ترسيخا لتقليد شهري، بات له جمهوره من أطر الطبقة العاملة والمثقفين والباحثين، استقبل الفضاء الثقافي للكونفدرالية الديمقراطية للشغل بالدار البيضاء عشية يوم الجمعة خامس يناير2018، المفكر والجامعي كمال عبد اللطيف في محاضرة بعنوان: (سؤال التغيير في المغرب، التغيير الممكن، التغيير الصعب).
في البداية قدَّم الباحث في الفلسفة محمد الشيخ، المفكر كمال عبد اللطيف معرفا بمساره الفكري إلى جمهور الحاضرين. مشيرا إلى أن الناقد الأدبي المغربي نجيب العوفي كان قد سمى كمال عبد اللطيف "الكاتب العضوي"، وذلك لحرصه، وهو المشتغل على نصوص الفلسفة الشديدة التجريد والتعقيد، على أناقة العبارة وبيانيتها. كما أشار إلى أن المفكر المغربي عبد الله ساعف كان قد كنى عن كمال عبد اللطيف باسم "المثقف المعطاء"، وذلك في إلماعة منه إلى غزارة إنتاجه الفكري.
وأضاف محمد الشيخ، في كلمته التقديمية، إلى أن الأستاذ كمال عبد اللطيف ينتمي الى الجيل الثاني من المفكرين المغاربة، الذي أعقب جيل الرواد، محمد عزيز الحبابي وعبد الله العروي ومحمد عابد الجابري وعلي أومليل ... فهو من جيل سعيد بن سعيد ومحمد وقيدي ومحمد سبيلا وسالم يفوت وعبد السلام بنعبد العالي ... الجيل الذي تكون بكلية الآداب بالرباط منذ طلائع السبعينات. ثم ذكر أن للأستاذ كمال عبد اللطيف ألف فضيلة وفضيلة، مكتفيا بذكر فضيلتين : أولاهما انكبابه الدؤوب على الفكر العربي، وذلك في زمن أنتج فيه هذا الفكر أزيد من عشرين مذهبا فلسفيا بعضها معروف وأغلبه مجهول. وبعد استعراض مسار كمال عبد اللطيف الفكري وانشغاله بالمسألة العربية في جل كتبه، لاحظ محمد الشيخ أن في كل هذه العناوين ترد لفظة "عربي" و"عرب" و"العرب". وهي لا ترد غفلة، وإنما مقترنة بمفاهيم أساسية في فكر كمال عبد اللطيف: الحداثة - التحديث - العقل النقدي - العقلانية - التنوير – الإصلاح - التغيير. مما يشي بأن الرجل يريد الحداثة للعرب. وهي حداثة أشبه ما تكون بحداثة العروي؛ أي قائمة على ضرورة التمييز بين "أواني الحداثة" و"معانيها"، وعلى الحسم في الاختيار التحديثي، وعلى أهمية العامل الثقافي في الحداثة المنشودة.
وثاني هذه الفضائل ،انشغال كمال عبد اللطيف بأمر الفكر المغربي. ومواكبته للأحداث الكبرى التي حركت المثقفين المغاربة. ولهذا يمكن عده "مفكر الحدث" .
وختم محمد الشيخ تقديمه بالإشارة إلى أنه في مساره هذا ما كان الأستاذ كمال عبد اللطيف، في ما كتبه، "متفائلا" ولا "متشائما"، وإنما كان ـ بلغة إميل حبيبي ـ "متشائلا"، وبلغة غرامشي جامعا بين تشاؤم الفكر وتفاؤل الإرادة.
بعد ذلك تناول الكلمة الأستاذ كمال عبد اللطيف ملقيا محاضرته الفكرية التي جمعت بين المتعة والفائدة. وقد كانت بنية المحاضرة في انسيابيتها البديعة محكمة الصوغ؛ إذ قامت على مقدمتين اثنتين، وعلى ثلاث دعاوى.
