إهداء
إلى شهداء التحرير
كي نفهم لذة الرحيق، علينا أن نذوق أقصى المرارة
إيميلي ديكنسون
1- الإدارة
- المجانين في ميدان التحرير .
قالها الضابط الكبير في هاتفه المحمول .
- اطمئن يا باشا، الوضع تحت السيطرة .
ثم أمسك بملفٍ ضخم، وقَلّبَ صفحاته بعصبية وعجالة :
- الرائد أكثم أرسل لي ملف زعيمهم .
ثم فتح الملف، ونظر في الصورة المرفقة به :
- تصوّر يا باشا، توقعاتنا كانت صحيحة .
نقر بإصبعه على المكتب :
- تنظيم سري من المجاذيب والمجانين، والتمويل غالباً من الخارج .
هَبَّ الضابط واقفاً، وأجاب :
- كل حركة وكل نَفَسٍ، مُسجلة لدينا .
ثم طوي صفحة الغلاف :
- سأطّلع عليه، وأوافي معاليك بالتقرير ..
أغلق الهاتف، ورفع الملف، نظر بإمعانٍ لصورة زعيم تنظيم المجانين، شيء ما جعله يستشعر ألفة معه، كأنه يعرفه، هرش رأسه، وخلع نظّارته، وفرك عينيه، ثم أخرج سيجارة وأشعلها، نَفَسٌ عميق، جعل رأس السيجارة يتوهج، ثم انفلتت من خياشيمه شلالات الدخان، حين تأمل الصورة، تقافزت في ذهنه وجوه شتى :
- هل يتشابه المجانين؟
كانت ملامح الزعيم وقسماته تشبه نجيب سرور، بعيونه الواسعة، وملامحه الوسيمة، نفس نظرة التحدي، وابتسامة السخرية المرسومة على الشفتين .
حين جاء إلى الإدارة في بداياته، أوكلوا إليه مهمة مراقبة نجيب سرور، وقبل أن يُعَقب، جاءه رد اللواء ممتاز الحاذق :
- أنت تحب القراءة، وتكتب الشعر، لذا ستكون أكثر شخص يتفهم طبيعة ذلك
المجنون الخطير .
اندهش كثيراً، كيف عرفوا أنه يقرأ، ويكتب الشعر، كانت تلك الكتابات هي سره الوحيد، حين يعود من يومه الشاق، يلجأ إلى كراسته الخضراء، ويخربش بالقلم الرصاص، بعض الكلمات، يشعر بعدها براحة وسعادة، تغسل هموم يومه الطويل .
- كيف عرفت الإدارة أنه شاعر؟
أحياناً، كان هو نفسه لا يعرف ذلك، ويندهش من خجله المفرط، أن يعرف أحد أنه يقرأ أو يكتب شعراً :
- هل هناك إدارة أخرى تراقبه؟!
- ربما !
انزعج من فكرة أن يكون مُرَاقباً، وأن أسراره متاحة، يمكن تداولها أمام الجميع .
في البداية حاول أن يتعامل باحترافية، ويُنحي إعجابه الشديد بسرور وأشعاره ومسرحياته،
لكنه كثيراً ما يضبط نفسه متورطاً بترديد مقاطع من قصيدة " الحذاء " :
- ( أنا ابن الشقاء
ربيبُ " الزريبة والمصطبة "
وفي قريتي كلهم أشـــقياء
وفي قريتي (عـُمدة ٌ) كالإله ْ
يـُحيط بأعناقنــا كالقــدرْ
بأرزاقنـــا
بما تحتنــا من حقول حـَبــالي
يـلدن الحيــاة ْ )
..................................
و يتهدج صوته، بنبرة حزن واضحة :
- ( ذهبنــا إليه
فلما وصــلنا .. أردت الدخول
فمد الخفــير يدا ً من حـديد
و ألصقني عند باب الرواق
وقفت أزف ُّ أبي بالنظــر
فألقـى الســـلام
و لم يأخذ الجالسـون الســلام ! !
رأيتُ.. أأنسى؟
رأيت ُ الإله َ يقــوم فيخلـع ذاك الحـذاء ْ
وينهــال كالســيل فوق أبى ! ! )
.......................................
ثم يقوم واقفاً، ويبسط يده، مكملاً :
- ( كرهت الإله
وأصبح كل إله لدي بغيض الصعر
تعلمت من يومها ثورتي
ورحت أسير مع القافلة .
على دربها المدلهم الطويل
لنلقى الصباح
لنلقى الصباح ! )
ورغم عشقه لتلك القصيدة، لدرجة البكاء عند مقاطع معينة فيها، إلا أنه كتب على حاشية الهامش :
- ( قصيدة كتبها الشاعر عام 1956، تدعو للتمرد والعصيان، وبها كثير من الإيماءات
والإحالات الرمزية النزقة، والمحرضة على الثورة ) .
***
بعد أن عاد سرور من موسكو، وبدت عليه إمارات الجنون، أخذ يهذي، ويقذف الناس بالطوب، ويجري عُرياناً في الشارع، مما جعل الإدارة تشك فيه، وتضعه تحت المراقبة.
حتى جاء تقرير من جهة ما، يفيد بأن سرور تلقى تدريبات عالية على الجنون ( عفواً إدعاء الجنون )، لتنفيذ مخطط أحمر، بعد دورات عالية المستوى في موسكو على يد
الـ ( كي جي بي ) .
في المستشفى، تم تعذيبه والضغط عليه للاعتراف، لكنه لم يصل معه لشيء، دس عليه مخبرين كنزلاء في عنبره، مدربين بدرجة فائقة على إدعاء الجنون، لم ينجح أي منهم في كسب وده أو صداقته، لم تفلح كاميرات المراقبة أو تقارير الممرضين، سوى في رصد عدة إشارات باليد والأرجل، تم فك شفرتها بالمعمل الفني، وكانت تحمل شتائم مقذعة، وسُباباً وسب دين .
و لما أعيته الحيلة معه، ويأس من الحصول على أسماء خلايا سرية، تهدف لزعزعة أمن الوطن، أيقن أن سرور بالفعل مجنون .
بعدها تم إخلاء سبيله، ولكنه ظل يراقبه، ربما على سبيل الاعتياد أو من حب الفضول :
- كيف لمجنونٍ أن يهذي بهذه القصائد؟!
تساءل دون رد، استمر يراقبه لسنواتٍ في الشوارع والأزقة، ويكتب التقارير، ويضع التحليلات، حتى مات نجيب سرور .
المدهش أنه بكاه بشدة، وظل لأسبوعٍ في حالة حزنٍ على رحيله، بل إنه أخرج كراسته الخضراء، وكتب فيه قصيدة رثاء، رغم خطورة الأمر، وأنه ربما يكون مُراقباً هو الآخر.
كثيرون مروا عليه، وتولى مراقبتهم : يحيى الطاهر عبد الله، محمد حافظ رجب ( لمدة قصيرة)، وأروى صالح .. وغيرهم .
بعضـهم كان مجنوناً بالفعل، والآخر على الحـافة، لكن سرور ظَلَّ هو المفـضل لديه، والأكثر تعقيداً، وغموضاً حتى اللحظة .
حين انتهى من السيجارة، استعاد جهامته وعبوسه الوظيفي، ومع آخر خيط دخان، تحوّل إلى شخصٍ آخر، يحمل كل شيء على الارتياب، ويشك حتى في الذبابة التي مرت للتو من أمام عينيه .
نفض عن نفسـه روح التعاطف، واستعاد تقطيبة الجبين وقسوة الملامح التي ارتسمت على وجهه، وهو يرفع سماعة الهاتف، ويتحدث بعصبية ولهجةٍ آمرة :
- الرائد أكثم سعفان .
***
الفكرة بدت مجنونة، حين تقدم بها أحد اللواءات للوزير المختص، بإنشاء إدارة خاصة لمتابعة ومراقبة المجانين في جميع المستشفيات، وخارجها، ورصد حالاتهم، وهل بالفعل هم مجانين أم يدّعون الجـنون، لتوصـيل أفكارهم إلى أعـداء الوطن بالداخـل، من مثيري الشـغب والمندسين لزعزعة أمن النظام، وإحداث البلبلة بين العوام.
و تتلخص الفكرة في تقسيم المجانين إلى ثلاثة أقسام، الأول : هم الأغلبية من النزلاء في معظم المستشفيات الحكومية، والمصحات النفسية الخاصة، والذين فقدوا عقلهم نتيجة لصدمة نفسية أو عاطفية، أو لأسبابٍ تتعلق باستعدادات فسيولوجية للجنون، كأن يعود زوج بغتةً فيجد زوجته – التي يظن أنها مخلصة – في أحضان أعز أصدقائه، فيقتلها، ويجري عرياناً في الشوارع، أو يخسر رجل أعمال كل ممتلكاته في البورصة، فيُصاب بلوثة تلازمه ولا تتركه، فيلوذ بمحطات السكك الحديدية، مرتدياً جلباباً مخططاً، ويتعذر على أهله الوصول إليه، فينشرون إعلاناً في الصحف، تحت عنوان : خرج ولم يعد .
و القسم الثاني، غالباً من كبار السن الذين تعدوا الستين، فأصيبوا بخرف الشيخوخة، ولا خطورة منهم بتاتاً .
أما القسم الثالث، فـهم الأخطر ومن أجـلهم أُنشئت الإدارة، وهم الكُـتّاب والمفكرون، الذين تم اعتقالهم، وتحت وطأة التعذيب لأخذ اعترافات وهمـية، فقدوا عقلهم وصوابهم، كما جاء في تقاريرهم الطبية .
هؤلاء هم مشعلو الثورات والانتفاضات، إذ إن النظرية التي تقدم بها اللواء ممتاز الحاذق، تفترض أنهم ليسوا بمجانين، ولكنهم يدّعون الجـنون للـهروب من المُـساءلة القانونية، ويصبح مستشفى الأمراض العقلية، آخر مكان ينتبه إليه الأمن للبحث عنهم، وتكون حالتهم الصحية هي حصنهم الحصين ضد أي تحقيق أو اتهام، ويستطيع أي محام لديه أقل خبرة ممكنة، إخراجهم من قفص الاتهام أو المثول أمام القضاء بمنتهى السهولة، ناهيك عن تهكم صحف المعارضة والأحزاب المعادية للنظام، حين يتسرب إليها الخبر، عن تحويل المجانين للمحاكم .
لذا كان إنشاء الإدارة أمراً سرياً وضرورياً .
***
دخل ضابط شاب المكتب، ومعه بعض الأوراق، وحيّا رئيسـه باحترام، لم يبادله التحية وأمره بالجلوس، وتوضيح الأمر فيما يخص الشيخ شهاب أو الغريب أو بهلول، زعيم تنظيم المجانين .
فتح الضابط الشاب الملف، وأخرج أوراقاً، وأقراصاً مُدمجة، ودفاتر قديمة، أوراقها صفراء عند الحواف، وأغلفةٍ مُهترئة، وبدأ في القراءة وشرح التفاصيل لرئيسه المتجهم
2- المثالي
- الملائكة ترفرف حول حدائق الباشا ...
قالت مريم :
في حدائقه الخوخ والرمان .. وأشجار الموز والمانجو .. في
حدائقه توجد أشجار تطرح الجوافة دون بذور.. وتوجد – أيضا -
أشجار متلاصقات من الليمون، والزيتون، والبرتقال، واليوسفي،
والمشمش .
وكذلك شجيرات من العنب البناتي، تتدلى عناقيدها كثريات
الكهرمان .
قالت مريم:
في حدائقه توجد أشجار التفاح الأحمر والأصفر.. ونخيل
عجيب، يطرح بلحاً غريباً، له مذاق السحر يسمونه : بلح الست، وبلح
الست يشبه شكل المشمش، لكنه مختلف عنه في الطعم .. قال أبي :
- إنها الشجرة التي أكل منها آدم وحواء ..
يقول مولانا الشيخ قطب، إمام مسجد قريتنا التليد :
- ووسوس إبليس اللعين إلى حواء :
" إذا أردت الخلود أنت وآدم .. فعليكما بهذه الشجرة ذات
الساق البيضاء .. ثمارها سر الخلود .. ومذاقها معنى الحياة ..."
فما زالت حواء بآدم، حتى سلبته إرادته في الرفض ..
فأطاعها .. وأكلا منها ونسيا أمر الله، وتحذيره .. من الاقتراب -
مجرد الاقتراب - من تلك الشجرة .. وعصى آدم ربه .. وغوى ... فلما
هبطا إلى الأرض، جاءهما الغائط ... فذهبا للخلاء .. وقضيا
حاجتهما .. وكان من مخلفاتهما .. بعض بذور تلك الشجرة .. فحملها
إبليس .. وأخذ ينثرها في عدة بقاع من الأرض .
يقول العلماء العارفون :
- إن نخلة حواء .. أو شجرة الست – كما ينطقها العوام –
هي شجرة الخلد .. وكل من أكل منها .. سوف يغوى !
* * *
كانت مريم حين تجيء .. تملأ جيبها بثمار شتى من حدائق
الباشا ...
قالت مريم :
- سآخذك يوماً إلى هناك .. لكن عليك الحذر... كل الحذر...
فحارس الحدائق الأخرس لا يرحم ولا ينام .. عيناه عينا صقر،
وقلبه .. مثل جدار بيت العمدة الأسمنتي .. صوّان لا يلين ..
لقد رأيته ذات يوم يلوي عنق حمار بهانة .. ندابة القرية ..
حين امتد ليأكل بعض ثمار حدائق سيده الباشا .. وقبل أن يلوكها أو
يبلعها .. كانت يد الأخرس قد قبضت على عنقه/ اللص، وأطبقت عليه
بقوة .. ثم لوتها.. فسمعنا صوت تحطم بلعومه.. وكذلك صوت بهانة،
التي كانت تلطم وتصرخ مولولة على حمارها التعس/ الفقيد ..
* * *
لا أحد يعرف شيئا عن ذلك الأخرس .. ربما سمعت من
غازي حلاق القرية، حين يثرثر بقصة عجيبة يرويها، وهو يهز
مقصه الصدئ/البليد مثله.. ليسلي زبائنه البسطاء .. أو ربما يلهيهم
عن الانتباه لمقصه، الذي ينتش في شعرهم :
- محروس الأخرس ابن ستيته .. أجمل بنات البلد .. كانت تعمل
في الحقل عند الباشا، لتساعد أباها وأمها على تربية اخوتها
الصغار.. رآها ذات صيف أدهم ابن الباشا .. فأمر أن تذهب، كي
تخدم في القصر، لأن "البنت تملك وجها صبوحاً، سمحاً ... "
وبعد عام طردها الباشا الكبير.. فتركت القرية كلها .. ولا
يعرف أي مخلوق أين ذهبت؟!.. حتى عادت بعد عام .. تحمل على
كتفها محروس .. وأخبرنا والدها أنها تزوجت في بلدة بعيدة عند
أخوالها .. فلما مات زوجها في الكوليرا، ونجت من الوباء هربت
بابنها، وعادت إلى بلدتها ..
أما عن أدهم بك ابن الباشا الكبير.. فقد مات بعد اختفاء
ستيته بشهور.. قالوا : إن رصاصة طائشة خرجت من مسدسه، وهو
ينظفه كعادته .. وأودت بحياته ..
وقالوا : إنه انتحر..
ثم يطأطئ غازي رأسه على أذن الزبون، وهو يلتفت يمنة
ويسرة ... ويهمس :
- قالوا : إن الباشا الكبير.. ضربه بالرصاص ..
ويعتدل غازي فجأة، وهو يقص الهواء بمقصه الرديء في
حركة استعراضية :
- هذا ما سمعت ..
ثم يفك الفوطة الزرقاء المتسخة - دائماً - عند الرقبة، وهو
يطلق سراح زبونه :
- نعيماً .
***
لمريم وجه صبوح .. وأنف دقيق منمنم .. وفم عذب صغير،
يكشف حين تضحك عن اللؤلؤ المكنون في أسنانها .. جبينها واسع ..
ويشع بألقٍ عجيب .. ويأتي ذقنها المتناسق التكوين في إبداع، ليختم
جمال الوجه بطابع الحُسن ..
لمريم ذات الخمسة عشر عاماً .. شعر كليل شتاء القرية
المدلهم .. تتركه منساباً في شلال متدفق، يعابثه الهواء ... عندما تعدو
في الطرقات، وفي الحقول .. أو تجعله في جديلة سميكة يصل طرفها
إلى منبت ردفها المكتنز .. صدرها العريض ... اليانع بثمرتين
كالكمثرى... لم تمتد إليهما يد من قبل .. يترجرجان في شغب حين
تجري .. فتنخطف لهما قلوب .. غازي وزبائنه .. وكل المتسكعين ..
المتنطعين .. الجالسين .. على المصاطب في شوارع قريتنا من
الفلاحات والفلاحين :
- مريم كبرت ..
- البنت بدر التمام .
- خرّاط البنات .. خرطها صح !
- لو تعقل .. لم تعد صغيرة ..
خصرها .. ضيق ونحيل .. وساقاها حين تكشف عنهما بغتةً،
ودون تعمدٍ، كي تخوض في مشتل الأرز أو تلهو على جَنّابية
الترعة ... كأنهما قُدَّا من مرمرٍ.. كانت بشرة مريم تشبه لونَ الطمي
حين يجف، لها عينان واسعتان صافيتان، كغدير القرية حين يسح على
الشاطئ، في موسم الفيضان ..
وكان لحديثها جلبة وضجيج .. مُحببين للنفس، كاصطخاب
العصافير في البكور..
***
- شهاب.. لم تعد صغيراً .. سوف آخذك غداً معي لحدائق
الباشا .. لن تخبر أحداً .. هه ..
فيومئ الولد ذو السبعة أعوام، بما يفيد أنه لن يخبر أي
مخلوق .. وأنه جدير بثقتها ...
***
كانت جدة الولد تثق في مريم ... وتحبها .. وتحدب عليها ..
ربما.. لأنها يتيمة.. ولأن أمها أوصتها بها حين اشتدت عليها
الحمى وماتت، لذا.. فمريم نشأت وترّبت في بيت شيخ البلد ..
وكنف الحاجة أكثر من بيت خالها ضاحي، وكثيراً ما تبيت مريم في
منزل الحاجة، لاسيما في ليالي الشتاء .. حين تفرش لها الحاجة أو
البنت فاطمة، التي تخدم عندهم الحصيرة فوق قبة الفرن ليلاً، بعد أن
تخمد نيرانه، التي تتأجج كل يوم .. لتقدم لضيوف الحاج سيد... شيخ
البلد .. ما لذ وطاب من صنوف الطعام الريفي، والذي تجيده وتتفنن
فيه الحاجة أم محمد .. جدة شهاب .. وتساعدها فاطمة .. ومريم ..
فيسري الدفء في أوصالها .. وقبل أن تستسلم عيناها لسلطان
النوم، تطلب من الحاجة :
- والنبي يا حاجة.. شهاب يبيتُ معي .. كي أستأنس به.. أنا أخاف النوم
وحدي ..
ومن يومها تعوّدت الحاجة أن تسلمها شهاباً، واعتاد الولد
أن ينام بجوارها .. وهو ينكمش خجلاً حين تلتصق به، فتجذبه إليها
في حنان أمومي :
- تعال يا شهاب، كي تتدفأ ..
فيطربُ جسده البارد، لنيرانِ جسدها المتقد، بينما
تستسلم جفونه إلى السبات الحميم ..
***
كانت فاطمة التي تخدم في بيت شيخ البلد تغار - كثيراً -
من مريم .. ربما لأن مريم استحوذت على عقل وقلب الحاجة، وكذلك
الولد شهاب .. ورغم أنها تكبر مريم بعدة سنوات، لكنها لم تستوعب
بعد سر سحرها وجاذبيتها .. وحدب الحاج والحاجة عليها .. والتعلق
الغريب للولد الصغير بها ..
فدأبت فاطمة على افتعال الشجار والنقار مع مريم .. ولكن الحاجة
- دائماً - ما تتدخل في الوقت المناسب :
- كل واحدة تُقَبّل رأس الأخرى ..
وما تلبث أن تتحول المعركة الحميمة إلى اعتذارات
وقبلات .. فتتدخل الحاجة مرة أخرى :
- هيّا يا بنات .. الحضرة الليلة ...
لفاطمة قصة حزينة.. سافر زوجها شمحوط إلى العراق ..
وظل بها عدة أشهر، قبل أن يعود في نعشٍ طائر، ليُدفن في مقابر
القرية ليلاً ..
