خلال الأسبوعين الماضيين، تجاوزت تبريرات المروجين للتحالف مع إسرائيل في السعودية والخليج منطق التحالف مع الشيطان، وعدو عدوى صديقي، إلى الدفاع عما يسمى بالحق التاريخي لليهود فى أرض فلسطين، بل وفى القدس ذاتها، وإلى الاجتهاد في نفى وجود مبررات من الأصل للعداء مع إسرائيل.
استند هؤلاء إلى تفسيرات مبتسرة لآيات من القرآن الكريم لإثبات ذلك الحق التاريخى المزعوم، وكأنهم اكتشفوا وجود هذه الآيات لأول مرة، أو كأن بقية المسلمين لا يعرفون بوجودها، مع أن السياق القرآنى كله يقطع بأن هؤلاء اليهود نقضوا ميثاقهم مع الله، فسلبهم المكان والمكانة، ونكتفى بذلك في هذه النقطة، لأننا لا نريد أن ننزلق إلى تكييف الصراع العربي الإسرائيلي، والصراع الفلسطيني الصهيوني تكييفا دينيا صرفا، بما أننا لسنا من المؤمنين بهذا التكييف أصلا.
وفى الادعاء بأنه لا توجد مبررات من الأصل للعداء بين إسرائيل وبين السعودية وسائر دول الخليج يقولون إنها ــ أي إسرائيل ــ لم تقتل، ولم تتسبب في مقتل مواطنين سعوديين أو خليجيين، ولم تتدخل في الشئون الداخلية لهذه البلاد، ولم تجند من يعبثون بأمنها الداخلي، مثل إيران الشيعية، المستهدفة بالتحالف مع إسرائيل.
سبق أن قلنا هنا ومن منابر أخرى أن من حق الإخوة في السعودية والخليج، بل ومن واجبهم التصدي بكل قوة لتمدد النفوذ الإيراني بينهم وحولهم، كما سبق لنا القول أن هذا شيء، والتحالف مع إسرائيل شيء آخر، ونضيف اليوم أن الدفاع عن حق تاريخي مزعوم لليهود في فلسطين والقدس، والترويج لانعدام مبررات العداء مع إسرائيل شيء ثالث، أكثر فحشا ومغالطة.
إن القول بأن إسرائيل ليست عدوا لأنها لا تتدخل في شئون السعودية والخليج، ولا تعبث بالأمن والاستقرار هناك، ولا تقتل ولا تتسبب في مقتل مواطنين من هذه الدول، هو تبرير قصير النظر، لأنه يختزل مفهوم الأمن القومي في هذه اللحظة من التاريخ فقط، ولأنه يهمل الأسباب الداخلية لعدم الاستقرار فى دول الخليج، وفى مقدمتها احتكار السلطة والثروة، والتمييز بين المواطنين، كما نعلم جميعا، وكما لا يريد الذين يعيدون اكتشاف إسرائيل أن يعترفوا.
وكمثال على الرؤية بعيدة النظر للأمن القومي، نذكر أنه فى عام 1936، وحين بدأت القضية الفلسطينية تفرض نفسها على الدول العربية المشرقية، فوجئت الحكومة البريطانية برئيس الوزراء المصري آنذاك مصطفى النحاس باشا يشارك المشرق العربى الانزعاج مما يجرى في فلسطين، ويصر على المشاركة فى مؤتمر المائدة المستديرة حول فلسطين فى لندن، ولما أبدى السفير البريطانى فى القاهرة للنحاس باشا دهشة حكومته من هذا الاهتمام المصري بالقضية الفلسطينية رد عليه النحاس قائلا: «إن وجود قوة كثيفة التسلح على نحو ما تفعله المنظمات اليهودية فى فلسطين على حدود مصر الشرقية يمثل خطرا شديدا عليها في المستقبل«.
بالطبع تصدق نبوءة الزعيم المصري الكبير الراحل في عام 1936 على بقية جيران إسرائيل وسائر المنطقة، مثلما تصدق على مصر، خاصة وأن المنظمات اليهودية كثيفة التسلح على أيام النحاس باشا أصبحت دولة، مضمونة التفوق العسكري على كل الدول العربية مجتمعة، ومالكة لمائتي رأس نووي على الأقل، مع وسائل توجيهها إلى أي مكان في المنطقة بين باكستان والمغرب، كما تقول نظرية الأمن القومي الإسرائيلي المعلنة على لسان ارييل شارون، رئيس الوزراء الأسبق.
لا يعنى هذا الحديث عن عدوانية نظرية الأمن الإسرائيلي، كما لا يعنى استنكارنا للحديث المستجد في السعودية والخليج عن إسرائيل التي ليست عدوا أننا ضد السلام الشامل والعادل بين العرب وإسرائيل من حيث المبدأ، ومن ثم يصبح السؤال هل أوفت إسرائيل بنصيبها من استحقاقات السلام العادل؟ وهل يمكننا افتراض أنها ستفعل ذلك قريبا؟ وبصياغة أخرى: متى لا تكون إسرائيل عدوا للعرب بمن فيهم السعوديون وسائر الخليجيين؟
سوف يحدث ذلك في حالة واحدة هي ظهور إسرائيل جديدة دون روح عسكرية متحفزة دائما لفرض إيديولوجية صهيونية متعصبة، تؤمن بالنقاء العرقي اليهودي، ولا ترى إمكانية للسلام والأمن إلا بالتفوق المسلح المطلق. بالطبع في هذه الحالة سيحصل الفلسطينيون على حقوقهم فى أرضهم المحتلة فى عام 1967، وفى مقدمتها حق إقامة دولتهم المستقلة والمسالمة، وعاصمتها القدس.
