يتوقف الروائي والباحث السوداني عند أحد أعلام القص ورواده في السودان، متأملا لغته الفريدة وقدرته على استخدامها لنقل واقع متوهج بالحياة، متدفق بالحركة. لأن مفردات اللغة وإيقاعاتها تستلهم نبض اللغة الشعبية برغم تشبعها بفيوض الفصحى وتمكنها من بنيتها. بصورة تكشف لنا عن مدى ثراء إنجاز هذا الرائد الكبير.

عالم علي المك القصصي

قراءة في الأسلوب الشعبي وكون اللغة

أحمد ضحية

علي المك (عاشق أم درمان): تفاعلات النص ونفوذ الشخصية:
الذين يطلعون على السيرة الاجتماعية، لعلي المك ثم يقرأون أعماله، غالبا يخطر على بالهم، أن النفوذ الأدبي الذي تمتع به الراحل، مستمد من (ظاهرة) حياته اليومية، التي ارتبطت بغمار الناس، وأصدقائه الذين لا أول لهم ولا آخر! فكل الناس كانوا اصدقاء علي المك، حتى لتكاد لا تجد من هو ليس صديقا له! بدء بالبسطاء والفقراء، مرورا بأبناء الطبقة الوسطى، ووصولا لعلية القوم، وكان وسط كل هؤلاء وأولئك: شعبيا، بسيطا، ومرحا وساخرا!

أم استمد المك نفوذه من حياته اليومية، التي تستمد وقودها، وتوقدها، وحيويتها، من تلك الشخصيات، في عالمه السردي، الذي يعج بالشعبيين وعوالمهم البسيطة؟ الذين تجد حضورهم العالي في النص، إن لم يكن شخوصهم، ففي الأسلوب الشعبي، الذي ارتدته لغة المك الرصينة! أو أن ثمة علاقة جدلية تفاعلية، بين نصوصه وحياته اليومية؟ بحيث لا يمكن الفصل بين روحه وروح النص الذي يكتب، والسرد الذي يحكي؟!

كتب عنه الناقد الفلسطيني الدكتور إحسان عباس، في تقديم مجموعته المشتركة مع صلاح أحمد براهيم (البرجوازية الصغيرة وقصص أخرى)، التي نشرتها مكتبة دار العروبة في مصر عام 1958 قائلا: "وأما علي، فإنه شديد الإيمان بمقدرته القصصية، دون أن يعلن ذلك تصريحاً، فهو يتناول أي موضوع، وغالباً ما يكون موضوعه صغيراً، جزءاً أو قطاعاً من ذكرياته، ذاتياً في منحاه أو تجربة صغيرة جداً، ربما لم تلفت الانتباه، ثم يلقي هنا خطاً، وهناك خطاً آخر، ويحرّك الريشة في يسر، ويبعثر أشياء، تحسبها أول ما تلقاك، عبثاً لا معنى له، ولكنك بعد أن تبلغ النهاية، تجدك أمام لوحة كاملة واضحة المعالم، دون أن تحس بأن علياً، أنفق جهداً في التصوير.

وتسأل نفسك بعد ذلك، هل (المطار) مثلاً، قصة؟ ثم تتنازل عن هذا التحديد، لأنك وجدت فيها كل ما تهيئه، القصة الجيدة. من متعة ونقد وإثارة، وانتظار وتطلع، وهذه موهبة فذة". وحول سرد علي المك، إن كانت تنطبق عليه معايير القصة القصيرة، ام لا، يؤكد عبد المنعم عجب الفيا في مقالته النقدية المنشورة ب سودانيز اون لاين: (الأسلوب في وهل أبصر أعمى المعرة)، النتيجة نفسها التي توصل إليها، إحسان عباس قبل عدة عقود، في تقديمه للبرجوازية الصغيرة، تساؤلي هنا: الا يعني الفاصل الزمني بين المجموعتين شيئا؟ وهل ما قيل عن البرجوازية الصغيرة، هو الشيء نفسه الذي يمكن أن يقال لدى قراءة: وهل أبصر أعمى المعرة؟! هذا الفاصل الزمني الذي امتد من الخمسينيات إلى الثمانينيات، يعني لنا الكثير، ونزعم أن تجربة علي المك خلال هذه العقود الثلاثة نضجت واتخذ سرده خصوصيته التي تميزه، وتطبعه بشخصيته وبصمته الواضحة! وهذا ما نزعمه في هذه القراءة، لدى تناولنا مغامرة اللغة والحس الشعبي في حمى الدريس!