ومازالت أصداء نداء عابدين، مؤذن مسجد القرية في ميكروفون الجامع، تَرن في
آذان الولد الصغير، حين يطلب من المشيعين :
- وكل واحد عنده " كلوب " يحضره !
قال العائدون من العراق :
- إن شمحوط كان يعمل في التفليش (1) ... فانهدم عليه جدار
وقتله في الحال ...
فضمتها الحاجة إلى خدمتها .. وعطفت عليها. وأعطتها الكثير
مما أفاء الله عليها من نعمائه :
- لأجل الولدين اليتيمين !
***
في الحضرة .. كان دوّار المنزل ممتلئًا بالناس .. بينما
تطوف عليهم فاطمة ومريم بأكواب القرفة .. وكانت الحاجة منشغلة –
تماما – بمتابعة القدور التي على النيران .. ولم تنسَ أن تعد الطبيخ
الدسم المتخم بالإدام، على نيران الكانون (2)، والذي يعطيه نكهة
خاصة يعشقها الشيخ عطية المنشد ... فما إن تمتلئ خياشيمه بعبق الإدام ..
يتوهج وجهه بنور غريب .. ويلعق بلسانه شفته السفلى .. فيصدح
بصوته العذب، ومن خلفه جوقة من بطانته :
- مولاي كتبت رحمة الناس عليك .. فضلاً وكرم .
فترد البطانة :
- فضلاً وكرم .
- المرجع والمآل والكل إليك .. عُربٌ وعجم .
- عُربٌ وعجم .
- مالي عملٌ يصلحُ للعرض عليك .. بل صار عدم .
- بل صار عدم .
- فارحم ذلي ووقفتي بين يديك .. إن زل قدم .
- إن زل قدم .
في حين كان الحاج سيد شيخ البلد، وصاحب الطريقة
الرفاعية يجلس على دكته الخشبية .. مرتدياً عمامة كبيرة، وجلباباً
أبيض جديداً .. ينظر بطلعته المهيبة، ويتبسم محيياً ضيوفه من
الدراويش .. والأعيان .. وأصدقائه في الطريقة .. وبجواره
يجلس الولد الصغير شهاب .. بجلبابٍ أخضر، وطاقية بيضاء ..
مستمتعاً بكوب القرفة.. وصوت الشيخ عطية وبطانته .. الذي نادى
على الحاجة أم محمد في ود زائد .. وبصوت عذب مُنغم :
- وَجَبَ الطعام ...
فترد البطانة :
- وَجَبَ الطعام ..
وبعد الإجهاز التام على العشاء .. والدعاء لصاحب الحضرة ..
يقوم الحاج سيد شيخ البلدة .. ويبدأ الذكر.. فيتمايل. . وبجواره الولد
الصغير يقلده :
- الله .. حي ..
ويقوم الجالسون ويفعلون مثله.
- الله .. حي ..
ثم تأخذهم النشوة، و"الجلالة" فيشتد التمايل سرعة .. يميناً
ويساراً ويزعق أحدهم :
- الله .. حي ..
ويسقط مغشياً عليه .
***
- الليلة سنزور حدائق الباشا ...
قالت مريم :
- الآن.. الحاجة في سابع نومةٍ .. بعد المجهود الذي بذلته
الليلة.. وجدك الحاج.. غطيطه يغطي على صوت نقيق الضفادع،
وصفير الصراصير.. سوف نخرج من الباب الورّاني .. لا تخش
شيئاً يا شهاب .. فأنا معك .. وسأحميك ...
لم يكن الولد الصغير يخشى شيئاً .. على العكس تماماً كان
سعيداً، وكأنه في نزهة .. تلك الأشياء التي يفعلها – دائماً- من وراء
ظهر جدته، وغالباً ما تكون مريم شريكته في بطولة مغامراته
الطفولية .
نشوةٌ عارمة انتابته .. جعلت قلبه يدق بشدة .. حين تسللا من
نقبٍ صغير في سور الحديقة الخلفي ..
قالت مريم هامسة في تحذير:
- لا صوت .. لا نفس !
كانت حدائق الباشا كبيرة، وملتفة الأشجار كغابة في دغل ..
أخذ الولد يتأمل جمال الأشجار .. وتنوعها ذلك الهدوء الحذر المشوب
بالتوجس .. أصوات الطيور والحيوانات جاءت مع صوت نقيق
الضفادع في عزف ناشز ..
كانت مريم تقطف من ثمار الحديقة، وتملأ جيوب جلبابها ..
و عندما اقتربت من قصر الباشا المنيف، والذي بدا مهيبا خلف سور
من الأشجار.. أحست بحركة فَجَرَتْ في خفة كَهِرّةٍ .. وجذبت الولد
الصغير.. واختفت بين الأشجار.
صرخة مدوية شقت حلكة الليل .. جعلت قلب الولد يتوقف
لبرهة ثم يعاود الخفقان ... عندما احتضنته مريم بقوة :
- لا تخف ..
بينما حاولت أن تخفي عنه رعشة اعترت جسدها، وجعلت
العرق البارد يتفصد على جبينها ...
وما هي إلا هنيهة .. حتى ظهرت مكاسب زوجة نعسان، أحد
خفراء الحديقة، وقد أمسك بها الأخرس .. وهي تتلوى في يده
مستعطفة تارة .. ولاعنة تارة أخرى ...
والأخرس بدا من بعيد للولد الصغير كغولٍ أسطوري يجرجر
مكاسب إلى كوخه الخشبي بجوار القصر. واختفى الأخرس داخل
كوخه، ومعه مكاسب التي تعالت صرخاتها فابتلعها الليل بسكونه
الرهيب .. وبعد لحظات .. خفتت حدة الصرخات .. وتحولت إلى أنين
وآهات متقطعة، ومنتظمة في منوال واحد ...
- هل سيحطم الأخرس عنق مكاسب؟!
تساءل الولد في فزع .. عندما جذبته مريم من يده، وأخذت
تعدو في حديقة الباشا، والولد في يدها، حتى خرجا من نفس الثقب
في السور الخلفي للحديقة ..
لحظتها ... تنفست مريم الصعداء .. وهي تحتضن الولد
الصغير، الذي اصفّر وجهه، وأخذ قلبه ينبض بشدة ...
في الطريق لمنزل شيخ البلد .. ضحكت مريم في هستيريا،
وكذلك الولد الصغير.. ثم توخيا الحذر، وهما يعبران خوخة (3) البوابة
العتيقة الورّانية .. وهما يدلفان إلى المنزل، ويتسللان في خفة وهدوء
إلى القيعة (4) الجوّانية، حيث قبة الفرن الدافئة .. عندما احتضنت مريم
الولد الصغير، وقبلته في خده، ثم سحبت البطانية السميكة .. وأخذت
الولد الصغير في صدرها الدافئ ..
وراح الاثنان في نومٍ عميق ...
***
في الصباح .. كان الولد ومريم يجلسان أمام بوابة الباب
الورّاني .. قبالة بيت نعسان الخفير .. حين خرج ابنه الصغير البدين
الذي يزفه الأولاد الصغار عندما يخرج للعب :
- شي.. حاه .. بظرميط آهو ..
كان بظرميط في نفس سن الولد الصغير.. عندما خرج هذا
الصباح وفي يده ثمرة كمثرى، وفي الأخرى ثمرة جوافة من ذلك
النوع المشهور الموجود في حدائق الباشا، ولا يحتوى في قلبه على
أية بذور :
- جوافة آآه .. كمثرى .. الله ..
ورفعها تجاه مريم والولد الصغير.. ثم سحب يده بسرعة،
وهو يضحك في نشوة بالغة، حتى أغلقت خدوده عينيه، واهتز كرشه
الضخم :
- بعينكم.. ولا فتفوتة ..
عندما خرجت مكاسب من دارها .. اندهش الولد الصغير ..
وحدقت مريم فيها، وهي تجذب بظرميطها إلى داخل الدار.. مؤنبة
إياه .. لأنه خرج للشارع بأشياء معه، ليست متوافرة لدى جميع
الجيران :
- الأكل عورة .. " والعين فلقت الحجر.. وودَّت العروس التُربة،
والجمل القدرة ! " (5) .
ثم صفقت الباب في وجه مريم والولد الصغير..
***
في كل صباح تمتد يد الولد الصغير تحت الوسادة ... فيجد
"المِلَبِسْ "، والحلوى .. والهدايا :
كَرَمِلّة.. عفش الجنينة .. بيض الحمام (6) .. الله ..
و يجري إلى جده، فيخبره أن الملائكة تزور الأولاد الطيبين
كل ليلة .. وتضع لهم تحت الوسائد هدايا وحلوى ..
ولأن الولد الصغير مؤدب .. " وشاطر في المدرسة ".. ويصلي
الفروض في المسجد على أوقاتها ..
لذا فالملائكة كل يوم تضع له ما لذ وطاب من الحلوى التي
– دائما – يحبها :
- سمسمية .. عسلية.. نوجا .. الله .
و حين تختفي الحلوى من تحت الوسادة ... يذهب الولد
الصغير لجده .. منكس الرأس .. وقد طفرت في عينيه الدموع :
- لم تضع لي الملائكة أي هدايا ..
فيجيب جده في حكمه ورزانة :
- أكيد عملت حاجة أغضبتهم منك ..
فيهرش الولد الصغير في رأسه، وهو يتذكر:
- آه.. نمت ولم أصل العشاء ..
فيضحك جده .. وهو يربت على ظهره، ويمنحه خمسة قروش
فضية .
***
قالت جدته :
- جدك يعمل الحضرة .. لأنه شيخ وشريف .. مُنسب للرسول
عليه الصلاة والسلام .. وجدك يا بني .. يستطيع أن يمسك بالثعابين
و الأفاعي .. وكل هوام الأرض، دون أن تؤذيه .. لأنه يعرف الورد ..
و أيضاً .. شارب من الترياق ..
قال الولد الصغير لجدته :
- أريد أن أكون مثل جدي ...
قالت الجدة :
- عندما تكبر .. ستأخذ منه العهد .. وتحفظ الورد .. وتشرب
الترياق .. فلا يستطيع أي ثعبان أن يَمَسّكَ بسوء ...
***
قالت مريم :
- الليلة سنزور حدائق الباشا .
انقبض قلب الولد الصغير.. فضمته مريم :
- لا تخف .. أنا معك .. وسأحميك ..
ثم أردفت :
- سأحضر لك بعضاً من بلح الست ..
لم يستطع الولد الصغير، الذي يحب مريم كثيراً أن يرفض
مطلبها .. ولا يعرف الولد الصغير لماذا كان يجد هو ومريم – لذة في
فاكهة حدائق الباشا؟! .. رغم أن خزانة بيتهم عامرة بما لذ وطاب من
الفاكهة، بصنوفها المختلفة .. ولم تمنعهما الجدة الكريمة – يوماً – أن
يأخذا منها ما يريدان، بشرط ألا تصد الفاكهة شهية الولد الصغير عن
الطعام لأنه :
- في مرحلة بناء الجسم .
ربما كانت اللذة في المخاطرة، والمغامرة ..
حين ولجا من نفس النقب في السور الخلفي لحديقة قصر
الباشا .. كانت الحديقة معتمة – تماماً – في ذلك الليل الشتوي عندما
برقت السماء .. فخطفت أعينهم لوهلة .. وخرجت صرخة مكتومة من
الولد الصغير، وشهقة من مريم .. فاختبئا في ركن منزوٍ من الحديقة،
وبدأت السماء تمطر رذاذاً خفيفاً، وتزمجر في إشارةٍ إلى أنها
ستكون ليلة شتوية رعدية .. ورغم هذا إلا أن مريم احتضنت الولد
الصغير في عطف بالغ :
- لا تخف .. لا صوت .. لا نَفَس ..
وأخذ الولد الصغير يستعيد رباطة جأشه، حين اقتربا من
بعض نخيل الست، بسيقانها البيضاء التي تومضُ لبرهة، عندما يسقط
عليها ضوء البرق .. فتبدو كأشباح مخيفة ..
و ازداد هطول المطار.. ومدت مريم يدها ببعض ثمار تلك
الشجرة .. فأخذها شهاب .. ولاكها .. كان طعمها غريباً ولذيذاً .. لا يشبه أي
طعم تذوقه من قبل .. أخذت مريم تناوله الكثير... وتملأ جيبها أيضاً
وبغتة لمع البرق كاشفاً عن وجه الأخرس الصخري، والذي
التمتعت عينه .. فبدت كعيون القطط أو الكلاب، عندما تضيء ليلاً،
فتبعث في الجسم قشعريرة ورعباً .. وغطى صوت الرعد على
صرخات مريم، وكذلك الولد الصغير.. كانت المسافة قريبة جداً،
وضيقة جداً .. كي يَعْدُوا هاربين ..
وامتدت يد الأخرس وأمسكت بمريم، وقبل أن تمتد يده
الأخرى كي تمسك بالولد الصغير.. انحنت مريم وعضت بكل قوتها
يد الأخرس المرعبة، الذي صرخ مزمجراً، وهو يهمهم في هستيريا
متوعداً .. صاحت مريم :
- اجر يا شهاب .. اجر على البيت ..
بعد أن نفذ الولد الصغير، بقده الرشيق من نقب السور
الخلفي .. وقبل أن تعبره مريم ... انشقت الأرض عن الأخرس، والذي
حال دون عبورها للخارج .. ولمحت مريم الولد الصغير واقفاً يبكي
بالخارج :
- مرياااااااااااااام ..
زعقت مريم :
- اجر يا شهاب .. على الدار ..
وحين استدار الأخرس تجاه الولد .. وحدجه بنظرة قاسية
مرعبة، كانت ساقا الصغير قد حملته بكل قوة وسرعة ..
بالإضافة لرعبه الطفولي من منظر الأخرس .. بفمه الخالي من
الأسنان، وشعره الأشعث الطويل .. وجلبابه الأزرق دون صديري ..
و حزامه الأسود حول خصره .. وهمهمته الهستيرية .. كل هذا جعله
يجري بأقصى سرعة، ودون التفاتٍ للخلف .. عندما عبر خوخة بابهم
الخلفي العتيق .. ودخل القيعة الجوانية، وصعد إلى قبة الفرن، واندس
في البطانية .. وهو يرتعد من الخوف والبرد .. كان يشعر بأنه يتجمد .
***
قالت فاطمة للحاجة :
- سوف أغيّر له الكمّادات ..
قالت الحاجة :
- عين وأصابته ..
ثم أخذت ترقيه :
- أعوذ بكلمات الله التامة .. من كل شيطان وهامة.. من كل
عين لامة .. أنا أرقيك، والله يشفيك .. من كل داء فيك ..
أخذ الولد يتمتم ببعض الكلمات، وهو لا يزال مغمض
العينين :
- مر...يم .. مر....يم ...
وكأنه قد ذكّر جدته الحاجة .. فالتفتت إلى فاطمة :
- مريم لم تنم هنا البارحة .. اذهبي لبيت خالها ضاحي ..
واسألي عنها ..
ردت فاطمة :
- سألت عنها اليوم .. فأخبرني ضاحي بأنها باتت عنده بالأمس ..
وأنها مصابة بنفس الدور الذي أصاب سي شهاب ..
اندهشت الحاجة، وعقدت حاجبيها عندما دخل الحاج سيد،
ومعه طبيب الوحدة الصحية بالقرية :
- يا ساتر ..
***
مضى أسبوع .. بعده .. استرد الولد الصغير بعضاً من
عافيته .. وبدأ يسأل عن مريم .. كانت نظرات حائرة ومترددة تتبادلها
جدته الحاجة مع فاطمة .. ثم تجيب الحاجة بعد حصار شديد من أسئلة
الولد الصغير المتلاحقة .. المتلهفة :
- عند خالها ضاحي .. تساعد زوجته ..
فيعلق الصغير :
- لم تسأل علي .. خالص ...
فترد فاطمة، وقد اغرورقت عينها بالدموع :
- مريم جاءت وسألت عليك .. ولكنك كنت نائماً .. ورفضت
إيقاظك ..
فينظر الولد الصغير ... وقد انفرجت أساريره قليلاً :
- لو جاءت مرة أخرى ... وأنا نائم .. أيقظوني ...
***
في مساء تلك الليلة دخل غازي حلاق القرية، كي يعطي
الولد الصغير الحقنة الأخيرة :
- الحمد الله، أصبحنا عال .. العال ..
أمسكت فاطمة بالولد الصغير، وأمره غازي ألا يتحرك، حتى
لا تنكسر الإبرة فيه :
- بالشفا .. إن شاء الله ..
وقبل أن يغادر غازي المكان .. سأله الصغير :
- لو شوفت مريم يا عم غازي ... قل لها : شهاب نفسه
يشوفك ..
وتعجبت فاطمة من إلحاح الولد الصغير، واندهش غازي،
وهو يعده أن يفعل .. وخاصة أن بيت ضاحي ملاصق لدار غازي ..
وانحنى غازي على رأس فاطمة :
- ألا يعرف؟!
ستي الحاجة أمرتني ألا يخبره أحد .. إلا بعد أن يشفى تماماً ..
ضرب غازي كفاً بكف :
- لا حول ولا قوة إلا بالله ..
فتطفر عينا فاطمة بالدموع :
- والله قطعت بنا جميعاً .
***
قال غازي وهو يقصُ الهواء بمقصه البليد :
- دفنها ضاحي بجوار أمها كما أوصت ..
ثم يهمسُ في أذن الزبون، وهو يلتفت يمنةً ويسرةً في حذر :
- أم العيال سمعت ضاحي، وهو يضربها .. ويسألها عن
الفاعل .
فينتفضُ الزبون :
- أستغفر الله العظيم .. ربنا يستر على ولايانا ..
فيردف غازي في عجل :
- أنا لم أقل شيئاً .. الدكتور قال :
" حمى شوكية .. تبقى حمى شوكية ! " .
***
في ضحى ذلك اليوم .. تسلل الولد الصغير من سريره ..
واتجه إلى هناك .. حيث المقابر وأمام أحد الشواهد ..
وقف يطيل النظر إليه .. ثم اقترب .. واحتضنه، وهو يهمس :
- مريم.. أنا شهاب يا مريم .. أنا زعلان منك .. تتركيني ..
وتذهبين عند ربنا ..
هل أغضبك جدي أو جدتي؟!
لو أغضبتك فاطمة؟، سأقول لجدتي، كي تطردها،
جدي أخبرني أنك في الجنة.. وأن هناك فاكهة ليست موجودة
– حتى – في حدائق الباشا ...
ولا يوجد في الجنة أخرس ..
على العموم .. أحضرت لكِ نصيبكِ في بلح الست .. أنتِ
واحدة .. وأنا واحدة ..
..............................
مريم ..............
أنا مشتاق إليكِ.. هيّا اخرجي من هذا البيت الضيق .. وتعالي
كي ننام على قبة الفرن، وتحكين لي القصص والحواديت ..
هل أنت غاضبة مني؟!
المرة القادمة – عندما نذهب لحدائق الباشا - لن أترككِ
وأهرب ... حتى لو طلبت مني ذلك ..
سأقف لأدافع عنك .. سوف أقذف الأخرس اللعين بالطوب ..
سوف أعضه في ذراعه ويده ... وأنبش أظافري في وجه القبيح ..
مريم ......
هيّا اخرجي .. أو سأدخل لك لنلهو معاً .. في حدائق الله ..
مريم .....
لا تتركيني ...
مريم .. افتحي لشهاب حبيبك ... لماذا لا تفتحين؟!
ثم امتدت يده الصغيرة تحاول فتح المزلاج الحديدي .. عندما
شعر بيد تلمس كتفه.. فالتفت مذعوراً من المفاجأة .. فلمح جده ..
بمظهره المهيب، ولأول مرة .. ولعلها الأخيرة ... كانت تلتمعُ في
عينيه الدموع ..
***
- لا أحد يعرف من قتله؟!
قالها غازي في ثقة :
- عندما دخلوا عليه الكوخ .. كان يتدلى مشنوقاً من السقف ..
فيسأل الزبون :
- وكيف عرفوا بموته؟!
فيردف غازي، وهو يرسم على وجهه إمارات التقزز :
- رائحته - بعيد عن السامعين – فاحت ...
ثم يضغط على كلماته :
- الطبيب الشرعي أكد أنه ضُرب بآلةٍ حادة على رأسه .. ثم
شُنق ..
ينزعج الزبون .. وقد مَطَّ شفتيه :
- ما الذي يحدث؟! هي البلد ما لها؟!
فينظر غازي في قفاه العريض، وهو يقول :
- ربنا يستر !
3- العاشق
مثلما البدر في منتصف شهر عربي .. أطلت زهرة بنت
سلطان .. بقّال القرية من الترسينة (7) الخشبية .. حين مرق العاشق
الولهان .. ينظر في تبتل إلى أميرته الملهمة .
