يموضع الناقد الجامعي هذه المجموعة القصصية الفلسطينية في سياقات كتابتها ونشرها قبل أن يكشف عن كيفية تقديم كاتبها لرؤيته الشخصية لحرب عاشها وتعايش معها، بأبعاد إنسانية على مستوى الرؤيا، وبفنية حداثية على مستوى الإنجاز الفني، ويهتم في قراءته بقدرة كاتبها على استخدام التهكم والسخرية لتعرية الموقف والشخصيات.

جماليات الكتابة الساخرة

قراءة في مجموعة «ديك بيروت يؤذن في الظهيرة» لفاروق وادي

محمد عبد القادر

 

1. تساؤلات

ثلاثة اسئلة تداعت في خاطري حين انتهيت من قراءة كتاب الحرب لفاروق وادي والذي حمل عنوان "ديك بيروت يؤذن في الظهيرة". وأول هذه الأسئلة : ما الذي دفع بالكاتب لإصدار هذا الكتاب بعد ما يربو على أربعين عاماً بعد الاجتياح الصهيوني للبنان؟ سؤال آخر بدأ منطقياً إلى حد ما: هل كتب فاروق هذه القصص في فترات قريبة من تلك المرحلة، اي في حينها، أم انه استعار تفاصيلها من ذاكرته العامرة بأحداث تلك الحقبة؟ أما السؤال الثالث فهو: لماذا يصدر الكاتب "كتاب الحرب" هذا في هذه المرحلة على وجه التحديد؟

قد تبدو عملية إجراء مراجعة نقدية لمجموعة قصصية بطرح مجموعة من الاسئلة أو التساولات، وكأنها خروج عن سياق القراءة الموضوعية، لكنني أعتقد أن هناك عناصر وثيقة تربط الزمان بالمكان بالانسان بالتجربة والتأمل وطرائق التعبير الفني. كما أن كاتب هذه السطور لا تتوافر لديه إجابات مسبقة عن هذه التساؤلات، ولعل تقديم إجابات تنطوي على اجتهادات شخصية من شأنه أن يسهم في إضاءة شيء من جوانب الصورة.

فيما يتصل بالدافع الذي حدا بفاروق وادي أن يصدر هذه المجموعة بعد عقود طويلة من وقوع الحدث، في ظني ان الكاتب في تلك الفترة كان واحداً من المثقفين العرب والفلسطينيين الذين خبروا التجربة عن قرب، وعاشوا أحداثها وتطوراتها، وتحسسوا نذرها واندلاعها وتداعياتها، وبهذا المعنى فإن فاروق يبقى شاهدا على التجربة من داخلها.

أما فيما يتعلق بزمن الكتابة، متزامنة أم لاحقه، فأغلب الظن أنها قديمة ولدت إبان زمن الحرب، وما يؤيد هذا الزعم ذلك الشعور الذي تملكني وأنا أقرأ تلك المشاهد، إذ أحسست بحيوية النصوص وطزاجة المشاهد، وحرارة اللغة، ودقة الوصف، فيما بدا وكأنه يقبض على عنق اللحظة كي لا ينفلت المشهد. ويبدو أن وادي قد كتب تلك القصص منذ عقود الى أن وجد الوقت المناسب لتأملها ومراجعتها وتنقيحها وإعدادها للنشر بدافع من مسؤولية المثقف، وضغط الضمير، والقيمة الابداعية. ويبدو لي أن اختيار الكاتب لإصدار هذه المجموعة في هذه المرحلة "العربية" بالذات إنما جاء متساوقاً مع المزاج الجماهيري العربي الذي يرى بأم العين الأضرار الهائلة التي تعصف بعدد من الأقطار العربية جراء حروب عدمية وصراعات ذات مرجعيات مذهبية وطائفية وعرقية وغيرها. وكأن النظام العربي، بعد أربعين عاماً من الحرب اللبنانية، لم يتعلم دروس التجربة ولم يتقن إدارة الصراعات. وكأن الكاتب يقول: ما أشبه الليلة بالبارحة، بل ما أقسى الليلة مقارنة بالبارحة في ساحة عربية مأزومة على جميع الصعد.

