تتفحص الكاتبة المصرية تفاصيل الحياة التي تحيط بها والمغمورة فيها من علاقات ببشر وقيم وأشياء مادية كما في القصة الأولى آو شخصيات وهمية كشخصيات الروايات في الثانية وتحاور الذات في لحظات شرود كما في الثالثة، أو تخوض في تفاصيل الطقوس كما في الأخيرة

أربع قصص

عـزة دياب

١ـ السترة
غسلت سترتي بالطريقة المعتادة، طالعني أثر حبل الغسيل وعلامة المشابك مدموغة في النسيج الخارجي فضلا عن تهدل البطانة، شهقت للمفاجأة كأن هناك من سيؤنبني على فعلتي.

أعملت المقص والإبرة والمكواة، أتذكر تحملها الأنواء السابقة كتذكري محاسن الموتى، اختارتها أمي واستبعدها أبي وهو يدفع الحساب، أعادتها أمي مضحية بفستان جديد تحضر به حفل زفافي.

ارتديت السترة عند خروجي للعمل، رمقني زوجي بتأفف كالذي يرمقني به وأنا مكفنة باللحاف.

المنعطف المؤدي إلى الشارع العمومي أغرقته الأمطار وبالوعات الصرف تفور، سلكت الأزقة الخلفية متفادية ما تلفظه الأسطح من مياه متسخة، في زاوية بين بيتين ينفرد كلب بقرمشة أوزة من جناحها، عندما شعر بخطواتي ابتعد بها متدلية بين أسنانه، اقشعر بدني، أغمضت عيني، سددت أذني وتجاوزته.

انضممت إلى الواقفين تحت البلكونات ومظلات المحلات منتظرين توقف سماء الدنيا عن النواح، ضغطت سترتي أكثر مدارية بحقيبتي تمزقا في الجنب اكتشفته للتو.

بدت البيوت مغسولة نظيفة، صنع المطر بركا متفرقة وخاصة التي نحتتها المزاريب، من يملك الآن مركبا يعومه في البركة الأكبر تحت الرصيف!

تراءت لي تلك المركب المشيدة من صمتي، يتكلم وأسمع، هيأت نفسي لسماعه، شفتاه تتحركان، يطرق صوته سمعي، ترتسم على وجهه تعبيرات الردود، أقرأ الامتعاض والرفض والتمسك بموقفه، لكني لا أعرف يتمسك بموقفه ضد من، يتكلم وأسمع على هذا المنوال هيأت حياتي لتسير المركب وإن كانت تسير في مياه ضحلة.

أهز رأسي محاولة إعادتي إلى مكاني تحت البلكونة أمام المقهى والأبخرة المنبعثة من الأكواب فوق المناضد وصبي القهوجي يراوح للفحم، تحت مظلة محل مغلق يقف شاب نحيف، يتبادل مع قاصديه دس لفائف في الأيدي، يتبادل الشباب ممن أقف بينهم النظرات والهمهمة.

يتوهج الفحم في شيشة اسكافي الحي الذي ركن الأحذية الناقعة ليأخذ الاصطباحة من فطور وشاي ومعسل ضاربا باستعجال الزبائن عرض الحائط، فما كان منهم إلا أن تركوه عندما أزاح بائع الكرنب المشمع عن بضاعته، اشرأبت الأعناق متخيلة أطباق المحشي يتصاعد منها البخار.

خفت الأمطار وجاء دور الغسيل المنشور بالبلكونة ليواصل التنقيط، ضغطت السترة أكثر.

السير تحت المطر وذكريات الطفولة الضبابية، ممسكة في يد بنت عمتي نعدو بضفائر مبتلة، نقهقه، نستبق إلى باب البيت العتيق، نجاهد في دفعه بأكفنا الصغيرة الناعمة، نرفع صوتينا الرفيعين:أمي ..عمتي، ينفتح الباب عن سواعدهن البيضاوات، نلوذ بحصنيهما فرحتين.

رذاذ ناعم يلامس وجهي، تتفتح النفس مبتهجة، ألعق قطرات منثورة على شفتي، يشتد المطر، أفرد المظلة، يقلبها الريح، أغلقها متشبثة بالسترة موسعة الخطوة.

تخلل الماء شعري، تحمي السترة الجزء العلوي من جسدي وتنقط على الجزء السفلي، أشعر بالمياه تنزلق من ركبتي على ساقي وجوربي، وصلت العمل غارقة بالمياه كل همي خلع السترة.

 

٢ـ السجينة
راجعت فصول روايتي، أطبقت عليها دفتي الدوسيه، أصابعي تتناوب

الطرق القلق على وجه حافظة الأوراق.