وقبل أن يتجاوز ظل الترسينة .. سقط أمامه منديل أبيض ..
التقطته اليد المرتعشة في شوق ووجل .. ولم يطق العاشق صبراً .. أن
يذهب للبيت، ليفض المنديل، ويرى ما به .. فانتهز خلو الطريق
في تلك الساعة المتأخرة من ربيع قريته الهاجعة .. ليقف تحت أحد
السيمافورات (8)، والذي بدا من خلال ضوئه الشاحب كأنه عاشق أضناه
الهجر والسهر .. وتلفت في حذر.. ثم فرده بين يديه .. كان المنديل
الأبيض يحمل عطراً فوّاحاً .. وعلى حافته توجد ورود مطرزة
بالأحمر والأزرق .. وفي منتصفه كانت عبارة بخط منمنم، ومنمق :
- أحبك يا شهاب ..
فضمه إلى وجهه، وأخذ يستنشقُ من عبير زهرته !
***
في الهزيع الأخير من تلك الليلة الربيعية المقمرة .. أخذ يتنقلُ
ما بين الأسطح المتلاصقة، وهو يقفز في مهارة وحذر.. ويكتم أنفاسه
المتلاحقة .. حين ينبحُ عليه كلب بظرميط أو تزعق عليه إوز
الجيران .. ويفضحه نقيق الدجاج على العرائش في الحظائر
والزرائب المختلفة .
لم يكن خائفاً .. بل كان يعتريه شعور غريب من السعادة
والتوجس .. تماماً مثل ذلك الشعور، الذي كان يغمره وهو يدلف
مع مريم .. من نقب السور الخلفي لحديقة الباشا .
وما إن وصل إلى مِقْعَدِهَا (9) العلوي .. حتى تنفس
الصعداء .. طرقات خفيفة بطرف سبّابته .. خرجت لإثرها
زهرة .. بجلباب نومها الشفيف .. وجذبته للداخل فضمها إلى صدره ..
ولثم كل وجهها .. وقَبّلَها بقوة جعلتها تترنح .. وقاوم رغبة شديدة في
الدوار.. لم يتكلم .. كان ينظر إليها .. يتفرس ملامحها الوضيئة ..
ويعبث بأطراف أصابعه في خصلات شعرها الليلي المنهمر على
كتفيها ..
- أحبك يا زهرة ..
وقبل أن يضمها لصدره المتقد .. كانت زعقة عم درويش في
آخر الليل، وهو يمارس عادته اليومية لإيقاظ النائمين للصلاة :
- جبال الكحل تفنيها المراود ..
وكُثرُ المال تفنيه السنين ..
رجال طلّقوا الدنيا ثلاثاً
وعن فعل المعاصي.. تائبين
رجال الله .. لا خوفٌ عليهم،
ولا خوفٌ على المُدّرَكِين (10) .
ينتفض صدر زهرة .. وهي تبتعُد عن صدره في جزع :
- أبي سيقوم للصلاة .. وأمي ..
فيفزع العاشق لفزعها .. ويودعها بنظرة طويلة .. عميقة
وحانية ..
- الصلاة يا مؤمنون الصلاة .
ركعتا الفجر.. خير من الدنيا وما فيها ...
وما إن خرج العاشق من مَقْعَدِهَا .. وانتصف السطح .. كانت
ملكة أم زهرة تمسك في يدها لمبة ( الشيخ علي ) (11)، وهي تعتلي درج
السلم، كي توقظ ابنتها لتساعدها في تجهيز الفطور لأبيها واخوتها ..
حتى صرخت :
- حرااااااااااامي، إلحقني يا سلطان ..
كان الولد العاشق يقفز بين الأسطح كقرد في غابة، حتى
اقترب من سطح نعسان الخفير .. قفزة واحدة، ويصبح في داره .
المشكلة العويصة التي اعترضته .. هي كلب الولد بظرميط السخيف،
الذي حاول العاشق مِراراً أن يستعطفه أو يستقطبه .. دون جدوى ..
عاجله بقرص من أقراص الجلة الجافة المرصوصة فوق مطر الغلال (12)
فعوى، وهو يزمجر هارباً .. فقفز العاشق إلى سطحهم .. لكن
توازنه اختل ... فوقع في صحن الدار على ساقه .. وكابد نفسه كي
يمنع صرخة خرجت منه رغماً عنه ..
***
قالت جدته :
- الحمد لله .. بسيطة .. غازي ربطها بالصوف.. وبعد أسبوع
ستصبح مثل الأول .. وأحسن ..
ثم تنظر إليه في حنان، وهي تربت على رأسه :
- لماذا اعترضت الحرامي؟! .. ما لنا وماله؟!
وضمته إلى صدرها :
- أنا مستعدة أن أخسر كل شيء إلاك ..
وطفرت الدموع من عينيها :
- لم يعد لي أحد سواك، وأبوك ...
ثم تنظر في صورة معلقة على الحائط :
- يالله ... يجيء بالسلامة..
فأمسك شهاب بيديها .. وأخذ يقبلهما :
- لا تخشِ علي .. " عُمر الشقي بقي ! " (13) .
***
أمسك العاشق قلمه، وخط على ورقة ملونة .. تزدان حوافها
بقلوبٍ حمراء :
- وبنيتُ لكِ قصراً من الفضة .. الذي أدهشني أنكِ كنتِ أنقى
من الفضة .. كنتِ كبللورةٍ شفافة .. وكنت أرى من خلالك الأشياء .. لم
نشعر بالجوع أو العطش .. ولا حتى بالضجر.. تسامينا فوق
الأشياء .. لم نعد نغضب .. صرنا ملائكةً ..
هل رأيتِ.. ملائكة.. تغضب؟!
ثم فتح خطاباً أبيض اللون يحتوى على رسالة بها زهرة
حمراء جافة .. أخذ يستنشق عبيرها .. وحين فض الرسالة :
- لا أقدر على مجاراتك في كلامك الحلو.. ولكنني أستطيع أن
أقول لك :
" لا توجد قوة في الدنيا تقدر أن تبعدني عنك..
أحبك..
زهرة "
***
كانت زهرة تذهب كل عدة أيام إلى الغيط، لتقطف بعضاً
من أوراق الملوخية وأصابع البامية، وكذلك الرِجْلَة، التي يحبها والدها
سلطان .. ولا تنسى أن تعود ببعض الحلبة الخضراء التي تستهوي
ملكة أمها .. أما هي .. فكان العاشق ينتظرها عند الشجرة الكبيرة، التي
تطرح توتاً أحمر لذيذاً .. فيتسلقها في براعة .. ويهز الأغصان
المتخمة بالتوت الأحمر الناضج، فيساقط عليها ثمراً جنيّاً .. ثم يهبط
وهو يقفز من فوق الجذع على الأرض في حركة استعراضية ..
فتجزع زهرة .. وتجرى إليه.. فيقوم فجأة .. وهو يقذفها بثمار التوت
الأخضر (العَجْر) فترد عليه، وهي تصرخ .. وتجري في صخب تجاه
جدول المياه .. وتملأ راحتيها .. وترشه في وجهه وجسمه وصدره .
فيضحك .. ويأخذها في حضنه .. ويسقطا على االبساط السندسي،
المنسكب في الغيطان بكرم لا نهائي ..
- يا مجنون .. الناس ..
يقترب منها .. ويخطف قبلة ضرورية، تخمدُ بعضاً من
نيران لوعته ..
- والله العظيم .. أنت مجنون ..
ثم تلملم أشياءها .. وتعدو كَنِمْسَةٍ (14) بين الحقول ..
***
قال العاشق لأقرانه :
- زهرة يا رفاق .. حورية الحور... عبقرية الجمال .. رقيقة
كفراشة .. مراوغة كهِرّة .. آه من ابتسامتها .. وضحكتها .. وصوتها
الغريد .. كالعندليب في البكور.. زهرة يا رفاق .. شعرها الليل
المنسكب على بلدتنا .. وجبينها البدر التمام .. وثغرها.. والله .. حبات
كريز من حدائق الباشا ..
وقدها .. غزالة .. برية ... رشيقة .. وعيونها مثل المها ..
وتفوقها في ذلك بالنعاس، الذي يكحل جفنها .. فيزيدها سحراً وألقاً ..
زهرة يا رفاق .. الربيع حين ترضى، والشتاء حين تغضب ..
زهرة يا رفاق .. قلبي النابض .. وعقلي المدرك .. وروحي الشفيفة ..
ثم تعتريه حالة من الهيام :
- " تتشابه الأسماءُ
تتشابه الأشكال ..
لكن حسنك زهرة
ليس في الأمثال " (15) .
***
الزغاريد تملأ الحي .. وكعادة أهل الريف الفضوليين ..
انبجست أرض الشارع بالبشر.. وتراصت التراسينات الخشبية
بالنساء والصبية ..
قالت مكاسب زوجة نعسان الخفير :
- من أين تأتي تلك الزغاريد؟!
أجابت إحداهن في الترسينة المقابلة :
- من دار سلطان البقال ..
وأردفت أخرى ضاحكة :
- عقبى لكم .. يا بنات ..
وعلقت فاطمة التي تخدم في بيت شيخ البلد :
- زهرة .. خطبها ظافر ابن العمدة ..
***
لماذا جرى كالمجنون – في تلك الليلة- التي اختلطت فيها
زغاريد النسوة بزغاريد البنادق حين تبارى الخفراء، وعلى رأسهم
نعسان في إطلاق الأعيرة النارية؟!
لماذا سد العاشق أذنيه .. وأخذ يعدو خارج القرية، ناحية
الحقول؟! وانطلق يجرى بين عيدان الذرة .. يضربها بذراعه .. حتى
وصل للتوتة الكبيرة، فبصق عليها .. واعترته نوبة من الغضب
الجامح .. فضربها بيديه الكليلتين، والدم ينساب منهما بارداً لزجاً
ثم انطلق بسرعة .. كأن جنياً يطارده .. وقفز قفزة مهولة ..
جعلته في منتصف النهر.. لكن الماء البارد القراح .. لم يطفئ – أبداً -
تلك النيران المتأججة بصدره .. في تلك الليلة .
***
قال الطبيب :
- إنه محموم .. لا تعطوه أي شيء، حتى تنخفض حرارته ..
كمادات فقط ..
كانت فاطمة تجيء بالثلج المجروش .. وتضع الكمادات على
جبينه الملتهب ... بينما انهمكت جدته في الدعاء له .. والبكاء على
رأسه :
- يا رب خفف عنه.. لأجل حبيبك النبي ..
ثم انتبهت حين ابتدأ الهذيان :
- زهرة .. زهرة ..
فأخذته في حضنها .. وضمته بشدة :
- يا ضنايا يا ابني ..
***
كان العاشق يحتضن شاهد قبرها :
- مريم ..
لماذا تركتني وحدي؟!
زهرة تزوجت ظافر ابن العمدة .. ذلك الولد البليد، الذي كان
يجلس- دائماً- في الدكة الأخيرة من الفصل .. وما أفلح أبداً أن
يحصل على الابتدائية.. تزوج زهرة الطالبة في الثانوي .. باعها
سلطان لظافر.. وجدي تخلى عني ومات قبل أن يعلمني الوِرْد أو
يعطيني العهد أو يسقيني من الترياق ...
مريم ..
لا أعرف كيف "أحوي" الثعابين أو أروّض الأفاعي؟!
لم يبق لي سوى جدتي .. والحزن ..
مريم ...
الحياة بعدك لا تطاق .. فافتحي بابك لي .. وخذيني
***
بعد أن انتهى العاشق من قراءة تلك الرسائل .. ألقى بها في
رَكْيَة (16) القالوحات وقش الأرز، التي أشعلها كي يطرد دخانها عنه غائلة
الناموس ..
4- الوريث
* الأسطورة
يقولون :
- ( من ينزلُ في نهر القرية .. ساعة نوم النهر.. يأخذ قوة هذا
النهر.. وخصب النهر.. وشبق النهر ) .
ليلتها .. عندما كانت زهرة ابنة سلطان تُزفُ لظافر ابن
العمدة .. حين قفز العاشق في وسط النهر.. كان النهر نائماً !
***
يقولون :
- ( إن الجد العاشر للعاشق، كان عبداً من عبيد الحاكم
بأمر الله :
" وكان الحاكم يلبس جبة صوف أبيض، ويركب على حمار
عال أشهب يُسمى القمر، يطوفُ في أسواق مصر والقاهرة ويباشر
حسبة البلد بنفسه .
وكان معه عبد أسود طويل عريض يمشي في ركابه يقال له :
مسعود .
فإن وجد أحداً من السوقة غش في بضاعته، أمر ذلك العبد
مسعوداً، بأن يفعل به، على دكانه والناس ينظرون إليه
حتى يفرغ من ذلك، والحاكم واقف على رأسه .
وقد صار مسعود هذا مثلاً عند لطفاء أهل مصر إذا مزحوا
مع أحد يقولون :
( أحضر له يا مسعود ! )
وفي ذلك يقول بعض الشعراء :
إن لمسعودٍ آلةً عظمت
كأنها في صفات طومارِ (17) .
تشقُ أدبارَ من بهم جُرم
أصعب من درة (18) بمسمارِ (19) .
- مريم ..
هل أخبركِ عن خيبة جعفر؟!
الفلاح الذي لا يعرف غير المحراث، وسماد اليوريا، وكوم
سباخه في جرن القرية ..
كان جعفر فلاحاً قُحاً .. يقوم في البكور كي يرعى أرضه ..
ويحلب جاموسته .. ويصفر من فوق حماره .. ويغني في الفجرية :
- طلعت يا ما أحلى نورها
شمس الشموسة .
ومرت الأيام .. واشترى جعفر ( دِشاً ) .. فأهمل أرضه ..
وجرّفها .. وأصبح يستيقظ كل يوم بعد الظهر..
وفي ذات يوم .. تجمّع الناس حول سيارة الإسعاف، التي
جاءت بعد صريخ عدلات زوجة جعفر، ليحملوه إلى المستشفي ..
قال غازي فيما قالوا :
- إن جعفر كان يشاهد فيلماً ( لا مؤاخذة )، حين استبدت به الرغبة
العارمة..
فأيقظ عدلات التي تشبه كيس القطن غير المكبوس جيداً،
وقطع عليها وصلة العزف الأنفي المنفرد ..
وأراد جعفر أن يُجامعها فانكسرت "مُلة السرير.. وسقط جعفر بين الألواح،
ومن فوقه عدلات بجسمها الفيلي ..
حين صرخ جعفر متأوهاً قال الأطباء في مستشفي المركز:
- تمزق في الشعيرات الدموية، الموجودة في عضوه، بعدها .. ظل
جعفر لمدة عام رهين المحبسين :
الحرج، وداره .. لم يخرج خلاله من بيته .
وصارت حكاية جعفر أضحوكة ومثال .. يتندر بها غازي في
دكانه القميء .. كي يُسلي زبائنه، أو يحيكها بعض السُمّار في
مجالسهم، وهم يشربون الشاي المعتبر، المصنوع على قَضْبِ (20) الركية
المتوهج ..
وأصبحت دعابة يطلقها ظرفاء القرية حين يداعب أحدهم
الآخر :
- ( رُحْ .. إلهي تخيب .. خيبة جعفر! ).
***
مريم ..
هل أخبركِ عن ظافر ابن العمدة؟!
ضبطوه في الزريبة مع حمارة العمدة "الركوبة "، كان
مبرره ساعة انهيال أبيه عليه بالعصا العوجة :
- فضحتنا يا ابن الكلب !
أن الحمارة كانت "تَشْتَق" (21) في أنوثة حمارية .. مطالبة بحقها
في حمار يشفي غلمتها .. ويطفئ ثورة رغبتها .. وأن العيب .. كل
العيب .. في الحمارة اللعوب .. التي أغوت الفتى الملائكي ..
- والشيطان شاطر يا عمدة !
فكان الناس يتندرون في دكان غازي بأن الجحش، الذي
أنجبته الحمارة "إياها " مؤخراً :
- الخالق الناطق .. حضرة العمدة !
فيرد غازي بحنكة وحكمة :
- يا جماعة.. العرق يمد ... لسابع جد!
ليلتها .. أقسم العمدة أن يزوّجه في نفس الشهر.. عملاً
بنصيحة مولانا الشيخ قطب ..
ووقع الاختيار على زهرة ابنة سلطان التاجر .. بقال القرية ..
***
مريم ..
لا أعرف لماذا أحضرت لقمة طريّة، ودسست بها إبرة
خياطة جديدة، وقذفت بها على سطح الخفير نعسان، حيث التقطها
كلب الولد بظرميط، وهو يهز ذيله لي في جذل؟!
5- الثَوْرِي
- مش معقول .. مش معقول ..
سليمان خاطر.. مات مقتول .. (22)
هتف الشاب المتحمس .. وردد زملاؤه معه في حماس ..
كانت الجامعة تمور بالغضب .. حين ودت المظاهرة
الخروج من حرم الجامعة عبر البوابة الرئيسية .. لكن جنود الأمن
المركزي بملابسهم السوداء الداكنة المقبضة، وخوذاتهم اللامعة تحت
ضوء الشمس، ودروعهم الكبيرة القوية .. وهراوتهم المتحفزة في
شوق، كي تنزل على رؤوس وأجساد الطلاب المتذمرين الثائرين ..
انشقت الأرض عن ثلة من هؤلاء الجنود .. عندما حاول
الشاب المتحمس أن يعبر مع زملائه من البوابة الرئيسية .. فاستقبلته
العصي الغليظة الغبية التي لا ترى أين تضرب، ولا تسمع – أبداً -
توجعات المصابين، وهي تشق الهواء .. لتنهال في بربرية وهمجية
على أمهات رؤوسهم ...
لا يذكر الشاب الثائر غير كلمات عثمان الماركسي :
- شهاب .. ارجع .. ارجع ...
***
- ماذا تريد؟!
صاح والده في حنقٍ شديد :
- هل ستغير نظم الكون؟!
وتلوّن صوته في سخرية:
- هه .. والله عال .. العيال أصبحوا ساسة .. ولا يعجبهم
شيء ..
وأردف وهو يشير إلى الضمادة التي تحيط برأسه كعمامة
الشيخ قطب :
- هذه المرة .. جاءت سليمة .. إيّاك .. أنا أحذرك من
تكرارها .. وتركه والده، وهو يزفر في ضيق :
- مالنا والسياسة يا شهاب ..
قالت جدته، وهي تحتوي رأسه في صدرها :
- الحكومة عارفة مصالحنا يا ابني ....
تململ رأسه في صدرها .. وزفر في تبرم :
- يا ابني .. أبوك خائف عليك ...
وتنهدت وهي تقول في حسم :
- ماذا - بعد الشر - لو جاءت الطوبة في المعطوبة .. مستقبلك
يا شهاب .. بعد الكلية .. افعل ما تشاء ..
عندها رد شهاب في غيظ وغضب :
- أنا عارف مستقبلي ...
واعتدل بجذعه في وسط السرير:
- أرجوكم .. دعوني وشأني ..
فقامت جدته عنه مغاضبة، وهي تقول عبارتها الروتينية،
التي تلوذ بها – دائماً - عندما يعاندها حفيدها المشاكس :
- وأنا ما لي .. أنت حر (ربيت كلب واندار عقرني .. لعنة الله
على الكلاب) (23)
فيضحك شهاب .. ويُقَبّل يديها مصالحاً ..
***
على مقهى الحرية .. كان شهاب .. وعثمان الماركسي ..
وسعيد الإخواني .. وانضم لهم ماهر ..
- حمد الله على السلامة يا بطل ..
فيرد شهاب :
- الله يسلمك يا عثمان .. لا أعرف كيف أشكرك لقد أنقذت
حياتي ..
علق عثمان :
- لا شكر على واجب .. لقد هجموا عليك كالمغول ..
غمغم سعيد :
- منهم لله .. ربنا يقصف عمرهم ..
والتفت إلى ماهر يستشف رأيه في الأمر، قال ماهر ضاحكاً :
- أنا في السياسة حمار من غير ذيل ..
علق شهاب :
- وفي غيرها ..
ضحك الجميع .. بينما أردف ماهر :
- أنا أعذرك .. العلقة التي أخذتها .. تجعلني أسامحك لمدة
عشر سنين ..
قال سعيد :
- ما هذا الكرم الحاتمي؟!
علق ماهر:
- قال أبي: " عش نذلاً .. تمت مستوراً " (24)
صاح عثمان :
- لا فض فوه ..