يعلق الفيا قائلا: "يضم الكتاب بين دفتيه، تسع نصوص في شكل خواطر، وعلى الرغم من أن الكاتب لم يسمها، إلا أن بعضها أقرب إلى القصص منها إلى الخواطر، لا سيما قصة (الشرب في كوب خشبي) التي نشرها ضمن مجموعته القصصية (الصعود إلى أسفل المدينة) والتي أعتبرها أنجح قصة كتبها على المك على الإطلاق".

يشير إحسان عباس إلى (عنصر السخرية) في قصص المك، من الأوضاع المختلفة، والمواقف المصطنعة في نفسية الفرد، وفي خلفية المجتمع، ويتوقف عند الغاية، التي يعمل على تحقيقها بقوة القلم. وهو الشيء نفسه الذي يؤكد عليه عجب الفيا، بعد عقود طويلة، في مقاله المشار إليه أعلاه، قائلا: "السخرية التي تثير الضحك، لكنها التي ترغمك أن تبتسم، وتجعلك تفكر، وتعيد النظر في الحياة من حولك، وتراجع حساباتك في أشياء، كنت تعدها من البديهيات. بمعنى آخر أن السخرية، تتحول عند على المك إلى (سلاح نقدي) وإلى أداة الرفض والاحتجاج"

برزت اهتمامات علي المك بالكتابة، باصداره في المرحلة الوسطى لجدارية (قسمتي كدة)، فأشر ذلك على اهتمامه المبكر، بلغة الحياة اليومية! كتب المك المقال والنثر الشعري وحقق الشعر، واهتم بصورة خاصة بأدب الأفارقة الأمريكان وأساطير الهنود الحمر، فترجم عددا من النصوص في هذا السياق، وأغرم بشعر لوركا. كان علي المك شعلة من النشاط المتقد، التي لا تخبو، فتعددت أنشطته الثقافية والأدبية والاجتماعية، بحيث يصعب ملاحقتها وحصرها. وهو ما انتبه إليه الشاعر عالم عباس، في تعليقه على المقال المطول ل أحمد الأمين أحمد: (وحي الألفاظ البذيئة أو كأس مع علي المك)، نشر بسودانيزاونلاين: «هذا فن نادر، ان تجمع مقاطع مختلفة، من كتب شتى ومقالات، تصنع منها عالما متكاملا للشخص، وهي كلمات على المك لا محالة». في المقال نفسه يعلق أحمد الامين، على قصص علي المك: «كان عميق الرؤيا، رهيف الحس. دقيق التصوير كثير الحب والإحتفاء بشخوصه والمكان، ناسجا شبكة من النوستالجيا، على فضاء قصصه الزمني».

وفي مقال بصحيفة الميدان ١٢ يونيو ٢٠٠٧ كتب مصطفى الصاوي ومحمد المهدي البشرى: «يمسك بالنص، أياً كان نوعه الأدبي، ومنتجاً للون والطعم السودانى. وعلي تميز بروح الدعابة والسخرية، نراها فى كل ما كتب». ويحكي عنه رفيق صباه، وصديق عمره. الشاعر الراحل صلاح أحمد إبراهيم، في مقال له نشرته الحياة اللندنية: «كنا عائدين من دعوة عشاء متأخر، كان حظر التجول سارياً منذ ساعتين، وعلينا اجتياز حواجز عسكرية عدة. أمام اخر حاجز قبل المنزل في شارع العرضة، استوقفنا جندي يحمل رشاشه، مدّ إليه علي المك باذن المرور.