أتمشى في صالة بيتي متعثرة في قطع الأثاث النابضة ببصماتي والفرحة لأقل جهد أبذله للعناية بها.

انطلق صوت:- يا من عذبتموني ابتعدوا، تواروا، ارحلوا، قبل أن أتحول.

وجدتُ الرواية مفتوحة وأوراقها مبعثرة، تشكلت أمام عيني ملوحة في وجهي:

- لن أسمح لك بسجني مع هؤلاء.

نظرت إليها فزعة كيف تترك سطوري وتقف أمامي، تظاهرت بالصرامة لأخيفها متوهمةً قدرتي على سحبها للحافظة الورقية تتمدد على السطور وتكفن بالأوراق.

قالت:- أنذرتهم بالرحيل قبل أن أتحول وهذا ليس خوفا عليهم.

قاطعتها ضجرة:- صنعتك من حرفي ومن جملي، الشخوص أوجدتهم لمساعدتك.

خفت أن يهجر الشخوص الرواية، تخيلتهم يقفزون منها كأنها سفينة غارقة، أكان عليَّ تصوير الشخصية أم ترويضها؟!

لعينيها لمعة جعلتني على وشك تقديم اعتذار عن عذابي لها مع من لا يقدرها.

قالت:- ساعديني في عزلهم في فصل من الفصول.

نظرت إليها غضبة:- مالك أنت، أعزلهم، أوزعهم.

نظرتها مثقلة بالتحدي:- جمدي أدوارهم أفضل من هروبي من نصك الظالم.

تحرك موروث الغل:- ضعفك هو من جعلهم طغاة.

قالت:- أريد لذاكرتهم الاحتفاظ برؤيتي ضحية بمنظورهم مثالية، ليبقوا سجناء أغميتهم مسربلين بجهلهم.

صرختُ فيها:- واجهيهم أفضل.

قالت:- في تلك الحالة من يكون كاتب النص؟

نظرتُ إليها بإعجاب أحاول إخفاءه، كيف للكاتب أن يصور شخصية أقوى منه؟!

قلت بتسليم:- لك ما تشائين.

مدتْ كفها مبتسمة، عندما ضممتها شممتُ عطري المحبب الذي صاحبني لسنوات قبل عطري الحالي المحبب لزوجي، آهٍ لو تدرين أي حماس سكبته في قلبي تلك الرائحة.

 

٣ـ روضة
جدول بخلفية خضراء تظله سماء غائمة، على الجانب الآخر مقابر مطلية بالجير تتصدرها لوحات رخامية بأسماء أموات رابضين في ظهر القرية، يفصلها عن الجدول طريق مسفلت، كانت المقابر في آخر القرية عندما مهد الطريق باتت في المقدمة، شجرة ضخمة مغبرة تحط عليها طيور مشاكسة.

أعبر الطريق بسيارتي، يهطل المطر، أحكم إغلاق الزجاج أشغل المساحات، تدور كأنها عقارب ساعة.

تقف السيارة لا تجدي معها محاولاتي، الجدول يفور كأنه يغلي، يفيض، تلعقه

الأرض بوشيش كأن لها شفاه تستمتع بالارتشاف.

القبور قصرت وبدت بدون طلاء وبدون لوحات رخامية، كلب يبول على إحداها، كلاب أخرى تستعرض أصواتها، المياه تواصل سيرها ملامسةً أعتابها.

وجوه تضغط على زجاج السيارة الأمامي، تعبيرها متنوع من يبتسم ومن يخرج لسانه ومن يبكي، أسمع رفرفة تحرك الهواء حولي، فتح الباب بل خلع.

خرجتُ من السيارة، لم تكن لهم أقدام تلامس الأرض، بقع المياه تبلل أطراف بنطالي، أتحرك في اتجاهات متضاربة، أسير على قدمين لا أراهما، أقطع مسافات لاهثة وأجدني في نفس المكان، سألتُ أحدهم:

  • ألا يوجد قطار أو أي وسيلة لأخرج من هنا؟
  • لماذا تريدين هجرنا؟

أشرتُ إلى قدمي:- إني أتلاشى.

  • أليس هذا أفضل من أن يعفنهما الوحل؟!

مسكتُ في خناقه، في يدي، نظروا لي مستنكرين، تقدم أحدهم:

  • قتلتيه إنه روح بريئة.
  • وهل تموت الأرواح؟!
  • لن نقبلك بهذا العنف، تطهري وعودي.
  • دلني على طريق الخروج.
  • اعبري الجدول.
  • لا أعرف السباحة.
  • اربطي عنقك بحبل في فرع الشجرة.
  • لا أريد أن أموت.
  • ومن قال إنك على قيد الحياة.
  • ولماذا تفكر لي في ميتة؟!
  • ولماذا تتمسكين بحياة تريدين الخروج منها؟!

