أنا رأيته .. نعم أنا رأيته .. كان يتجول هنا ذلك الليل الناعم .. ذلك الليل النائم .. استيقظ فجأة على غير عادته .. نفض غبار النوم عن عينه, وطرد نعاس الخوف من جفنه.
ها هو الآن يتجول بيننا سالكاً تلك الدروب الوعرة بشغف, متوارياً خلف التلال العميقة, حاشراً نفسه بين مدن الشهوة ذات الطرقات الزرقاء؛ حيث الغيوم حبلى بالصمت, والوجوه المتربة ملأى بالتعابير المبهمة, والإيماءات الغامضة, وكأنها مصابة بسرطان الاستفهام على الدوام!
لحظة وينقلب الموقف رأساً على عقب, شبكة ضوضاء درية تلف المكان .. السواد يهبط إلى الأرض بقوة, ويهوي إلى الأسفل, وإلى القاع حيث الحضيض .. قمر غجري يتثاءب بشراهة، ونجوم متلألئة تفتش بشبق عن فراشٍ عارٍ تلقي بجسدها المثقل عليه .. بطيئة هي الروح وبطيئة هي الخطى أيضاً.
تمر خيول سوداء وأناس مظلمون .. مجهولون لا يعرفهم أحد, يظهرون ويختفون مثل أشباحٍ بشرية تخترق جدار العزلة, وتبعثر الفوضى في أرجاء المعمورة, وينتشر المجون خطوة خطوة, ويتكاثر الفجور لحظة لحظة, وتتوالد الغربة الخانقة في مدن الشهوة مرة أخرى حيث الحانات بأبوابها الواسعة المشرعة, وبنوافذها الصغيرة الضيقة التي تبدو كفتحات ثوبٍ مكشوف على مصراعيه يستنجد بالحشمة!
بنات الليل يملأن الدنيا بالسهر, والضحك .. متبخترات بدلعٍ أنثوي محبب ؛ ثمة غرف حقيرة بروائح نزقة مترعة بالزعيق الصاخب, وبالأضواء الخافتة جداً .. فالجو هنا خليط سرمدي من الأنوار المتصارعة, والأصوات المصحوبة بصرخات عارمة, وباهتة باستفزازها الذي لا يهدأ!
منظر بشع في الخارج لفتاة سمراء ملقاة على قارعة الطريق المتاخمة لحدود البار القديم .. ملابسها الرثة عالقة بجذع نخلة قاحلة كبيرة .. جسدها النحيل يفترش بساطاً عتيقاً صنع من بقايا حشائش يابسة ميتة .. خصلات شعرها الأسود الجعد اختلطت بديدان الأرض وبنباتات أخرى هشة لقيطة انتهى عمرها الافتراضي منذ وقتٍ سحيق ..الشحوب البارد يرتسم على محيا تلك الفتاة بصفاقة, والدموع المالحة تنهمر بغزارة على خديها مثل شلال حزنٍ دائم لا ينطفئ صقلته آهات السنين كوسمٍ نافر يدل على ذل الحياة وقسوتها و .. و ..
لحظة ويستيقظ الموت, ويفيق الرمق شاحذاً الروح الأخيرة فيها؛ لتلمح الليل القادم من بعيد .. أتراه يجدي الصراخ هنا؟!
تصيح بصوتٍ باكٍ, وتستنجد متوسلة بالمجير, وتستغيث بضعف ..
- أرجوك انقذني, فلا أريد أن أموت هنا وحدي غريبة في بلاد الكفر؟
- يطبق أنفاسه الأخيرة في هذا الجزء المهترئ من العالم, والصمت يخيم بأطنابه القاتلة في صحراء قلب الليل الناعم الذي جاء يتجول بيننا .. قوس قزح أسود يرتسم أمامه بجنائزية دامية .. يتجاهله, ويهرب مطلقاً العنان بوجل لقدميه المتعبتين سابقاً خطى الريح العاتية, يفر بشرود مستجمعاً قواه الخائرة, متذكراً حكاية قديمة, وصغيرة كان قد سمعها من جدته العجوز الفانية.
- الروح الشريرة لا تسكن سوى الفتيات الجميلات!