وفى هذه الحالة أيضا سوف يمكن إقامة نظام إقليمي، للحد من التسلح، وحظر انتشار النووي في الإقليم بحيث تنضم إليه إسرائيل نفسها
لكن هل تظهر إسرائيل الجديدة هذه قريبا؟
لقد أصبح هذا الاحتمال أبعد من أي وقت مضى، ليس فقط لأن اليمين القومى المتطرف )التوسعي والعنصري) هو الذى يحكم إسرائيل منذ سنوات طويلة، وسيظل يحكمها لسنوات أخرى طويلة قادمة، ولكن أيضا لأن سياسات هذا اليمين جاءت بأهم الدول العربية لخطب ود إسرائيل والتحالف معها، بل والنيابة عنها فى البحث عن حلول ترضيها للمشكلة الفلسطينية، والضغط على الفلسطينيين، وإغواء أطراف أخرى في المنطقة لتنفيذ هذه الحلول.
ولاشك أنه من المحزن أن جميع ما نشر عن المشروعات المقترحة لا يتضمن إشارة من قريب أو بعيد لنزع السلاح النووي الإسرائيلي، ولو خلال فترة انتقالية مهما يطل أمدها، كما لا يتضمن أي مطالبة عربية برفض مبدأ النقاء العرقي اليهودي لدولة إسرائيل، في إقرار ضمني بالحق في ترحيل الفلسطينيين من الشمال الإسرائيلي، ومن الأجزاء التى سيتقرر ضمها من الضفة الغربية إلى إسرائيل، فضلا عن إلغاء حق عودة اللاجئين إلى أراضيهم، وهو الحق المقرر لهم دوليا منذ عام 1948، إلا من يرغب فى التعويض، الذى سيسقط هو الآخر فى هذه الحالة، بينما تحفل الكتابات الإسرائيلية حول العلاقات مع السعودية والخليج ومصر بعشرات المشروعات الاقتصادية، من سكك حديدية، وأنفاق، وأنابيب غاز ونفط، ومحطات لتوليد الكهرباء، وأخرى لتحلية المياه، وخطط لإنشاء مطارات وموانئ وغيرها.
إن مقتضى هذا المنطق هو أن العرب جميعا، وبعد تحجيم إيران ــ بفرض إمكان النجاح في ذلك بالاستراتيجيات الحالية ــ سوف يعيشون تحت المظلة النووية الإسرائيلية، وبالتالي سوف يستقيلون من أي أدوار قيادية في منطقتهم، تاركين النظام الإقليمي لقيادة إسرائيل وتركيا، والولايات المتحدة وروسيا، ولأن تحجيم إيران ليس واردا بالاستراتيجيات المتبعة، فسوف تكون هي أيضا شريك فاعل في قيادة المنطقة، ومن ثم فبدلا من أن يقود العرب أصحاب المصلحة الأولى جهدا جماعيا لإقامة نظام للأمن والتعاون فى منطقتهم، فإنهم يتركون للأخرين حرية وحق عقد الصفقات على حسابهم، وليست صفقة الاتفاق النووي بين إيران والدول الكبرى ببعيدة، وكذلك الصفقة الأمريكية الروسية في سوريا، والصفقة الروسية الإسرائيلية في سوريا أيضا، وقس على ذلك الصفقة التركية الروسية في الشمال السوري، والصفقة التركية الإيرانية فى الشمال العراقي.
يذكرنا التاريخ بأن الأمم التي لا تستقيل من مسئولياتها التاريخية، والتي لا تختزل رؤيتها لأمنها القومي في لحظة محدودة من التاريخ هي التي تخرج فائزة في النهاية، فقد راهن زعيم النازية الألمانية أدولف هتلر على أن بريطانيا العظمى سوف تذعن لسيطرته على أوروبا، مقابل ضمانه لسلامة امبراطوريتها وراء البحار، ولكن رهانه خاب بسبب رفض ونستون تشرشل رئيس وزراء بريطانيا، ومن ورائه أغلبية البريطانيين فكرة العيش تحت رحمة هتلر، فماذا كانت النتيجة؟
بعد العرق والدموع والدم كانت بريطانيا هي التي تحتل ألمانيا، وكان الألمان هم الذين عاشوا ردحا طويلا من الزمن تحت رحمة الحلفاء، بفضل صمود تشرشل والشعب البريطاني.
ومما يجدر تذكره أيضا في هذا المثال أن النخبة البريطانية لم تعدم وجود مروجين للتفاهم مع ألمانيا النازية، وقبول مبدأ عقد صفقة معها، على غرار ما يفعله الآن أولئك المروجون في السعودية والخليج لحق اليهود التاريخي المزعوم في فلسطين، ولعدم وجود سبب للعداء مع إسرائيل.
(جريدة (الشروق)
عبد العظيم حماد رئيس تحرير جريدة الشروق السابق. كاتب صحفي مصري بارز ، وشغل عدة مناصب صحفية مرموقة على مدار تاريخه المهني.ولد عام 1950 ، وحصل على بكالوريوس العلوم السياسية ، وعمل كمحرر ومعلق سياسي منذ عام 1973 ، سواء في الإذاعة والتليفزيون أو في مجلة أكتوبر أو في جريدة الأهرام ، وكان مديرا لتحرير الأهرام الدولي في أوروبا ، وكبيرا لمراسلي الأهرام في منطقة وسط أوروبا ، وله مؤلفات وأبحاث وكتابان مترجمان ودراسات دولية متنوعة.