تحرك من اتهمتُ بقتله، مددتُ له يدي، شعرتُ أن هذه اللقطة حدثت من قبل حين صدمته بالعربة لا أذكر متى أو أين لكنها حدثت، أراحني أنه لم يصب بأذى.

  • آسفة.
  • كنت في حاجة إلى حماقتك.

أغضبني رده، تنفش الكلاب فراءها بعد عبورها الجدول الذي لا أجرؤ على عبوره، تكلم ببرود:- أنتِ لم تحاولي.

حدقته مندهشة، رد:- كلنا هنا أفكارنا عارية.

  • لكني لا أرى أفكاركم.
  • لأنك لستِ منا.

لوحوا لي مودعين، وجدتني في سيارتي، وجه الجدول يجعده النسيم، الشجرة غسلها المطر من غبارها، نثرتُ زهورًا بنفسجية قطفتها من لبلابه لا أعرف أين جذرها، فاحت رائحة عطرة، تفرق السحاب، جف الإسفلت، تحركتُ بسيارتي متجنبة أفكاري العارية.

 

٤ـ العرس
توافد الأقارب من مساكنهم الهادئة، فحين غلقوا أبواب منازلهم وراءهم تركوا السكون يرفل مستمتعا بفسحة الزمان والمكان، يتدفق الصمت مزيحا من ذاكرة الجدران جلبة الضحك والبكاء، يتفقد الأواني المستكينة في دواليبها، حتى ما كان منها مغرقا بالمياه ينتظر تنظيفه مكتئبا عليه الآن أن ينعم بهدنة، الدمى الممزقة تراخت مكومة في كراتين محشورة وراء الكنب، الصمت ملك ورع يبارك رعاياه حتى العناكب التي تواصل غزلها ملفلفة بيوتها الواهنة بين قطع الأثاث.

فرحت بالمهمة التي أوكلتها إلى سلفتي أم العريس، فستتيح لي فرصة الابتعاد عن ضجيج الأقارب، نميمة الكبار المصحوبة بالفضول المحموم والتوقعات المسلم بها غير نزق المراهقين وهوس الأطفال.

المهمة: عزومة قريبة لنا من بعيد كانت من صديقات حماتي وانقطعت عنا بعد موتها، تذكرتها سلفتي قبل العرس بيومين، قالت:- فرصة نصل رحمنا وتشاركنا فرحتنا.

***

أعرف العمارة المقيمة فيها لكني لم أدخلها من قبل، المدخل رخامي واسع، شبابيك السلم تبث هواء رطبا، أي صداقة نشأت بين حماتي وتلك القريبة، فبيتنا بطوابقه لا يكفي ثمنا لشقة واحدة هنا، أذكر المرة الوحيدة التي رأيتها فيها، كانت يوم عرسي، ملامحها كابتسامتها هادئة، هدوء وقور، أنيق، يسبقها عطرها المميز المجهول لدينا، أهم ما أذكره شنطة يدها الشمواه حين فتحتها ودست في يد حماتي النقوط، لا بد أن سلفتي تمنى نفسها بلحظة مشابهة.

ضغطت الجرس مسوية هندامي ماسحة حذائي في باطن ساقي، انفتحت درفة الباب لأجد أمامي وجهها وقد تكاثرت عليه الغضون حول الفم والذقن والعينين، شعرتُ بعينيها تنفذان إلى عظامي، تراجعت تجاعيدها أمام بريق عينيها ورنة الفرحة في صوتها، هتفت في نفسي: تذكرتني.

صافحتني، أدخل أول غرفة بعد الاستقبال المبهرج بالستائر والإضاءة والموشى باللوحات التي لا خبرة لدي لمعرفة إن كانت أصلية أم مزيفة.

جلست قبالتها وحذائي غائص في وبر السجادة، وددت لو خلعته وتخلل الوبر الناعم أصابع قدمي، بدا استفهام على وجهها، حضرت الإجابة فلا بد ستسأل عن الأسرة وأحوالنا بعد حماتي، انطلق سؤالها:

  • أترين هذه المنضدة ذات المفرش الكرشيه؟

هززت رأسي مبتلعة دهشتي فالمنضدة واضحة أمام عيني، أنتظرها تكمل، تتمهل في نطق الكلمات، كأن هناك من يمليها عليها وهي بدورها ترويها لي أو أنها تضغط على ضروسها حتى لا يفاجئها طقم أسنانها ويتخلى عن موقعه فوق اللثة:

  • فوق هذه المنضدة المهملة الآن ولا يجملها غير فازه بلا ورد، كنت أوزع أوراق الكوتشينة على الأصدقاء، أخلط الورق وأعيد توزيعه، كل مرة أتبين من يغش، مع تكرار الأدوار، عرفت الغشاشين.

