في مجال الفلسفة والعلوم الاجتماعية كانت الوضعية أكثر تعقيدا. فقد حظيت الفلسفة باستقبال سيئ ومسيء كما تمثل ذلك في الترجمات العربية الرائجة، والتي هي في الأغلب الأعم (باستثناء حالات خاصة من المتخصصين) ترجمات سيئة ومسيئة، مشوَّهة ومشوِّهة للفكر الكوني، وبخاصة ما صدر عن الورشات التي تحولت فيها الترجمة إلى عملية تجارية محضة.
ولعل فلسفة هيدجر من بين الفلسفات التي تعرضت للكثير من الإساءة والتشويه ترجمة وعرضا وتأويلا، رغم أنها ليس حالة استثنائية.
كانت الضربة الأولى التي تلقتها فلسفة هيدجر على يد عبد الرحمن بدوي في كتابه «الزمان الوجودي» (1943) حيث أدرج فلسفة هيدجر ضمن الفلسفة الوجودية، وقسم الفلسفة الوجودية إلى اتجاهين كبيرين الوجودية المؤمنة والوجودية الملحدة ونسب هيدجر إلى هذه الأخيرة. وذلك في حين أن فلسفة هيدجر ليست فلسفة وجودية بالمعنى الذي نجده عند سارتر وكامو بل هي فلسفة الوجود والكينونة بمعنى آخر تختلف تماما عن الفلسفة الوجودية الفرنسية كما أوضح ذلك هيدجر نفسه.
كما أن هيدجر ليس فيلسوفا ملحدا، فموقفه من الإله ومن الألوهية ومن انتزاع الطابع الإلهي ومن المقدس هي مواقف أعقد بكثير من هذا التبسيط. فهو على الرغم من أن تنشئته الأصلية كانت تنشئة دينية، إذ كان طالبا في كلية اللاهوت، إلا أنه انتقل في مرحلة معينة من الكاثوليكية إلى البروتستانتية، كما ظل مساره الفكري في هذا الباب نوعا من الحوار والجدال (une explication) مع المسيحية. كما أن فكرته عن المقدس وعن الإله مرتبطة بقوة بفكره حول الوجود وتاريخه حيث كان المقدس هو مصدر قوة وإلهام للإنسان القديم. وكما بين ذلك الأستاذ إسماعيل مهنانة في كتابه الجميل «الوجود والحداثة» فإنه ليس بإمكاننا، نحن معشر المحدثين، فهم المقدس بعد اختزاله في طقوس وشكليات مظهرية لأن هذا الإيغال في الشكليات والطقوسية هو مجرد ذكرى للمقدس وربما كانت تعبيرا عن انسحاب الألوهية من العالم أكثر مما هي تعبير وبالأحرى تجسيد لحضورها(ص233).
لذلك فالقول بدوي بأن فلسفة هيدجر هي فلسفة ملحدة هو قول تبسيطي وتسطيحي ينم عن عدم فهم كما يقول عن ذلك جادامير، تلميذ هيدجر (مهنانة 240). هيدجر لا ينكر الألوهية باعتبارها أفقا لخلاص الإنسان، بل ينكر على الإله الأفلاطوني المسيحي، أو على المسيحية الأفلاطونية كونها تختزل الألوهية في الحاجات العملية التشريعية والأخلاقية لخدمة الإنسان والقيم الإنسانية فهي تحط من الألوهية وتخفّض من الإله، ويذكر د. مهنانة أن البحث عن الإله قد ظل شوقا خفيا يحرك فكر هيدجر ولم يبرحه عبر كل مراحلة(ص234).
بل إن معرفة هيدجر التأويلية العميقة بفكر نيتشه جعلته ينفي عنه جديفة التصور والفهم السطحي الشائع، ويعتبر أن صيحته هي نوع من العودة إلى صباه أي إلى ذلك الطفل اليتيم ابن القس، وأن نيتشه هو «آخر فيلسوف ألماني بحث عن الله بشغف وشوق» (Passionnement).
