يرصد هذا المقال العمل الجديد للكاتبة الفلسطينية حزامة حبايب في روايتها "أصل الهوي" وفيه تعاد صياغة البعد التراجيدي والفجائعي للفلسطيني وسط معمعان الصمت والخذلان العربي وتيهان البوصلة لكن بصياغة لغوية وأسلوب سردي شيق.

مذاق الجسد في ارتحالات فلسطينية

محمد السمهوري

 من تضاعيف محنة الفلسطيني وسؤاله الوجودي ومواقفه الناطقة بمعاناته وصمته الذي يلوذ به حين تختلط الأوراق العربية كي لا يستنسخ العرب أنفسهم اكثر مما هو عليه الوضع العربي، من محاولة الاستمرار في الحياة وصولا الى تقاسيم العذابات وتأكيد البوصلة نحو الوطن التاريخي والجغرافيا التي يسيل معها واقعه وأماكنه المتنقلة لكي يعيش أكثر مما هو مطلوب له، هكذا يمكن أن نقرأ أكثر من سياق اجتماعي وسياسي وإنساني ومفاهيمي في رواية أصل الهوي للكاتبة الفلسطينية حزامه حبايب الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2007.

ورغم أن المدخل الوحيد إلى أصل الهوي كان من خلال صورة جغرافيا الخروج والدخول الفلسطيني في رواية لخمسة أشخاص مثلوا البطولة فيها الى جانب العوامل الأخرى والأمكنة وانزياحاتها وفقا لتنقل الفلسطيني الباحث في نهاية الأمر عن القلق الذي صار سؤاله الأخير بعد تعب وعناء وقسوة الحياة وشظف العيش إلا أن الكاتبة حبايب استطاعت من خلال إبطالها: (رمزي عياش 64 سنة، كمال القاضي 56 سنة، عمر السرو 49 سنة، إياد أبو سعد 43 سنة، فراس عياش 37 سنة) أن ترسم سردا مختلفا في رواية فلسطينية خرجت عن التقليدية في اللغة والسرد وتقنيات الطرح الجديدة لحياة الإنسان الفلسطيني وعلاقاته الإنسانية وحبه وحتى طعم الجنس ومذاق الجسد.

فقد اعتمدت الروائية حبايب في روايتها أسلوبا خاصا استجاب لطبيعة الفكرة والشخوص والأماكن وساعدتها التقنية والأسلوب في تقديم شكل جديد للرواية العربية بعيدا عن الأسلوب الكلاسيكي المعتاد، كما نجحت في أن تكون جريئة في رصد حياة رجالها في الرواية واقتربت من غرفهم السوداء وانطلقت من هم إنساني وسياسي واجتماعي كان شاهدا علي غير مرحلة يعيشها الفلسطيني في الأقطار العربية وعلاقاته المتشابكة مع هذه البلدان وكيفية ترسيخ الهوية وسط محاولة إذابتها أو صهرها أو تجاوزها في بعض الأحيان.

فقد مثل إبطال الرواية الخمسة هوية الرجل الفلسطيني الباحث عن الحياة ومحاولة تكريسها، وصولا الى الجنس الذي عالج في كثير من المواقف قسوة المعاش بالنسبة لهم، فقد غلفت الروائية حبايب قسوة النص الأصلي بجمالىات السرد، الذي انطلق الى ابعد من ذلك في تعامله مع مسار الإحداث، حيث الكتابة الحسية جسدت معاني وظروف الشخوص وعلاقاتهم بالأماكن، بل تجلت شخوص الرواية في ثقلها ودسامتها الممثلة لتجاربهم الحياتية والاجتماعية والفكرية في بعض الأحيان أو المواقف.

قارئ رواية أصل الهوى بحاجة الى يقظة دائمة لمجريات الأحداث، فهي بحاجة الى جهد وانتباه لكي يتابع سياق العمل الإبداعي هذا، والذي جاء عبر أجزاء ثلاثة ومدخل رسم المعالم الأولى داخل إطار صورة بالأبيض والأسود تجمع أبطال الرواية موضوعة علي جهاز التلفزيون الذي يبث خبراً عاجلاً وصامتاً لقناة الجزيرة وفي خاتمة الرواية يكون انتظار خبر وفاة الزعيم الفلسطيني أو بقائه علي قيد الحياة من باريس.

