه، فلم يعد المبدع قادرا على التفكير بمعزل عن الآلة، إنه يدرك أن النص لن يتوجه إلى فئة بعينها وإنما يتحرك سريعا إلى عشرات الآلاف أو الملايين من المتلقين، وهذا يفرض عليه –إذا أراد أن يخاطب شرائح وفئات واسعة– أن يشكل نصه بفضاء عال في قيمه الإنسانية والفكرية والشعورية، بما يتيح وصول النص إلى أكبر فئة، ويسرع في تداوله وانتشاره. كما يمكنه أن يصوغ نصه مستخدما الموسيقى والصور الثابتة والمتحركة ويشكل الكلمات وينسقها بما يتناسب مع ما يروم طرحه، آخذا في الحسبان أنه خاضع في جميع الأحوال للشركات أو المواقع التي تقوم بنشر نصه على أوسع نطاق أو في نطاقات أضيق، ويمكن حجبه إذا رأت أنه يتعارض مع أيديولوجيتها الفكرية المسبقة، مما يضطر المبدع إلى البحث عن مواقع أخرى قد تكون أقل فاعلية. وهذا يجعل الفضاء التقني على اتساعه، خاضعا بشكل أو بآخر لتوجهات شركات المعلومات ومواقع البحث العملاقة، الخاضعة لدول وحكومات وسياسات وأفراد.

ولابد من الأخذ في الحسبان أن النص العنكبوتي ينظر إليه من زوايا عديدة، فرضتها طبيعة الأداة، من حيث التشابك، التفاعل بين الفاعل والعالم الافتراضي، التواصل والحوار، والأهم مفهوم التناص والتلاصّ في مقابل الإضافة والاختراق، فالنص عالمي رغم خصوصية الهوية الفرعية، أما اللغة فهي افتراضية تعتمد الرمزية بشكل كبير، والنص الأدبي تشكيل رموزي يتوغل أكثر في الافتراضية في مقابل لغة الواقع، أي أن الفن والأدب افتراض في افتراض(100).

والصورة تلعب دورا مهما في تحريك النص العنكبوتي في الشابكة، سواء بمصاحبة النص القابل للتحريك، أو من خلال وجودها كعنصر رئيس من عناصر النص، وهي تمتلك الصدقية أكثر من اللغة، كما تمتلك التأثير الواسع على المشاهد/ القارئ، فلم تعد ملحقا تزيينيا كما في الكتاب المطبوع(101).

وقد انتهجت ما بعد الحداثة هذه الرؤية، بل وجعلتها خاصية من خصائص فنونها، وتتمثل في ذوبان الأقسام التقليدية بين الفنون، فصارت الفنون متمازجة، فالنص الشعري مدعم بالصورة والموسيقى ومقاطع الفيديو مع تصميم تشكيلي جذاب، وأيضا الفيلم مدعوم بنصوص شعرية أو أقرب للشعرية، تعبر عن جوهر الصور المتحركة، وربما يكون هذا سابقا من قبل، ولكن البعض في الماضي كان يتعامل مع هذا التمزج بوصفه "كولاجاً" وحيلة للزينة، أما في فنون ما بعد الحداثة، فهي ترى أن التمازج ليس حلية بل ضرورة، بالنظر إلى الأدوات المعبرة والناشرة للإبداعات، فالنصوص الإلكترونية، بحكم وسيلتها، يمكن أن تكون مصحوبة بكثير من التقنيات الفنية الأخرى، ليكون الأمر في النهاية نصا مصنوعا في فضاء تقني، يتطلب ذلك. فلم يعد القارئ يحتمل قراءة نص شعري دون موسيقى تأثيرية مصاحبة وصورا معبرة، وكل هذا يختاره الشاعر مع مصمم النص، مما يستلزم المزيد من الثقافة البصرية والسمعية لدى الشاعر نفسه.

فالخاصية المميزة لفنون ما بعد الحداثة، هي ذوبان الأقسام التقليدية بين الفنون المختلفة، وأيضا بين الفنون ومجالات التواصل والنشر، فقد قضى العديد من الفنانين على التقسيمات بين الفن والثقافة الجماهيرية وحتى الإعلام، من حيث الحديث النظري عن الفن، أصبحت الفواصل القديمة بين النقد الفني وعلم الاجتماع وعلم الأنثروبولوجي والصحافة غير موجودة في أعمال كبار الفنانين، وأيضا في رؤى منظري ما بعد الحداثة(102).

وإذا كانت الحداثة في كثير من مدارسها وتوجهاتها قد آثرت التجريد وفن الأداء وفن التركيبات في الفنون التشكيلية مثلا، فإن فناني ما بعد الحداثة، أعادوا استحضار الصور الواقعية والمناظر الطبيعية والقوالب التقليدية، وقاموا بإعادة إنتاجها بتوجه جديد ذي صيغة تهكمية في عالم الفن، أو إعادة طرحها بإخراج جديد يقرأ هذه الصور أو الشخصيات الواقعية التاريخية بفلسفة مختلفة(103).