بصدد مسألة إيمانية أو إلحادية هيدجر وفلسفته ينقسم مؤرخو الفلسفة إلى ثلاثة أصناف:
- صنف يجزم بأن هيدجر فيلسوف تأملي وإلهي (اوجين فينك) بل هناك من يعتبره مناضلا مسيحيا (G.Mietzenagora) والبعض يعتبر أن كتابه العمدة «الكينونة والزمن» ليس إلا لاهوتا مقنَّعا (كارل لوفيت)، وينحو السوسيولوجي الفرنسي بيار بورديو إلى القول بأن الكثير من مقولات «الكينونة والزمان» هي مقولات دينية ذات ملامح علمانية.
بل إن هيدجر لا ينكر عن نفسه هذا البعد المسيحي حيث يقول إنه لولا انحداره من وسط ديني ومن دراسة لاهوتية «ما كان باستطاعتي أبدا أن أخط طريقي في الفكر» أي أن طريقه إلى الفلسفة كانت هي الثيولوجيا وقضاياها، حيث إنه في فترة من فترات شبابه كان قد ترشح لأستاذية الفلسفة الكاثوليكية كما كان قد قال عن نفسه سنة 1921 «أنا لاهوتي مسيحي» وأن رسالته الفلسفية الأصلية كانت التمهيد للاهوت بأنطولوجيا ملائمة وذلك من حيث إن تعالي الكينونة هو التهيئ للمقدس الذي هو الطريق إلى التعالي الإلهي: الكينونة/ المقدس/ الله.
- صنف يميل إلى القول بأن تاريخ فلسفة هيدجر هو تاريخ الحوار/ المجابهة مع المسيحية وأن الهم الأساسي لفلسفة هيدجر كان هو تحرير البنيات الأنطولوجية من أي معنى أو بعد لاهوتي: فالخطأ لا يتضمن الإثم، والصواب ليس حسنة، والقلق الوجودي ليس هو الألم المسيحي، مع التركيز في أنطولوجياه على مفهوم القذف والانقذاف والوجود في العالم بدل العناية والخلق: الإنسان أساس كائن -في- العالم، كما أن الكينونة ليست أساسا بل هي حدث Ereignis وليست أساسا fondement، وأن كل ما اعتبره تاريخ الميتافيزيقا أساسا إنما هو موقع أو حدث كما يبين ذلك تفكيك (أو تفخيخ) الميتافيزيقا. كما يذهب بعض الدارسين (ايميل بريتو E.Brito) إلى اعتبار فلسفة هيدجر فلسفة وثنية جديدة (Neopaganisme).
- وصنف ثالث يحجم عن التصنيف الحاسم ويمرحل الأحكام والمواقف حسب تطورات وتحولات فكر الفيلسوف عبر كل مرحلة من مراحل حياته وتطوره الفكري، مبرزا مراوحات إن لم نقل تأرجحات أو تذبذبات هيدجر بين الإيمان الخاص والتساؤل الحاد.
وهذا الالتباس ليس قاصرا على المسألة الدينية بل يطال أيضا المسألة السياسية والإيديولوجية. فمن القضايا التي يستعصي الحسم فيها بالنسبة لفلسفة هيدجر هو موقفها من التقنية الذي يتراوح بين التمجيد والنقد الجذري لأسسها الفكرية والميتافيزيقية القريبة والبعيدة مع حرصه على القول بأنه ليس ضد التقنية.
نقيض جون لوكيري صادق جلال العظم أن هيدجر قد صب كل مجهوده الفكري (في الوجود والزمان) على إفراغ مفاهيم: الوجود والعدم والإنسان واللغة والحقيقة والزمان والمكان والمارة والسببية والغائية، والعلم، والحياة، والموت، والحرية والتقدم والتاريخ... من المعاني العلمية والطبيعية والمادية والعقلانية والكمية الرياضية التي اكتسبتها تدريجيا، تراكما وتعديلا وتقدما، منذ عصر النهضة حتى الآن. وهدفه من ذلك مزدوج:
أ - إرجاعها إلى معانيها الكيفية القديمة السابقة على العلم الحديث والعقلانية الكمية والمادية الحديثة وتأكيد أولوية هذه المعاني العتيقة وأسبقيتها على كل ما تلاها من تطورات ثورية هدامة منذ عصر النهضة.