رد ماهر :
أمي قالت : " يا ابني .. أنت الحيلة على البنات .. أنت
عكازنا وذخرنا للزمن ! " ...
قال شهاب :
- ماهر في دماغه الزارعة .. أما في السياسة فهو " ثور الله في
برسيمه ! "
علق سعيد :
- برسيمه؟!
رد عثمان :
- تخصصه.
يضحك الجميع :
- والله أنا أحب مصر أكثر منكم ...
قال ماهر في تأثر:
- ولكن، أنا لا أفهم إلا في الزراعة ..
ثم أكد :
- ارموني في الصحراء .. وإمكانيات معقولة .. وشوفوا
ماذا سأصنع؟!
- لمهندس جاي .. لمهندس جاي .
يا صحرا .. لمهندس جاي .(25)
فيضحك الجميع :
- أنت تطبق سياسة (أذن من طين.. وأذن من عجين!)
قالها شهاب مداعباً ماهر، الذي التفت إليه قائلاً :
- تمام ... وأنت يا شهاب .. أي مذهب سياسي تعتنق؟!
فوجم شهاب .. وسكت الجالسون :
- الشيخ سعيد إخواني .. والإخوان معروف ماذا يريدون؟!
وعثمان ماركسي .. لا أعرف ثلاثة أرباع ما يتشدق به .. لكني أفهم
أنه يريد الحل الاشتراكي كنموذج مثالي للتطبيق .. وأنت .. ماذا
تريد؟!
كان سؤال ماهر مفاجئًا لشهاب .. لم يكن يتوقع أن يسأله أحد
مثل هذا السؤال .. ولو توقعه .. لجاء ماهر كآخر شخص في الدنيا
يطرح عليه هذا السؤال المربك ..
- حقا .. ماذا يريد؟!
تساءل شهاب .. ما الذي يدفعه للخوض في معمعة السياسة ..
وهو لا يعتقد في أي مذهب سياسي .. ولم ينضم – يوماً – لأي حزب
من الأحزاب ..
عندما قرأ الأمير لميكيافيللي .. اقشعر بدنه من فكرة الوصول
للغاية بأي وسيلة، مهما كانت وضيعة .. ومنذ سنوات قليلة قرأ الكتاب
الأخضر للأخ العقيد .. أحضره له صديق عائد من ليبيا ... وتوقف
عند عبارة شدته، وجاءت في ذاكرته كلوذانٍ حتمي للفرار من
محاصرة ماهر له :
- من تحزّب .... خان !
ضحك ماهر في هستيريا وصخب .. وهو ينظر لردفي امرأة
تعبر من أمامه .. وقد بدا طرف ملابسها الداخلية من تحت
التنورة الضيقة، المجسمة للردفين الصاخبين، المتحركين كقطعتين من
الجيلي .. في مشهد بالغ الإثارة، وجدير بالانتباه، ثم صاح :
- صلاة النبي أحسن !
غمغم سعيد :
- أستغفر الله ..
و أردف ماهر :
- السياسة .. هذه هي السياسة يا غجر ..
ثم ضغط على كلماته :
- من يستطيع أن يسوس امرأة ويروّضها .. فإنه يستطيع أن
يسوس العالم ..
علق عثمان :
- أنت فيلسوف يا ماهر ..
و قال سعيد الإخواني :
- عند الظلام تتساوى النساء !
وأضاف متلعثماً :
- هكذا قال كونفوشيوس ..
وسكت ماهر .. قبل أن يضيف، وهو يرسم على وجهه قناعاً
من الجدية الغريبة عليه :
- يا رفاق .. أستطيع .. الآن .. أن أبوح لكم باسم حزبي ..
فأومأ الجميع .. وعلى وجوههم الدهشة :
- أنا حزبي ..
ثم سكت فجأة .. وقد بدأ قناعه الجدي الزائف في التلاشي
والسقوط :
- أنا حزبي وداد قلبي ! (26)
فضحك الجميع، وأخذ شهاب يرشه بكوب الماء .. حين قام
ماهر منتفضاً، وهو يكابد ألا يقع من فرط الضحك ..
قال عثمان ضاحكاً :
- لا يوجد في دماغك إلا النسوان العارية !
وأردف شهاب، وهم يضحكون :
- و " تِفْلُ " الشاي !
***
للولد المشاكس أحوال جمّة، في صباه كان يجد المتعة في
التسلل من خوخة الباب الورّاني .. وهو يجري حافياً إلى الحقول ..
بعدما خلع صندله الجلدي ..
كان شعوره بالحفاء عظيماً .. رغم سخونة الأرض ..
وإحساسه ببعض الوخز المؤلم .. أو حين يدوس بباطن قدمه على
شظية زجاجية أو مسمار صدأ فيسيل الدم الساخن على قدمه .. فيقلد
أقرانه عندما يسد رمق الجرح النازف بالتراب :
- اشرب دمك .. يا غراب !
أو حين يخلع ملابسه .. كما ولدته أمه، ويقفز بحركة بهلوانية
في منتصف النهر.. مرة كاد أن يغرق .. لولا أن أنقذه أحد الفلاحين ..
ورآه الولد بظرميط .. فأوجس الولد المشاغب في نفسه خيفة .. وتأكد
حدسه .. عندما عاد إلى البيت .. فوجد جده ينتظره بالعصا :
- لن تفعل ذلك ثانية .. هه !!
لكنه كررها .. ثانية .. ورابعة .. وعاشرة .. بعدما لقن الولد
بظرميط .. علقه ساخنة لن ينساها .. جزاءً وفاقاً لوشايته !
***
كان الولد المشاكس يخرج ليلاً مع أقرانه، لممارسة الحرب
الطفولية ضد عصابة ظافر ابن العمدة ..
وأعد الولد المشاكس كل العدة لتلك الحرب .. حين جمع كل
قروشه لشراء كيس " البُمُبْ " من دكان سلطان البقال .. ويذهب الولد
المشاكس وأقرانه إلى منزل العمدة ... كي يقابل جيش ظافر وأقرانه ..
وعلى رأسهم بظرميط .
وقبل أن تبدأ الحرب الطفولية.. يفاجئهم الولد المشاكس
وأقرانه .. بسلاح البمب :
- الحرب.. خُدعة !
ويهتف الجيش المظفر:
- الله .. أكبر..
عندما يفر الجيش المندحر المهزوم .. ويلوذ بِشَكْمَة (27) منزل
العمدة .. الذي خرج لتوّه .. فزعاً من دوي البمب .. ومعه كل الخفراء
يجرون خلف الجيش الظافر، في معركة غير متكافئة .. ولا عادلة
بالمرة !
***
قالت مريم :
- شهاب .. إياك أن تشاكس سامية العبيطة ..
ثم أمسكت رأسي بيديها .. وركزت في عيني :
- هذه البنت مجنونة .. وتقذف بالطوب !
في ظهيرة هذا اليوم .. كان الولد المشاكس وأقرانه .. يرقبونها
وهي تقضي حاجاتها، على أحد أكوام السباخ المنتشرة في جرن
القرية الكبير ..
عندما هجم عليها جيش الولد المشاكس بالطوب .. وفوجئت
سامية العبيطة بالهجوم المباغت .. فسقطت على الأرض .. وهي
تهمهم في حنق وغضب .. ثم وقفت، وأخذت تعدو .. والجيش المظفر
خلفها بالحجارة، حتى خلّصها نعسان الخفير.. وهو يسب ويلعن :
- أولاد الشياطين !
فيهتف الأولاد :
- الله أكبر .. الله أكبر...
ويخرج الولد المشاكس "حُقْ كيالة " والذي تستخدمه جدته
كمعيار للحبوب والغلال :
- الاثنا عشر حُقاً .... يساوي " كيلة " بالتمام والكمال !
لكن الولد المشاكس استعاره تلك الظهيرة .. كي يدق عليه..
دقات الظفر والنصر:
- سامية الهَبْلَة .
جابوا لها الطبلة .
***
مريم ..
عاد والدي من البعثة بعد أن حصل على الدكتوراه .. أشعر
نحوه بغربة شديدة .. لم أتعوّد عليه .. كنت أعتقد – وأنا طفل صغير-
أن جدي هو أبي .. وجدتي هي أمي ..
و أبي البغتة هذا .. يريد أن يمارس كل طقوس الأب
الكلاسيكية :
- لا تتأخر..
- ما هذا؟! .. رائحتك غريبة .. هل تدخن؟!
- لا يوجد شيء اسمه أصدقاء ..
- ذاكر .. واجتهد .. أنت في ثانوية عامة ..
- التلفزيون ممنوع .. في الإجازة فقط ..
- التليفون .. بإذن ..
قالت جدتي لوالدي ذات مساء .. وأنا جالس على مكتبي أدعي
المذاكرة :
- لا تقل له ذاكر.. سوف يعند .. أنا أعرفه جيداً، دماغه
كالزلط .. اتركه .. سيذاكر وحده ..
فأردف والدي .. وقد تعمد أن يصلني صوته الوعيدي :
- وأنا أليّن الزلط ...
فماذا ستفعل يا والدي؟! حين أدخل الامتحان ولا أجيب ..
وأترك الصفحات بيضاء من غير سوء؟!
أرني كيف تلين الزلط؟!
مريم ..
كانت نشوة شيطانية عارمة.. لا حدود لها .. ولا مثيل ..
تجتاحني .. حين أمارس حقي في الرفض .. في التغيير.. في أن أجتث
كل الأشياء من جذورها .. وأعيد لها تكوينها كما أرى .. وأحب ..
هل ستصدقينني؟!
عندما أخبرك بسعادتي .. ونشوتي .. وأنا أخيّب آمال أبي
المرجوّة في عبقريتي المكبوتة.. حين ظهرت النتيجة .. وكنت راسباً
بالثلث !
مريم ..
سأنجح .. ليس لخاطر أبي الذي ظهر لي بغتة .. ولا لأجل
روح أمي التي ماتت حين وضعتني ..
سأنجح فقط لسببيْن :
أولهما : لأني عرفت معنى الفشل .. وأريد معرفة النجاح ..
وثانيهما : ......................... لأجلك أنتِ !
***
- سوف أزوّجك ياسمين ابنة الدكتور حسن ..
قال والده :
- جميلة، ومثقفة .. وبنت عائلة .. والدها أستاذ جامعي ..
وأمها مدير عام ... ثم ..
واقترب منه .. وهمس في فخر أبوي :
- البنت تريدك .. أنت الآن كبير وتفهم .. والدها صديقي ..
وهو يحبك .. ويكاد يخطبك مني لابنته ..
واعتدل :
- وأنا فاتحته في الموضوع .. والحقيقة لم أجد إلا كل
ترحاب .. هه.. ما رأيك؟!
فيرد شهاب :
- لا أريد الزواج الآن؟!
انتفض والده :
- نعم .. لا تريد الزواج .. وكلمتي .. ووعدي للدكتور حسن؟!
أردف شهاب :
- أنا لا أفكر في أي ارتباط حالياً ..
يشتاط الوالد غضباً :
- أتريد أن تحرجني مع صديقي ..
فيعقب شهاب :
- لم أعده بشيء ...
فيرد والده :
- ولكني وعدت ..
يبتسم شهاب وهو يداعبه قائلاً :
- إذن .. تزوجها أنت !
عندها .. يكون السيل قد بلغ الزبى :
- يا قليل الأدب .. من تظن نفسك .. يا فاشل .. يا خائب ..
أنت شُرّابة خرج ..
( والله ما أنت فالح .. ولا وارد على فلاح )
لو نفعت .. من حقك أن تبول على قبري !
***
مريم ..
لماذا كنت أجد سعادة في ذلك؟!
أذكر رفضي خلع حذائي .. وإدخال قدمي في " فَلَكَة " الأستاذ
عبد اللطيف الأقرع، لأن ضوضاء الفصل كانت تشوّش على حديثه
الفارغ، مع الأبلة ليلى .. التي تركته يثرثر وحده – دونما استئذان –
وذهبت كالعادة لتجلس مع الأستاذ/ علي، مدرس الرسم .. فابتلع
عبد اللطيف لسانه الممرور في حلقه .. ودخل ليصب جام غضبه على
التلاميذ المساكين، كبديل تعويضي وحيد وممكن .. لاسترجاع كرامته
المبعثرة ..
حين أراد أن "يَعْبطني"، ليحقق لنفسه انتصاراً وقتياً زائفاً .
كنت وقتها أجلس في دكتي بجوار النافذة، لا أفعل شيئًا غير
الصمت .. وتذكر أيامك الجميلة .. عندما اقترب الأقرع مني كي
يبطش بالذي هو متمرد في الفصل، ويجعله – دائما – عبرة لمن لا
يعتبر!
كانت النافذة هي الملاذ الوحيد .. حين قفزت في خفة
وبراعة .. وأنا أفوّت على الأقرع فرصة تحقيق نشوة لحظية ..
وأضيف إلى سجل هزائمه الحياتية .. هزيمة أخرى منكرة !
***
مريم ..
ما الذي جعلني أذهب لنقطة الشرطة، كي أبلغ عن تحريض
العمدة للفلاحين بتجريف الأرض الزراعية، وتحويلها إلى أرض
بناء .. بالاتفاق مع مهندس المساحة لإدخالها ضمن الكردون .
مريم ..
ما الذي جعلني أضرب شُحْبَر كاك .. بكل هذه الضراوة ..
عندما خلّصوه من يدي .. طلبوا له الإسعاف .. لأنه باع ابنته سنابل
لعجوزٍ ثري !
مريم ..
هل أحدثك عن النار المتأججة بداخلي ..
عن الرغبة الجامحة في اقتلاع كل أشجار الفساد من
جذورها .. أن أزرع شجراً طيباً .. مثمراً مثلك؟!
***
كان شهاب جالساً – كالعادة – بعد المغرب على مقهى
الحرية .. عندما جاء ماهر واجماً مُطرقاً على غير عادته ..
- هيه .. ما لك يا أبو الأمهار؟
زفر ماهر .. وهو يسحب كرسياً ليجلس :
- قبضوا على عثمان ..
انتفض شهاب غير مصدق :
- هه .. ماذا تقول؟
ضرب ماهر كفاً بكف، وهو ينظر إلى نقطة غير محددة في
المدى :
- سعيد طلع عصفورة !
وعندما هَمَّ شهاب أن يستفسر، جاءه جواب ماهر الصاعق :
- الشيخ سعيد طلع أمن !
***
مريم ..
لماذا أرى كل الأشياء من حولي مقلوبة؟!
مريم ..
أين الصواب؟! وأين الخطأ؟!
مريم :
هل أمشي مُكِبْاً على يدي، كي أضبط كُنه الأشياء، فأريح
وأستريح؟!
بداية الدفتر الثالث :
مكتوب بالحبر الشيني الأسود، وبعض الكلمات مطموسة، ربما نتيجة للرطوبة أو أصابها بعض البلل ..
6- الدَاجِنُ
حين ولج من باب أربعة .. الباب الرئيسي للمبنى الكبير
الشهير.. المطل على نيل ماسبيرو .. استوقفه حارس الأمن بملابسه
الزرقاء الحالكة :
- الكارنيه يا أستاذ !
أخذته اليد المريبة المتوجسة دائما :
- حضرتك مذيع ...
فأجابه، وهو يمرق من البوابة الإليكترونية :
- لو لم يكن عندك مانع ..
لم يكن شهاب يصدق – أبداً- أنه نجح ضمن المتقدمين
لاختبارات الإذاعة المصرية، للعمل كإذاعي ثالث .. لأنه لا يعرف أي
واسطة .. في وظيفة أجمع كل من تقدم إليها أن البقاء فيها لصاحب
الواسطة، أو من يملك كارتاً سحرياً لأحد الأقطاب الواصلين،
المسموعة كلمتهم في هذا البلد الأمين ..
حين صعد درجات السلم .. مر ببصره على استوديوهات البث
الإذاعي في الدور الثاني .. فارتجف فؤاده الغض .. وأفاق وهو يعبرها
للدور الثالث، لاستلام عمله الجديد .. أنه ليس بحالم ..
***
لم ينس – أبداً – أول يوم دخل فيه الاستديو .. وتحدث أمام
الميكروفون .. تلك الرهبة، التي اعترته .. جعلت صوته المميز
يرتعد .. عندما مال على رأسه أحد الفنيين :
- أمام هذا الميكروفون تحدث أحمد سعيد (28)
ثم استدار ليشير إلى هاتف أسود عتيق :
- في هذا التليفون .. تكلم عبد الناصر مخاطباً أحمد سعيد :
" بيان هام .. لا بد أن تذيعه ! "
فازداد توتره .. ورعشته .. وأحس بأن شعر رأسه يقف ..
وسرح عقله لتلك الأيام التي قرأ عنها كثيراً .. وكان يسميها :
- الأيام المجيدة !
- أمجاد يا عرب أمجاد ..
اللمبة الحمراء هي التابو الأكبر .. حين تُضيء .. لا تفتح باب
الاستديو .. لا تدخل .. لا يعلو صوتك .. نحن على الهواء
- " الهوا ما له دوا " .
هكذا قال أحد الزملاء الأقدمين ..
يوجد بابان خشبيان سميكان للاستديو، يمنعان وصول أي
صوت خارجي عن ذلك الكائن الحبيس، القابع أمام الميكرفون ..
ومعه قلمه، الذي يسجل به في أوراق أمامه .. كل بنت شفة تخرج من
المذياع .. طوال فترة مكوثه بالاستديو ..
يفصل بينه وبين الفني، جدار زجاجي سميك .. يسمح بالرؤية
الواضحة .. ولا يسمح للصوت بالوصول .. ويكون التفاهم – دائماً –
بالإشارات .. أو عن طريق زِرُ الـ Talk Back
***
- شهاب .. أريدك ..
اهتز قلبه مرة .. عندما دخل حجرة الإذاعية الكبيرة ...
- أنا بمثابة أخت كبرى لك ..
فازداد توجسه من هذه المقدمة الميلودرامية، والتي يعقبها
- دائماً - في الأفلام الهندية والعربية .. أشياء غير مبهجة ولا مفرحة
بالمرة ..
أنت الآن ... إذاعي محترم .. وبصراحة .. الكل يشهد بأنك
ممتاز .. ولكن ...
- آااااه .. " بعد لكن .. دائماً يكون اللون داكن " ..
- شعرك طويل جداً .. ومفلفل ..
ملابسك .. اسمح لي ..
ثم مطت شفتيها في استنكار واندهاش :
- تناسب ولداً هيبز ...
وحذاؤك .. لماذا لا ترتدي أي جوارب؟!
لا يذكر بِمَ أجاب؟! . ولكنها كلمات خرجت منه تحمل
معظمها .. معنى الشكر للاهتمام به .. والوعد بمراعاة ذلك مستقبلاً ..
***
مريم ..
حين مرر الحلاق مقصه في شعري الغجري الطويل
المتمرد .. وعندما ارتديت تلك الملابس الكلاسيكية .. وأدخلت – لأول
مرة – القميص في البنطال .. ووضعت حول جيدي قيداً ثقيلاً
يسمونه :
- رابطة عنق !
و لأول مرة منذ سنين طويلة .. كانت قدماي المتوحشتان ..
تلجان في جورب حريري غال، قبل أن أضعهما داخل حذاء
كلاسيكي ذي أربطة عَقَدُتها جيداً على لسانيه الطويلين !
مريم ..
لقد تغيرت تماماً !
- الله ينور !
قالت إيزيس سكرتيرة المدير العام ..
- نعيماً !
صاحت هدى .. إحدى الكاتبات في طاقم السكرتارية ..
عندما دخلت مكتب الإذاعية الكبيرة ..
- صباح الخير يا أفندم ..
- صباح الخير يا شهاب ..
كانت على وجهها الصبوح ابتسامة عريضة تحمل معنى تمام
الرضا .. وفي عينيها تلتمع نشوة انتصار، وإحساس ما بالظفر .. هكذا
تراءى لشهاب أو ربما .. هُيئ له !
***
- أنت محايد ..
قالها إذاعي كبير ..
- لا تتدخل بالرأي الشخصي لك .. فأنت تُمثل كيان الإذاعة،
وشخصيتها ..
ثم أعطاه ورقة كبيرة تحمل كل التابوهات، يسمونها :
ميثاق الشرف الإذاعي.. بها أكثر من خمسين محظوراً تبدأ كلها بكلمة :
- لا .
مريم ..
أنصحك ألا تشاهدينا .. يكفيك منا الصوت .. سوف يفسد
خيالك الخصب .. حين يصوّرنا لك .. فرسانا نبلاء ..
قبل أن أعمل في تلك المهنة السارقة تماماً للعمر والوقت ..