فالقاسم المشترك في فنون وإبداعات ما بعد الحداثة، أنها لا يحدها حدود، وإنما تعيد قراءة الماضي والتاريخ، والحاضر وتتخيل المستقبل، بمنظور جديد، يستهدف الإنسان وصالحه، يحاول أن يكشف حقيقة الإنسان وتناقضاته، التي لن تظهر بأحادية الطرح، بل بتعددية الطرح.

وتعددية الطرح أن نقرأ المنظر الطبيعي في أحواله المختلفة، فهناك من يقرؤه بزوايا جميلة مبهجة، وآخرون يرونه قبيحا، أما ما بعد الحداثي فيمكن أن يجمع الاثنين، ويضيف أبعادا أخرى، مستهدفا الكشف عن مكنون المنظر وجوهره.

ونفس الأمر شعريا، فالشاعر يمكن أن يتغنى بذاته، أو يرثي حالها، ولكن أن يجمع الإنسان، ويكشف زيف الذات وحقيقتها، صدقها وكذبها، عزمها وخورها، نشاطها وكسلها، فهذا ما يمكن أن نجده في النص ما بعد الحداثي.

ويأتي المزج بين فنون ما بعد الحداثة، ليؤكد هذا المنحى، فالمبدع يحاول أن يعبر عن ذاته وعالمه من خلال ما يتوافر لديه من تقنيات، تكشف عما يريد، فالصورة والكلمة والصوت والحركة..، كلها وسائل كاشفة، معبرة، حبذا لو اجتمعت معا، أو استطاع المبدع أن يستخدمها معا، فإن لم يشأ، فهو ساع إلى الكشف، وعينه على الصدق، متسلحا بالشفافية.

لقد مهدت حركة ما بعد البنيوية لرؤى ما بعد الحداثة حول الذات الإنسانية وموقفها من العالم، ورؤية ما بعد الحداثي لذاته، فقد أرادوا أن يشككوا في المفاهيم المتوارثة التي نفهم الإنسان من خلالها، ورأوا أن مصطلح "ذات" يساعدنا على أن نفكر في الواقع الإنساني بوصفه تركيبا Construction، وباعتباره إنتاجا للأنشطة الدالة، والتي تجمع ما بين كونها متميزة ثقافيا وفي تكوين اللاوعي Unconscious في عمومها، مما يجعل مقولة النفس المرادفة للوعي في موضع الشك(104). مما يستلزم أن تكون علاقة القارئ بالنص أساسها التفاعل، فالقارئ يمثل الإنتاجية Productivity، فلا مجال للقراءة السلبية الاستهلاكية، وإنما لابد من القراءة الثرية المنتجة(105). فإذا كانت نظرة البنيوية ترتكز على قراءة البنية للنص، والنظر إلى العلاقات التي تجمع بين أجزائها، مستفيدة من طروحات المدرسة اللغوية الحديثة التي تزعمها دي سوسير، فإن ما بعد البنيوية ترى ألا يقتصر تعبير المبدع على وسيلة واحدة فقط في نصه، ولا عن بعد أوحد في ذاته أو رؤيته، وإنما يمكن أن ينظر إلى الواقع بوصفه تركيبا، ومن ثم يجتهد ليعبر عما فيه، وكم من التناقضات التي يمكن أن نجدها في الواقع، وتحتاج جهودا لكشفها، ووسائل إبداعية للتعبير عنها، مثلما تحتاج إلى قارئ متفاعل نشط.

فلسفة النص وشعريته تقنيا:
أحدثت فلسفة ما بعد الحداثة تغيرات مهمة على الصعيدين الفني والأدبي، تمثلت في الاعتراف بما هو شعبي، هامشي، غير نخبوي، واعتبرته جزءا من التكوين الثقافي، في تضاد مع الحداثة التي أعلت من النخبوية، واعتبرت العامة تابعين للنخبة، وعليهم أن يلاحقوا النخبة، ويرتقوا لها، وليس العكس.

لقد أعادت ما بعد الحداثة فن العمارة الحداثي؛ بكل ما فيه من تصاميم وزخارف، ترتكز على أنماط بعينها، واحتفت في مقابل ذلك بمختلف الأشكال والرؤى في العمارة. وفي سبيل ذلك رعت فن البوب الشعبي، وقدمته ضمن فنون النخبة، وفي الأدب، تمثلت في إنتاج نصوص تتأمل ذاتها، أي تجعل من فعل الكتابة جزءا من موضوع الكتابة. وقد صاحب هذه التغيرات جميعا شك جديد تجاه العلم والوضعية المنطقية في التفكير، وتساءلت في شك عن أفكار حداثية مثل وحدة الذات، وفكرة العدالة في السياسة، ودور الدولة، وفكرة القوانين الأساسية للتاريخ، وإمكانية قيام يقين في الفكر والعلم(106).

والأهم أن ما بعد الحداثة، تعاملت بمنطق الجمالي مع هو فلسفي وأخلاقي وعلمي، بوصفها إزاحة تدريجية للاكتشاف والعمق والحقيقة والتواصل والتماسك (وهي رؤى حداثية للنصوص والفنون)، لصالح: التركيب والخيال وسرديات التأمل الذاتي والتشظي الساخر(107)، وهناك من يرى أن مصطلح ما بعد الحداثة تشكل أدبيا في بداية الخمسينيات، على أيدي نقاد الأدب، في وصف نصوص جديدة انبثقت عن جماليات الحداثة وتجاوزتها، فالأدب الجديد لا يروج لمركزية الإنسان في الكون، وينظر للإنسان ككائن في العالم له موقعه، تماما مثل باقي الكائنات والأشياء، ودعا البعض إلى فن ديمقراطي جديد يقاوم الحداثة العليا ويزدريها، ويردم الفجوة بين الثقافتين الشعبية والرفيعة، ويقوض الاستقلالية المزعومة لجماليات الحداثة(108).