ب - إعادة شحنها بمعان دينية صوفية معدلة ومستمدة عمليا من جوانب مختارة من تراث العصور الوسطى ومؤسسة استنادا إلى مرجعية تأويل معين لمعنى التجربة الفلسفية اليونانية المبكرة أي السابقة على سقراط بشكل تمجيدي.
ويرى العظم أن هيدجر لاهوتي وفيلسوف معا، لكنه اللاهوت المتفلسف لمرحلة ما بعد فناء المتعالي الذي أعلن عنه نيتشه. مشروع هيدجر يؤكد إدراكه الواضح أنه لا حياة لهذه المثالية إلا بتخليها عن مزاعم وادعاءات تقليد حياد العلم وموضوعيته ويقينيته. وبعودتها الصريحة إلى المنابع الدينية الأولى لكل مثالية والتحامها بها. وهيدجر واضح في هذا الموقف فإذا تطلبت هذه العودة الدعوة إلى إدانة التقليد العقلاني الكيفي التصنيفي في تاريخ الفلسفة الممتد من سقراط إلى توما الأكويني مرورا بابن رشد فهو لها. وإذا تطلب رفض التقليد العقلاني الكمي التجريبي الحديث الممتد تراكما من عصر النهضة إلى الآن فهو لها أيضا. هذا هو جوهر الرسالة التي تحملها فلسفة هيدجر. ولتنفيذ مشروعه شيد نسقا لاهوتيا - فلسفيا غنيا بالإيحاءات والأفكار واللمعات والاجتهادات.
إدانة هيدجر الشديدة لأزمة العصر وتأكيده لعبثية العالم وعدمية الحياة الراهنة، ودعوته الإنسان (الدازاين المفتح على العالم) الأصيل إلى الخلاص من كل ذلك وتجاوزه بتحضير نفسه لسماع صوت «الوجود» وتقبل نعمه وكشوفه القادمة لا تختلف عن لاهوت الأزمة الوجودي وإمعانه في تهويل أزمة العصر من أجل وضعنا أمام يأس الباب الموصود أولا ومن ثمة دعوتنا لدخول باب الخلاص الأوحد المتبقى أي الرجوع إلى الله.
لكن الإله الحي الظاهر المختبئ في آن، المصدر الحقيقي لنفسه وللأشياء، موجود، بل هو الوجود بالمطلق ولا علاقة له بالإله الأول. بل إن الإله الأول هو أحد العوامل التي حجبت الإله الثاني وساعدت على نسيانه في التاريخ. لذلك يتعين العودة إلى «إله الإيمان» الحقيقي في مقابل الإله الأول الذي غاب.
معانٍ قديمة خلاصة العظم هي أن هيدجر أفرغ المسائل الفلسفية المطروحة من محتواها المرتبط بمكاسب العلم الحديث وأعاد شحنها بمعان قديمة أو دينية أو قروسطوية لدرجة تسمح بالقول بأن هيدجر هو الأنتى لوك بامتياز أي الفيلسوف الذي جدد المثالية من أجل «تدمير الثورة العلمية الحديثة وسلبها كل أهمية معرفية أو معنى أونطولوجي أو مغزى إنساني لإفساح المجال أمام عودة هيمنة اللاهوت الفلسفي مجددا»(ص200) وذلك باستبعاد المعارف العلمية القائمة على السببية والكمية وإحلال الانطباعات الكيفية من جديد محلها مثلما يسري ذلك على المكان والزمان والقرب والبعد.
فالأولوية عنده للمعنى الكيفي الوجداني أو النفسي على المعنى الفيزيقي الرياضي الجديد وذلك رفضا للتصور العلمي المادي السببي للكون ودفاعا عن التصور اللاهوتي المثالي الصوفي الغائي للكون (ص110).
