بادئ ذي بدء، دعونا نوضّح نقاطًا تعتمد عليها الفقرات التّالية، ولتعتبروها مفاتيح الخارطة البديهية:
1- القدس بكافة أطرافها، شرقية أم غربية، تقع مع ضواحيها في قبضة إسرائيل الكاملة منذ العام 1967، وحتى بعد عملية السلام المجهَضة، التي بدأت مع انتهاء الانتفاضة الأولى عام 1993.
2- نشأت فكرة تقسيم القدس في التّاريخ الحديث منذ قرار التقسيم في 29 نوفمبر 1947، وقد سعت المساعي يومئذ نحو تحويلها إلى منطقة تحت وصاية دولية في حينه، أو أن هذا على الأقل ما اشترطته دول أمريكا اللاتينية التي دعمت القرار.
3- بإمكانكم، وبإمكانكن، الاستعانة بخرائط جوجل للتعرّف على خارطة القدس عن قرب، إلا أن التجوال فيها يظل مسألة شخصيّة وحسيّة وبحثًا عن «أنا» مفقودة، رغم كل حج المواكب الجماعيّة إليها، على الأقدام وبالعواطف.
في هذه الأيام، وبالإضافة إلى تغيرات يومية تطرأ على هيئة المدينة، يُقام «متحف التّسامح» فوق أنقاض مقبرة «مأمن الله» التّاريخية في القدس، رغم كل الاحتجاجات المطالبة بإيقاف المشروع. وقبالة هذه المقبرة، تقع بناية فخمة، تبدو كفندق، انتُهي من ترميمها في السنوات الأخيرة؛ وفي زاوية هذه البناية، بواجهتها الأخاذة، لافتة رخامية حُفر فيها بالعربية ما يصعب تمييزه من الأسفل: «المجلس الإسلامي الأعلى»، وتاريخ الإنشاء: 1929.
غير معروف سبب الاحتفاظ بهذه اللافتة التي لا تمت بصلة إلى وظيفة الحيز الجديدة، ولكن في كل الأحوال، على بُعد أمتار معدودة من كل هذه الصروح، يقع مبنى القنصلية الأمريكية الرئيسي، الذي انتقل إليه القنصل عام 1912، في شارع أجرون (بعد مكوث القنصليّة، منذ تدشينها عام 1844، في ميدان عمر بن الخطاب داخل البلدة القديمة)، مع العلم أن فرعًا آخر للقنصلية يقع في شارع دافيد فلاسر، بحي أرنونا، يقدّم الخدمات للجمهور بعد نقله من شارع نابلس في شرقي المدينة في عام 2010، وقد كان الهتاف في المسيرات والمظاهرات يشتدّ عند عبور المتظاهرين بجانب فرع القنصلية هذا، أثناء سيرهم نحو باب العامود، نقطة التظاهر الأكثر شعبيّة.
وجه المدينة يتبدّل والمدينة تتسع نطاقاتها، ولا أجد خارطة واضحة متكاملة تفي بالمعلومات حول حدودها، لتساعدني على حل المعادلات الزمكانية أو التنبؤ بالتّغيرات فيها، ولكن محاولات استغلال أي شبر إشكالي من حيث الملكية، ومن حيث تاريخ تناقله بين أيادي حكومات حقبات الاستعمار المتعاقبة، لا تتوقّف.
التوغّل في استثمار هذه المباني والمساحات لا ينقبض أبدًا. والوضع الراهن يُشَرعَن بواسطة الدعم والأموال التي تتلقّاها بلديّة القدس ومؤسّساتها من أجل توسيع المدينة و«صناعة الرمزية» فيها، وكذلك بواسطة التصريحات الفظة والزيارات من قبل صنّاع القرارات، وأحيانًا من قبل المثقّفين الذين يتزيّنون برسائلهم النبيلة للإنسانية، بينما تمارس بلدية القدس والحكومة الإسرائيلية، في عالم مواز، التضييق على سكّان المدينة الفلسطينيين بالحرمان والتّعسّف وتهديد كيانهم بشراسة تفوق تصريحات الرئيس الأمريكي الحالي رعبًا على أرض الواقع. هذه حقائق ستظلّ باقية حتّى بعد اختفاء هياج العناوين الإخباريّة حول قرارات ترامب.
إسرائيل تسابق عجلة الوقت منذ 1967، وتحتفي بـ«القدس الموحّدة» عاصمة أبدية لها منذ النكسة فعلًا وقولًا، في رُزنامة مزدحمة بالطقوس والاحتفالات السنوية المدجّجة بالعربدة وأحذية البساطير العسكرية، وهذا ليس خبرًا جديدًا.