وربما نجد صدى لكل هذا في عالم الفضاء التقني، حيث نواجه بنصوص عديدة غاصت في العالم التقني، وتوحدت في شفراته ورموزه وفضاءاته الممتدة، حاولت قراءته فكريا وفلسفيا، وعبرت عن تجربتها في التعامل مع هذا العالم الرحب، الذي يخالف الواقع الحقيقي، ويقدم حياة تأخذ بالعقول والألباب، وتعيد صياغة علاقة الإنسان بالآلة، وعلاقته بنصه، وعلاقته بقارئه، وعلاقته بنفسه، بل وعلاقته بالعالم من حوله. وهي هنا تؤسس لشعرية جديدة، ورؤى وفلسفة جديدة، ولغة جديدة، تجمع ما بين الافتراضية وهي من الميراث التقليدي للنصوص السابقة، ولكنها تقدم دلالات جديدة عبر إعادة تشكيلها في فضاءات لغوية ومجازية وفكرية وخيالية، بجانب أنها منشورة على الشابكة أو تباع في أقراص مدمجة تستفيد من الوسائط الحاسوبية، وتعبر في آن عن تفاعلها مع الواقع ومع الفضاء التقني، وهذا لا يمنع من أن تكون هناك نصوص أخرى تعبر عن العالم العنبكوتي، وهي مطبوعة ورقيا بجانب نشرها على الشابكة.

هذا، ويمكن إجمال سمات هذه النصوص في محاور:

أولا: من اليقين إلى السؤال والشك:
ويعني أن يطرح النص الشك ورفض اليقينيات الفكرية والنفسية والاجتماعية، ويضعها موضع التساؤل، فكأن النص راغبا في مساءلة الواقع بكل تفصيلاته ومسلماته، وهو تساؤل بهدف الوصول إلى يقين جديد، ولكنه يقين مقيد بجديد ينقضه أو يتجاوزه أو يشكك فيه.

وفي سبيل ذلك، ترفض ما بعد الحداثة فكرة الذات التي روجتها الحداثة، وهي من اختراع المجتمع الحديث، وربيبة عصر التنوير والعقلانية، ذلك أن العلم الحديث حين حل محل الدين، فإن الفرد العقلاني (الذات الحديثة)، جعل عقله منطلقا وحَكَما، فإلغاء الذات يعني إلغاء تلقائيا لكل المفاهيم الحديثة المرتبطة بالذات الحداثية التي أوجدت موضوعات تناقشها مثل الطبقة والوضع الاجتماعي والجماعة والفئة، وجعلت ما بعد الحداثة الذات ضعيفة، تقترب من إنكار الذات، بنزعة تشاؤمية نوعا ما، كما تبدو في مقولات موت المؤلف، ذلك أن الذات لم تعد ذات قرار، وإنما هناك قوى كبرى تتحكم فيها، وتتحكم في العالم من حولها، وتصنع مخططات عظيمة، تكون الذات لا قيمة فيها(109).

وأرى أن فكرة إلغاء الذات ما بعد الحداثية لا تعني إبعادها تماما، ولا الحط من شأنها، خصوصا في الإبداع، وإنما هي نوع من إعادة النظر إلى الذات المتضخمة بفعل الرؤية الحداثية، والنظرة بواقعية إلى دورها في الحياة، إنها ذات ضمن مليارات الذوات الأخرى، قد لا تملك من أمرها شيئا أمام جبروت القوة والآلة والرأسماليات، فلا معنى لتكبرها وتضخمها، وإنما لتقرأ العالم في وضعها الصغير جدا، الذي يكاد يكون تافها، ولتعلم أن رؤيتها أحادية أمام مليارات الرؤى الأخرى التي قد تفوقها عددا، والبعض منها يمتلك من العلم والقوة ما هو أكثر منها.

وعلى صعيد النص الإبداعي، فإن ذات المبدع تتبني مفاهيم عدة منها: "اللايقينية" وتعني أن يكون النص افتراضيا يشبه الواقع ولا يشبهه، فكبسة خاطئة على أحد الأزرار تلغي يقينيته، وهو افتراضي لأنه منفصل عن الواقع بافتراضية الوسائط الجديدة. أما "الجدلية العالمية" فهي نص معولم، يمتلك الجدلية من خلال تفاعله مع المادي واللغوي مع نصوص العالم عبر منهجية المقارنة والتناص. في حين تكون "الليونة المائية" بإنتاج نص سائل حتى بعد إنجازه، مما يمنحه حرية أكبر من النص المكتوب والمطبوع، ويجعله قابلا للتعديل والحذف، والإضافة والتحويل، مما يعطي المبدع القدرة على التراجع وتحسين النص وهو ما يفسح المجال لمناقشة قضية "الصدقية والتزوير" عبر ما تلعبه الصورة والمؤثرات الأخرى من تأثير على القارئ بصفته شريكا في اكتمال النص، فهي تمنح الصدقية ويمكن أن تمنح التزوير(110).