ابتسمت كأني طرف في الصراع، ارتعشت شفتها السفلى:

  • خجلت من مواجهتهم.

نظرت إليها باستغراب، رفعت كتفيها:

  • لم تواتني الشجاعة لطردهم، تخلف الطيبون واحدا إثر الآخر.

قلت في نفسي لا بد أن حماتي كانت من الطيبين، أكملت:

  • لمحت بمعرفتي غشهم، ضحكوا مفسرين الأمر مزحة، امتنعت عن اللعب إعرابا عن استيائي وعدم ترحيبي بهم، تقدموا، أخذوا مكاني، أداروا اللعب كما يحلو لهم.

كاد ينطلق سؤالي الذي لمحته في عيني، أين كنت؟ تنهدت:

  • ارتكنت بمرفقي إلى البوفيه، أتابع تخليهم عن قواعد اللعبة، توغلوا في الغش والمقامرة، انتبه على الألم والدماء تنبت من أظافري التي قضمتها أثناء صمتي، حركتني صرخة من حلق أوشك على مفارقة الحياة، دبت في أوصالي القوة، طردتهم شر طردة.

تهرب عيناها منى، تعبث يداها بجلبابها، رفعت رأسها، تقاوم الدموع الملحة، خرج صوتها مرتبكا بتأتأة ذكرتني بتجاعيدها:

-هددوني باتهامي بما اقترفوه، من يومها وليس لي هنا غير الترابيزة الصغيرة وعليها عدة القهوة، أتريدين فنجانا مضبوطا؟

لقهوتها رائحة الحبهان، ترتشفها بتلذذ قاطعته:

  • يأتون إلى الآن؟

ابتسمت على اعتبار أني أمدح قهوتها وكأنها لا تعرف عن من أحدثها، ماتت على لساني الجملة التي حملتني إياها سلفتي (شرفينا عندنا عرس).

***

أهرب من زحام البيت إلى العمل، أمام الأقارب أضطر إلى عدم مجادلة زوجي في أوامره، ليس تمثيلا مني بل تفاديا لبعثرة كرامتي أمامهم، وقد استغل هذا، أخرج ملابسه الداخلية لأكويها إلى جانب ملابس الخروج التي أكويها من أول زواجي، أمتثل لطلباته الزائدة معلقة ابتسامة بلهاء على شفتي وفي بالي ألعن نفسي الخائفة من الإهانة.

في عودتي من العمل صاحبني ظلي ممددا بزاوية على يميني فوق الرصيف، اقترب من حافة الرصيف ينسكب ظلي على الإسفلت، أفسح له، أخشى أن ينفلت مني وتدهسه السيارات.

ليلة العرس كانت أصوات الأقارب قد بحت من نقل الكلام بين أدوار بيتنا، محرك المياه لم يسكن لحظة، يعدون أنفسهم لارتداء الملابس المقتناة للزفة، لم يتركوا شيئا على التسريحة لم يستعملوه صغارا وكبارا، تراصوا في الصفوف الأمامية للمسرح المزين بالكوشة.

وصل العروسان وسط جلبة الموسيقي، حين أخذت العروس موقعها في الكوشة ارتقت أختاها المسرح لمساعدتها في رفع الطرحة فوق الورد فبدا وجه العروس القلب في زهرة، فردتا ذيل الفستان، كلما أنزل من جانب ارتفع من الآخر كاشفا عن ساقين لامعتين.

توافد المعازيم لم تعلق سلفتي عن عدم حضور القريبة التي عزمتها، الكثيرات من المعارف قبلنني، لم ألقاهن من زمن، بعدما قبلنني وقفن حائرات ماذا تفعلن لتأكيد وجودهن، ظلت شفتاي منفرجتين على الابتسام كي يرضى عني الجميع.

أوقفت الفرقة العروسين، خفضت الإضاءة ليرقصا، دارا على المسرح، العريس ينظر إلى حذائه، يخشى أن يدهس فستان العروس، العروس تخطو خفيفة، لا تعلم إلى أين تأخذها خطواتها بالحذاء الأبيض وذيل الفستان المتأرجح والطرحة الزاحفة.

انطفأ نور العرس، اجتهد عمال الفراشة في كبس الكراسي فوق بعضها وتفكيك الكوشة، ارتبك الأقارب، أين ينامون؟!

انتبهوا الآن بعد ثلاثة أيام إلى أن البيت لا يسعهم، تسللت من بينهم، دخلت شقتي، أغلقت بابي، ساعتها أدركت أن السكون المسيطر على منازلهم، يلملم نفسه عائدا إلينا.