2. النوع الأدبي
لم يقرر فاروق وادي النوع الأدبي الذي ينتمي إليه "ديك بيروت.." فوصفه على الغلاف ب"كتاب الحرب"، متحاشياً وصفه بالمجموعة القصصية أو الرواية أو أي نوع آخر. لقد قرأت الكتاب باعتباره مجموعة قصصية، وهو فعلا كذلك كما أعتقد، بيد أن الأحداث المتسلسلة والأجواء المترابطة، والمشاهد المتضافرة، والموضوعة الأساس المتمثلة بالحرب وانعكاساتها وتداعياتها على الإنسان توحي بشكل من أشكال "المشهدية الروائية" وإن لم يكن النص عملا روائيا بالمعنى الفني للمصطلح.

ينطوي الكتاب على ثلاثة وعشرين قصة يمكن أن نلمح فيها تطوراً زمنياً لأحداث الحرب اللبنانية: إرهاصاتها وتوقعاتها، واندلاعها، وتداعياتها على الانسان بشكل أساسي، سواء أكان المتأثر مواطناً أم وافداً أم زائراً، رجلاً أو امرأة، فرادى أو جماعات.

وتتميز الكتابة بأسلوب رشيق، ولغة مكثفة تصف من دون استطراد، وتوحي بظلال ودلالات عميقة، بل إن ذلك يتبدى في عنوان الكتاب " ديك بيروت يؤذن في الظهيرة" ذلك أن الديكة، في العادة، تؤذن عند الفجر لإحساسها بأن النهار أوشك أن ينبلج، لكن سماء بيروت في زمن الحرب فضاء ملبّد بغيوم سوداء كثيفة تحجب أنوار الفجر الخافتة، بل تحجب ضوء الشمس كله، فلا يشهد الديك فجراً ولا صباحاً، حتى إذا ما خفّت كثافة الغيوم هذه بدا شيء من النور يبزغ فيظنه الديك فجره. إنه الظلام والظلمة والسواد التي تضلل الكائنات بعد أن ضللت وعي الناس وأوسعتهم قتلاً. ومثلما يفقد البشر توازنهم في زمن الحرب تفقد الكائنات طبيعتها وسلوكها وتغدو ضحية لجنون البشر. ومثلما يفقد البشر توازنهم في زمن الحرب تفقد الكائنات طبيعتها وسلوكها وتغدو ضحية لجنون البشر.

3. فن المعالجة الساخرة
كان يمكن لفاروق وادي أن يرصد في مشاهده القصصية/ الروائية عمق الجانب التراجيدي في الحرب اللبنانية بصورة مباشرة، لكن كتابة بهذا الاتجاه ما كانت لتضيف الى التجربة غير مزيد من الألم والدموع، مع مستوى أقل فعالية للمنجز الفني الإبداعي. لكن الكاتب عمد الى التناول الساخر للمشاهد التي اختارها لتعبرِّ عن تفاعله مع الحرب اللبنانية، دون ان تغيب التراجيديا، أو الكوميديا السوداء، عن أجواء المشهد لكن، بصورة عامة، مع حضور ذكي للسخرية بأنماط متعددة. في ديك بيروت يتعذر فصل السخرية عن التراجيديا، اللتين غالبا ما تُعدّان وجهين "لعملة واحدة". في المأساة نتألم ونبكي لكن في المعالجة الساخرة نضحك على أنفسنا ونسخر من أحوالنا ونتندّر على عبثنا وغياب عقولنا.

ولا شك في أن فاروق كان يسخر من هذه الحرب ومن ومفجريها ومغذيها، لأن المسألة ببساطة بالغة : زعماء الحرب لا يموتون وغالباً لا يخسرون، بل ربما أصبحو أكثر ثراء و نفوذاً، وما من ضحايا غير الأبرياء. وما من شك في أن وادي، وفق استخلاصاتنا من "كتاب الحرب"، يتمتع بروح الكتابة الأدبية الساخرة، التي تحيل "المأساوي" إلى مشهدية ساخرة، لأن المشهدية في نهاية الأمر غوص في عمق المشهد، وكشف للآليات الكامنة خلف الصورة السطحية.