بل إن العظم ينتقد المضامين الفلسفية في كتابات هيدجر وفي محاضراته وبخاصة محاضرته لسنة 1953 تحت عنوان: «مدخل إلى الميتافيزيقا» التي يبين فيها ـ كما يقول العظم ـ بأن انحطاط الغرب ناجم عن الفساد الذي دب في روحه نتيجة انحرافها مع التيارات المادية الحديثة ومع العقلانية العلمية والتقدم التكنولوجي مما أوصلها إلى نسيان وجود الموجودات وأوقعها في الحياة غير الأصيلة وأخضعها سياسيا لمصالح الإنسان المتوسط والعادي (أي الديمقراطية).(ص204-203).
فهو على وجه العموم مناهض للعلم الحديث ومسفه للتقدم، ومتفه للعقل ومنكر للمعرفة الموضوعية ولاستقلالية الطبيعة وملغ لفاعلية الإنسان(ص210).
«هذا هو بديل هيدجر المستحدث يونانيا للتصور اللاهوتي القديم عن لحظة تقاطع الأزل مع الزمن كما في لحظة نزول الله على الأرض متجسدا بالمسيح أو لحظة نزول كلام الله المحفوظ على الأرض فاعلا في البشر ومحركا لشؤونهم وهي لحظة الحقيقة الأصلية والأصيلة التي ما بعدها لحظة»(ص211).
يرى العظم أن التدقيق في تحليلات «الوجود والزمان» الفلسفية وعباراته الأنطولوجية يكشف مقدار ارتباط مضامينها بالنزعة الرومنطقية، وبنقدها الماضوي للواقع الاجتماعي الألماني المتحول بسرعة نتيجة التطور الرأسمالي والتصنيع الكثيف وما صاحبه من تحولات اجتماعية. فقارئ الكتاب يخرج بانطباع وكأن هيدجر قضى معظم أوقاته في ورشة ريفية للنجارة أو الحدادة وليس في الجامعة أو المكتبة أو قاعات الدرس. العالم الذي يعكسه الكتاب ليس عالم المصنع والمختبر والتكنولوجيا، بل عالم المزارع الفرد المندمج عضويا في بيئته الطبيعية، والمرتبط بالمحراث المكسور والمطارق. فالحنين الرومنسي الشعبوي، البورجوازي الصغير إلى ماض ألماني سابق على الرأسمالية الكبيرة والصناعة الثقيلة والدخول الكثيف للتكنولوجيا واضح هنا كل الوضوح. ويندرج في سياق النزعة الرومنطيقية الألمانية التي تنتصر للثقافة على «الحضارة» الإنجليزية وتنتصر للروح على «المادية الفرنسية». فإيديولوجيا الحنين إلى الحياة الرعوية الريفية التقليدية وإلى أعراق القبائل الجرمانية وعضوانية الجماعة العتيقة وإلى ميراث الثقافة الروحية الأصيلة في مواجهة المجتمع الآلي الحاضر ومجابهة الحضارة المادية الراهنة(ص285-283).
نكهة أيديولوجية يبدو أن النقد الذي يوجهه صادق جلال العظم لفلسفة هيدجر هو بمثابة نقد جاهز، لا يخلو من نكهة أيديولوجية كما أنه نقد لا يعكس همّا استمولوجيا وأكاديميا واضحا، وهو على النقيض من قراءة بدوي التي تتهم هيدجر بالإلحاد يقدم فكر هيدجر باعتباره فكرا رومانسيا ودعوة دينية جديدة. فالعظم يستلهم هذا النقد من الأدبيات الفلسفية الماركسية المتداولة في اللغة الإنجليزية، ولكنه لا يلامس حرفيا نصوص هيدجر ولا يقف عند مصطلحاته ومفاهيمه الخاصة، بل لعله لم يورد استشهادا واحدا مخصوصا عبر كل هذه الصفحات. كما يبدو أنه لم ينظر إلى الوجه الآخر للعملة بل ربما لم يعه أو لم ينتبه إليه ولم يستوعبه. فسهام النقد التي وجهها هيدجر للماركسية حادة ونافذة. وسأذكر في عجالة ببعضها هنا.