قال له الجندي معيداً التصريح، بعد أن تفحصه على شعاع مصباح يدوي: "إنني أقرأ لك يا أستاذ كل ما تكتب. وأنا من المعجبين بما تكتب. وتمنيت دائماً ان أتشرّف بلقياك. ويؤسفني حقاً أن يكون أول لقاء لي بك على هذا النحو"».

رغم احساسي بالغبطة -يقول صلاح أحمد ابراهيم- لهذا التقدير المستحق لصديقي، غير المتوقع قط، في هذه الساعة المبكرة من الصباح، من جندي بسيط يؤدّي واجبه لدى حاجز طوارئ ليلي، ورغم احساسي بالزهو، لدلالة الواقعة نفسها، التي يندر لها مثيل، في بلاد أخرى، قلت لنفسي من الافضل استباقه بالهجوم حتى لا (يستلمني) بها. قلت له: "يساورني شك، بأنك أنت الذي زرعت هذا الجندي، مستغلاً صلاتك بالمؤسسة العسكرية، أفليس غريباً أن رجُلَكَ، بل "غواصتك"، تجاهلني كلياً كأنني لم أخط حرفاً واحداً في حياتي جديراً بالقراءة؟" وبدل من أن انجح في استدراجه عبر هجومي وغيرتي المفتعلة، إلى مزيد من المباهاة أو إلى لعبة (مغايظة) كالتي دأبنا عليها، اكتست وجهه ملامح اهتمام، واستغرق في صمت نبيل، ولم يشر لتلك الحادثة بعدها قط".

يستمر صلاح قائلا: "لقد تأثر حينها تأثراً عميقاً، فليت شعري ماذا يقول الآن، وشعبه بأسره يحني هامته اجلالاً له، الآن وشعبه بأسره يخرج لوداعه ويشيعه بالنحيب؟ فهذا الحب والإعجاب، من أناس بسطاء، هو الذي أخرج كل ذلك الجمع الحاشد، يستقبل جثمانه القادم من أميركا، بالدموع الحرار، وكل ينتحب، وكأنه فقد فيه أثيره الخاص، وهل كان علي المك إلا أثير الجميع، أثير شعبه كله؟"

مغامرة اللغة والأسلوب:
الحديث عن القصة القصيرة لدى جيل علي المك، (منتصف الأربعينيات والخمسينيات)، لهو حديث محفوف بالمخاطرة، ولا يخلو من مغامرة ومعاناة الولوج، إلى عالم من الاحاسيس، وفيوضات المشاعر والتدفقات الحدسية، التي يعيشها القارئ وهو يقرأ (وهل ابصر أعمى المعرة) أو (حمى الدريس)، الخ. إذ يجد نفسه لا يقرأها بقدر ما هو يعيشها، فمن خلال نصوص علي المك، بصياغتها اللغوية ذات العالم الخاص، والنظام اللغوي الأكثر خصوصية، في ترابطات علاقاته الخاصة. بسبب أن اللغة عند المك تختلف، عن اللغة النمطية، التي تجعل هدفها الأساسي التوصيل والإبلاغ -القصة عند علي المك لها خصوصيتها- رغم انها تجري على النهج الموباساني -فبسبب هذه الخصوصية، لم انشغل عند قراءة علي المك، بالبحث عن صور مجازية تضيء (حمى الدريس- القصة) او حتى البحث عن مجموعة، من الرموز والدوال اشغل نفسي بتفكيكها، وإنما هي لحظات من التوتر، والترقب والحذر، تملكتني وانا احاول في جهد مضن، متابعة المك عبر تخوم عالمه، الثر. لأتوقف اخيرا عند كوّن اللغة والحس الشعبي.