"نجمة صغيرة متلألئة" تحكي قصة رجل وحيد في منزله لا يؤنس وحدته ولا يبدد خوفه من الموت غير زجاجة من الخمر، حتى أنه صار يطرب لأصوات القذائف إلى أن قرر المشاركة في الحرب على طريقته بأن طوّح بالزجاجة من مكانه المرتفع. ينام، ثم يفيق باحثا عن جرعة ماء، فاذا به يلمح في صالة بيته "نجمة" صغيرة مشعة، لم تكن سوى نار سيجارة لبلطجي يحتل البيت بالسلاح. والحوار الذي يجري بينهما حوار ساخر بامتياز يستحق شيئاً من الاقتباس.

يبدأ البلطجي بسؤال صاحب البيت:

  • من أنت ؟ وإلى أين أنت ذاهب؟ ولماذا تتجول في هذا الليل؟
  • اسمي محجوب، وأنا متوجه من غرفة النوم إلى المطبخ لتناول جرعة ماء.
  • ألا تعرف ان التجوال ممنوع ؟
  • لم أكن أعرف من قبل، لم أكن أعرف أن التجوال ممنوع هنا .. والآن.
  • هويتك يا محجوب
  • لقد نسيتها، نسيتها هناك يا سيدي في غرفة النوم.
  • وهل يخرج عاقل في هذه المدينة من غرفة نومه، وفي مثل هذا الوقت من الليل "دون أن يحمل هويته"؟

في هذا الجزء المقتبس من الحوار بين البلطجي وصاحب البيت الذي أصبح يعاني من وجود حاجز أمني في صالة منزله تتراجع المأساة وتتقدم السخرية لتدفعنا إلى ضحك حقيقي، لكنه ضحك مرير. لقد مضى الكاتب في سخريته الى مداه الأبعد، ووضعنا أمام مشهد سريالي مثير للضحك، لكن تكمن تحته مأساة لا يعيشها المرء إلا في زمن الحرب وسقوط الدول. في هذه القصة يحار القارئ ما اذا كان إطارها واقعياً ومحتواها سيريالياً، أم على العكس من ذلك، ومفاد ذلك أن الواقع والخيال، والمنطق والجنون، كل منهما متجاوران بحيث يتعذر التمييز كل منهما.

ويستدعي فاروق جوانب من ممارسات لشخصيات يفترض أنها "يسارية" ويأتي بها الى طاحونة سخريته، فنلتقي بشخصيات مترددة، خائفة، تقليدية فيما تنتمي الى قوى سياسية "تقدمية" شعارها "تغيير العالم" كما في قصة "سحابة حرب" حيث يعيش الشاب والفتاة قصة حب لم ينجزاها إلا بعد أن بلغ هو السبعين، فيما كانت هي قد دخلت في الستين. يساري آخر "الرفيق" لا يرى الحرب التي توشك أن تأتي على الأخضر واليابس، لكنه يرى منجزات اليسار العالمي في الخارج. يسأله الرفاق عما يجري في خارج (العمارة) فيرد " الأخبار ممتازة ممتازة الأخبار عظيمة ... الرفاق في البرتغال يحققون انتصارات ساحقة في الانتخابات هناك... الرفيق غونزاليش لبث يكتسح الساحة ... والانتهازي سواريش يخسر مواقعه."

وإذا كان فاروق في قصة "نجمة.." قد قدم معالجة سيريالية للمشهد القصصي إلّا أنه في هاتين القصتين اختار سخرية مباشرة من ممارسات واقعية، وترك للقارئ مجالاً للتأمل والمراجعة. في قصة أخرى بعنوان "كم كانوا ظرفاء" يوظف الكاتب السخرية من أول القصة إلى آخرها، ونحن لا نعرف من هم بالضبط في مطلع المشهد، هل هم رجال امن رسميون أم غير ذلك لكنهم "كانوا ظرفاء"

في هذه القصة استخدم فاروق لغة المديح الايجابية التي من فرط مبالغتها في المديح تنقلب الى سخرية واضحة:

"كانوا ظرفاء .. لم يجيئوا أول الفجر، لكنهم تأخروا قليلاً، فلفرط ... تهذيبهم ونبل مشاعرهم ورقة أحاسييسهم شاءوا أن يمنحوني فرصة الاستمتاع بسحابة آخرى من النوم والدفء، وورد الاحلام .. رأيت وجوها تطفح وسامة. كانوا كلهم باسمين فألقوا السكينة في قلبي المسكين .. قلبوا الكتب بانحناءة خفيفة لنتاج العقل والوجدان .. أتذكرهم الآن وهم لم يغيبوا عن بالي أبداً عندما كنت أقبع في زنزانتي الضيقة المعتمة الباردة التي اقتادوني إليها في ذلك الصباح البعيد".