في طفولتي، حيث نشأت في قرية أخذت تنمو كجيتّو بين الكيبوتسات والموشافات المحيطة وبين شارع رقم 6 غربًا (المسمّى بعابر إسرائيل) والجدار والحدود مع الضّفّة الغربيّة شرقًا، كنّا نمتنع في ألعاب المعرفة التي لعبناها عن الإجابة عما هي عاصمة إسرائيل.
كنتُ أحاول العثور على استعارة ملائمة: هناك لاعب رئيسي ولاعب احتياط، وهذه الصفات تتبدّل وفق الحاجة بين تل أبيب و«أورشليم القدس»، بصيغة المذيعة في التلفاز.
وفي زياراتي إلى تل أبيب برفقة والدي، كان دائمًا يشير إلى الأعلام المتراقصة التي «لن أراها في أماكن أخرى»، شارحًا لي أن السفارات موجودة في تل أبيب رغم عدم كون تل أبيب العاصمة المنشودة، وإنما هي الرأس المدبّر الذي تصدر منه القرارات، بينما القدس هي ما يدور داخل الكرة البلوريّة التي نتمعنّها من الخارج. دائمًا نتمعنها من الخارج، حتى أثناء السّير في حواريها وبين تشعبّات رئاتها والتّنقّل في حافلاتها والتّأفّف عند الوقوع في ورطة أزمات السير فيها والانتظار على الحواجز منها وإليها.
في حينه، كنتُ أحاول العثور على استعارة ملائمة: هناك لاعب رئيسي ولاعب احتياط، وهذه الصفات تتبدّل وفق الحاجة بين تل أبيب و«أورشليم القدس»، بصيغة المذيعة في التلفاز.
سيضطر موظّفو السفارة الأمريكية، في موقعها الحالي في شارع هيركون في تل أبيب، للتنازل عن مشهد البحر الأبيض المتوسّط ورائحته، للاستجمام في «حوف يروشالَيم.. شاطئ القدس» القريب. منذ العام 1966، تتواجد السفارة الأمريكية، في موقعها الحالي، في مبنى على الطراز البروتالي القاسي الذي يميّز العمارة في تل أبيب في تلك الفترة، خصوصًا المباني الحكومية، على عكس أصالة الحجر المقدسي، الملزِم وفقًا للقانون الذي وضعه الانتداب للحفاظ على وحدة المنظر في واجهات المباني.
ونظرًا إلى حجم السفارة وعدد موظّفيها الـ800 من الإسرائيليين والأميركيين، وطواقمها المتفرقّة في عدة مواقع، قد يستغرق أمر نقلها على الصعيد اللوجستي عقدًا من الزّمن أو أكثر، ولا بد أن يكلّف، حسب التقديرات، مئات الملايين من الدولارات، مع الأخذ بالحسبان ضرورة نَسْخ ظروف الأمن التي تطوّق السفارة في تل أبيب اليوم. كان من بين الاقتراحات أن تعلّق لافتة على أحد منشآت القنصليّة في القدس يُكتب عليها «US Embassy»، لإسكات القلوب السّياسيّة الحائرة.
ما هي المعايير التي تحوّل المدينة إلى عاصمة؟ هل هي جيولوجيا التاريخ أم الاعتماد على التحوّلات التي تضخّم من القدس كبؤرة للمستوطنات المحيطة؟
في كتابه «الأبرياء في الخارج» (1869)، يصف المستشرق مارك توين السير حول القدس النواة، أي البلدة القديمة، بما يلي: «يستطيع السائر سريع الخطى أن يمشي خارج أسوار القدس ويدور حول المدينة بأكملها خلال ساعة واحدة فقط. ليست عندي وسيلة توضيحية أنجع لوصف كم هي صغيرة هذه المدينة.»