أولا، يعتبر هيدجر الماركسية قمة العدمية بمعنى نسيان الكينونة أو الوجود، وفي هذا الإطار فهي في انسجام عضوي كامل مع تاريخ الفلسفة الغربية في سياق اهتمامها بالكائن وتناسيها للكينونة، فهي في تقديره جزء عضوي من الميتافيزيقا الغربية مهما ادعت الخروج منها.
ثانيا، يأخذ هيدجر على الماركسية أنها لم تنفلت من مادية القرن التاسع عشر التي تقر لا فقط بأن كل شيء مادة، بل بتحديد ميتافيزيقي يتمثل في أن كل موجود هو نتاج عمل، فكل شيء منتوج. وبذلك يظل فكره يدور في حدود الإنتاج والإنتاجية.
ثالثا، أن انتقاد ماركس للفلسفة والفلاسفة (من حيث انهم اكتفوا بتأويل العالم لا بتحويله) مردود عليه، فتحويل العالم يفترض ويتطلب تحويلا لتمثل أو لتصور العالم وإن تمثلا معينا للعالم لا يمكن أن نحصل عليه إلا بواسطة تأويل واف للعالم. وهذا يعني أن فكرة ماركس نفسه تقوم على أساس تحويل لتصور معين للعالم قاده إلى المطالبة بتحويله واقعيا. فالأطروحة 11 من أطروحات ماركس حول فويرباخ غير ذات أساس، فهي تعطي الانطباع في قسمها الأول بأنها ضد الفلسفة في حين أن النصف الثاني من الجملة يوحي بشكل ضمني بضرورة الفلسفة لتأويل العالم الذي يتعين تحويله.
بل إن هيدجر لا يعتبر ماركس فيلسوفا كما اعترف بذلك جان بوفريه J.Beaufret الذي أسر له هيدجر يوم 15 يونيو 1971 بأن «ماركس ليس فيلسوفا على الإطلاق إذ أنه في منأى عن كل مسألة تتعلق بالكينونة».
هكذا إذن نجد أنفسنا مع صادق العظم لا أمام حوار مع فلسفة هيدجر بل أمام ما يشبه الإدانة وصك الاتهام.
سوء معاملة مثل هذا الموقف نجده لدى كاتب عربي آخر هو الباحث التونسي محمد المزوغي في دراسة له تحت عنوان «في نقد فلسفة هيدجر». حيث يكيل فيها التهم بالجملة لهيدجر وفلسفته واصفا إياه وإياها بأبشع النعوت مستندا في موقفه إلى آراء لوسوردو الباحث الماركسي الإيطالي في كتابه «هيدجر وأيديولوجيا الحرب» منتهيا إلى القول بأن ما يتفوق في فكر هيدجر هو إيديولوجيا الغلبة والقهر والتسلط والانغلاق والاستعلاء ورفض الآخر على أيديولوجيا الأخوة والمساواة والتواصل والسلم والانفتاح وقبول الآخر.
نستخلص إذن من خلال هذه العينات الاستقبالية على الأقل، أن فلسفة هيدجر تعرضت لاستقبال سيء بل لسوء استقبال وإلى معاملة سيئة في الفكر العربي الحديث سواء على مستوى الترجمة أو على مستوى العرض أو على مستوى التقييم. فالبعض قدمها وضمنيا اتهمها بأنها فلسفة إلحادية (بدوي)، بينما استقبلها الماركسي العربي في صيغة اتهام وإدانة على النقيض من التصور السابق، على أنها فلسفة لاهوتية، صوفية غنوصية تستعيد وتستحسن التراث الديني للعصور الوسطى وأنها فلسفة ذات ملامح وجذور رومنطيقية وأنها مضادة للعالم الحديث وللعلم الحديث، بينما وسمها آخر بالنخبوية والرجعية وتمجيد الصراع والحرب ورفض قيم المساواة والديمقراطية.
لكن في العقد الأخير ظهر تحول نوعي في علاقة الثقافة الفلسفية العربية بفلسفة هيدجر حيث ظهرت أجيال جديدة من الباحثين أكثر استيعابا للفكر الغربي عامة ولفكر هيدجر على وجه الخصوص، كما ظهرت ترجمات أكاديمية جيدة لبعض أعمال هيدجر نذكر منها ترجمات إسماعيل المصدق لنصوص هيدجر وترجمة محمد المسكيني للكينونة والزمن.