فقد تم نزع المشروعية عن الأنساق الفكرية الكبرى، وباتت هناك أسئلة عن مشروعية المعرفة بمفردات مختلفة، ويعيد فهم الخطاب الإشاري والعلامات المنبثقة منه في وسائل الاتصال بشكل جديد، ويكون التأمل للعلم المكتسب، ومدى فائدته ويقينيته، مما يعني نزع المشروعية أيضا عن العلم(111).

ثانيا: من الوحدة إلى التفكك:
فإذا كانت النصوص الحداثية احتفت بالوحدة، والقراءات البنيوية للنصوص، ونظرت إلى المشترك واليقيني في النصوص، فإن ما بعد الحداثة نظرت إلى النص بوصفه نصا متعدد القراءات، ويمكن أن يضيف القارئ للنص حتى بعد كتابته، ويحاور المبدع مباشرة، وقد يجعله مغيرا لما كتب، أو يفتح له آفاقا جديدة في التلقي، وفي مخاطبة شرائح أخرى غابت عن عقل المؤلف الضمني.

فسمة "التشعيب" تعني العنكبوتية، فيتشعب النص من الواقع إلى العالم الافتراضي، إننا نتعامل مع النص المصاغ في الفضاء التقني، والتشعيب في قلب النص ابتداء من الحرف والكلمة والجملة إلى النص عن وقائع الحياة وأرشيفها الضخم. وتلعب الوصلات والنقر عليها دورا تمهيديا في صياغة النص، قبل اكتماله الافتراضي فتكون "الإثارة" بسبب ما تحدثه الوسائط الجديدة من إدهاش وإبهار. مما تؤدي إلى "الترابط والتشتت" النص العنبكوتي مترابط بسبب تفاعل الوصلات وتفاعل النص مع إحالاته وهو مترابط من خلال تفاعله الكيميائي والفيزيائي، وهو في ذلك يخالف النص المطبوع وما فيه من حواش وهوامش ومنمنات ومشجرات. ويتكوّن "التشكيل" عبر مفهوم التداخل والاختلاط، والتحاور مع الفنون الأخرى ومع وقائع الحياة من خلال اللغة فيصاغ النص تشكيليا. في حين يكون "التناصّ والتلاصّ" فكما يخصان النص المطبوع، يخصان النص العنكبوتي، فآلية التناص محركة للنصين، ولكنها تتسع في النص العنبكوتي عبر الوصلات والإشارات والأيقونات، مما يتيح حركية وحيوية وتفاعلية كبيرة. وتأتي سمة "التكيف" حتى يمكن للنص أن يتكيف مع المحيط فهو قابل للتحول والتعديل والحذف والإضافة(112).

وهناك من يرى أن فن ما بعد الحداثة يحتفي بالتنوع الذي بات سمة العالم الآن، فلم تعد هناك منتجات تخص مجتمعات بعينها، وإنما يعيش الإنسان يأكل ويلبس ويلعب متجاوزا منتوج وطنه، إلى أوطان أخرى، فيأكل في مطعم أمريكي، ويسمع موسيقى أوروبية، ويضع عطرا باريسيا، ويقرأ لكاتب ياباني، ويتحدث بغير لغته، فبات الأمر واقعاً جديداً(113)، فبات سؤال الواقعية مشكوكا فيه، ومن الصعب الإجابة عنه، في ضوء تعدد الواقع من منظور الذات ما بعد الحداثية(114).

ثالثا: التعددية والتنوع:
فلم يعد النص حاويا لوجهة نظر واحدة يسوقها المبدع، بل ينفتح لمزيد من الأصوات الصادرة داخل المبدع ذاته، فمن العبث أن يظن المبدع أن نفسيته وعقليته تنتجان فكرا واحدا، بل فيهما من التناقض والتعدد أكثر من الوحدة والمشترك، فلا يمنع أن يذكر الشعور وضده، والفكرة وعكسها، والحدث الواقعي والإيهامي، والتنقل بين العالم الواقعي والفضاء التقني في آن واحد.

فسمة "الفضاء الرمزي" تكون رمزية من خلال الفضاء التقني، ومن خلال صناعة الرغبات، ويتحاور الخيال البشري مع الخيال الصناعي، لتتولد خيالية جديدة. أما "المشاركة والتحاور" تكون بتعددية الأصوات المتحاورة في النص، فيتحاور المحتوى مع الشكل بطريقة تفاعلية جدلية، تلغي ثنائية الشكل والمحتوى، وتتفاعل البنية الإيقاعية في النص مع الإيقاع الافتراضي، ويتحاور المتن مع الحواشي والمؤثرات الصوتية والصورية مع الكلمات والبنية السطحية مع البنية العميقة. و"التعددية" تتكون بانفتاحه على الرأي والرأي الآخر، فتتعدد الأصوات المتحاورة، ما بين المبدع والمتلقي، والمبدع والمبدعين الآخرين، والمتلقين بعضهم مع بعض(115).