فأما المقدمة الأولى، فقد تمثلت في اعتبار الأستاذ كمال عبد اللطيف أن سؤال التغيير ما كان سؤالا في المطلق والمجرد، وإنما كان سؤالا انساق في سياق، وأوحي بإيحاءات، كما أن له أبعادا. ومن بين هذه الأبعاد أن الدعوة إلى التغيير إنما هي دعوة إلى تحديث نظامنا السياسي، كما أنها دعوة في الوقت نفسه إلى تحديث أنماط الثقافة والفكر. ومن ثمة، كان التغيير أمرا ممكنا، على شرط الوعي بضرورته وإعداد العدة الثقافية الممهدة له.
وأما المقدمة الثانية، فقد دارت على التعالق الموجود بين الممكن في التغيير والصعب فيه؛ إذ ثمة جدلية قائمة بين "الممكن" و"الصعب". فلا يمكن الحديث عن "التغيير" حديث الاستسهال، لا ولا حديث الاستصعاب، وإنما يلزم الحديث عنه حديث الاختيار والحسم. إذ علينا ـ يقول الأستاذ كمال عبد اللطيف ـ أن نختار التغيير، بدل الجمود على المسطور والسكون تحت مجاري الأقدار، وأن نحسم في هذا الخيار الحسم، فلا نتردد التردد أو نلتفت إلى الوراء.
بناء على هاتين المقدمتين، دافع الأستاذ كمال عبد اللطيف على دعاوى ثلاث:
أولى الدعاوى؛ أن التغيير أمر لا بد منه. وقد أشار المحاضر إلى تاريخ الوعي بهذه الضرورة الملحة، وارتباطها بازدواجية النظام المغربي المتردد بين مظاهر التقليدانية والحداثية. وتأسيسا عليه، دعا إلى ضرورة القطع مع التقليدانية؛ أي الحسم مع الطرائق التقليدية في الفكر والعمل، وذلك كله دونما تردد أو تراجع.
وثاني الدعاوى؛ أن ثمة تساندا بين التغيير السياسي والتغيير الثقافي. إذ لا يمكن، مثلا، التوافق على دستور جديد دون إحداث إصلاح ثقافي في المجتمع، وإلا فازت قوى المحافظة. ومن هنا حديث كمال عبد اللطيف عن التغيير الصعب، بسبب من غياب قاعدته الثقافية. وبالجملة، لا تغيير في مجتمع يتعزز فيه التقليد يوما عن يوم، وتلعب فيه الوسائط الحديثة ـ ويا للمفارقة ! ـ دور معزز التقليد.
وثالث الدعاوى؛ أنه لا يمكن بأي حال فصل مطلب التغيير عن مطلب التنوير؛ إذ التغيير السياسي رهين بالتغيير الثقافي، وذلك سعيا إلى محاصرة التقليد الذي ما يفتأ ينتشر ويتعزز. ولم ينتقد الأستاذ كمال التقليدانية فقط، بل انتقد تشرذم اليسار، واعتبر أن لا تعارض بين أن يكون المرء يساريا وأن يكون تنويريا.
على هذه النغمة الداعية إلى الشجاعة في مواجهة قوى التقليد، والآملة في توحيد قوى اليسار المغربي، أنهى المحاضر كلمته، لكي تعقبها تعقيبات الجمهور التي انصبت على مسألة تشابه مطالب التغيير في العالم العربي برمته، وعلى مسألة راهنية دور الدولة في عملية التغيير باعتبارها قاطرة الإصلاح، كما انهمكت على دور المثقفين في التغيير وتراجع هذا الدور، وعلى المسألة الدينية في المغرب وما إذا كان الدين معرقلا للتغيير، ودارت على موقف اليسار بالدين وبالمسألة الدينية، وعلى التغيير وبنية الدولة، وعلى ضرورة استيعاب أدبيات التنوير، وعلى دور وسائط التواصل الجديدة في تعزيز التقليد، وعلى دور الفلسفة في إحداث التغيير المنشود.
وقد أجاب الأستاذ كمال عبد اللطيف على تعقيبات المتدخلين في جملتها، مثمنا كل ما ورد فيها، معززا للتعقيبات بأمثلة من مساره الفكري منذ أن كان مدرسا للفلسفة بالثانوي بالدار البيضاء.