تنبع أهمية علي المك من كونه أحد أبرز، الكتاب الذين ارسوا، وكرسوا لكتابة القصة القصيرة في السودان. وفقا للنهج "الأرسطي- الموباساني": (بداية- ذروة- نهاية). وساد هذا الأسلوب في كتابة القصة، منذ فترة الخمسينيات حتى الستينات، ويعتبر هو قاعدة انطلاق، الأساليب الأخرى في كتابة القصة -ما أفضى إلى كتابة القصة الحديثة في السودان، نتيجة لجدل التلاحم بين مختلف الأساليب، والذي مهدت له مجهودات علي المك، وغيره من أبناء جيل الأربعينيات والخمسينيات، بإرساء دعائم المنهج الموباساني -الذي شكل القاعدة، لانطلاق الأساليب الأخرى، في القصة الحديثة في السودان، ابتداء من ستينيات القرن الماضي.

ونتفق تماما مع الفيا في هذا السياق، وهو يشير إلى أن: "أسلوب على المك، في الكتابة يجمع بين جزالة اللغة ورصانتها، وبين التعبير الحي المعاصر. ومن أبرز الأساليب البلاغية عنده، (يقول الفيا) بلاغة التقديم والتأخير مثل تقديم الخبر على المبتدأ وتأخير الفعل وتقديم الفاعل والمفعول به … ويكثر من الاستدراك واستخدام الجمل الاعتراضية، والمونولوج الداخلي أما من حيث الصياغة الفنية، فقد برع على المك بصفة خاصة، في توظيف تكنيك المونولوج الداخلي، أو تيار الوعي أو الشعور، كما يقول علماء النفس. وقد ساهم بذلك مساهمة مقدرة، في تطوير أسلوب القصة السودانية القصيـرة، التـي كانت في الماضي تقوم على السرد والوصف الخارجي للشخصيات، بواسطـة الراوي العالم بكل شئ".

ولذلك يعتبر بروفيسور علي المك، أحد رواد القصة القصيرة في السودان، بشكلها الأرسطي الموباساني. وتجدر الاشارة هنا، الى ان القصة عند علي المك، اعتمدت بشكل أساسي، على الفضاء المفتوح (قصة كرسي القماش- مثلا) وهذه القصة (حمى الدريس، نشرت بسودان جورنال، ضمن مجموعة حمى الدريس، التي صدرت في ١٩٨٨) التي يلعب فيها "هذيان الحمى" كفضاء ميتافيزيقي شاسع، تيمة أساسية لهذا النص، الذي تتفاعل فيه هذيانات اللغة والفكرة. فبطل هذه القصة، لا يكتفي بتحديد الشارع، كفضاء مفتوح للهذيان الواعي أو اللاواعي، بل يتعداه إلى مناقشة قضايا جمالية معنوية، تجسد علاقته بالنيل الأزرق، الذي تمت الهيمنة عليه من قبل الأبيض، وينطلق من هذه العلاقة، الدلالية للون: أزرق، لممارسة هذيانات، هي في واقع الأمر ليست هذيان محموم، بقدر ما هي محاولة لتكييف انسان، مع عالم كل شيء فيه قاهر! حتى الطبيعة! حمى الدريس نموذج للقصة، التي يهيمن فيها صوت الراوي المتكلم، كما هو الحال في قصص الأسلوب الموبساني عموما، وقصص علي المك خصوصا.

ان الدخول الى النص وعلاقاته في سياق معين، إنما يتحدد بمحاور عديدة، تبدأ بالخطاب -ويعرف بنفينيست الخطاب بأنه: «اى منطوق أو فعل كلامي، يفترض وجود راو ومستمع، وفي نية الراوي التأثير على المستمع بطريقة ما، والخطاب عند فوكو: هو مجموعة من المنطوقات، التي تنتهي إلى تشكل واحد، يتكرر على نحو دال في التاريخ، بل على نحو يغدو معه الخطاب جزء من التاريخ، هو بمثابة وحدة انقطاع في التاريخ»(١) وعلاقته باللغة، ومدى تفاعل النص مع السياق الناشيء فيه!