رابعا: رفض الهيمنة والاعتراف بالمهمش:
فلا سلطان لمؤلف شهير، ولا مفكر عظيم، ولا دولة متحكمة، ولا حكومة قوية، ولا إرهاب لسلطة أيا كان نوعها، فما بعد الحداثي يحتفي بكل ما هو منأي مهمش، فربما يكون أفضل من النخبوي السلطوي. مع رفض هيمنة دور النشر الكبرى، وماكينات الدعاية الإعلامية التي ترغم العقول على التشكل في وضعية معينة يتوخاها المعلن والممول.

وسيتم التمرد على المنظور التقليدي للزمن، المأخوذ من عصر الحداثة، سينظر إلى الزمن بشكل مختلف، فلم يعد الفهم التعاقبي أو الخطيّ Linear هو المعتمد، فهذا فهم قمعي، لأنه يقيس ويضبط كل أنشطة الإنسان، في حين يتم تبني مفهوم جديد للزمن، أساسه الزمن الخيالي الذي نادى به "ستيفن هوكنج" وأن الزمن الحقيقي وهم، كما أن فهمهم للتاريخ لا يعدو كونه شاهدا على الاستمرار ودليلا على فكرة التقدم، ولا يمكن الاعتماد عليه كثيرا، فالتاريخ بالنسبة للحركة هو مجال للأساطير والأيديولوجيات والتحيز، بل هو اختراع من الأمم القوية لقهر الشعوب الضعيفة، والمنتمين لحضارات غير غربية، ويرون أن الحاضر الذي نعيشه هو محور اهتمامنا وهو النص الذي نكتبه، وليس التاريخ مهما إلا بالقدر الذي يلقي فيه الضوء على الأحوال المعاصرة(116).

ويتفق هذا مع "نبذ الإمبريالية وقبول التهميش" تعني أن النظر إلى الأصوات الكبرى المسيطرة على الفضاء التقني إما من خلال مواقع البحث أو مواقع التواصل الاجتماعي أو مواقع النشر، في حين يتم تهميش الأصوات الضعيفة، مما يجعل كثيرا من النصوص مكتوبة بلغة القوى المسيطرة، وتصبح النصوص المحلية هامشية لعائق اللغة والعوائق الأخرى. فلابد من "الشفافية" في النص العنكبوتي وتكون معلنة وصريحة ومباشرة من جهة كشف المكبوت بسبب مساحة الحرية، ويمكن أن يتم القمع تحت حجج أخرى، بسبب سيطرة قوى خارجية متحكمة في المواقع(117).

فيحتفي النص ما بعد الحداثي بالخطاب الهامشي، وأيضا بالحكايات الصغرى -رافضاً بالطبع السرديات والأنساق الفكرية الكبرى– ويرى أنها هي الشكل الجوهري للإبداع(118). وسيكون ما بعد الحداثي مبرزا ما لا يقبل التقديم، باحثا عن تقديمات جديدة، لا لكي يستمتع بها، بل لكي ينقل حسا أقوى، فالفنان هنا في وضع الفيلسوف، لا تتحكم قواعد راسخة سلفا، من حيث المبدأ، فيما ينتجه من فن وإبداع، كما لا يمكن الحكم عليهما طبقا لحكم قاطع عن طريق تطبيق مقولات مألوفة على النص، فهذه القواعد والمقولات السابقة هي ما يفتش العمل عن نفيها والبحث عن قواعد جديدة من أعماق ذات الكاتب والفنان(119).

هكذا، تلتقي ما بعد الحداثة مع الفضاء التقني في كون الأولى تمثل انفتاحاً في الميدان الفلسفي، تحدّ من غرور الذات البشرية، وتقرأ العالم من حولها قراءة موضوعية، متحسسة قوى الضغط، رافضة للهيمنة والتحكم، معلنة تمرد الإنسان على أي نسق فكري يجعله أحادي الرؤية والتفكير، مشتركا مع البشرية في همومها وتطلعاتها، صادحا أن لا سلطان لأحد على عقله، وأيضا فإن عقله في حاجة إلى إمداد معلوماتي وفكري دائم، حتى تكون الرؤية أوضح له.

وتلتقي ما بعد الحداثة مع الشعرية الجديدة، في كون الأولى تطلق مكنونات الذات المبدعة بطروحات جديدة، لا تقدس الذات والعقل، بل تحصنهما من السقوط تحت الهيمنة للشركات والحكومات والمؤسسات العملاقة، ووسائل الإعلام الموجهة للعقول. وقد استطاع لفيف من الشعراء أن يغوصوا في هذا الفضاء أو الواقع الافتراضي، محاولين سبر أغواره، والعيش في أمواجه، والتعبير عن صخبه، غير متخلين عن واقعهم الحقيقي الإنساني.

* * *

الهوامش
(1) الأطر الاجتماعية للمعرفة، جورج غورفيتش، ترجمة: د. خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1981م، ص38.

(2) ما المعرفة ؟، دنكان بريتشارد، ترجمة: مصطفى ناصر، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، سبتمبر 2013م، ص32.

(3) السابق، ص19.

(4) السابق، ص123.