وعلى وجه العموم فإن التعامل مع فلسفة هيدجر يتطلب استحضار عدة عناصر/ شروط أهمها في تقديري:
ضرورة استحضار وتحديد الإطار الفكري العام لمساهمة هيدجر في تاريخ الفكر الفلسفي والمتمثلة في أنها:
1- تحليل (وتفكيك) لتطور الفكر (أو بالأحرى العقل) الإنساني (وبخاصة الفكر الغربي: اليونان-المسيحية-العصر الحديث) من حيث أنه سلك خطا واحدا تدرج في نضجه إلى أن بلغ ذروته في العصور الحديثة كفكر وعي أو كفلسفة وعي قوامه تمثل أو إعادة استحضار (Representation) الموضوعات. وهذا الوعي (conscience) هو في عمقه وعي عقلي قوامه أو محركه الضمني هو إرادة قدرة وقوة الذات البشرية على التحكم في موضوعات (أو كائنات) الواقع وقدها وقياسها على مقاسها.
ضمن هذا المنظور ينظر هيدجر إلى الحداثة أو العصور الحديثة من حيث هي تجل لهذا التطور ويعتبر أن كل انتصارات الحداثة، وبخاصة منها ما انحدر من عصر الأنوار الأوروبي، سواء تعلق الأمر بقيم الديمقراطية من حيث هي تجسيد لاعتماد الإنسان على ذاته في تنظيم حياته السياسية autofondement، أو دولة القانون والنظام القضائي، أو الكليانية السياسية أو الكونية الأخلاقية، أو العلوم والتقنيات، أو إهلال النزعة الإنسانية الحديثة، هي كلها خيرات (des biens) ومكتسبات مشتركة للإنسانية لها الكثير من الإيجابيات ولكن يتعين النظر إليها (نقديا) من حيث أسسها الميتافيزيقية (فلسفة الذات عقل/ إرادة) ومن حيث أنها أعراض لداء العدمية من حيث هي إنكار للحياة (نيتشه) وإرجاع للقيم السامية إلى عالم مفارق (أفلاطون-المسيحية-كنط). ونسيان للكينونة. هذا المستوى الأول يتولد عنه مستوى ثان هو ضرورة اتخاذ مسافة فكرية كافية تجاه الحداثة والعصور الحديثة عبر مجاوزة أسسها الميتافيزيقية أو عبر تشريح تجلياتها نفسها: التشيؤ-العمومية-النزعة الأداتية-الغُفلية-الثرثرة-الأجلية Umwellen-الزيف-السقوط وتحويل اللغة من متعة إلى مضغة-السطحية-الضحالة-انضباب الرؤية أو انظلام entenebrement العالم-الرطانة-تسيد الهائل-التحكمية... واللائحة طويلة وقد استلهمها رواد مدرسة فرنكفورت بدرجات متفاوتة، والنقد الفلسفي للحداثة تمهيدا للقول بما بعد الحداثة.
هذا هو الإطار أو التوجه العام الذي تتحرك فيه فلسفة هيدجر من حيث هي فلسفة محورها الفكري هو فكرة الكينونة. وهو إطار فلسفي متميز بعمقه وثرائه الفكري والفلسفي، ومن ثمة القيمة الفكرية لتناوله موضوعات كبرى كالتقنية والفن، والميتافيزيقا، والعلم وأسس النزعة الإنسانية، ومعنى الحقيقة والحرية والمقدس والعدمية واللغة والشعر، والزمن، والعقل الكينونة إلخ.. مما يجعلها موردا ومنجما فكريا ثريا يغري المتخصص الفلسفي ويثري رؤيته كل هذا في إطار نوع من الاعتراف الفكري بأننا لسنا فقط في حاجة إلى المتح من التفوق التكنولوجي المذهل للغرب، بل نحن أيضا في حاجة أشد إلى المتح من تفوقه الفكري.
(أستاذ الفلسفة ـ المغرب)