كنت مستمعاً جيداً للإذاعة .. أسهر لها .. أقلب موجات أثيرها ..
أطوف بين محطاتها ..
كان خيالي الجامح يأخذني بعيداً .. حين أتخيل أساتذتي روّاد
الإذاعة كالأبطال اليونانيين القدماء، في جبل الأوليمب .. كما
يصورهم هوميروس في الإلياذة والأوديسة .. تحيط برءوسهم
الشامخة .. تيجان الغار ..
آه يا مريم .. من صدمة الخيال بالواقع .. لقد أفسد على عملي
بالإذاعة، متعتي في السماع .. أصبحت أعرف متى
سكت المذيع؟ .. ومتى تكلم؟ .. ومتى تنفس؟ ومتى بلع ريقه؟ ...
وكيف تأخر الفني في الدخول بتتر النهاية؟ .. وكيف دخل
المذيع قبل النقلة الموسيقية؟ .. ولماذا تم القطع في تلك اللحظة؟
مريم ..
لقد خسرتني الإذاعة كمستمعٍ جيد لها .. وكسبتني ترساً في
آلتها الجهنمية، التي لا تتوقف .. أبداً .
***
حيث دخل استديو ( ٢٦ ) كان علاء فني المونتاج .. يمسك
سمّاعة الهاتف – دائماً – بيده اليسرى .. وبيده اليمنى .. يدير ثلاث
نيجرات (29) كبهلوان في سيرك :
- ريم .. لا أقدر على الحياة بدونك !
- ريم .. تعالي نقتسم الخبز والحلم .
- ريم لا أملك غير قلبي أهديه إليك ..
. - ريم .. لا تضعفي .. ارفضي من أجلنا .
- قولي لأبيك لا.. لن أتزوج غير علاء ..
- ريم .. كوني شُجاعة .. لا تستسلمي ..
- ريم .. ريم .. آلو ...
كانت سمّاعة الهاتف قد سقطت من يده .. بينما دارت النيجرا
الثالثة بأغنية "راح " .. كان من المفروض أن تدخل بعد فقرة ما في
البرنامج الأسبوعي السخيف ..
- علاء .. علاء ..
عندما رفع رأسه إلى شهاب .. ونظر إليه .. كابد ألا تسقط من
عينيه تلك الدمعة المتأرجحة بين الجفن، وبين الرمش ...
***
مريم ..
هل أحدثك عن المذيعات اللائي تجاوزن الثلاثين .. ومازلن
يحلمن بابن الحلال الذي لا يجيء أبداً ..
- شهاب .. أنا مسحور لي ...
قالتها أمنية .. وهي ترفع بيدها خصلة شعرها الأحمر، التي
تعربد في شقاوة، حين تسقط على عينها اليسرى ..
- أمنية .. أنت مثقفة .. لا تقولي هذا ..
فتهز رأسها .. وهي تبتسم في سخرية :
- مثقفة؟ هه .. بِمَ تفسر عدم ارتباطي حتى الآن؟!
ثم تبتلع ريقها .. وهي تقترب برأسها منه :
- شهاب .. أنت أخي .. وأنا أرتاح لك .. بالله عليك .. ما رأيك
في؟!
كانت أمنية قد وقفت .. ثم استدارت بجسمها مستعرضة
أنوثتها الفائرة ..
- أنت ست البنات ..
- بجد .. بدون مجاملة ..
- والله أنت جميلة .. وجميلة جداً .. أيضاً ..
- جميلة جداً ..
قالتها وهي تلقي بجسدها الرشيق على أقرب كرسي ..
- جميلة جداً .. عانس !
***
مريم ..
لحلمي محمد فني الهواء .. حكاية شجية .. حين يحدثك عن
حلمه الأخضر، في أن يتزوج من البنت التي يهواها ..
لكن حلمه الوردي تبخر على واقع أليم .. عندما رفض والده
فكرة زواجه الآن، بحجة أنه مازال صغيراً .. وأنه من مواليد تسعين .
***
مريم ..
لشريف حكايات شبقية ملتهبة .. حيث يقص علينا نبأ من
مغامراته النسائية المتعددة .. نعلم يقينا أنها وهمية، وأنها من نسج
خياله الجنسي الخصيب .. لاسيما حين يحكي عن بنات الدبلوم ..
وشبقهن الزائد عن الحد .. وعن قدرته .. وفحولته غير العادية ..
عندما يحتضن سماعة الهاتف كل ليلة حتى الفجر، ليمارس
الجنس في التليفون مع امرأة ما، لتجيء النهاية مأساوية وكوميدية في
ذات الوقت .
إذ كان المتحدث كل ليلة معه عبر الهاتف .. زميلنا محمد
الفنجري، الذي يجيد تقليد الأصوات، وبخاصة أصوات النساء ..
وكانت فضيحة عندما أذاع محمد الفنجري بعضاً من أحاديث الشبق
الطفولي لشريف "الفتك " .. كان قد سجلها له ..
***
مريم ..
للفتى مرزوق أحلام مثالية .. تبدد معظمها .. وأقلها .. أن
يتزوج من امرأة يحبها ..
فاكتفى بالحب من بعيد لبعيد ..
وعندما غزا الشيب فوديه .. أخرج لسانه له وابتسم !
***
مريم ..
لعلي الدين التماع في عينيه من تحت نظارته الطبية .. عندما
يتحدث بتقديس عن والده الراحل ...
فلماذا أشعر بهذه الغيرة؟! ... وأود أن أتحدث عن والدي
الحي، بتلك الحميمية النبيلة .. فلا أستطيع .. ربما يكسبني الحزن تلك
النبرة المتهدجة في الحديث .. عندما ألفق لأبي بعض الحكايات التي
تسهم – بجزء كبير – في خلق هالة مقدسة له .. حين يموت !
***
سيدنا يوسف .. أو يوسف الصديق ... كما كنت أناديه .. كان
يحفظ كل القرآن .. حين جاء إلى القاهرة .. أصبح يحفظ نصف
القرآن .. وكل تضاريس النسوان في المبنى ..
- يا أولاد الكلب أنا شيخ .. وفي بلدنا " بيحبّوا " على يدي !!
مريم ..
هل تعرفين .. ماذا كان شعوري، وأنا أسجل مع الانفتاحي
الكبير ..
وأمارس كل طقوس النفاق المهني .. الموشاة بكلمات سخيفة
من عينة :
- "سيادتك" .. "حضرتك" ...
وأبتسم لنكاته السمجة .. حين ينتشي ويضحك فتضيق عيناه ..
فأود صفع وجهه المكتنز في حمرة دموية مستفزة ..
- أنا من أنصار التطبيع .. بصراحة .. رأس المال لا وطن
له، ولا دين ..
مريم ..
ماذا أفعل له .. وأنا المحايد .. لا رأي له، سوى أن أعلق :
- هذا رأي "سيادتكم" في الموضوع .. وقطعاً هناك آراء
أخرى .. نحترمها .. لأن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية ..
مريم ..
وهذا أضعف الإيمان .
***
مريم ..
لا أستطيع أن أعتصم في نقابة الصحفيين أو اتحاد الكّتاب ..
ضد البربرية الهمجية الأمريكية .. وما تفعله في شعب العراق ..
وأطفال العراق ..
لا أستطيع أن أوّقع باسمي - حتى – على أي بيانات شجبية
استنكارية استهجانية ..
مريم ..
أنا الموظف الميري .. عبد الحكومة !
لا أملك الشجاعة الكافية، كي أوّقع على صك عتقي بالاستقالة
من عبودية الميري .. وترابه الميمون !
***
- هذا الضيف مرفوض ..
- لماذا؟!
- أمنياً .. مرفوض ..
***
قال الإذاعي الكبير لفني المونتاج :
- احذف تلك الفقرة ..
وعندما تساءل شهاب عن السبب .. أجاب هامساً :
- كلامه كله انتقاد ..
- ولكنه يقول الحقيقة .. ونحن في بلد ديموقراطي .. وإعلامنا
حر مستنير .. و...
وقبل أن يستطرد الإذاعي الشاب المتحمس .. عقب الإذاعي
الكبير مبتسماً :
- ليس كل ما يقال .. يذاع !
***
مريم ..
حين تلمحينني أمشي عرياناً على يدي في الطرقات ..
أرجوك .. لا تتهميني بالجنون .. فهو صفة أعظم من أن أتصف بها ..
مريم ...
لم أعد كما كنت .. لهجتي تغيّرت ..
تخلصت من لكنة قريتنا المحببة .. حين كنا نُعطشُ الجيم ..
ونقتلها عطشاً ..
- أجول لك حدوتة جَبْلِ ما تنام !
أتذكرين؟!
- ستي الحاجة .. وسيدي الحاج !
مريم ..
أصبحت أتحدث بلغة أهل البندر ..
و" ألغي" في كلامي ..
مريم ..
سأسامح كل الذين يدوسون على قدمي في المواصلات
العامة .. دون اعتذار.
وأتساهل مع معظم الفنيين عندما يتدخلون في صميم
اختصاصاتي ..
سأكون أليًفاً جداً .. لدرجة أنني لن أهش تلك الناموسة التي
وقفت على ساعدي .. تمد خرطومها .. وتمص دمائي في نهم ..
لن أصرخ متوجعاً .. لن أزعجها .. لن أدافع عن نفسي ضد
أي شيء ..
يا كلاب العالم .. وذئابه .. لكم جسدي .. ولي الموت ..
مريم ..
الكائن الثوري .. المتمرد .. صار أليًفا ... داجناً .. وحبيساً في
حظيرة كبيرة .. اسمها :
- الحياة
7- التقرير
كان يجوب الشوارع والميادين .. بشعره الطويل الأشعث ..
وملابسه المتسخة البالية ..
حين عبر ميدان التحرير .. كان مندوبو وكالة الإعلانات
المشهورة ... يضعون اللمسات الأخيرة للوحة المضيئة بالإعلان ..
بينما تحلق حولهم عدد من الناس .. من مختلف الأعمار ..
وإن كان الغالب عليهم .. الشباب من المراهقين والمراهقات ..
- شريط جديد ..
- طبعاً ..
ثم التفت الجميع لأحد المندوبين عن وكالة الإعلان .. حين أمسك بالميكرفون :
- يسر شركتنا " شيكا .. بيكا " للإعلان .. بنظامها الفريد .. أن تقدم لكم
آخر صيحة في دنيا الإعلان .. سوف نسمعكم بعضاً من الأغنيات الجديدة
قبل أن تنزل الأسواق .
فصفق الحاضرون .. وصفروا طويلاً .. تحية للوكالة ..
ولنظامها الجديد في الإعلان ..
و وضع المندوب .. شريط الكاسيت في جهاز التسجيل .. ذي
السماعات الضخمة ..
حين أدار الجهاز.. كان الميدان يرتج من الموسيقى ..
المصحوبة بتمايل الحاضرين .. مع وقع الأنغام الصاخبة .. وتصفيقهم
المتبوع - دائماً – بنوبات من الصفير الهستيري ...
- ما الذي استوقفه في هذا الحشد؟!
عَلّقَ الرائد أكثم سعفان .
كانت حركات يديه تعطي إشارات تم رصدها وتسجيلها، وإرسالها لقسم الشفرات،
وبعد يومين، جاءت النتيجة كما توقع الرائد أكثم بحسه الأمني :
- الإيماءات والإشارات عبارة عن شفرة متطورة جداً، سهر عليها القائمون
على المكتب الفني، لتحليلها، وفك طلاسمها، وكانت متكررة على مرتيْن،
للتأكيد على فحوى الرسالة :
- استعدوا جيداً .
نظر الرائد أكثم، لجموع الواقفين، كان معظمهم من الشباب، لم يستطع تحديد جهة
استقبال الرسالة .
علق كاتباً :
- الحشد كان كبيراً، وتعذر علي معرفة متلقي الرسالة .
ثم أردف :
- من المستحيل أن تكون لأحد من هؤلاء الشباب، لأنهم (.... )
و لم يجد كلمة لتوصيفهم، فترك مكاناً خالياً للكلمة، ربما سيعود
لاحقاً عندما يسعفه قاموسه الضحل بتوصيف مناسب لحشد الشباب .
و يبدو أنه نسي الأمر، وتسبب له هذا الموقف في حرجٍ بالغ،
لأن رئيسه المتجهم سأله عن ذلك الفراغ في التقرير، تلعثم قليلاً
و تمخض قاموسه بكلمة :
- ( سيس ) .
لم يفهم رئيسه معنى الكلمة، وارتسم غضب هائل على وجهه،
و بسرعة أجاب الرائد أكثم :
- شباب ( سيس )، يعني – لا مؤاخذة – يا باشا .
و أشار بيده بحركة بذيئة .
***
في صفحة أخرى من التقرير :
- اتجه إلى المنصة، وترك بجوار السُلم حصانه الخشبي ( عصا طويلة
مزينة بالأوراق الملونة، يمتطيها بهلول كأنها حصان حقيقي )
وصعد ثلاث درجات، وقفز في منتصف المسرح، واختطف الميكرفون
من مندوب الشركة، فانقطعت الموسيقى عن الميدان، وقبل أن يتوقف الرقص
وينتبه الحشد، انطلق صوته المميز ليرج المكان بتلك العبارات :
( أيها الأخوة ..
من ذاق .. عرف ..
ومن عرف .. قرف
ومن قرف .. انصرف ..
سجد العقل .. والقلب ..
فاستباحا .. ما لا يباح .. )
ثم ابتسم بطريقة تمثيلية، وهو يقترب بفمه من الميكرفون :
( أيها الأخوة المواطنون :
إليكم هذا البيان الهام ..
لمن صحا أو نام ..
أو عَظَّمَ في السلام ...
قبل ما يأتي التتار ..
بالخراب وبالدمار..
على البيوت ... والديار.. )
و أشاح بوجهه يميًنا .. وتفل عن يساره ثلاثاً :
- عفواً .. أيها الأخوة ..
ثم ضحك ملء شدقيه :
- والآن.. أيها الأخوة ..
إليكم هذه الطرفة .. تحت عنوان :
( مصافحة ! )
- قال المحكم ذو الشعر الأصفر، والعينين الزرقاوين للشيخ
المعمم على الطاولة ..
مُد يدك الكريمة يا شيخنا .. وصافح أخاك ...
وبسذاجة غريبة .. قام الشيخ ومد يده لمصافحة القزم القميء
ذي الأنف المعقوف ..
إلا أن الخصم/ القزم .. قام وبصفاقة معهودة .. صفع الشيخ
على قفاه ... وتكهرب جو الجلسة .. حين ضحك القزم .. في خبث
ودهاء :
- معذرة.. كنت أحسبها يده !
فيضحك الجميع بما فيهم الشيخ المعمم .. ويشربون نخب
المصالحة الحميمة ..
في صحتكم ..
هاها هاها هاها
الغريب أن الحشد الراقص صفق بشدة، وهتفوا له :
- بالروح بالدم .. نفديك يا بهلول .
و بتحليلٍ فني لمضمون ما قيل على المنصة، جاء كالتالي :
- المشتبه فيه، يستخدم عبارات صوفية للتمويه، والرمز واضح في
في قصة ( مصافحة )، ودلالات القزم والشيخ، والخطاب يحمل
حالة تحريضية للتمرد والثورة على الأوضاع الراهنة في البلاد .
علق الرائد أكثم في الحاشية :
- لماذا صفق الحاضرون، وهتفوا له؟
هل وصلتهم الرسالة؟ وفهموا معناها؟
ثم زَفَرَ، واسترخى في مقعده، متذكراً البداية، كيف كانت؟
***
استدعاه رئيسه إلى المكتب يعرف تماماً لهجته الصارمة، حين يرن الهاتف الأحمر :
- أكثم .. تَعَاَل فوراً .
يحفظ أكثم طبائع رئيسه، ولغته في الحوار، عندما يخاطبه بتلك الحدة، فإن
ثمة مصيبة على وشك الحدوث، يترك ما في يديه، ويهرول لاهثاً إلى
إلى مكتب اللواء مروان النمر في الطابق السادس .
يحييه العسكري الواقف على الباب، فلا يرد التحية أو حتى ينتبه إليه،
يفتح الباب، وقبل أن يدخل يأتيه صوت عميق، وحاسم، وقاسٍ :
- اقعد .
ثم ناوله ملفاً كبيراً، وطلب منه أن يقرأه باهتمام، ويوافيه بتقرير شامل
و في أسرع وقت .
يعرف أكثم ساعتها أن حالة أخرى أُسندت إليه، وأن مجنوناً ما يثير ذعر الأمن .
***
في شقته الكئيبة، لا ينتظره أحد، ربما الوحدة والأرق، لم يعد يبهجه شيء،
حتى كتب علم النفس، والروايات لم تعد تجذبه، والتلفزيون هو الملل بعينه،
و الصحف سخيفة، واجترار لأيام متشابهة، متكررة .
ربما يدخل باسم مستعار على الـ facebook، ويخاطب شخصاً ما في قارة ما،
حول قضايا الحرية والعدالة الاجتماعية، وحتمية التغيير من أجل عالم أفضل .
ثم يعلّق على قصائد أو قصص قصيرة في مواقع أدبية متخصصة، أو يدخل في
Chat مع فتاة متحررة، يحدثها عن الحرية بمعناها المطلق، لينتهي الحوار
بممارسة جنسية عبر الفضاء الافتراضي، كان يجد فيها لذة،
ربما تغنيه عن العالم الحقيقي .
رغم تجاوزه الخامسة والثلاثين، وتجربة زواجٍ فاشلة، لا يريد أن
يتذكرها، لم يفكر أبداً في الارتباط، واكتفى ببعض العلاقات العابرة،
ثم تجاوز ذاته، وأصبح يجد متعة في مشاهدة بعض أفلام البورنو،
يجلبها زميل له في مباحث الآداب، أما عن أسطوانات التعذيب الموجودة
في الإدارة، فلها لذة أخرى .
***
أدهشته حالة شهاب، وقدرته المريبة على تحمل التعذيب،
هل تم تدريبه بعناية فائقة؟
كانت حالته فريدة، لم تمر عليه من قبل .
جاء رصده بواسطة فوزي ألبينو، أحد عاملي البوفيه في ماسبيرو،
سمعه أكثر من مرة في استراحة المذيعين بالدور الثاني، ينتقد أوضاع
الدولة والنظام .
و من يومها يرصده داخل المبنى الشهير، ويكتب عنه، وعن أصدقائه
من المذيعين تقارير تفصيلية :
- ماذا يقولون؟، وبم يتهامسون؟
لم يلفت فوزي ألبينو الانتباه، كان أمهقَ، لا تستطيع تحديد ملامحه، باهتاً
لا يطيق الحر أو الشمس، ولا يمكن أن تتوقع أن فوزي أبرز عميل
للأمن في ماسبيرو .
أما خارج إطار العمل، فيتعقبه حلمي الخفيف، أمهر مخبر سري في
المباحث، صغير السن والحجم، يتهته في الكلام، يبدو من ملامحه
أبله وعبيطاً، فلا يثير أية ريبة، ربما لا تلمحه أصلاً، حين تمر عليه،
يشبه الأشياء المعتادة في يومك، ولا يوجد ما يميزه ليجذب عينيك .
و كانت مجمل الإخباريات كالتالي :
- شهاب الدين أحمد سيد عامر .
- مذيع باتحاد الإذاعة والتلفزيون .
- 37 عاماً .
- خريج آداب لغة عربية، جامعة المنصورة، عام 1996، بتقدير جيد .
- شارك في مظاهرات ضد مؤتمر صانعي السلام بشرم الشيخ عام 1996، وقبُض عليه.
- أُفرج عنه بعد يوميْن، لصغر سنه، وتعهد بعدم تكرار الشغب والتظاهر مرة أخرى .
- أعزب .
- يكتب الروايات والمقالات، وعضو باتحاد كُتّاب مصر .
- عضو بأتيلييه القاهرة .
- له خمسة مؤلفات أدبية (30)
- و حاصل على العديد من الجوائز الأدبية .
- فصيلة الدم : A+
- يحمل بطاقة رقم قومي : 0151738 ........
- يقطن في شارع أحمد زكي بدار السلام، خلف التوحيد والنور
- العمارة ستة أدوار على شقتيْن – يسكن في الدور الرابع، شقة : 7
- يتردد على شقته العديد من الأدباء والصحفيين، ينتمي معظمهم
للفكر اليساري، وبعض الليبراليين .
- لا ينتمي لأي حزب سياسي .
- غير مصنف عقائدياً .
- لا يُدخن، ولا يُحب الشيشة .
- يشرب البيرة أحياناً .
