تبدأ الكلمة عامها الثاني عشر في واقع عربي مُحبِط إلى أقصى حد. فلم تبلغ قعقعة انهيارات العالم العربي وتخبطه واحتراباته وترديه هذا الحد من الوضوح المزعج لكل من له عقل أو ضمير. ولم يصل فقدانه للبوصلة والمشروع مثل هذا الحضيض غير المسبوق. حيث تتعرض الأولويات الوطنية البسيطة، مثل استقلال الوطن، أو وحدة أراضيه، أو عروبة فلسطين، أو مركزية القدس، لحملات من التشويه والتزوير غير مسبوقة. صحيح أن خطاب التردي والتبعية والهوان تواصل في مده المدعوم بأموال النفط وأهواء السياسة الأمريكية لزمن طويل، وأننا طالما نبهنا على صفحات هذا المنبر إلى فقدان أغلب الأنظمة العربية للشرعية، وإلى تمثيلها للقوى الأجنبية التي تدعمها، أكثر من تعبيرها عن رؤى شعوبها أو مطامحها. وكشفنا عن تغلغل الفساد والاستبداد فيها، لكن التردي الذي نعيشه اليوم فاق كل التوقعات، وتجاوز أسوأ الكوابيس. كما أن تبعية الأنظمة العربية المطلقة للرؤية الصهيونية للصراع العربي الصهيوني لم تسفر عن حقيقتها بهذا الشكل المكشوف من قبل. خاصة فيما يتعلق بالتحالف الوطيد بين المملكة العربية السعودية والعدو الصهيوني والذي كان مضمرا، بل ومتخفيا كلية منذ أن بلوره لقاء الملك المؤسس، عبدالعزيز آل سعود، وروزفلت على باخرة الأخير في قناة السويس عام 1945، والذي ظهر الآن للعلن، كاشفا عن وجهه القبيح الذي يريد إنهاء القضية الفلسطينية، وتبديد حقوق شعبها للأبد، فيما يرعف باسم صفقة القرن، ويا لها من صفقة بائسة!.
وربما كان وصول دونالد ترامب إلى سدة الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، بما ينطوي عليه صعوده وتصرفاته من كشف لفجاجة وتناقضات تلك القوة التي لم تعد هي القوة الأعظم في عالمنا؛ وإفصاحه عن عداء سياساتها الدفين لكل ما هو عربي وإسلامي، وتبنيها المطلق للرؤية الصهيونية في أشد صورها تعصبا، عاملا مساعدا في نزع ورقة التوت الأخيرة التي كانت تتستر بها المؤسسة السياسية العربية المهيمنة، وكشف كل سوءاتها. وها هو قراره بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، يبدد آخر أوهام من تذرعوا بإمكانية أن تلعب بلاده دور الوسيط النزيه في هذا الصراع. فقد كان واضحا منذ نكسة 1967 انحياز الولايات المتحدة المطلق للمشروع الاستيطاني الصهيوني ودولته. وكان واضحا لكل وطني شريف أن ما أُخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة. وأن المقاومة هي السبيل الوحيد لاسترداد الحقوق المنهوبة.
إلا أن خطاب أنور السادات المضلل بأن 99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا، بعد تبديده للجهد العظيم الذي قام به الجيش المصري أثناء الأيام الأولى لحرب 1973، وتخلصه من قائد أركان الجيش، سعدالدين الشاذلي، في ذروة احتدام المعركة، كي يتيح للعدو الصهيوني قلب موازينها، وتبدأ المفاوضات المذلة عند الكيلو 101 في الطريق إلى القاهرة، وتحت رعاية الثعلب الصهيوني الماكر، هنري كيسنجر، الذي حوّل السادات إلى ألعوبة في يده. وقد بلغ التلاعب بالسادات ذروته، بعدما انفض عنه شعبه في مظاهرات 18 و19 يناير 1977 الشهيرة، فذهب إلى العدو الصهيوني، وحاضنته الأمريكية، يستجدي منهما العون والشرعية.