مغامرة اللغة والحس الشعبي في حمى الدريس:
تتسم كتابة علي المك بالحميمية والدفء، والحس الشعبي في أسلوبها رغم رصانتها. "وتلك هي وفاء. تقول لها: -من الذي اخترع اللبن الزبادي؟.. أهل منغوليا .. قالوا. بل قرأت مرة .. كذبا كاذب." فعلي المك يعيد صياغة الحوارات، التي تدور بين الأطفال والناس الشعبيين. الأهالي البسطاء، بكل ما تنطوي عليه من عفوية وتلقائية، ويعمل على توظيفها، في لغة النص، بكل ما تتركه من أثر على هذه اللغة .. لإغناء تجربة الإنسان مع اللغة، بما هي كون تنتظم فيه الحياة الإنسانية، حيث تتكشف في النص عن علاقة الإنسان، بتأثيرات الحياة والتجربة الاجتماعية، التي يمثلها المك هنا بعلاقة الورق بالكتابة عليه، فمهما ارتدى الإنسان من مظهر خارجي، تسترده الطبيعة إليها، ففي خاتمة المطاف يبقى الجوهر الإنساني! مهما اسودت الأوراق باللغات المختلفة، تبقى أوراق (كشخص ما، يوماً يلبس جلابية وتارة قفطاناً، وطوراً بنطلوناً وقميصاً، والروح هي ذاتها، هي اياها، هي.. هي).

الحس الشعبي ينعكس لدى علي المك، على مستوى لغة القصة، فلا تخلو منه الكثير من مفرداتها -وبذات الوقت العالم موضع اهتمام الراوي- العالم الشعبي في أقصى تفاصيله وحكاياه، يتماهيان معا حتى يشكلان شيئا واحدا، هو كوّن هذه اللغة المزيج: «ذاك الصديق كان قد عشق امرأة يغشاها (دم التاجر) كثيراً في الصيف، تحك جسدها، يكاد يدمي .. قال ان مرضها ينبئ .. يتلمظ .. يقول ما يعني أن ذاك الهياج، انما هو اعلان عن رغبتها فيه، قلتم له: مسكين.. مريض انت لا، هي». »وما شانك بالقماير.» .. «قبلها قلت إن ذلك كله من بعض ما يسمى أمراض الحساسية، منها حمى الدريس (هي فيفر) .. «ثم تصير أوان يزهر النيم الي احمرار في العينين يفيض، وفيض من العطس. انت تعلم اصرارها .. ذكر ان الدكتور سعيد .. طبه ناجح .. يده لاحقة، باختصار رجل مبروك، ومختص في مثل ما كنت منه تشكو وتتعذب، ولتضف لهذا ذاك، الصوت الصفيري يجعل الصدر جحيماً، قيل الربو ذاك، وجمعوا هذا كله فأسموها الحساسية».

