توج الشاعر المغربي حسن نجمي بجائزة (روكّا فليّا) للشعر برسم سنة 2009 عن ديوانه الشعري "المستحمات" والذي صدر بالإيطالية عن دار نشر (كيميريك) سنة 2006 وفيما يلي قراءة في معالم الديوان لمحرر الكلمة في المغرب.

من شعرية الصحراء إلى جسد القصيدة

عبدالحق ميفراني

قراءة في ديوان الشاعر المغربي حسن نجمي "المستحمات وأبدية صغيرة"

"القصيدة في إغفاءتها الأولى
دمها شبه بارد
كأنها تخطو خطوتها الأولى"
(حسن نجمي ـ قصيدة مشاعر ضارية)


إن الوعي بالظاهرة الأدبية اليوم ينطلق من تصور يراعي صيرورة تطور وتشكل القصيدة العربية الحديثة، خصوصا حين يكون التمرد صفة ملازمة لجسد القصيدة الشعرية "المغربية نموذج دراستنا"، لكن ألا يطرح هذا الخطاب إشكال البحث عن هوية تميز القصيدة المغربية عن مثيلاتها؟ ألم تغدو التقاطعات التي يعرفها هذا الجسد الشعري عنوانا يفرز جزء من إشكالات النص الشعري بالمغرب؟ ضرورة هذه التوطئة ما خلفه صدور ديوان "المستحمات وأبدية صغيرة" للشاعر المغربي حسن نجمي فبعد سبع سنوات من صدور آخر دواوينه الشعرية "حياة صغيرة" سنة 1995، لذلك يمكننا أن نستوعب بلاغة حضور تقديم الشاعر لديوانه، كتوضيح صريح لهذا البياض وهذا الغياب..

وتكتسي كلمة/ العتبة مدخلا نصيا ينفتح على مفارقات قرائية تصب معظمها على فعل الكتابة وتشكل القصيدة. يؤكد الشاعر حسن نجمي فعل تحرير حركة اللغة وحركة التخييل من خلال تحرير "حركة إيماءات الجسد، ورذاذ الشفتين" لكن في المقابل تقدم عتبة الديوان (الثانية بعد الغلاف) ترسيمة متوالية لما نعتناه بفعل تشكل القصيدة يقول الشاعر:

"كتبت ومزقت
كتبت ومحوت
كتبت وسهوت
كتبت و نسيت
كتبت ونشرت
نشرت وندمت
ندمت واكتفيت
ضقت بما في أدراج نفسي
وقررت أن أنشر روحي.."(ص9).

قصائد الديوان تأكيد فعلي لهذا الامتلاء، لكنها بيت صوفي حيث تتحلل ذات الشاعر من وشائج العالم ويظهر هنا جليا البعد التطهيري بما هو حافز خصوصا أن الشاعر حسن نجمي عودنا على التروي في كتابة قصيدة لا تستجيب لرؤية أظهر ديوان "سقط سهوا" ملامحها النقدية الأولى.

ولا تفاجئنا أفعال التراكم، الغرق و النشر إذ تلب تلك الحاجة القصوى لفعل الكتابة بما هي حقيقة وجود لدا لا يرتكن البعد الكتارسيسي بعيدا عن إبراز رؤية شعرية تمثل خصوصية داخل المشهد الشعري العربي.

من شعرية الى جسد القصيدة
يضم الديوان مجموعتين شعريتين: المستحمات و أبدية صغيرة وكل مجموعة تضم قصائد أخرى تختلف وتتوحد في آن، فالمستحمات تحتفي بالتيه، الفراغ، العزلة والصمت لكن أهم ما تقدمه قصائد المستحمات هو تيهان مزدوج للذات واللغة يقول الشاعر:

أنا صحراء
أنا الآن صحراء في صحراء (ص22)
**********
تعبت، أتستر على ألمي ويتراكم الفقدان (ص30).

توقفنا قصائد المستحمات بتوظيفها للرمل كعنصر شعري مجازي لكن حضور الصحراء يعمم أوجه هذا الحضور بقوة مما يفرز خصوصية للمدلول الشعري الذي هو "مدلول شعري ملتبس، إنه يأخذ المدلولات الأكثر ملموسية ليقوم بالزيادة في ملموسيتها قدر الإمكان عبر منحها صفات خاصة"(1)، لنتتبع هذا الحضور القوي للصحراء في القصائد:

القصائد تيمة الصحراء
تيمة الرمل
قصيدة الصحراء
ص 22
أنا صحراء
أنا الآن صحراء في صحراء
قصيدة الصحراء
ص 22
الصحراء كل مساحات الوحشة بداخلي
قصيدة نشيد الماء
ص 33
ـ أمضي فوق هذا المجهول
ولم أعد أقرأ ما أدوسه
في الصحراء
وكأنني في ضاحية الحياة
          تيمة الرمل
قصيدة الصحراء الرمل عنيد في كثبانه
ص 15          
قصيدة الصحراء
ص 19
أحمل معك حفنة رمل
ضعها في جيبك كي تلامسها
كلما ضاقت بك الخرائط أو
اختلت البوصلة

إن قصيدة الصحراء المهداة للراحل محمد باهي عتبة ثالثة مهمة للدخول لمعالم الديوان، ولعل القصائد التي تلت القصيدة لم تزد إلا تعميق هذه الرؤية فقدان الشاعر ورغبته بالفراغ والتي لا تحد، فالصحراء هي الشاعر وهي مساحات الوحشة، ثمة توظيف سلس ـ يقدم الشاعر وضوحا في مجاز العبارة، لذلك يظل الشعر الجنس الإبداعي "الذي يؤكد وجود اللاوجود ويحقق ازدواج المدلول الشعري"(2).

إن فعل الحلول الذي تضمنته قصائد المستحمات يعمق من توظيف تيمة الصحراء الى حد تمسي معه اللفظة منفى إرادي تختاره اللغة للقصيدة ويختاره الشاعر للغة، وكأننا أما حلقة دائرية تصب في نفس الماء فالصحراء هي "مساحات الوحشة" لكن الشاعر يدعو في مقطع آخر "تعالي نغرق في الرمل"(ص30)، إننا أمام شعرية ترغب في سلخ الذات، لكنها تعي حدود خصوصيتها وخصوصية القصيدة في الغور والخرق.

الغور في الذات الكونية لكنها تكتسب ملامحها الشعرية في الجنوب، الجنوب المقابل في الوعي الشعري للمطلق، الصحراء سيدة المطلق واللامحدود، أما الخرق فشعري في تفكيك لغة اليومي (سقط سهوا ـ حياة صغيرة). والبحث في خلق لغة جديدة لعل أهم ملامحها تتمركز فيما يلي:

 

  • قصيدة الصحراء (ص19):
  دعني أخجل قليلا من الكلام.
  • قصيدة مشاعر ضارية (ص51):
  والقصيدة في إغفاءاتها الأولى/ دمها شبه بارد
  • قصيدة مشاعر ضارية (ص52):
  بدون هذا النزيف لن تنهض قصيدة.
  • قصيدة الصحراء (ص32):
  أتقدم وأغني ولي أناشيد ماء.
  • قصيدة مشاعر ضارية (ص52):
  لا بد لي من طاولة لأجمع هذه الشذرات في فهرس الحب.



في توطئة للديوان يؤكد الشاعر على رغبته في "تعميم الخلوة وتحرير حركة إيماءات الجسد" والخلوة هنا تحتاج لنزيف حاد، لكن خلوة الشاعر تقابلها الرغبة الإستقرائية في تحديد ملامح قصيدة تعبر بتلقائية غريبة عن حالة فقدان، ولما أشرنا في بداية دراستنا للمساحة الزمنية بين إصدار آخر ديوان وصدور ديوان المستحمات فلنفهم أكثر هذا التيهان والبحث، لذلك تصر اللغة على إعادة التشكيك في جدوائية القصيدة يقول الشاعر في قصيدة نشيد الماء (ص30):

أتستر على ألمي ويتراكم الفقدان
يتراكم فقداني..

وكم تصدمنا هذه المفارقة، كلما تعمق الألم وانفتح الجرح كلما خفت الحاجة للقصيدة لكن كلما كانت القصيدة تتحقق في فعل وجودها كلما تشكلت نافذة الحياة الوحيدة على البوح، الغناء، النشيد والكتابة.

في قصائد أبدية صغيرة يعيد الشاعر حسن نجمي لطلقاته الصغرى المحببة، كتابة الشذرات، وتظل لعبة الحرف بهوا مفتوحا للغة الشعرية: 44 قصيدة قصيرة تبدأ بقصيدة "الشاعر" وتنتهي بـ "11سمبتمبر" وفي القصيدة الأولى من أبدية يؤكد الشاعر:

صعب أن ينهض شعر هكذا
نهار آخر بلا قصيدة (ص111).

إذن منذ البداية يساءل الشاعر جدوائية الكتابة الشعرية، لكن في مقابل هذا السؤال يتخذ وسيطا عضويا هو اليد التي ترد 12 مرة ـ، ويزيد من تعميق هذه الرؤية حضور لافت للجسد، جسد يشكله الشاعر قطعة قطعة:

الجسد ـ اليد ـ الظهر ـ الساق ـ الوجه ـ الصدر ـ اللحم ـ النهدين ـ الذراع ـ الشفتين ـ الفم ـ الكف ـ القلب ـ القدمين ـ العين ـ الجلد ـ الرموش ـ الركبة ـ...