ولابد هنا من التذكير بأن كلا منهما، دولة الاستيطان الصهيوني وهنري كيسنجر كما يعلن ذلك بوضوح في مذكراته، أصرا على أن يكون تغييره لخطاب الاستقلال الوطني الذي ساد الساحة العربية منذ النكبة، وإعلانه أن حرب 1973 هي آخر الحروب، هو المقدمة الضرورية لعقد أي سلام معه. وأن السلام بشروط الغاصب المحتل ورضاه، واحتفاظه بكل ما نهبه من أرض فلسطين، بما في ذلك قطاع غزة الذي أخذه من مصر، هو الطريق الوحيد أمام العرب لاستعادة أي جزء من أرضهم المنهوبة. لذلك كان تبديل الخطاب الوطني بشأن القضية العربية المحورية، قضية فلسطين، هو الشرط الأساسي للدخول في مفاوضات إخراج مصر من قضية الصراع العربي الصهيوني، ورد سيناء لها منقوصة السيادة، ورهينة في مرمى جيش العدو وضباط حاضرته الأساسية، أمريكا الذين يضمنون خضوع مصر لاتفاقية الإذعان المجحفة المعروفة، لوضوح المفارقة، باسم كامب دافيد. وهل كان من الممكن أن يخرج من منتجع أمريكي يحمل اسم «دافيد» إلا ما يسر أبناء ديفيد ويلحق الهزيمة بأعدائهم؟
وها هو خطاب الخيانة والتردي والتضليل، والذي كشف تعاقب الأيام وكل ما يدور في سيناء اليوم، فساده؛ الخطاب الذي يعترف بالاحتلال والاغتصاب والاستيطان الصهيوني، ويهزأ بكل مفاهيم الوطن والشرف والكرامة واسترداد الحق المغتصب، ويعتبر المقاومة إرهابا، يسود الساحة العربية ووسائل إعلامها كمنهاج فعل لأنظمتها التي يستمد أغلبها شرعيته من أعداء الأمة العربية وليس من شعوبها.
في هذا الوقت الذي يبلغ فيه التردي حضيضا غير مسبوق، ويعلن فيه ترامب القدس عاصمة لدولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، ويستخدم الفيتو لإحباط اجماع أعضاء مجلس الأمن الأربعة عشر ضد هذا القرار الجائر، ولا يصدر عن النظام العربي أي احتجاج ملموس، ناهيك عن أي فعل مناهض لهذا العصف بالحقوق العربية المشروعة والتي اعترفت بها كل المواثيق والقرارات الدولية، والاستهانة بالمقدسات الإسلامية معا. في هذا الوقت الحرج والعصيب لابد أن ترد الثقافة عن الضمير العربي هذا الهوان. لذلك تفرد (الكلمة) في عددها الجديد أكثر من مقال، أو بالأحرى ما يمكن أن يكون ملفا ثانيا بالعدد، مع الملف الذي خصصته لرحيل صلاح عيسى، للرد على استباحة القدس، معلنة أن القدس فلسطينية عربية قبل أي شيء آخر.
فالثقافة وحدها، وبقوة ما تنطوي عليه من سلطة معرفية وإلمام بتجارب الواقع والتاريخ معا، هي القادرة على رد عار هذا الهوان عن أمتنا وثقافتنا؛ وعلى رعاية ما يدعوه ريموند وليامز بـ«بنية المشاعر» العربية السليمة. وهي بنية وطنية وعربية/ عروبية عمدتها معارك الاستقلال وعملية التحديث، وجعلتها رافضة في جوهرها لدولة الاستيطان الصهيوني، ولأي احتلال للأرض العربية. كما أنها بنية تؤمن بضرورة مقاومة أي احتلال للأرض أو تفريط فيها مهما كان نوعه. والثقافة هي الحادي الأساسي للوعي العربي وللضمير الجمعي العربي، وهي التي ترسخ قيمه وتحدد أولوياته، مهما شوشت عليها خطابات التبعية والهوان. فوسط هذا التردي والهوان مثلا، ووسط كل ما يدور في مصر من تجاهل لفلسطين ولحقوق شعبها، ترد الثقافة بأن تمنح جائزة نجيب محفوظ، ومن مؤسسة أمريكية عقب اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لدولة الاستيطان الصهيوني وهي الجامعة الأمريكية بالقاهرة، لرواية فلسطينية – «مُخمل» لحزامة حبايب. رواية تكتب الوجع الفلسطيني بجدارة، وتكشف فداحة ما يدور في الواقع العربي، على أبسط تفاصيل الحياة اليومية في المخيم الفلسطيني، وتجسد ما يتركه التخلي عن فلسطين من تدمير للذات العربية والفلسطينية معا.
لهذا كله تشعر (الكلمة) بأهمية أن تواصل رحلتها مع استقلال الثقافة ورعاية بنية المشاعر العربية الوطنية السليمة. وأن تبقي بفضل جهود أسرة تحريرها وتفانيها في العمل التطوعي لحماية ثقافتنا من كل ما يوجه إليها من تشويش وتدمير، وبفضل مساندة كتابها لها وتدفق موادهم الأدبية والنقدية عليها، وبفضل التفاف القراء حولها وتطلعهم لموعدها الشهري معهم. وتعاهدهم على أن تظل مجلة لحراس الكلمة، ورعاة الضمير العربي، وليست لكلاب الحراسة الذين يشوهون بوصلة العقل العربي وخطابه الوطني العريق في هذا الزمن العربي الردئ.