- له علاقة مريبة مع جارته ( فرحة ) المطلقة، والتي تسكن في الدور الثالث،
تزوره كل خميس، وتظل عنده حتى المساء ( بعد المغرب وقبل العشاء ) .
و حين تساءل أكثم :
- لماذا يوم الخميس تحديداً؟
جاء الرد من الخفيف :
- فرحة تسكن في الدور الثالث، وشهاب في الرابع، واليوم المتاح هو
الخميس، لأن جاره خليل الدمنهوري ( دبلوم زراعة، ومكتوب على شقته
مهندس زراعي )، لا يسمح لذبابةٍ أن تطرق بابه دون أن ينظر في العين السحرية
أو يفتح الباب .
ضبطه شهاب أكثر من مرة يتلصصُ عليه، وحدثت بينهما كثير من المواقف
المحرجة لخليل، لكنه كان يرسم على وجهه ابتسامة شمعية، وهو يتصنع
براءة لزجة :
- أهلاً بالإذاعة والتلفزيون .
و غالباً لا يرد شهاب عليه، فيستكمل خليل :
- نفسي أطلع في الإذاعة يا أستاذ .
يتململ شهاب وهو يصفق الباب بقوة :
- إن شاء الله يا خليل .
و بعد أن يدخل، يغمغم :
- في المشمش !
***
يسافر خليل كل خميس في الصباح إلى قريته بالقرب من برج البرلس، شمال
كفر الشيخ، ويعود مساء الجمعة، هو وأسرته وأولاده، لم تنقطع تلك العادة منذ
سنوات، وحتى تأمن فرحة شر لسان خليل وزوجته، فإن يوم الخميس مناسب جداً
للدخول خلسة إلى شقة شهاب .
تقول أم هدى في الدور الخامس :
- و الله جدع ابن حلال، يعطف عليها وعلى ابنتها، بعدما تركها زوجها وهَجَّ،
ولا يعرف أحد له طريق ( جُرّة )، وحصلت على الطلاق منه غيابياً .
و تقسم أم هدى أنها رأت الأستاذ شهاب، على بَسْطة السُلم ينفح فرحة ( كُبشة ) من
الأوراق النقدية، فتلهج له بالدعاء .
أما خليل فلا يصدق أن يُغلق باب على رجل وامرأة دون أن يكون الشيطان ثالثهما :
- لو حلفتِ لي على الماء يجمد، ما أصدق أن يعتقها شهاب ..
ثم يسرح لوهلة :
- البنت ألمظيّة، مثل المَلْبَن تماماً، وشهاب شاب أعزب ووسيم .
و يصرخ فجأة في سخرية :
- هل يقيمون الليل مثلاً، أم يختمون القرآن معاً؟!
***
و حين سأل أكثم مُخبره الخفيف :
- ماذا تقصد بعلاقة مريبة؟
ضحك الخفيف، ونطق دون تهتهة :
- إن الله حليم ستار يا باشا .
زمجر أكثم قائلاً :
- هل رأيتهما؟
رد الخفيف بتلعثم :
- لا ... ولكككككن ...
صرخ أكثم في وجهه :
- ولكن ... ماذا؟
انطلق لسان الخفيف، حين بدأ يستشعر نفاد صبر رئيسه، وأخبر أكثم أنه يفتش
قمامة شهاب بنفسه، وعثر في كيس بلاستيكي، أكثر من مرة على واقيات ذكرية
( كوندوم )، فما سر وجودها عنده وهو أعزب؟!
ثم عّلّقَ الخفيف، وهو يلحس لعابه :
- و فرحة يا باشا، تحل من على حبل المشنقة !
***
بعدها تواترت لأكثم الإخباريات، حول ضيوف شهاب في المنزل،
و كذلك في برامجه الإذاعية، والرسائل التي يبثها من خلال الأثير .
حتى جاء يوم السادس من أبريل عام 2008، واندلعت أحداث المحلة الكبرى،
و الدعوة لإضراب عام، يشل حالة البلد ويُحرج النظام، ويكون بداية
لعصيانٍ مدني .
جاءت إخبارية لأكثم أن شهاباً التقى عدداً من ناشطين حقوقيين، وطلب
تصريحاً أمنياً لهم، لدخول ماسبيرو كضيوفٍ في أحد برامجه على الهواء
و في فجر ذلك اليوم، توّجهت قوة من المباحث، وألقت القبض عليه،
و صادرت العديد من الكتب في مكتبته، التي تزين جدران الشقة، كان من أهمها :
( أحجار على رقعة الشطرنج، تأليف وليم جاي كار – المصطلحات الأربعة في القرآن،
تأليف أبو الأعلى المودودي – لعبة الأمم، تأليف مايلز كوبلاند – الفريضة الغائبة،
تأليف محمد عبد السلام فرج – معالم في الطريق، تأليف سيد قطب – رأس المال،
تأليف كارل ماركس، الثورة الدائمة، تأليف ليون تروتسكي ... وغيرها من الكتب
الخطيرة بالإضافة لخمسة مؤلفات للعنصر المتهم ) .
كذلك مجلات ومقالات وصور، وكتب أخرى، ودفاتر قديمة بحواف صفراء .
و أغنيات لمارسيل خليفة، والشيخ إمام، وقصيدة ( الكُسميّات )
للشاعر نجيب سرور، مُسجلة بصوته، وقصيدة ( يا عريس الدولة )
للشاعر أحمد فؤاد نجم، مُسجلة ومُغناة على العود لمطرب غير معروف
أو مُسجلٍ لدينا (31)، ومجتزأ من حوار قديم مع القاص محمد حافظ رجب
يقول فيه :
( إنني في حالة حب وهيام مع الله (سبحانه)، ولأني أذنبت ذنوباً عظيمة
فهو يعاقبني كما لم يُعاقب أحد من قبل، ومع ذلك فهو يمنحني بعض العطاء
بين كل حين وحين، وقتها تفيض عيني من الدموع حباً ووجداً وغراماً .
إنه لا ينسى الذنوب الكبيرة والصغيرة، لكنه يعطي الحب، فهو الحب ويفيض
النهر بالماء العذب وتخضر الروابي، وتبتسم الدنيا في لحظات الصفاء،
إن ما بيننا لا يمكن تصويره (الآن)، إنه الرب التشكيلي الأعظم،
إنه الرب المصور الأكبر، إنه الرب الموسيقي الأقدر، إنه خالق النغم واللوحة
والفن والفكر، إنه أنفاس الكون البهية، إنه الله الأجمل، والأبهى، والأحسن .
إن أنفاس الله تحيط بكونه .. وتحيط بي، إنه يعلمني الآن كيف أمشي .. كيف أتحرك .. كيف أغدو وأروح، إنه يعلمني الحب والصفاء والود والسلام، إنه المحيط الزاخر
بنسمات الأمواج في عرض المحيطات، إنه يأخذ بيدي كما كان يفعل أبي
( إنه سيدي ومولاي وربي ) أرجو أن يغفر لي .
إنه يعلمني حب أهل الوطن، ويعلمني حب الإنسان، يعلمني حب مصر،
ومنه علمت أنه يحب مصر، لذلك وأنا صغير أرضع من ثدي أمي،
لا يمكنني التعبير في إبداع جديد عما يوجد بيني وبينه سبحانه وتعالى ) .
تم تفريغ كل ما سبق من ( فلاشة ميموري ) كانت بحوزته .
كما قام أحد خبراء الكومبيوتر، بفك الـ ( هارد ديسك ) الخاص بحاسوبه،
وفحصه وتحليله .
و النتيجة جاءت كما توقعنا :
- ( المشتبه به كان بصدد مساعدة جماعات ثورية، بإتاحة الفرصة لهم،
لإذاعة بياناتهم، وخطابهم التحريضي من خلال إذاعة رسمية حكومية،
تخضع للدولة، لعمل بلبلة وفتنة، وتكدير للسلم العام، وإشاعة الفوضى،
والقلق بين الناس عمداً وقصداً ... )
8- العين الحمرا
تم اعتقال شهاب يوم الخامس من أبريل، في تمام الساعة الثالثة فجراً،
و احتجزناه في لاظوغلي، وبدأ التحقيق معه، في التهم الموجهة إليه .
لكنه أنكرها جميعاً، وتساءل عن سبب وجوده أصلاً هنا، وحقه
الدستوري في محامٍ يدافع عنه .
كان علينا أن نُريه ( العين الحمرا )، بدأت الإدارة تُنفذ برنامجها بطاقته القصوى،
جاءت البداية بكسر الإحساس بالزمن، وهو " تكتيك " نتبعه مع المتهمين الجدد،
بحيث لا يعرف الوقت ولا اليوم، ولا حتى الساعة، ولا يدرك إن كان الليل قد
جاء، أو أن نهاراً آخر قد بزغ .
و بعدها يأتي دور ( العروسة )، سحبنا شهاب، وهو عارٍ تماماُ، وعلى عينيه
عصابة سميكة، لا تتيح له أي بصيص من ضوء، وأدخلناه على ( العروسة )،
و هي قائمة خشبية، يعانقها المتهم بيديه ورجليه، ويتم ربطه فيها بإحكام،
و أذعنا عبر سمّاعات ذات صدى موّزعة بالغرفة، ضحكات ماجنة مُسجلة سلفاً،
لامرأة غنوج، ترحب بالمضاجعة .
ثم تبدأ الزفة للعريس " المتهم "، بضربٍ مُبرح على ظهره ومؤخرته بالخيزران
و الكرابيج، على وقع أغنية :
- اتمخطري يا حلوة يا زينة .
ممتزجة بصرخات شهاب .
بعدها تم فكه، ومعاودة التحقيق معه مرة أخرى، لكنه لم يرد على الأسئلة،
تركناه مدة ليستريح، ثم سألناه عن جماعة 6 أبريل، وعلاقته بهم .
حَرّكَ شهاب أنفه وخديه، فانزاحت العصابة عن عينيه، نظر إلينا، كنا
ثلاثة نتناوب استجوابه، جاءت عينه في عيني، واستقرت للحظات،
شعرتُ بتوتر شديد، خاصة حين ابتسم، أو خُيّلَ لي ذلك، صرخت
في المخبر المكلف بتجهيز الأدوات المساعدة أن يضبط المتهم جيداً .
انقض عليه سرور المخبر صفعاً وركلاً، ثم أمسك خصيته بشدة،
فاحمّر وجه شهاب، واختنقت الصرخة في زوره، ابتسم سرور
المخبر في سعادة، وهو يصرخ :
- سأجعلك أغا يا ابن ( .... ) .
أسرعت ناحية سرور لأخلّصَ شهاب منه، ونجحت أنا وزميلٍ آخر
في إنقاذه بصعوبة من يد سرور، الشهير بـ ( الكَبّاش ) .
فالمخبر سرور من معالم الإدارة، يتجاوز عمره الخمسين، لكنه
يبدو أصغر، هجرته زوجته، وهربت ذات صباح، ثم عادت إلى قريتها،
بعدما حصلت على حكم قضائي بالطلاق للضرر، أثبتت أمام القاضي
بالدليل الطبي، عدم قدرة سرور على القيام بمهامه الزوجية، وأنها تخاف
ألا تقيم حدود الله، وبعدها لم يعد سرور إلى قريته أبداً، ولم يتزوج ثانية .
و من يومها، تفتق ذهنه عن تلك الطريقة البشعة في التعذيب،
و التي تأتي خارج نطاق برنامج الإدارة تماماً .
و رغم تحويله للتحقيق، ومجازاته إدارياً أكثر من مرة، إلا أنه
لا يتمالك نفسه أمام خِصيّ المتهمين .
و يجد متعة في اعتصارها وسحقها، حين يمسك بها في يده، نعرف
أن الضحية ( يا رحمن يا رحيم ) – كما حدث من قبل مع ثلاث حالات –
أو على الأقل ستعيش، ولكن كـ " أغا " .
و أطلق عليه اللواء أشرف جلال لقب " كَبّاش البيوض "، وهو حيوان أولي،
يبدو كأسطورة يوجد في التُرع والمصارف، ويُقال إنه يشبه القوقعة، يلتصق
بخِصيّ الرجال، ويمص ماءها، حين ينزلون للاستحمام في النيل، فيصرخ
بجنون من تصيبه، ويُصاب بالإغماء، فينسحب القوقع الشرير، ويتركه
على حاله .
و حين ينقذه الناس يدركون أنه " اتكبش "، فيصبح معروفاً بين العوام
بـ " المكبوش "، ولا يصلح بعدها أبداً للتقدم لأي امرأة للزواج، ويفقد
القدرة على الإنجاب، وقد يقترن الاسم به، فيصبح متولي المكبوش أو
عبده المكبوش .
***
أفاق شهاب بعد جلسة الكهرباء، وظهر عليه إعياء شديد، وقبل أن نسأله،
اندفع يشتم كل الحاضرين، بأقذع السُباب .
حاولت تهدئته، فَشَتَمني بأمي وأبي، ووصفني بأني رجلٌ دَيّوث
و " عِلْجُ امرأتي " .
لم أتمالك نفسي، وصفعته بقسوة، وأمرتُ سرور أن يحضر " القصّافة "،
و هي آلة تنتزعُ الأظافر من أصابع اليد، وتسبب ألماً فظيعاً .
المُدهش أنه لم يتألم كثيراً، كان يجزُ على أسنانه، ويكتم حشرجة في حَلْقِه،
فقررنا أن نبدأ حفلة السمر بإطفاء السجائر في ظهره وبطنه، بدت استجابته
للمقاومة أكبر، لدرجةٍ أصابتنا بالإحباط .
- الولد متدرب على أعلى مستوى لتجاوز الألم .
صاح زميلي الرائد موافي، واقترح أن نُحضر له عوني " شواذ "، أحد
المخبرين النابهين في إدارتنا، وظيفته المحددة، هي التهديد باغتصاب
المتهمين، وأحياناً يتمادى ويغتصبهم بالفعل .
اكتشفه الرائد موافي، عندما كان عوني يعمل في مباحث الآداب،
و ضبط أكثر من مرة، يواقع الشواذ برغبة عارمة، لدرجة أن
رئيسه " دَوّره مكتب "، وحبسه انفرادياً، وخصم من راتبه،
لكنه لم يرتدع، مبرراً ذلك لرئيسه :
- لا مؤاخذة يا باشا، أنا مريض، وهم دوائي !
كان يتلصصُ على ملفات " شواذ " المنطقة، ويستدعيهم كمخبر،
ليضاجعهم بالإكراه، حتى ضجّوا منه، وقدّموا شكوى جماعية لمدير
إدارة مباحث الآداب .
و يبدو أنه أراد أن يصنع منها قضية، ويبرز لرؤسائه أن إدارته
" شفافة "، ولا أحد فوق القانون .
تم وضع خطة بمعرفة وإشراف السيد رئيس مباحث الآداب،
و بموافقة متطوع من الشواذ، يُدعى حمدي " أبو ليّة "، وذلك
لإثبات حالة التلبس .
حين دخلوا عليه، وهو عريان تماماً، لم يعبأ بزملائه من المخبرين
و لا الضباط، وهم يركلونه، ويحملونه من فوق " أبو ليّة " .
و نُشرت القضية في " أخبار الحوادث "، وتولى تحليل شخصيته،
خبراء وعلماء متخصصون .
التقطه الرائد موافي، بعدما هَمَسَ في أذن اللواء أشرف جلال بحكاية
عوني، فابتسم في خبث، وأبدى موافقته ضاحكاً :
- سيُكوّن ثنائياً مُدهشاً مع " الكَبّاش " .
و الحقيقة أن اللواء أشرف كان يقصد استخدامه كفزّاعة للمتهمين،
و وسيلة للضغط النفسي عليهم، حتى يعترفوا بجرائمهم .
لكن موافي كان يطلق العنان أحياناً لمخبره عوني،
ليتحوّل التهديد إلى فعلٍ حقيقي، ويظل قابعاً على مقعده،
يشاهد ما يحدث باستمتاعٍ غريب، وبعد أن ينتهي عوني،
يضحك موافي في هستريا :
- انبسطت يا عوني .
يهز " شواذ " رأسه مُبتسماً، وهو يلهث ككلب، يربت موافي
على ظهره :
- برافو يا عوني .
كان يعرف أن " شواذ "، هو الوحيد الذي يقبل بتلك المهمة، بعدما
رفضها كل المخبرين بالإدارة، رغم إغراءات موافي لهم .
و كثيراً ما شاهدته يمنحه، شرائط فياجرا، وكبسولات من غذاء
الملكات، على سبيل الإطراء والتشجيع .
لذلك استنكرت تماماً فكرة موافي في استدعاء عوني .
و لا أدري لماذا؟
هل شعرت بتعاطف مع شهاب؟
و لماذا توترت بشدة عندما وصفني بالدَيّوث، وأنني " عِلْجُ امرأتي "؟
***
المعرفة شقاء، والجهل أحياناً نعمة !
تماماً مثلما يخبرك الطبيب أنك مريض، والموت قادم بعد أشهر قليلة .
لماذا لم يتركك تعيش أيامك الباقية القادمة في هدوء؟
تبتسم لمصيرك حين تتذكر، ما الذي جعلك تذهب لنادي الشرطة في ذلك اليوم؟
لتقابل صافي؟
فتاة في منتصف العشرينات، جميلة ومرحة، وفيّاضة بالحيوية، تجذب العين،
و تسرق القلب .
عرفت أنها البنت الوحيدة للواء شكري تيمور، أحد أبرز مساعدي الوزير، كان
جديراً بي أن أبتعد، كما يبتعد الآخرون بمسافة كبيرة، بمجرد سماع اسمه، لكنني
انجرفت أمام حُسن صافي .
لم أعرف الحب بمعناه الرومانسي، كانت تجربتي الوحيدة مع بنت الجيران، وتزوجت
من رجل أعمال، وهاجرت معه على أستراليا .
صارت علاقتي بالأنثى فيما بعد جسدية بحتة، ولا تتجاوز حدود الفراش .
سلبتني صافي عقلي، وهيمنت على قلبي، كان علي أن اقترب بحذر الفراشة من الضوء،
و حرص سرب النمل من صحن العسل .
تبادلنا الابتسام أكثر من مرة، ثم التحية .. فالأحاديث التليفونية من رقم خاص، يظهر لي
كل ليلة، لتزقزق العصافير، وتغرد العنادل، ويرقص قلبي من الفرحة، تجاسرت
و قلت لها :
- أحبك يا صافي .
اندهشت لشجاعتي، وازدادت إعجاباً بي، كان اسم والدها يفزع أي
رتبة في الوزارة، وتواترت عنه حكايات مرعبة، وكيف يصفي
حساباته بكل الطرق مع خصومه؟
تعرض لست محاولات اغتيال، والأخيرة تركت رصاصة في كتفه
اليمنى، أثّرت على عصب الساعد والكف، لذا فهو لا يصافح أحداً،
و لا يحب أن يصافحه أحد .
فَقَدَ زوجته – والدة صافي – في حادث سيارة مفخخة، كان هو
المقصود بها، قيل إن الإخوان وراءها، والبعض تحدث عن الجناح
العسكري لتنظيم الجهاد، وربما الجماعة الإسلامية .
لم يترك اللواء شكري تيمور الفرصة لأحد كي يحبه، حتى بعض زملائه
أخذوا حظاً من شره، وأحيلوا للتقاعد أو المحاكمة بتقرير منه .
كنت فرحاً، أشتري الورد البلدي، وأُزيّن مزهريتي كل مساء عندما أعود
تتبدد الوحدة، ويفر الأرق، وتصير السماء بنفسجية، وأنا أستمع
لأغنية قديمة لعلي الحجار، عن الفارس الذي يتحدى الأخطار،
لما يتبدى محيا حبيبته، بساتين الفردوس تلوح .
عندما دخلت الشقة، أغلقت الباب خلفي، واستدرت لأجد أمامي مباشرة
اللواء شكري تيمور، بلحمه وشحمه، صعقت للحظة، كان يمسك بيده
سيجاراً كوبياً فاخراً، وقبل أن أتحدث، أمرني في حزم بالجلوس .
و يبدو أن رعشة انتابتني، كان إحساس الخوف قد غادرني منذ مدة،
شعرت به، كان لذيذاً، أن تخاف يعني أنك إنسان، أحياناً نترك بعض
مشاعرنا، تتجمد في ذاتنا، وسرعان ما نستدعيها، ونستشعر فرحاً
طفولياً بها، وكأننا نحسها لأول مرة .
أمرني تيمور في صرامة :
- تكلم .
شعرت، وأنا الضابط المتمرس بأنني متهم، كان إحساساً غريباً،
لم يخطر أبداً ببالي، أن أتبادل كرسي المحقق مع المتهم، ولبرهة
تلمست كل الأعذار للمتهمين .