(5) لسان العرب، ابن منظور، تحقيق: عبد الله علي الكبير، محمد أحمد حسب الله، هاشم محمد الشاذلي، نشر دار المعارف، القاهرة، د ت، المجلد الخامس، مادة "فضا"، ص3431، 3432.

(6) المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1425هـ، 2004م، مادة فضا، ص693.

(7) معجم المعاني الجامع، على موقع: http://www.almaany.com ورابطه:

http://www.almaany.com/home.php?language=arabic&lang_name=%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A&word=%D9%81%D8%B6%D8%A7%D8%A1

(8) في نظرية الرواية: بحث في تقنيات السرد، د. عبد الملك مرتاض، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ديسمبر 1998م، ص141. وقد آثر المؤلف أن يستخدم مصطلح الحيز، معللا بأنه يشير إلى دلالات النتوء والوزن والثقل والحجم والشكل، وهو الأنسب –في نظره– في العمل الروائي، وقد بنى مباحثه على هذا الصدد فذكر مظاهر الحيز: الجغرافي في مظاهر جغرافية المكان القريبة والبعيدة من الإنسان، والمظهر الخلفي وهو معالم المكان غير المباشرة التي تظهر في السرد. ص143، 144.

(9) انظر موقع: http://ency.kacemb.com على الرابط http://ency.kacemb.com/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A7%D8%A8%D9%83%D8%A9/

(10) اعتمد مجمع اللغة العربية بدمشق لفظة "تقنية" مقابلا للمصطلح الأجنبي Technology. راجع موقع مجلة المجمع، http://www.arabacademy.gov.sy/magazine.aspx وقد اعتمدت كثير من الدول العربية هذه اللفظة.

(11) ذكرت في مراجع عديدة، منها: ﻭﺴﺎﺌل ﺍﻻﺘﺼﺎل ﻭﺘﻜﻨﻭﻟﻭﺠﻴﺎ ﺍﻟﺘﻌﻠﻴﻡ، ﺭﺒﺤﻲ ﻤﺼﻁﻔﻰ ﻋﻠﻴﺎﻥ، ﻭﻤﺤﻤﺩ ﺍﻟﺩﺒﺱ، ﺩﺍﺭ ﺍﻟصفاء، ﻋﻤّـﺎﻥ 1999ﻡ، ﺹ 244.

(12) انظر: موقع http://www.merriam-webster.com/dictionary/technology

(13) التقانة .. مقاربة ثقافية واجتماعية، د. نور الدين شيخ عبيد، بحث منشور في مجلة عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، العدد 1، المجلد 40، سبتمبر 2011 م، ص219، 220.

(14) السابق، ص221، 222.

(15) انظر تفصيلا: الآلة قوة وسلطة (التكنولوجيا والإنسان منذ القرن 17 حتى الوقت الحاضر)، آر. إيه. بوكانان، ترجمة: شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، يوليو 2000م، ص184-187.

(16) المعلوماتية بعد الإنترنت (طريق المستقبل)، بيل جيتس، ترجمة: عبد السلام رضوان، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، مارس 1998م، ص15، 16.

(17) السابق، ص185-187.

(18) السابق، ص195.

(19) التاريخ الاجتماعي للوسائط من غتنبرغ إلى الإنترنت، آسا بريغز، بيتر بورك، ترجمة: مصطفى محمد قاسم، سلسلة عالم المعرفة، المجبس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، مايو 2005م، ص389.

(20) الإنترنت .. ربع قرن من ثورة قلبت كل المفاهيم. إعداد: رزان عدنان، وخالد كبّي، جريدة القبس الكويتية، العدد 14649، الخميس 13/3/ 2013م.

(21) التاريخ الاجتماعي للوسائط، ص393، 394.

(22) فخ العولمة، هانس بيتر مارتين، هارالد شومان، ترجمة: د. عدنان عباس علي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، أكتوبر 1998، ص49 –51. وهناك مقولة ساخرة لـ"إيفان إيليش"، وهو ناقد أمريكي اجتماعي، "صار العطش يرتبط على نحو مباشر بالحاجة إلى الكوكاكولا"، وانتشرت في المعمورة ماركات: كوداك، وكالفن كيلين، وفورد، وشيفروليه، ناهيك عن نجوم السينما الأمريكية، ص51.

(23) السابق، ص184، 185.

(24) المتلاعبون بالعقول، هربرت أ. شيللر، ترجمة عبد السلام رضوان، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، مارس 1999م، ص250.

(25) التاريخ الاجتماعي للوسائط، ص332.

(26) السابق، الصفحات :335، 337، 341

(27) التقانة .. مقاربة ثقافية واجتماعية، ص232، 233.

(28) الأطر الاجتماعية للمعرفة، جورج غورفيتش، ترجمة: د. خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1981م، ص104.

(29) قاموس التنمية .. دليل إلى المعرفة باعتبارها قوة، تحرير: فولفجانج ساكس، ترجمة: أحمد محمود ،سلسلة العلوم الاجتماعية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2009م، ص594.

(30) الآلة قوة وسلطة، الصفحات: 258، 260، 261.

(31) قاموس التنمية .. دليل إلى المعرفة باعتبارها قوة، ص593.

(32) المتلاعبون بالعقول، ص20، 21.