وهكذا نلاحظ الأسلوب الشعبي، الذي ينطوي على السخرية. في محاولة الراوي شرح معنى حساسية! فعلي المك تميز بقدرة مدهشة، على الانسياب والبساطة، في الحكي-طبيعة اللغة الانتقالية، التي يستخدمها: سنأتي اليها لاحقا -والتنقل في القصة الواحدة بين مواضيع مختلفة، دون أن تدرك اللحظة التي تم فيها هذا الانتقال، ففي هذه القصة (حمى الدريس) التي يستهلها بعشقه للنيل الأزرق، و تحسره على إطفاء المقرن للونه، يمضي مع (وفاء) في اللحظة ذاتها، للحديث ببراءة تتلاءم وهذا الشعور بالانتماء، إلى النيل الازرق. ثم لا يلبث أن يقدم إشارات، عن هذا المجتمع، الذي يحيا فيه ووفاء، والطامعين في وصالها من الأصدقاء واهتماماتهم، الخ .. وهكذا ينساب في بساطة وسرعة، لا نستشعر معها، انه يتحدث الآن عن موضوع آخر، ليس هو ذاك الموضوع، الذي كان يتكلم فيه منذ قليل، وكل ذلك يتم بحس شعبي عالي -رغم رصانة اللغة الفصحى- التي يجري عليها الأسلوب الدارج السوداني، والتي عندما يوظفها في هذا التركيب الشعبي للغة، تتحول إلى لغة مدهشة، تتماس مع الفصحى القحة، التي كتبت بها أمهات الكتب، فقد جرت على نهج قواعدها! ولكنها أكثر تأثيرا ونفوذا في الشعب!

تمتلك لغة علي المك، خصائص مرونة مدهشة، تجعل قدرتها على الانتقال، في التعبير عن مواضيع مختلفة، انتقال غير محسوس، فتخال نفسك عند بعض المقاطع، تري تلك اللغة، تبعث في طبعة جديدة عند علي المك «إذا كانت اللغة أداة التوصيل والتواصل الإنساني، في المستوى الاول من وظائفها، إلا أنها كنواة للنظام الدلالي، ولما تتمتع به من قدرة سيميوطيقية خلاقة ومتجددة، بتجدد استخداماتها، فهي تعتبر وسيلة الأدب، الذي يعد مستوى أرقى من التعبير ومن استخدام اللغة، على مستوى الشكل والمضمون، لذلك ارتباط اللغة والخطاب الأدبي وثيق، وبالاضافة لخصوصية هذا الارتباط، فالخطاب هو الذي يحدد لغته الخاصة، التي تفرز شكلها الملائم. وتتحرك فيه وفقا لقوانين هذا الخطاب، التي تحقق لكل منهما تميزه، عن الخطابات واللغات الأخرى، وتحقق لكل لغة جمالياتها الخاصة».(٢)

يمضي راوي حمى الدريس في القول: «وقال قدم إلى لورنس كانساس، يزور اخته اولاً، ويعالج لغته الانكليزية من بعد، ويتحرى أصول البلوز .. لاحظت انك اندهشت .. قالت: نطقي في الانكليزية لا بأس به، أليس كذلك؟ لا تظن انني مثل بعض مذيعي راديو امدرمان، لا يعرفون الفرق بين أمريكا وأم ريكا! ضحكتما. انقضى أوان حمى الدريس، وشهور حمى الدريس انقضين وسفر الصيف".. "صدر كتاب الحكايات– كل العصور– المصادفة قاعدة.. اما الاستثناء؟ يقولون انه بينما كان يعبر الطريق بصر بها .. نظر اليها، اليه نظرت، حين نظرت إلى عيني وفاء اول مرة، كانت حمي الدريس كما تعرفها أنت عن نفسك ، تفور في وجهها، ما وصف احدعيوناً تغشاها حمرة، هي حمرة، الدماء. كان كتاب الحكايات، يتحدثون عن المصادفة كما اعتاد الشعراء نبش العصافير في قبورها .. كل عصفور وصفوا، عصفور ميت.. هل رأيت الاحمرار في عينيها، اذاك شي جميل؟ فيوصف؟ اصمت صه!.. تذكر صديقاً إذن، دعني اقص عليك هذه .. نعم.»