بدأت في الحكي، خالفت شيطاني أن أخفي بعض الأشياء، قلت له
ما أراد سماعه، وحدث بالفعل .
كان يُصغي إلي باهتمامٍ شديد، وعندما انتهيت، أطفأ سيجاره الفخم،
و استنشقت بعض خيوط الدخان .
قام فجأة، وأشار لي بسبابته :
- الأسبوع القادم، تأتي مع أمك لنقرأ الفاتحة .
ثم سار ناحية الباب، وعندما قمت لوداعه، تجاهلني تماماً، وخرج
بسرعة، وأغلق الباب وراءه بقوة .
***
أخبرتني صافي أن والدها يعرف كل شيء من أول يوم، علاقتنا،
أمي العجوز، أبي الذي مات في حرب الخليج الثانية بالكويت،
و ضحكت وهي تقلد صوت والدها الكئيب :
- ولد ابن ناس، لكن ماضيه ....
ثم مطت شفتيها محاولة تقليد أبيها :
- يستحق الحرق .
ألحت صافي أن تعرف أكثر عن ماضيّ، لم أخبرها عن علاقاتي
النسائية العابرة، لم أُرد أن أبدو أمامها في شكلٍ سيئ، فقط تحدثت
عن حبي الأول لبنت الجيران التي خطفها مني فارس الأحلام،
وطار بها إلى أستراليا .
***
بعد أن عدنا من شهر العسل في إسبانيا، تم نقلي دون علمي
لإدارة اللواء شكري تيمور، اندهشت قليلاً، لكني لم أتكلم،
أو أسأل :
- لماذا؟
كانت البَدَلات والحوافز في إدارته كبيرة، والمكانة أعلى من
ضابط في أي قسم، بل إن كثيراً من زملائي حسدوني على نقلي،
و غنوا في حجرتي قبل الوداع :
- نَاسِبنا الحكومة .. وصَبَحنا حبايب .
استقبلني زملائي في الإدارة بتوجسٍ شديد، وترحابٍ مبالغٍ فيه،
حتى إن ضباطاً أقدم مني في الرُتبة، كانوا ينادونني بأكثم باشا،
و يقفون لي احتراماً .
كنت سعيداً بهذه التغيرات، لكنني اكتشفت فيما بعد قيمة أن تكون
محبوباً .
لم أر شخصاً مبغوضاً في حياتي مثلما رأيت اللواء شكري تيمور .
أصعب شيء أن تلمح الكُره في العيون، دون أن ينطق شخص ما
و يقول لك :
- أكرهك .
يبتسم في وجهك، ويضحك لنكاتك السمجة، ولمديحك الرخو،
و هو يدرك أنك تبغضه، وأنت تعرف أنه يعرف أنك تكرهه،
و مع ذلك تظل العلاقة في حيّز المنطقة الرمادية، بين
المعرفة دون التصريح .
- شيء مقيت .
لم يرد اللواء تيمور تحيتي قط، أو يبتسم لي، كنت أبرر له
ذلك بضغوط العمل، وجسامة المسئولية الكبرى المُلقاة على عاتقه .
صدمة أن تكتشف شخصاً قريباً منك، ولو بالمصاهرة، وتعرف
حقيقته البغيضة، يجعلك تكره نفسك، لأنك توّرطت في معرفته،
و ربما انعكس ذلك على علاقتك بهمزة الوصل بينك وبينه .
مرت شهور، وبدأت المشاعر تفتر بيني وبين صافي، القرب
الشديد، كالبعد الشديد، يجعلك لا ترى جيداً، بدأت صفات أخرى
لصافي في الظهور، كالنرجسية والأنانية، والتعنت في الرأي
حتى ولو كان خطئاً .
لم تعرف أبداً معنى المسئولية، أو الاحترام، كانت تتعامل مع الأمور
بسطحية وتفاهة، مع أول خلافٍ بيننا، فاجأتني بإخبارها لأبيها،
الذي أسمعني في المكتب كلاماً سخيفاً، وتهديداً مباشراً لو أغضبت
" السنيورة " المحروسة صافي .
لم أصدّق ما حدث، شعرت أنني كربان بلا قلع أو دَفَة، خاصمتها لأسبوع كامل، كنت أتجاهلها تماماً، حتى الكلام، لم تكن تستحقه و كانت الصدمة، أنني اكتشفت مدى غبائها، لأنها لم تستوعب الدرس، أخبرت والدها، الذي عنفني، وشتمني، وأمرني أن أنام في غرفة النوم، وألا أغضب صافي مرة أخرى . في تلك الليلة، ضاجعتها بكل قسوة، لم أشعر أنها زوجتي، كان لقاءً فاتراً وثقيلاً على قلبي، لم تحس صافي بي وأنا في حضنها، بدت مستمتعة جداً، وراضية كل الرضا . بعد أن انتهيت، قلت قبل أن أدير ظهري لها :
- تمام .
ردت بابتسام وسعادة :
- رائع يا أكثم .. تمام .
علقت بسرعة :
- من فضلك أبلغي سيادة اللواء بالتمام .
***
توترت علاقتي بصافي، كنت أعود من العمل منهكاً، لأعطي التمام لها في السرير، وفي الإدارة يصر والدها على إذلالي، وتجاهلي
بشكل ملفت .
استهلكتني صافي هي وأبوها، لدرجة أنني شعرت بدوار شديد في المكتب، وانزعج زملائي حين اصفّر وجهي، وترنحت لدرجة أن رئيسي المباشر طلب مني أن أعود للبيت وأستريح .
لم تنتبه صافي لرجوعي، كانت منهمكة جداً في تمرينات " الأيروبك "، على موسيقى صاخبة، دخلت غرفتي واستلقيت على السرير بملابسي، و رحت في نومٍ عميق، لم أدر كم مر من الوقت، قمت فجأة كما لو كنت في غيبوبة، شيء ما أنعش حواسي، ذهني صافٍ جداً، وجسدي مفعم بحيويةٍ غريبة، وأذني تُصغي لهمسٍ قادم من بعيد . كان الصوت يزداد كلما اقتربت من غرفة " الجمانيزيوم "، لم يكن الباب مغلقاً لنهايته، مما سَمَحَ لي برؤية صافي ممدة على " شيزلونج "، و" دوحة " المُدلك فوقها.
تراجعت بسرعة، واستندت الحائط، وقاومت رغبة عنيفة في الدخول عليهما، تحسستُ مسدسي " الميري "، وسحبته من جرابه، وشددتُ الأجزاء، بهدوء لا يليقُ باللحظة، صدرت " تَكّة " صغيرة، توقفتُ لأصغي، كان صوت صافي يصلني متحشرجاً من اللذة . يا إلهي .. الكلبة أشرف منها، بالأمس ضاجعتها ثلاث مرات، وارتعشت من تحتي أكثر من ثماني مرات، واليوم تسلم نفسها، لأقذر مُدلك في النادي .
- هل أفرغ رصاص مسدسي فيهما؟
لو قتلتهما، ربما لَفَقَ لي والدها قضية، وصرتُ أنا المدان لا محالة . من أين أتيتُ بهذا الهدوء، ربما الفتور والنفور منها في الأسابيع الماضيةكان سبباً في تلك الحالة .
نظرة أخيرة، فركتُ عيني لأصدق أنني لست في كابوس، مازال " دوحة "يلعق فيها كما هو متوقع من كلب مثله، فتحت صافي عينيها للحظات، تراجعتُ بسرعة محتمياً بالباب، لم ترني، ظلت منتشية للغاية، وتزوم كما يليق بقحبةٍ محترفة .
خرجتُ مُسرعاً، أحاول ألا أصدر صوتاً عند غلق الباب .
***
بقيتُ تلك الليلة في الإدارة، اتسمت تصرفاتي بهدوء غريب، كان علي أن أصطاد الأسد باللبؤة .المسألة لم تكن صعبة لضابطٍ في جهازٍ خطيرٍ مثلي، طلبتُ من قسم الوسائل المساعدة إحضار بعض الكاميرات اللاسلكية الصغيرة بالغة الدقة " وارد أمريكا "، لإنجاز مهمة ما، يطلقون عليها smart camera، تعمل تلك العيون المتلصصة في النهار والليل، ولا تتأثر بالمجال الكهرومغناطيسي، أو بالحر والبرد ويكون التحكم بها عن بعد، بجهاز يشبه ريموت التلفزيون أو الريسيفر، بكل كاميرا " كارت ميموري " يسجل الأحداث، ويمكن تفريغه وإعادته ثانية . استخدمناها ضد رجل أعمالٍ شهير لتصويره مع راقصة درجة أولى، لإجباره على التنازل عن توكيل سيارات، بعدما رفض شراكة أحد أبناء الساسة النافذين . و لدينا في أرشيفنا شرائط عديدة، لفنانين وفنانات، ومثقفين وكُتّاب، ورجال أعمالٍ وساسة، تخرج وقت اللزوم . تستيقظ صافي قبل الظهر، تتناول فطوراً سريعاً، ثم ترتدي ملابسها الرياضية، و تذهب للنادي لممارسة السباحة، وتعود مساءً . تلك هي اللحظة المناسبة، كان البيت هادئاً وساكناً، صرفتُ مديرة المنزل مبكراً، و بدأتُ المهمة، وكخبير مُدرب، زرعتُ الكاميرات في كل مكان، حتى الحمّام
و المطبخ، لم أترك جزءاً محتملاً يمكن أن ترقد فيه صافي لـ " دوحة " أو غيره،
إلا وزرعتُ فيه كاميراتي .
ابتسمتُ وأنا أضغط على " الريموت "، فبدأت العيون في التلصص .
في تلك الفترة، كنت أشعر بالتقزز من صافي، أقرفُ من جسدها، وأنفاسها
تصيبني بالغثيان، حين تلمسني، ينفرُ جسدي منها، وصلها إحساس عارم
بالكراهية مني، وسعدتُ عندما فهمت ذلك .
كالعادة، اتصلت بوالدها، وكالعادة استدعاني لمكتبه ليُسمعني ما لا أحب،
في هذه اللحظات لم أبالِ بتوبيخه، أو حتى شتائمه، ولم تتوتر عضلات
وجهي، صدمه ذلك جداً، لأنه يعرف أن عدم اكتراثي بكلامه، هو بداية
التمرد، وفقدان الهيبة .
لجأ شكري تيمور إلى حيلة الاحتواء، أمرني بالجلوس، وتحدث معي
عن ضغوط العمل، وتأثيرها على واجبات الزوجية، وأن علينا الفصل
بين البيت والعمل .
فتح درج مكتبه، وأخرج علبة ما، وناولني إيّاها، أخذتها وقرأت المكتوب
على غلافها الملوّن بعلامةٍ مائية :
Snafi
20 mg
4 tablets
و طلب مني أن أقرأ النشرة الداخلية، دواعي الاستعمال :
" تستخدم أقراص سنافي في علاج قصور الانتصاب أثناء الإثارة الجنسية " .
و لأول مرة أراه يبتسم، وبدا لي كقوّاد قديم يروّج بضاعته الكاسدة، رغبة
ملحة انتابتني للبصق في وجهه، لكنني امتنعت .
تغاضيت عن أشياء كثيرة مع تلك العائلة، لم أسأل صافي عن عذريتها ليلة الدُخلة،
و أنا الرجل الشرقي المُحافظ، تجاهلت المسألة، وتساميتُ عنها، رغم محضر
كلية التربية الرياضية، الذي أظهرته لي في " الصباحية "، ويفيد بأن الطالبة
صافيناز شكري تيمور حسين، بالفرقة الرابعة، وأثناء أحد التدريبات العنيفة
بالكلية، تعرّضت لافتضاض البكارة، وبناء على طلبها، تم تحرير هذا المحضر
لإثبات الحالة، وتقديمه لمن يهمه الأمر عند اللزوم، ولا توجد على الكلية
أدنى مسئولية تجاه الغير .
و موّقع من العميدة، والأستاذة المشرفة، وممهور بخاتم النسر .
صدّقتها ولم أشكك أبداً فيها، أو في شهادتها الحكومية بالعفة، لكنني ضبطتها
أكثر من مرةٍ تمارس العادة السرية، شعرتُ بغثيان، وتوترت هي، لم أوبخها،
و ألقي باللوم عليها، أحسست بأنني المُقصّر تجاهها، وبذلت كل ما في وسعي
بالفراش لأسعدها، كنت أعد رعشاتها المتكررة وأنتشي لسعادتها، ولو على
سبيل صحتي ولياقتي البدنية .
يبدو أنه مرض، أو طريقة للانتقام، ماذا فعلت يا صافي لتنتقمي مني؟
طلبتِ ألا تقيم أمي العجوز معنا، وقبلتُ ذلك على مضض، وكانت أمي
على مستوى عالٍ من التفهم، لم تعترض والدتي، أو تُبدي تبرماً، حتى
عندما كنا نزورها، كنتِ يا صافي تتململين، وتظهر على وجهك كل
أمارات التأفف .
صرتُ أزور أمي وحدي، وألفقُ لكِ كل الأعذار أمام والدتي حين
تسألني :
- لماذا لم تأتِ صافي معك؟
تفهمت أمي الأمر، لم تعد تسألني عنكِ، كل ما كان يهمها أنني سعيد
أو أعتقد ذلك .
***
جاء تفريغ تسجيلات الكاميرات مُروّعاً، لم أتخيل صافي بكل هذا الانحطاط،
أربع ساعات كاملة من الممارسات الغريبة، على مدار أسبوع واحد مع
" دوحة " المُدَلك .
من أين أتيتُ بهذا الصبر؟
لأجلسَ وحدي، أشاهد زوجتي في أحضان شبه رجل، كانت صدمة كبيرة،
لكنها سلاحي الوحيد لأخرج من حقل الألغام منتصراً، حقاً .. تستطيع أن
تصطاد الأسد باللبؤة .
دخلتُ على اللواء شكري تيمور، دون تحية، ارتسمت على وجهه تعبيرات
ما بين الاندهاش والإنكار، ضغطت على الزر الأحمر، حتى لا يدخل علينا
أحد، ووضعت الأسطوانة في الكومبيوتر الخاص به، وضغطت : play .
لم يتكلم تيمور نهائياً، أو يظهر أي تعبير آخر، أو يستنكر طريقة دخولي عليه،
ربما تصوّر أنني انتهيتُ من قضية مهمة، ستحدث دويّاً أمام الرأي العام، نُحَسّنُ
بها صورتنا التي صارت كالـ " بُعْبع " أو الفزّاعة .
و حين توالت المشاهد، وظهر " دوحة " كالكلب تماماً، مُحاطة رقبته بطوق،
يلعق في صافي، وهي تمسك بسوطٍ، تركبه وتأمره بالنباح فينبح، وتلهو
بخصيته، وتضع سبابتها في مؤخرته، وتضغط فيصرخ " دوحة "، و..........
لم يستطع تيمور أن يكمل أكثر من أربع دقائق، ضغط على : pause،
و أخرج الأسطوانة وكسرها في غيظ، وألقى بها في سلة المهملات،
و تهاوى على المقعد، وفتح درج مكتبه، والتقط بأصابعه كبسولة ما،
وضعها في فمه، وابتلعها دون رشفة ماء .
لوهلة شعرت بالإشفاق عليه، وهو ينهار تماماً أمامي، ملتُ نحوه، وفي
عيني نظرة شماتة :
- معي نسخ كثيرة، وموّزعة في أماكن عديدة .
تمالك نفسه، وخرج صوته مكتوماً ومكسوراً :
- طلباتك؟
قلت على الفور :
- هل تعتقد أنني ديّوث؟
لم يفهم معنى الكلمة الفصيحة، أوضحتُ له :
- " مِعَرّص " !
سكت تيمور، وربما لأول مرة يشعر بالهزيمة، تخيّل لو نزلت تلك الأسطوانة
على الـ youtube، وتسربت عبر " البلوتوث "، أعتقد أن مصير تيمور وابنته
سيكون سيئاً، على الأقل بالنسبة له، سيخرج مع أول حركة قادمة، وربما قبلها،
خاصة أن كثيرين من مساعدي الوزير لا يقبلون مجرد سيرته .
تحدث تيمور بقهر شديد :
- تحت أمرك يا أكثم باشا .
و لأول مرة يحترمني، ويتحدث معي ربما كندٍ له، قلت :
- الطلاق .
أجاب :
- موافق .
ابتسمت :
- وبالمعروف .
و استفسر تيمور، فأخبرته أن تُبرئني صافي أمام المأذون من كل حقوقها،
بما في ذلك المؤخر الذي تجاوز الستة أرقام، والشقة سأتركها لها بعدما
تلوّثت بقذارتها، وطلبت منه شيكاً بمبلغٍ يوازي ثمنها، فأخرج بيد مرتعشة
دفتر شيكاته، ووَقّعَ على بياض، أخذت الشيك ووضعت رقماً يساوي ثمن
شقتي .
ثم توّجهت إليه مباشرة، فتراجع في كرسيه، ورأيت الخوف في عينيه،
و أمسكت به من كتفيه، وضغطتُ بشدةٍ على كل حرف :
- والله يا تيمور لو أنّ بعوضة حوّمت حولي أو حول رأس أمي
لن أكتفي بنشر الأسطوانات فقط .
ضغطت عليه بشدة، فارتعشت يده المصابة :
- سأقتلك، ولو دخلت بطن أمك .
ثم دفعته بعنف، وخرجت دون أن أنظر إليه، وصفقت الباب ورائي بكل قوة .
***
مرت شهور على طلاقي من صافي، وطويت صفحتها من حياتي، بعد
واقعة المكتب، طلبت نقلي إلى إدارة الأمن السياسي، ورحب بي اللواء
أشرف جلال، وفيها بدأت حكايتي مع شهاب .
هل عرف بما حدث بيني وبين صافي؟
هل كان شفافاً هكذا؟
لم يسبني بأي سُبابٍ آخر، عدا :
- دَيّوث، و" عِلْج امرأتي " !
فاتت أسابيع، ونحن نحاول أن نستخرج من شهاب أي اعتراف على
" كفاية " أو " 6 أبريل " .
صار شهاب لغزاً لنا، كيف يتحمل جسده كل هذه الآلام؟
هل تدرب حقاً في الهند على نوعٍ من " اليوجا " تمنحه الهدوء والسكينة،
و تجاوز الذات كما رجح موافي؟
و بتتبع جواز السفر الخاص به، جاءت النتيجة أنه لم يسافر خارج مصر نهائياً .
ابتسم موافي، وقال في ثقة :
- هل تعتقد أنه سافر بجوازه العادي؟
ثم أضاف :
- أكيد معه جواز سفر آخر باسم ووظيفة أخرى .
و الحقيقة أننا لم نملك دليلاً واحداً على شكوك موافي، وربما أراد أن يذكرني بطريقته
الخاصة في اقتناص المعلومات من المتهمين، حين مال علي، وهو يبتسم :
- والله ما له حل غير الولد عوني !
انزعجتُ بشدة، فأردف :
- نوعية شهاب تحتاج كسر الأنف ليعترف .
استبعدت الفكرة تماماً، وحذّرت موافي أن يُقدم على شيء دون الرجوع إلي،
بحكم الأقدمية وأنني المسئول عن العنصر المتهم .
***
في المساء قرأت خبراً في الأهرام، عن حادث سير راح ضحيته المُدَلك الشهير
ممدوح زاهي، الشهير بـ " دوحة "، وصاحب صالة sport gem الشهيرة .
ابتسمت، وأمسكت المحمول، وأرسلتُ كلمة :
- " برافو " !
و جاءتني رسالة تفيد استلام المرسل إليه : " شكري تيمور " .
كنت أتوقع حدوث ذلك، لم يكن يفوت على تيمور تدمير كل الأدلة والشهود،
و ربما أردتُ إخباره بمعرفتي بأنه وراء الحادث، وأذكرّه باتفاقنا،
و أن الأسطوانات قد تظهر لو حدث لي أو لأمي أي سوء .
***
في تلك الليلة، كنت في المكتب أراجع بعض التقارير عن شهاب،
و استمع للتسجيلات التي رصدناها له، قبل أن ينفتح الباب فجأة،
و يدخل المخبر سرور، وهو يلهثُ في فزع :
- يا باشا .. يا باشا .
رفعتُ الـ head phone، ونظرت إليه مستفسراً :
- الرائد موافي، أحضر عوني لغرفة شهاب .
ألقيت السماعات على المكتب بعنف :
- ابن الكلب المريض .