(33) السابق، ص31.

(34) السابق، ص38، 42.

(35) التاريخ الاجتماعي للوسائط، ص397.

(36) قاموس التنمية..، ص594.

(37) فخ العولمة، ص375.

(38) المعلوماتية بعد الإنترنت، ص404، 405.

(39) السابق، ص414، 415.

(40) بنية الثورات العلمية، توماس كون، ترجمة: شوقي جلال، السلسلة العلمية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2003م، ص143. تحدث المؤلف عن فكرة النماذج الإرشادية التي يتبدل فيها نموذج إرشادي قديم بآخر جديد، كليا أو جزئيا، حيث يرى أن النموذج الإرشادي عبارة عن نظريات وتوجهات ومناهج وأجهزة واختراعات تسد حاجات الإنسان لفترة، فإذا كفت عن أداء دورها، بصورة كافية، في مجال اكتشاف جانب من الطبيعة والتعبير عن حاجات مستجدة للإنسان، فيتم السعي إلى اكتشاف نموذج آخر، كلي أو جزئي، عبر سلسلة أحداث تطورية واكتشافات في المجال العلمي.

(41) السابق، ص236-237.

(42) ثورة الإنفوميديا: الوسائط المعلوماتية وكيف تغير عالمنا وحياتنا؟، فرانك كيلش، ترجمة: حسام زكريا، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، يناير 2000م، ص9.

(43) السابق، ص10، 11.

(44) شبكة الحضارة المعرفية من المجتمع الواقعي إلى العالم الافتراضي، السيد ياسين، سلسلة العلوم الاجتماعية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2009م، ص21.

(45) شبكة الحضارة المعرفية من المجتمع الواقعي إلى العالم الافتراضي، ص20.

(46) السابق، ص30.

(47) التاريخ الاجتماعي للوسائط، ص410.

(48) السابق، ص406، 407.

(49) النقد الثقافي المقارن، د. عز الدين المناصرة، دار مجدلاوي، عمّان، 2005م، ص306. يشار إلى أن ويليام جبسون قد استخدم تقنيات الحاسوب مبكرا في المنجز الروائي، فصدرت رواية رقمية بعنوان "الرواية الجديدة" عام 1994م، ومن قبله مارغ بيرسي عام 1992م، في روايته "الجسد الزجاجي"، ص324

(50) المعلوماتية بعد الإنترنت، ص217.

(51) السابق، ص218.

(52) التاريخ الاجتماعي للوسائط، ص412.

(53) السابق، ص410.

(54) السابق، ص413.

(55) شبكة الحضارة المعرفية من المجتمع الواقعي إلى العالم الافتراضي، السيد ياسين، ص20.

(56) الأطر الاجتماعية للمعرفة، ص36، 37.

(57) ما المعرفة؟ دنكان بريتشارد، ص119.

(58) السابق، ص121، 122.

(59) شبكة الحضارة المعرفية من المجتمع الواقعي إلى العالم الافتراضي، 30، 31.

(60) الفلسفة المعاصرة في أوروبا، إ. م. بوشنسكي، ترجمة: د. عزت قرني، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، سبتمبر 1992م، ص22، 23. ورأت أن الإنسان مستقلا عن الإله، معلية من شأن الذات الفردية.

(61) العولمة والثقافة، تجربتنا الاجتماعية عبر الزمان والمكان، د. جون توملينسون، ترجمة: د. إيهاب عبد الرحيم محمد، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، أغسطس 2008م، ص213، 214. ويعد اصطلاح التجربة المتوسطية إلى العالم "جون تومسون".

(62) السابق، ص99، 100.

(63) ما بعد الحداثة، باتريشيا ووه، ترجمة: شعبان مكاوي، ضمن: موسوعة كمبريدج في النقد الأدبي، القرن العشرون (المداخل التاريخية والفلسفية والنفسية)، تحرير: ك. نلووف، ك. نوريس، ج. أوزبورن، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005م، ص418.

(64) موقع العقل في فلسفات ما بعد الحداثة، د. مجدي عبد الحافظ، مجلة عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، أكتوبر 2012، ص138، 139، وانظر أيضا: شبكة الحضارة المعرفية ...، ص48، 49.

(65) ما بعد الحداثة، باتريشيا ووه. ص416، ص417. يقول نيتشة: "إننا نحصل على المفهوم –ونحن نمارس الأعراف– عن طريق إهمالنا لما هو قائم وحقيقي، بينما الطبيعة متآلفة مع الأعراف والمفاهيم،.. ولكن هناك شيء يبقى بعيد المنال عصيا على التحديد والتعريف" ص417.

(66) مقاربات في الحداثة وما بعدها، حوارات منتقاة من الفكر الألماني المعاصر، تعريب وتقريب: ياسر الطائري، محمد الشيخ، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 1996م، ص16، 17.

(67) مقاربات في الحداثة وما بعدها، ص17.

(68) الفلسفة في عصر العولمة وتكنولوجيا المعلومات، د. عبد الرزاق الدوّاي، مجلة عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ديسمبر 2012م، ص175.

(69) السابق، ص177.