خاف أن تتلبسه روح شريرة أخرى هنا في هذه المدينة المجنونة, المسكونة .. يزداد الخوف أكثر وأكثر, وينثال الهروب, والشرود, والفرار .. وتستعير نداءات الاستغاثة المنبعثة بهجير مرة تلو الأخرى من جسد الفتاة الكليل .. يحس بها تلاحقه, تطارده شامتة بضعفه المخجل .. امرأة الوحشة التي تسكنها كانت فظة, سليطة اللسان, وبذيئة في كل شيء .. بكلماتها الساقطة, ومفرداتها النازفة مثل قنابل حارقة تلاشت معانيها المتفجرة بأديم الأرض المتهشم هنا وهناك.
- جبان يا حيف, شوارب ما وراها رجال؟!
كان دوي عباراتها قوياً على مسمعه, وقاسياً على نفسه أيضاً؛ وحيث أصابت آثارها مواضعها بمهارة, فوقعها لم يكن سهلاً بالطبع .. فانغرست سهامها الحادة في صدر الليل الناعم الذي جاء يتجول هنا .. توقف بريبة فجأة, ثم اعتدل في وقفته برهة .. تحسس شاربه الكث بيده اليمنى لوهلة, تفقد كبرياءه المهان لأول مرة؛ مخاطباً رجولته المطعونة في صمتٍ بهيم .. ثمة رجل بدوي قح يسكن بداخله, يرتدي ثوب إبليس صغير, يمسك بعصا غليظة مصنوعة من أشواك بالية, يحرث بها أضلعه الباكية دماءً حامية ليثور به ..
- أفا يا ذا العِلم؟!
لا .. لا لن يتركها ووحدها بعد الآن؛ لن تمر جُملها المهينة اللاسعة قبل دقائق معدودات مرور الكرام .. فرغم أنها امرأة ضعيقة تحتضر, وجوفاء لم تقدر حجم كلامها المقيت, وتأثيره السالب في شحذ همته المشروخة على مذبح الكرامة ومشانق رد الإعتبار .. في قرارة نفسه صدر حكم عاجل, وجائر بالانتقام, وبالتخلص منها .. يجب أن يلغيها من قواميس الحياة كنكرة .. ميتة هي لا محالة بنظره, وسوف يجعلها عبرة لغيرها من أولئك المتطفلين على ذكورته الكامنة في أحشاء شهامته الخالدة؛ سيسحقها كحشرة مزعجة ويقتلها كجيفة خاملة .. عاد إليها مسرعاً يجر ثياب الثأر العالقة كسيوف بتارة على حوائط وحشته المظلمة .. بحث عنها في العتمة, ووجدها تموت ببطء وتئن مودعة .. تلفظ أنفاسها الأخيرة بآلام راحلة .. يا لضعفها الموهن!
وحيث لم تعد تقوى على شيء .. لا على الاستغاثة مجدداً, ولا حتى على طلب النجدة مرة أخرى بوسيلة نافعة.
أخرج مسدسه العوزي - الإسرائيلي الصنع – والذي كان قد هربه بطريقة حيرت الكثيرين من رجال الجمارك الحاذقين في بلاده العابرة .. أطلق رصاصات عديدة قاتلة, أفظعها تلك التي أفرغها في رأسها مباشرة, وتركها جثة هامدة .. بدأت تنتفخ في مكانها وعلى خشبة مسرح الجريمة أخذت تفور منها روائح نتنة .. رائحة دم, ورائحة خمر, ورائحة امرأة خائنة و .. و ..
باكياً أخذ الليل الناعم يضحك, وضاحكاً بدأ الليل النائم يبكي, وما بين الضحك والبكاء كانت تمتمات هستيرية صادحة بخجل العنفوان ترسم تفاصيل المأساة بمخيلته البائسة التي استعارها من عقلية بعض البشر ممن يعيشون بيننا .. أمسك بسلاحه وشرع يرقص بفخر فوق جثتها اللافظة, انتقم أخيراً لرجولته المطعونة .. المينة .. انتقم بصمتٍ ثائر .. مخز .. وأخفى آثار جريمته الوقحة .. المروعة .. ولاذ بالفرار بعد أن تذوق نشوة الانتصار وهرب .. واختفى!
الليل الناعم اختفى .. الليل النائم اختفى.
وفي الصباح استيقظت المدينة الضاجة بالحياة على خبر صحفي صغير دفن بإحدى الصفحات الداخلية لواحدة من أشهر صحفها المحلية يؤكد خبر انتحار فتاة ليل أخرى!
أنا قرأته .. أنا رأيته .. الليل الناعم .. الليل النائم كان يتجول هنا..!