وضع كمال صينية الشاي علي الطاولة، عينه علي صور الجزيرة البكماء. سألهم:

ـ مات أبوبعد.؟

ردّ فراس:

ـ ليس بعد.

رصدت الكاتبة أدق التفاصيل في حياة شخوصها الخمسة مع نسائهم أو عشيقاتهم، بل ذهبت الى ابعد من ذلك في سردها الذي غلف قسوة الحياة برشاقة اللغة.. الى تفاصيل جسد كل واحد وواحدة وكيميائه، معتمدة في ذلك علي لغة عالجت قسوة النص والإحداث المأساوية بشفافية غلفت ما يعانيه الإنسان العربي الفلسطيني.

كما تشابكت الشخصيات الرئيسية مع نسائها وتبادلت الأدوار فلم يدن الرجل فيها كما لم تدن المرأة عكس الكثير من الروايات التي تكتبها الكاتبات العربيات والتي تكون مهمتها إدانة الرجل مثلا لصالح المرأة. في أصل الهوى كان الجميع متساوين في المعاناة واللذة والتجربة وكان السؤال بين الشخوص له إجابة ولو ضمنية عن طبيعة ظروف كل منهم أن كانت نزقة أو مرتبطة بالمصالح الشخصية أو بالمحاور الكبيرة التي جلس تحتها الفلسطيني ينتظر حله أو الخلاص من معاناته ومن محاولة شقه الى نصفين داخل النزاع العربي ـ العربي.

كان أبطال أصل الهوي أصحاب حضور كبير داخل أجسادهم وخارجها.. أوغلوا بوجودية تتسم بخاصية قضيتهم وانزياحاتهم من فلسطين الى الأردن والكويت وسورية والإمارات العربية المتحدة، كانت الانزياحات الجغرافية والإنسانية وحتى الجنسية بما تمثل من متع أو تواصل واستنساخ لكينونتهم هي السمة الأبرز للعمل.. كانت دفاعا عن الذات وعدم الذوبان والانتصار الدقيق للحياة.

ومن الكويت المرتكز في بعض الأحيان للروائية حبايب حافظت الكاتبة علي الوجه والموقف الإنساني للفلسطيني بلا حياد، ورفضت عبر الكثير من المواقف المأساوية التي حلت علي الكويت وشعبها أثناء الاحتلال العراقي لها وما تبعه من أحداث صعبة ومؤلمة اختلطت فيها المواقف، وغاصت من خلالها الكاتبة التي عاشت إحداثها وعرفتها عن قرب لترسم من خلال أصل الهوي التفاعل الإنساني بين الناس والرفض للعنف وأشكاله ومن كان يمثله من أي طرف من الأطراف.

وهذا المقطع من أصل الهوي يمثل جزءاً بسيطاً مما صاغته الأحداث هناك إبان الحرب.

قالت له، بعدما اغتسلت وارتدت ملابسها بسرعة، أنها سترجع الى طليقها، فهذا أفضل لها ولطفلها، سيغادران الى عمّان قبل الحرب ومنها الى الولايات المتحدة، فطليقها يحمل الجنسية الامريكية. قالت له أنها لا تحتمل فكرة البقاء في الكويت مع بدء الحرب الفعلية. هي لا تعرف معني الحرب، كما لم تعشها من قبل. لكن الشيء الذي بدت واثقة منه هو أن ما هم فيه الآن ليس حربا. الناس يشترون، ويبيعون، وينهبون، ويتزوجون، وينتقلون للإقامة في شقق ليست لهم، ويتناسلون، ويتزاورون، بل إن والدتها تقدم الفاكهة والحلوى والمكسرات المكلفة لضيوفها. في الحرب لن يفعلوا شيئا سوي الانتظار، وحتى الانتظار قد لا يكون متاحا. حاول ثنيها عن قرار رجوعها الى طليقها. أحبكِ قالها لها، وسوف نتزوج حين ينتهي كل شيء ركع عند قدميها، عاريا لم يزل، وبكي، ثم خجل من بكائه الذي جرده من آخر علامات تماسكه الظاهريّ، ركعت الى جواره. مسحت وجهه بكفها الامومية. صوتها كأنه كان يتدحرج من علوّ حادّ شديد الميلان، ليهوي علي الأرض بقسوة وهي تقول له عندما ينتهي كلّ شيء، سيكون كل شيء قد انتهي.