ولنلاحظ في المجتزأ أعلاه كيف استخدمت اللغة "وقال قدم إلى لورنس..." كأنك تقرأ في مفتتح من كتب السير والأخبار العتيقة .. لكنك ما إن تمضي قليلا حتى تفاجأ، بأنك خارج من رحم احد المعاجم، الى لغة العصر، التي اختلطت بلغة هذه المعاجم: "يتحرى أصول البلوز .." وهكذا مرورا بالتناص مع لغة القرآن وتراكيبها "عيونا تغشاها حمرة.". ويمضي راو على المك في حمى الدريس لفتحنا على مزيد من أغوار هذا الكون: اللغة «فاللغة، تعود إلى أمر المصادفة عند كتاب الحكايات، صدق أولئك، كذبت انت عيادة طبيب، ايام كانت أدواء الحساسية تأخذك كل جانب، العام جله، تارة كله .. حكة تبدأ علي الأذن اليسرى، تقول تعالجها بظفر، إذ يبلغ مقامها ناب تستكين وتغفو، تظن أنك قضيت علي ثورتها، احتويت حدتها، هذه لغة السياسة كما تعلم. يقولون الاحتواء .. واء.. واء.. انصرعن هذا العبث الساذج .. قل كلامك .. "حاضر طيب" .. قلنا تهبط الثورة من الأذن اليسرى إلى الساق اليمنى .. طريق معقد كما تراه، ولها معبد أزهى تسلكه غير هيابة سبيلها مجري الدم، في لمحة أو بعض لمحة، تنحدر يدك تتبعها بظفر، وقد تبلغ مكانها بناب، أو أنت أعسر تكون اليد اليسرى، أو أيمن فباليمنى .. بديهي ايها الثرثار..

تقول حين تبلغ ساقك اليمنى بظفر من اصبع في اليد اليسرى، أم هي اليمنى؟ انت معقد.. لا ريب لانك أعسر، تسمع كثيراً من يذكر الشيطان في اليد اليسرى، الأعسر يخالطه الشيطان. صه! يصعد الدم الفوار الي الكتفين، وإلي الظفر نفسه الذي به نستعين. هذا يدعو ان تعض مكانه باسنانك كلها.»

وفي هذا المجتزأ نلاحظ بوضوح تخلل الحس الشعبي، لكل ثنايا اللغة: "حكة تبدأ على الأذن تقول، تعالجها بظفر".."الأعسر يخالطه الشيطان". وفي المجتزأ التالي يوظف المك، الذاكرة الشعبية المشتركة، بتوظيفه لاشارات تنتمي إليها، مثل حكاية دخول النيم السودان، وأسطرتها، وإحالتها في الاحيائية الأفريقية: "شجرة النيم التي في البيت، غرست يوم مولدك، أن اجتثت تموت انت، وان جفت عروقها قضيت ايضاً. ولله العجب! فلها أنوثة طاغية تزهر قبل الاوان وتؤذيك .. وما الصوت الصفيري؟ وما حكاية الناس في القماير؟ والنزلات المعوية؟ .. حسنا سافر إلى بلاد ليس بها نيم، كثيرة بلاد الله، التي لم يدخل إليها اللورد كتشنر شجرته الاثيرة.

ذكروا هذا وصدقنا، في عيادة الدكتور سعيد تليفزيون ملون، ومصلي .. والناس المرضي مؤمن وغير مؤمن جلس إلى جانبها في العيادة -مصادفة اتفاقاً كان صوته الصفيري يسمع، وسعاله متصل، يلتفت اليك المرضى. من الناس من يعرف بصوت سعاله، سيقولون هو ذاك هو ذاك .. وليس لديك نظارة تخفي وراءها العينين الحمراوين .. كل أولئك قد لحظوا أمر عينيك، تكون كارثة لو تبع هذا أولئك، ما اولئك سوي حك الأذن اليسرى، فالساق اليمنى وبعد ذلك الأنف والسرة، وهلم جرا.