إن هذا الحضور اللافت يستجيب في العمق لتشجير إيمائي وكأن القصيدة تمتلك حواسها الخاصة، وجسدها الذي تبنيه اللغة ن لكن ثمة يد تبحث عن الفهم وتتقصى إرادة الفراغ والصمت يقول الشاعر في قصيدته إيماءات:

أبحث عن شيء، لا أعثر إلا على نفسي
وأمد يدي بحثا عن يد، لا أجد قربي غير يدي (ص113).

ليست اليد إلا أداة إدراك وحيدة لفهم العالم، بل هي الإطلالة المتفردة التي عبرها "لا تخربش" تفاصيل الجرح ولا نرسم صورة الضوء الوحيد على الحياة، اليد حقيقة الشاعر الوحيدة حين لا يعرف "أين ستأخذه القصيدة القادمة".

ويزيد الصمت (يحضر 11مرة) من تكثيف هذه الصيغة إذ يعوض الصمت، فراغ وخواء الصحراء، ولأن القصيدة عالم لغوي بامتياز، يقوم الشاعر بخلق إيقاعين متعارضين:

إيقاع الصمت
و إيقاع خر بشات اليد
ولنحاول تتبع هذا الحضور المزدوج من خلال المتن نفسه:

قصيدة إيماءات
ص 113
أمد يدي بحثا عن يد، لا أجد قربي غير يدي
هذا الصمت بارد، بارد، بارد
قصيدة أسئلة
ص 128
ماذا أقول؟ هذا الصمت كاف
قصيدة ليس لي ما أفعله
ص 139
هل هناك أكثر ثرثرة من هذا الصمت؟
قصيدة 11 شتنبر  جميل هذا الفراغ الذي يصاحبني
يعلمني النظر ويدع يدي باردة

في قصائد أبدية صغيرة اقتناص ذكي لبلاغة المطلق بحكم أن العوالم التي تنفتح عنها لا تخرج عن عباءتها الخالصة، وبما أن الصمت صراخ، واليد جسد تحتوي الخسارات، فالقصائد بالتالي صدى لهذا الصمت ولثرثرته، واليد استعارة لكينونة شعرية لا تتحقق إلا في عزلتها وخصوصيتها وهنا مكمن الرؤية التي يؤطرها ديوان الشاعر حسن نجمي بل يحاول جهد الإمكان أن يوصلها لمدى تتمكن من خلاله اللغة الشعرية أن ترسم بنيتها بمعالم نصية أي أن جسد القصيدة وشعرية الجسد استكمال لصورة أسبق في شعرية الصحراء شعرية الخواء، فبالنسبة للنصوص الشعرية الحداثية قانونها الجوهري الدائم هو الهدم.

ولنتبين ذلك من خلال الإشارة لنموذجين من قصائد الديوان، "كلب غويا"(ص97) و "امرأة نائمة"(ص114) فإذا "كانت اللوحة واقعا، بل نموذجا simulacre  بين العالم واللغة"(3)، فإن القصيدتين معا مرآة ترميزية تتمفصل وتتقاطع لتشكل "شفرة تشخيصية" تماثل اللوحة الفنية ذاتها، مع ملاحظة التوليف النصي التي مارسته القصيدة لأشكال وألوان ومجسمات ولعل ولع الشاعر بفراغ يصرخ ساعد في اختيار هذا الجنس الفني لكتابة علاقة حميمية كونتها اللغة مع تمثلات العالم. والتي ليست بالضرورة شكل أو مادة بل قيمة.

إن قصيدة كلب غويا وامرأة نائمة قصيدتان تحتميان في إطار البياض لكنهما معا صيرورة ممتدة لعملية إعادة إنتاج لغوي جمالي لهذا الفراغ الناطق المجسم باللون والموضوع المصور.

إذن الهدم هنا إعادة كتابة لعالم يرفض الفقدان.

وديوان "المستحمات وأبدية صغيرة" صورة مثلى لأرق القصيدة لحظة الانوجاد؟ لكنها في المقابل تظل تهزأ من شارع يرغب في تشكيل جسدها بألمه هو والنحن؟؟.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* حسن نجمي "المستحمات تليها أبدية صغيرة" دار الثقافة الدارالبيضاء ـ طبع 2002 توزيع 2003. طبعة أولى
(1) ـ جوليا كريستيفا "علم النص" ت ـ فريد الزاهي دار توبقال للنشر والتوزيع ـ ط 1/ 1991 ص 76.
(2) ـ جوليا كريستيفا "اللغة المرئية: التصوير" ت ـ بنيونس عميروش مجلة نوافذ/ عدد 7 فبراير 1999 ص 98.