هذا الكلام لا ينطبق على الوضع الراهن، لا يمكن السير في القدس بأكملها الآن خلال ساعة واحدة، مستحيل. القدس بتعريف محيطها اليوم تعني الكثير من المستوطنات المجاورة والكثير من الوحدات السكنية التي تبرز من اللاشيء فوق الجبال. الانتقال من نقطة في شمال المدينة إلى نقطة في جنوبها قد يستغرق وقتًا أطول مما يستغرقه الخروج من القدس باتجاه مدينة مجاورة. فبالإضافة إلى التضييقات، تعمل هيئات السلطة على هندسة الحركة داخل المدينة، مع الأخذ بالحسبان تاريخها التقسيمي وخط التّماس الذي أصبح شفّافًا مع الوقت. والسؤال المطروح هنا: ما هي المعايير التي تحوّل المدينة إلى عاصمة؟ هل هي جيولوجيا التاريخ أم الاعتماد على التحوّلات التي تضخّم من القدس كبؤرة للمستوطنات المحيطة؟
المساحة لا تتفوّق على رسم الخرائط، وقد لا تصمد المساحة أصلًا، فتُحقّق الخريطة انتصارات جديدة بعيدة عن الواقع أو الأصل. الخريطة هي من تولّد المساحة كما يقول بودريار، متّكئًا على العبرة من أقصوصة «حول الدّقّة في العلوم» لبورخس.
في أقصوصة بورخس هذه، ينهمك رسّامو الخرائط في الإمبراطوريّة في رسم خريطة دقيقة توازي التقسيم الواقعي لمساحة الإمبراطوريّة ومناطق نفوذها بمقياس 1:1. فقد سكّان الإمبراطورية إذن تواصلهم المباشر مع المساحة، رغم مجيئهم إلى المكان قبل صنعها بحلتها الجديدة. تهندس الخريطة المتجددة في القدس حركة الناس فيها، وتعزل سكانها الفلسطينيين عن قصد، وتتعمد في الوقت نفسه إقصائهم عن فهم منطق هذه الحدود التي تخطها.
في أي بقعة لم تطلها جرّافات الاستيطان إذن، ستشيّد الولايات المتّحدة الأمريكية سفارتها الجديدة؟
تجمع دراسة وليد خالدي دلائل كافية تفيد بأن ملكية هذه القطعة من الأرض تعود للاجئين فلسطينيين، وصل عددهم حتى عام 1948 إلى 76 فلسطينيًّا.
طمحت إسرائيل دومًا بالحصول على تعهّد من الولايات المتحدة الأمريكية، لإنشاء سفارة، وليس مجرد منشأة دبلوماسية أخرى في القدس. ومع أن الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل كان قد بدأ مع مصادقة مجلس الشيوخ على قانون نقل السفارة في أكتوبر 1995، ورغم استئجار قطعة أرض منذ 1989 مخصصة لهذا الغرض، إلا أن الإجراءات لم تدخل حيّز التنفيذ.
في بحث أجراه المؤرخ وليد خالدي حول هذا، نُشر بمجلة «الدراسات الفلسطينية»، عدد 43 (صيف 2000)، تحت عنوان «ملكية موقع السفارة الأميركية في القدس»، يفصّل خالدي تاريخ الموقع الذي استأجرته السفارة في ثكنة ألنبي في منطقة «التلبيوت» الواقعة جنوب شرق القدس. تجمع هذه الدراسة دلائل كافية تفيد بأن ملكية هذه القطعة من الأرض تعود للاجئين فلسطينيين، وصل عددهم حتى عام 1948 إلى 76 فلسطينيًّا.
ما يجري في القدس، قبل القرار الرسمي بنقل السفارة وبعده، أمر مؤرق يعبث بالمصائر بوقاحة، ويزيد طين الأمور بلّة، ولا أعني أبدًا عمليّة السلام والمفاوضات، بل الحياة اليومية للفلسطينيين هناك. ما هي أبعاد هذا الاعتراف؟ ما هي الإجراءات المستقبلية الوشيكة أو البعيدة لنقل السفارة؟ هل سيؤدي الأمر إلى انهيار حجارة دومينو أخرى ونقل سفارات أخرى من تل أبيب إلى العاصمة التي اعترف بها الرئيس الأمريكي الحالي؟ الحال في القدس تشبه «حالة الأرق» كما يصفها الكاتب الفلسطيني أحمد حسين في مجموعته القصصية «الوجه والعجيزة».
هذا الأرق طويل الأمد، بحسب حسين: «ليس مجرّد يقظة في غير محلها، كما أنّ الرصاصة في الرأس أو الإصبع في المؤخرة أو المستوطنة في نابلس ليست كذلك، الأرق كابوس لا يخص النوم أو اليقظة! حالة بين الاثنين يترتّب عليها تغيير في السلوك وخروج على العادة بشيء يخص المكان، ربما أكثر مما يخص الزمان، فهو يشبه وجود الإنسان في أرضٍ مألوفة وغريبة في نفس الوقت، يعرفها ولا يعرفها، له وليست له؛ جغرافيّا غير كونية عائمة في تاريخ أسطوري بدون كثافة على الإطلاق».