هذه السخرية التي استخدمت "النقيض" لوصف الواقع تدفعنا إلى الضحك منذ البداية. من أين للتهذيب والوسامة أن يهبطا على وجوه رجال الأمن؟ وسرعان ما تدرك أنهم قلبوا البيت رأساً على عقب من دون أن يقول الكاتب شيئاً من ذلك أو يفصح عن حقيقة السلوك. هؤلاء الذين، في نفس الوقت، اعتبروه شيوعيا لوجود تمثال صغير ل "لينين" في البيت، وإسلامياً لوجود نسخة من القرآن.

على ان السخرية المظللة بالمأساة والكوميديا السوداء تبدو أكثر ما تبدو في قصة "مكعبات ثلج من أجل ڤيوليت" ، بل إن القصة كلها بمشاهدها الرئيسية تبلغ حد الفنتازيا. يرن جرس الهاتف في بيت أسرة صديقة لـ "ڤيوليت" فإذا بالاخيرة تلوذ بالصديق فزعة "ثلج ثلج اريد ثلجاً جسدي نار موقدة ... أكاد أموت ... اسعفوني بمزيد من الثلج" وما ان يدخل الزوجان منزل "ڤيوليت" حتى يريا المكان وقد غدا أشبه بحفلة عامرة من الأصدقاء المحليين والاجانب، يثرثرون بلغات مختلفة ويحتسون المشروبات. تشير "ڤيوليت" على الزوجة بوضع الثلج في الثلاجة، وما أن فتحتها تدفقت عليها اكياس الثلج من كل جانب، وتساقطت على ظهر الثلاجة الذي تراكمت فوقه الأكياس. وهناك نرى أن "الاصحاب يواصلون صب السائل السحري من الزجاجة نفسها دون ان تنتهي أو يتناقص محتواها".

عاد الزوجان الى البيت ليعلما عبر اتصال هاتفي من مركز أمن أن السيدة "ڤيوليت" قد ماتت من البرد الناجم عن كثرة الثلج.

قد يطول ايجاز القصة نظراً لتعقد مشاهدها، لكن القارئ ما يلبث أن يشعر ان "ڤيوليت" كانت تعاني من وحدة قاسية حرمتها من حياتها الطبيعية السابقة، فاستدعت كل أصدقائها وصديقاتها بحيلة درامية لكسر هذه الوحدة التي ربما أصابتها بنوع من الاكتئاب. لكن الأهم من ذلك كله تلك المعالجة الفنتازية الأخاذة التي اقترب فيها الكاتب من معاناة فردية إنسانية أوجدتها ظروف الحرب، الحرب التي تكرس الوحدة والعزلة، وتقتل الحب أحياناً، (موت سيلفيا)، الحرب التي يموت الناس فيها على الهوية، الحرب التي تحول الحرة الى بغي، الحرب التي لا تميز بين بائع السبانخ والمستهدف الآخر، ولا الفرقة الموسيقية أو كمين الاعداء.

في هذه المجموعة قدم المثقف الفلسطيني رؤيته الشخصية لحرب عاشها وتعايش معها، بأبعاد إنسانية على مستوى الرؤيا، وبأبعاد فنية حداثية على مستوى الإنجاز الفني، بعيداً عن الولوغ في السياسة المباشرة أو التوثيق، او الخلفيات التاريخية. وإذا كان فاروق وادي قد انتزع نفسه فنياً – من القول السياسي المباشر، إلاّ أنه لم يكن غائب الوعي الشخصي والسياسي والفكري، ذلك أنه إنما يكتب بدافع من المسؤولية الأخلاقية أولاً، والرغبة في الانجاز الفني ثانياً، وهذا ما تحقق في "ديك بيروت."

 

(*) فاروق وادي، "ديك بيروت يؤذن في الظهيرة" – كتاب الحرب منشورات ضفاف، بيروت، 2015.