(70) الوضع ما بعد الحداثي، جان فرانسوا ليوتار، ترجمة أحمد حسان، دار شرقيات للنشر، القاهرة، ط1، 1994م، ص27.

(71) موقع العقل في فلسفات ما بعد الحداثة، ص161، 162.

(72) السابق، ص165.

(73) الفلسفة في عصر العولمة وتكنولوجيا المعلومات، ص181، 182. وفكرة النشاط التواصلي تعود إلى الفيلسوف كلود ليفي شتراوس.

(74) موقع العقل في فلسفات ما بعد الحداثة، ص162.

(75) السابق، ص166.

(76) الفكر الأخلاقي لما بعد الحداثة، د. الزواوي بغورة، مجلة عالم الفكر، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ديسمبر 2012م، ص101.

(77) موقع العقل في فلسفات ما بعد الحداثة، ص166.

(78) الفكر الأخلاقي لما بعد الحداثة، ص123.

(79) منهاج البلغاء وسراج الأدباء، حازم القرطاجني، تحقيق: محمد الحبيب بن الخوجة ـ دار الغرب الإسلامي بيروت، ط3، ص89.

(80) السابق، ص81، 83.

(81) السابق، ص89.

(82) الكاتب وعالمه، تشارلس مورجان، ترجمة. د. شكري محمد عياد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2012م، ص15.

(83) السابق، ص15.

(84) الإبداع في الفن، قاسم حسين صالح، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1981م، ص14.

(85) الكاتب وعالمه، ص25.

(86) السابق، ص27.

(87) الإبداع في الفن، ص14.

(88) السابق، ص14.

(89) السابق، ص15.

(90) الخيال من الكهف إلى الواقع الافتراضي، د. شاكر عبد الحميد، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، فبراير 2009م، ص51.

(91) السابق، ص50. مع الأخذ في الحسبان أن الخيالات أنواع، حسب موهبة كل إنسان، فهناك الخيال التشكيلي، وخيال التجريدات الانفعالية ويكون في الموسيقي والمفاهيم والإدراكات، والخيال العددي في الرياضيات، والخيال الأسطوري أو الصوفي، والخيال العلمي، والخيال الميكانيكي أو العملي، والخيال التجاري، والخيال الاجتماعي والأخلاقي .. ص57.

(92) تاريخ القراءة، آلبرتو مانغويل، ترجمة: سامي شمعون، دار الساقي، بيروت، ط3، 2011 م، الصفحات 149-153.

(93) السابق، ص262.

(94) السابق، ص242.

(95) المعلوماتية بعد الإنترنت، ص403.

(96) التقانة .. مقاربة ثقافية اجتماعية، ص238. هناك نظريات عديدة تتصل بالبناء الاجتماعي للتقانة Social construction of Technology وتعتمد على تفسير أسباب تقبل أو نبذ الجماعة لتقنية ما، منها السببية الاجتماعية التي تدرس أسباب قبول المجتمع للتقنية، والتناظرية وتقوم على دراسة مجمل الأسباب الثقافية والسياسية والاجتماعية والتقنية بالتساوي، والمرونة التفسيرية التي تتيح دراسة سائر العوامل والمسببات والظواهر.

(97) التاريخ الاجتماعي للوسائط، ص394.

(98) الخيال من الكهف إلى الواقع الافتراضي، ص29.

(99) شعرية النص العنكبوتي، د. عز الدين المناصرة، مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، العدد (79 )، شتاء–ربيع 2011م، ص103، 104.

(100) شعرية النص العنكبوتي، ص105.

(101) السابق، ص107.

(102) فنون ما بعد الحداثة في مصر والعالم، د. هويدا السباعي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2008م، ص80، 81. ومن أبرز مفكري ما بعد الحداثة الذين أذابوا الفواصل والتقسيمات: مايكل فوكولت، جان بودريلارد، فريدريك جامسون.

(103) السابق، ص80.

(104) ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، أوجه الاتفاق والاختلاف، مادان ساروب، ترجمة: حسن طلب، مجلة إبداع، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، العدد الأول، يناير 1997م، ص46.

(105) السابق، ص48.

(106) ما بعد الحداثة، باتريشيا ووه، ص418.

(107) السابق، ص419.

(108) السابق، ص420، 421.

(109) شبكة الحضارة المعرفية من المجتمع الواقعي إلى العالم الافتراضي، ص51.

(110) انظر: شعرية النص العنكبوتي، ص108، 109.

(111) الوضع ما بعد الحداثي، ليوتار، ص56، 57.

(112) شعرية النص العنكبوتي، ص109، 110.

(113) الإجابة عن سؤال ما هي ما بعد الحداثة؟ فريدريك جيمسون، ضمن: الوضع ما بعد الحداثي، ليوتار، ص105.

(114) السابق، ص104.

(115) شعرية النص العنكبوتي، ص109، 110.

(116) شبكة الحضارة المعرفية من المجتمع الواقعي إلى العالم الافتراضي، ص52.

(117) شعرية النص العنكبوتي، ص110، 111.

(118) الوضع ما بعد الحداثي، ليوتار، ص75.

(119) الإجابة عن سؤال ما هي ما بعد الحداثة؟ فريدريك جيمسون، في كتاب: الوضع ما بعد الحداثي، ليوتار، ص109.