أول مانزلت أرض مصر، رآك احد معارفك من الطلاب السودانيين، تحك كل مكان! تارة تحك فيما يشبه العنف اللذيذ، كالمحموم يلذ له الجلوس أو الوقوف تحت الشمس، والشمس تصليه .. كنت انت .. قال صديقك الطالب في مصر "تغير الهواء"، كان المفروض ان تأكل بصلة، ساعة وصولك اليها! مسكين .. طالب وبائس، ما عرف من خيرات ام الدنيا شئياً سوي بصلها..) .. فنجده يستخدم احدى اشارات هذه الذاكرة المشتركة، للتعبير عن موقف نفسي راهن، لا يخلو من الإسقاط التاريخي والديني (اهبطوا مصر وكلوا ..).

وعلى سبيل المثال، نلاحظ رصانة اللغة في: عيونا تغشاها حمرة- أن جفت عروقها قضيت ايضا، الخ.. ومثال للغة الفصحى، التي أجراها مجرى الدارجة السودانية: وما حكاية الناس في القماير، والنزلات المعوية- انك اندهشت- المصادفة قاعدة- الفرق بين أمريكا وأم ريكا، كاحالة لما هو شائع (ما بيعرف كوعو من بوعو)، الخ. ومثال ثالث للتركيب المألوف في القص: حين نظرت إلى عيني وفاء اول مرة؛ كانت حمى الدريس كما تعرفها انت .. وهكذا نجد أن علي المك في دمج، الأسلوبين الذين أشرنا إليهما: رصانة اللغة- الفصحى التي تجرى مجرى الدارجة (السودانية) في تركيب اللغة، مع الأسلوب (القصصي المألوف) الذي يحاول انتقاء الكلمات الادبية، في التعبير السردي. خلق اسلوبه القصصي المميز في مغامرة اللغة.

فمن هذا الهجين كانت (حمى الدريس) النص القصصي، ترتبط بحمى لغة النص وشكله. بحيث شكل علي المك، من كل ذلك توحدا مع موضوعه: (هذيان الحمى)، التي سعى لتحديدها وتأكيدها، على مستوى اللغة والفكرة -التي حملتها هذه اللغة- ما خلف أثرا كبيرا فينا. ليس هو موضوع هذه القراءة. واخيرا نجد أن المك يتميز بقدرة على التوليدات في اللغة، بسبب قدرته العالية على الاختيار الواعي الحر للغته، وقدرته الفائقة على بناء علاقات خاصة من عناصر اللغة العادية، كاشفا عن الطاقات التعبيرية الكامنة فيها: من حيث اللفظ وتركيب الجملة وبناء الفقرة -وفقا لما اشرنا إليه- وهو ما عناه تشوفسكي بقوله: «إن اللغة خلاقة تتكون من عناصر محدودة وتنتج أو تولد أنماطا لا نهاية لها». ولغة المك بحاجة لدراسة متأنية، فهي لغة متوترة مشحونة مقطعة، متداخلة ومركبة تركيبا خاصا.

يظل بروفيسور علي المك أحد العلامات المضيئة، في تاريخ القصة القصيرة في السودان -التي من الصعب تجاوزها دون الوقوف عندها طويلا- ومرحلة من عمر هذا الجنس القلق المتوتر المسمى بالقصة القصيرة، ومن الرواد الذين وضعوا ركائزه!

 

مارس ٢٠١٧ فيلادلفيا/ قاص وروائي سوداني مقيم بالولايات المتحدة

 

هوامش

١. سحر سامي، أكثر من سماء، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، ص٤٠

٢. السابق.

* صدرت أعمال بروفيسور علي المك، تحت عنوان: أعمال علي المك: (وما أعظمه من شرف وأجله)، مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، أم درمان، ط أولى ٢٠٠٧- أي بعد مرور عامين على كتابة هذه القراءة للمرة الأولى.

نشرت هذه القراءة منذ العام ٢٠٠٥ في أكثر من صحيفة ورقية واليكترونية. لدى مراجعتي لها الان، ركزت على المحافظة عليها كليا دون حذف، لكن أجريت بعض الاضافات، التي رأيت انها ضرورية، وبها تكتمل القراءة، في النص موضوعها.