و قبل أن أخرج مُسرعاً، اتصلت باللواء أشرف جلال، لأسجل موقفاً، فأيّدني
و سب الدين لموافي، وأمرني أن أتصرف حتى يأتي إلى الإدارة .
خرجت بسرعة، ونزلت السلالم حتى القبو، وفتحتُ الباب بقوة، كان موافي
جالساً على مقعده، يُدخن بشراهة، وعوني " شواذ " عُرياناً كما ولدته أمه،
يتراقصُ أمام شهاب المربوط في " العروسة " بإحكام، صرخ :
- يا أولاد الكلب .
ضحك عوني، وأخذ يقترب من شهاب، فبصق على وجهه، فابتسم
" شواذ "، وأخذ يرقص حوله في تهتك .
كنتُ أُعنّفُ موافي لتجاوزه أوامري، ولأنني المسئول عن العنصر المتهم
أمام رؤسائي، لم يكترث موافي، بل لم يسمعني نهائياً، وانشغل بمتابعة
فيلم " البورنو " الذي يريده .
تقززت كثيراً من منظر عوني، وهو يدور حول شهاب كالكلب الجائع،
تداعت في ذهني صور كثيرة لصافي و" دوحة "، وهو يدلكها .
و في لحظة ما، اندفع " شواذ " تجاه شهاب، وحاول الالتصاق به من
الخلف، أسرعتُ نحوه لأبعده، دفعني ابن " القحبة " في صدري فكدت أقع،
و موافي يضحك في هستيريا، وشهاب يصرخ ويشتم .
وقبل أن يبدأ عوني فعلته المشينة، انشقت الغرفة عن سرور،
الذي فاجأنا بسرعة ورشاقة، وأمسك عوني " شذوذ " من محاشمه،
إربد وجه عوني، وراح صوته، ثم احمّر وجهه، وجحظت عينه،
حين ضغط سرور " الكِبّاش" بكل قوةٍ على خصيتيه، فخرجت
منه صرخة مُدوّية، أشبه بخوار عجلٍ عند الذبح، ثم سقط عوني
على الأرض بلا حراك .
المشهد لم يستغرق ثواني معدودة لإدراك ما حدث، قبل أن يقوم موافي
ليتحسس مخبره النجيب " شذوذ "، تفحصه جيداً، لم أستطع النظر،
كانت الدماء تسيل من عوني بشدة .
رفع موافي يد عوني، ثم تركها فسقطت بجوار جسده، التفت بغضب
ناحية سرور، وأخذ يصفعه ويركله بقسوة :
- قتلته يا ابن الوسخة .
و سرور لا يدافع عن نفسه، فقط صامد في مكانه، ينظر لموافي
و الشر في عينيه، ثم أمسك فجأة بيد موافي، ودفعه بقوة فوقع،
و عندما تدخّلتُ لأمنع سرور من الفتك بموافي، مرت بجواري
رصاصات، أصابتني بصممٍ لحظي، ولم أدر ما حدث،
إلا حين سقط سرور " الكَبّاش " على الأرض، وسط
بركة من الدماء، وعلى بُعد متر واحد من عوني " شذوذ "،
بينما كان صراخ شهاب الهستيري يرج الغرفة، وتحوّل إلى
ضحكات عالية ومُفزعة، وربما ساخرة .
***
بعد أسبوعٍ من التحقيقات، وشهادة الشهود، أحالت المحكمة التأديبية الرائد
محمد موافي العفيف إلى التقاعد، وتم نقلي إلى الإدارة السرية الخاصة بمراقبة
المجانين .
و استقبلني اللواء مروان النمر مدير الإدارة بوجهه المتجهم، وروحه القاتمة،
و شرح لي طبيعة الإدارة وأهميتها بالنسبة للأمن الوطني .
جاء نقلي إلى تلك الإدارة بمثابة الترقية، من حيث الحوافز والبدلات، والعمل
في نطاق أكثر حرية .
و بصراحة توصلت إلى حقيقة مؤداها؛ أن التعامل مع المجانين والمجاذيب،
أرحم ألف مرة من العمل مع العقلاء، بشرط أن يكونوا مجانين حقاً ولا يدّعون .
عرفتُ أن موافي افتتح شركة أمن وحراسات خاصة، وبعد شهور توّرط في
قضية قتل إحدى المطربات لصالح أحد كبار رجال الأعمال في دولة عربية،
و لسوء حظه أو غبائه، تم تصويره وهو خارج من غرفتها بأحد الفنادق،
و هو الآن في سجن طرة، يستأنف حكماً بالإعدام .
أما شهاب فأصيب بحالة هستيريا شديدة، وربما جنون، ظل يضحك
و يرقص حول الجثتيْن، ولا أحد يعرف من فَكَّ وثاقه من " العروسة "،
كانت رقصته تشبه تماماً رقصة أنطوني كوين في فيلم " زوربا اليوناني "،
ثم غمس سبابته في دم عوني، ورسم خطاً على صدره، وبنفس
السبّابة، غمسها في دم سرور، وصنع صليباً من الدم على صدره،
وركلَ الجثتيْن بشدة، وهو يرقص في انتشاء .
نُقل بعدها إلى مستشفى الأمراض النفسية والعقلية بالعباسية، وتَسَلّمتْ
إدارتنا ملفه كعنصر خطر على الأمن الوطني .
و يبدو أن القدر يصر على لقائي بشهاب، ربما عرف اللواء مروان النمر
بأنني كنت مسئولاً عنه قبل انتقالي للعمل في إدارته، فأسلمني ملفه مُجدداً .
***
حين أرفقتُ له التقرير كان يداري كرّاسة خضراء، وقلم رصاص، وضعهما
في درج مكتبه .
ملامحه لم تكن متجهمة، أو حادة كالعادة، أخبرته بما تم تفريغه من
مواد وأفلام وأغنيات وقصائد، ودفاتر قديمة .
كان يتابع باهتمام ما أقول، حتى مرت قصيدة " كسميّات " نجيب سرور،
مُسجلّة بصوته، استوقفني، وأمرني أن أترك التسجيل :
أخُـش بيت الأدب ألقى الأدب ممنوع
تدخل ورايا المباحث شئ ومش معقول
يمين شمال بتراقبني والكسوف مرفوع
لولا الملامة لياخدوا عينه م البول
الذي أذهلني، أن اللواء مروان النمر كان يحفظها، ويرددها مع الشاعر في
نشوةٍ غريبة، لم أرها على ملامحه :
أقرا في بيت الأدب أجدع كلام ينقال
آدي " الصراحة " بصحيح يا شعب يا معلم
مادام بيملوا الجرايد من خرا الاندال
يبقى المراحيض جريدة ليك يا متلجم
ثم بلغ الذروة في الانسجام مع هذا المقطع الفصحى في القصيدة الشهيرة :
حين ترون " الموت الأسود "
الطاعون " بأي مدينة
لا يدخلُ باب مدينتكم للموت مغامرْ
لا يخرج من باب مدينتكم للموت مهاجرْ
فالموت الأسود لا يجدي منه هَرَبْ
لا يعْصمُ منه الطب
لا تجدي الحيلة حين يغوص النصلُ المسمومُ بقلب
لا يجدي السيف .. المدفع
لا تجدي غير الحرب
الحربُ الصبرُ الإصرار .. الصمت
و المكر بكل صنوف المكر
ليس يفل الشر
غيرُ الشر
حين ترون الموت الأسود
لا يجدي إلا موتُ الموت
و انتبه اللواء مروان لحالته، التي تشبه المريد مع قطبه، فضغط على زر التوقف،
ونظر إلي ثم قال :
- تخيّل مؤلف هذه القصيدة التحريضية، مجنون .
و ضرب كفيه، وعلق :
- كتب معظمها ما بين العباسية ومستشفى النبوي المهندس في المعمورة بالإسكندرية .
لحظات قليلة، ظهر لي مدى عشق اللواء مروان لعنصره المتهم .
هل من الممكن أن أعجب بشهاب، وأتأثر به؟
و يبدو أنه أحس بِتَفَلّت تلك اللحظات منه، فَغيّر ببراعة ملامحه السلسة، ليرسم
تقطيبة الجبين الكئيبة، ويستعيد جهامته المعتادة، ويأمرني بالانصراف في حسم،
حتى قبل أن أكمل تقريري :
- سأقرأه .. تفضّل على مكتبك لو سمحت .
وقبل مغادرة مكتبه، سمعتُ بعد غلق الباب، صوت العنصر المتهم السابق
نجيب سرور، يكمل القصيدة .
***
لم نستطع أن نخرج من شهاب بأيّة معلومة، فقط هذيانات غريبة، وكتابات
مبهمة، يرسم رموزاً على جدران المستشفى، لم يتوصل المعمل الفني لفك
طلاسمها بعد .
صار ينطق بلغة غريبة، ويبتسم للنبي جمال في عنبره، ويحييه باحترامٍ
شديد، وربما أذاع بياناً من علبة مياه غازية، طمسَ ملامحها، ويستخدمها
كميكروفون .
أدار حواراً مع جمال الذي يدعي النبوّة، وبشر بالصباح والفجر الذي لاح،
وابتسم النبي جمال له، وباركه بيده، وربّت على كتفه، وقام فجأة،
متعللاً بالوحي الذي جاء .
يدخل جمال في خيمة، صنعها من ملاءة السرير، وبقايا أخشاب التقطها من
حديقة المستشفى، وحين يدخل الخيمة، تسمع زناً، كدوي النحل،
لا يجرؤ أحد على الدخول، ثم يخرج جمال مشرق الوجه، هاتفاً في عنبر
المجانين :
- يا قوم .. إن الله يأمركم بالمحبة والتعاون، ستصبحون أقوياء .
كانت تلك الكلمات تزعجنا تماماً في الإدارة، وترهقنا في الفحص والتمحيص،
لو كان جمال يخدعنا، ويوصل رسائل لشهاب، في حواراتهما الإذاعية الوهمية،
و مقترحاتهما لحل مشكلات العالم، ترعبنا تلك المسائل، ونعجز غالباً عن
التصرف حيالها، ربما هو إفراط في حاستنا الأمنية، وأن الأمر لا يعدو
عن كونه مجرد تخاريف لمجموعة من المجانين .
كلمات مريبة، ومخيفة لنا، خاصة حين صرخ جمال بعد أن خرج من الخيمة :
- أزفت الآزفة .
ماذا يقصد، هل ثمة شيء يدبر في الخفاء؟!
يجتمع شهاب مع حودة " المخفي "، الموظف الحكومي الذي فقد عقله، وقتل
زوجته، وأنقذ الجيران أطفاله من سكينه الحاد، لفشله في الإنفاق عليهم،
بعدها، أخذ يهذي، معتقداً أنه كائن غير مرئي، وغير موجود أساساً .
يعامله زملاؤه على أنه مجرد صوت، ويصدقون مسألة اختفائه، لدرجة
أنهم لا ينظرون إليه أثناء الحديث معه، مرة واحدة أخطأ أحد الأطباء الجدد
و كلمه مباشرة، فتجاهله حودة " المخفي "، فأمسك به، هنا ثار العنبر،
وكاد أن يفتك بالطبيب الشاب، وكان مبررهم :
- كيف تمسك به وهو مخفي؟ هل أنت مجنون؟
من بعدها لم يجرؤ أحد من الطاقم المعالج على أن ينظر تجاه " المخفي " .
كما استطاع شهاب بعد جهد شديد أن يصلح بين عكاشة الزعيم، والنبي جمال،
فعكاشة زعيم سياسي سابق، تم إقصاؤه وطرده من حزبه، وإغلاق جريدته،
و التشكيك في وطنيته، بحجة تلقيه دعماً من دولٍ أجنبية بعينها، والحقيقة أن
عكاشة صدق بسذاجة المسألة الديموقراطية، فكتب مقالاً ينتقد تصرفات السيدة
الأولى، وتساءل عن دستورية وضعها في النظام، خاصة حين كان يخرج
بعض الوزراء والمسئولين للإعلاميين، يقولون :
- بناء على تعليمات الهانم .
تم اختطافه بعد السحور وضربه وتجريده من ملابسه، وتركه عرياناً في
الصحراء، قيل إن الجن مسته بضر، وأنه نجا من ذئاب وثعالب جائعة،
وجدوه بعد ثلاثة أيام، يجري على الطريق الصحراوي، يسابق السيارات
و يقذفها بالطوب .
لم يكن عكاشة متديناً، طبيعته جعلته متشككاً حتى في وجود الله، لذلك لم
يتقبل النبي جمال، إلا بعد وساطات عديدة من شهاب، وحين بشره في
إحدى نوبات تجليه :
- إن الله قد غفر لعكاشة كل ذنبه .
فصار من بعدها صديقاً للنبي جمال، يصدقه فيم يبشر به، خاصة الخلاص .
كانت اجتماعاتهم تثير الريبة، وتبعث على الشك، لاسيما بعد انضمام سونيا
" مجنونة ناصر " لهم، تقف كرمح لترتجل خطاب المنشية الشهير لعبد الناصر،
أو تصيح بعبارات مرعبة مثل :
- ارفع رأسك يا أخي، فقد مضى عهد الاستعباد .
كان العنبر يموج كل يوم بالخطب والمظاهرات المنددة بالوضع، والمطالبة
بالعدالة والحرية، يتقدمهم شهاب والنبي جمال، ويصوغ عكاشة الزعيم،
شعارات ثورية، يهتف بها العنبر وراءه، وتكتبها سونيا بدأب على الجدران .
و عندما صنع شهاب من عصا خشبية طويلة حصاناً، لفه بقطع القماش الملوّن،
يمتطيه، ويصهل به كجواد عربي أصيل .
راقبناه طويلاً، وقابلته شخصياً أكثر من عشر مرات، أعطيته أقلاماً وأوراقاً
كما طلب، ليكتب أي شيء، كان يأخذها ويكتب أحياناً، ويتكاسل أحياناً .
ضمنّت كل ما كتبه في التقرير، الذي أرفقته للإدارة .
بعد عام ونصف، كتبت أوصي بخروجه من المستشفى لأنه بالفعل مريض عقلي،
و أرفقت شهادة الطبيب المعالج، وطمأنت الإدارة أنه لا يُخشى منه على الأمن
العام أو النظام السياسي في البلد .
و بعد مداولات، ومناقشات مع رؤسائي، خرج شهاب من المستشفى .
لم يعد لبيته، ظل في الشارع، يرمح بحصانه، يحارب أعداءً خياليين، وينتصر
عليهم أو ينهزم، لكنه كان يجري في شوارع وسط البلد، ويخطب في ميكروفونه،
ظللت أراقبه، لا أدري لماذا؟
كان يشعر بي، ويبتسم لي كثيراً، ولوّح بيده مرة ناحيتي محيياً، رغم بعدي
عنه بمسافة كبيرة .
أصبحت أدمن مراقبته، هل التلصص إدمان؟
ربما .. لكنني كنت أحاول فهم حالته، ماذا يريد أن يقول؟
هل الرسائل التي يرسلها بحركاتٍ من يده ورأسه، ورجليه لأشخاصٍ بعينهم؟
هل خدعني شهاب، ولم يكن مجنوناً، ويُعد كل العُدة لثورة ما؟
في وسط البلد يمنعونه من دخول الأتيليه أو الجريون، يكتفي بمراقبة المارة في
شارع شامبليون، ويرسل إشاراتٍ بيده ورأسه، فسّرها المعمل الفني بأنها خطيرة،
و تحمل معاني تحريضية، مثل :
- استعدوا .
و مرة :
- خلاص .
و أخرى :
- النصر .
لم تكن علامة victory فقط، بل أكدها بجسده، بلغة تشبه الإشارات .
أما خطبه التي يلقيها في التحرير، وطلعت حرب، عبر ميكروفونه،
يصغي لها الشباب، بل ويصفقون له، كما حدث منذ أيام على أحد
المسارح، أثناء عرضٍ ترويجي، لأحد الألبومات المطروحة لشركة دعائية .
- شهاب خطير، ويبدو أنه خدعني .
قلت في نفسي، وأنا أغلق " اللاب توب "على مشهد " دوحة " المُدَلك،
يلعقُ في صافي بنهم .
9- المجانين
في المستشفى انقطعت الزيارة عنه، عائلته المرموقة لم يبق منها سوى أقارب
من الدرجة الثالثة، شغلتهم وظائفهم عن تَذّكره، ربما خوفاً من الأمن، أو
درأ للفضيحة .
فالجنون في أعرافهم العريقة، مرض مشين، يجب إخفاؤه والتنصل منه،
مرة واحدة وأخيرة، جاءني طلب موّقع من السيدة : زهيرة عبد الرحمن
غنيم، تطلب زيارة شهاب، وفي خانة درجة القرابة بالمريض، كتبت :
- زوجة .
انتفضت من مكاني، لأن تلك المعلومة تعني قصوراً في أدائي أنا وفريق
العمل، كيف يكون شهاب متزوجاً، ولا نعرف؟
كنت قد كشفت على سجله في مصلحة الأحوال المدنية، وأعرف اسم جدته
لأمه رباعياً، ونوع فصيلة دم أبيه، وأعلم يقيناً أنه أعزب .
تقافزت في ذهني اتهامات موافي السابقة لشهاب، بأنه يحمل هويّة أخرى أو
جوازَ سفرٍ ثانياً، هل كان بهذه البراعة ليخدعنا جميعاً؟
وَقّعْتُ بالموافقة على الزيارة، وانتظرت بقلقٍ بالغ قدوم الزائرة الغامضة،
لم تكن باستمارة البيانات معلومات كافية، غير الاسم ثلاثياً، ودرجة القرابة،
ضربت الاسم على الكومبيوتر، خرجت النتيجة بحوالي خمسين ألف امرأة في
مصر تحمل نفس الاسم الثلاثي، وعلي أن أخمّن من هي؟
كنت كمن يبحث عن إبرة في جُرن من القش، انتظرت يومين حتى أتت زهيرة
لزيارته، وصعقت عندما شاهدتها على شاشة المراقبة، كانت تشبه تماماً
صورة فرحة، جارة شهاب في الدور الثالث، فحصت الملف لأتأكد، وصدق
حدسي .
توّعدت في نفسي المخبر حلمي الخفيف، لأنه لم يعرف بمسألة زواج شهاب،
و كذلك اسم فرحة " الرسمي " المسجل في شهادة ميلادها، وهذا تقصير
يستحق العقاب .
تركتها تلقاه أولاً مع تسجيل المقابلة بكاميرات خاصة، وضعت لمراقبة
العناصر المتهمة في كل العنابر .
ربما تفيدني زهيرة " فرحة " بمعلوماتٍ حول شهاب، وتعطيني إفادة عن
أشياء غامضة في حياته .
استقبلها بفرحٍ طفولي، وضمته بشدة، كانت فرحة في العقد الثالث، جميلة
و رشيقة، وتهتم بنفسها، الكلمات بينهما مبهمة، وسط بكاء حميم، لم أستطع
أن أفسّر كلمة واحدة، العبارات أغلبها عاطفية، وتحمل تساؤلات عن الأحوال،
استمر اللقاء عشر دقائق، لم أصبر عليها أكثر من ذلك، اصطحبوها لمكتبي،
لم تكن خائفة، أو يبدو عليها الذعر، قابلتها كأنني أحد الأطباء المعالجين،
لم يكن مسموحاً لنا أن نكشف عن هوّيتنا أو إدارتنا السرية، التي تراقب
المجانين .
سألتها مباشرة :
- تقولين إنك زوجته؟
أجابت بثقة :
- نعم .
قلتُ بانفعال :
- لكن ملفه يقول إنه أعزب !
فتحت حقيبتها الجلدية، وأخرجت ورقة مطويّة، ومدت يدها، أخذتها بسرعة،
و قرأتها في عجالة وبتركيز، فهمت أنه عقد زواج عرفي، وموّقع بشهود
و مُؤرخ .
كانت فرحة جميلة، وحين جلست، انزاحت تنورتها قليلاً، فبانت فخذها ملفوفةً
و رائعةً، ومنتوفةً بعناية، شعرت بنفس الأسى، الذي ينتابني منذ المراهقة،
كلما مارست العادة السرية أو اشتهيت امرأة عزيزة علي .
تعاملت باحترافية، وتجاوزت الموقف، وسألتها :
- لماذا عُرفي؟
بدأت فرحة في الحكي :
- عندما جاء شهاب إلى العمارة، كنت قد حصلتُ على طلاقٍ غيابي للضرر،
من زوجي الذي " هَجَّ "، ولا أعرف حتى اللحظة إلى أين؟
جاء شهاب، وتبادلنا التحية على السُلّم أكثر من مرّة، كان مُهذّباً ومجاملاً،
لم ينظر لي تلك النظرة التي أراها في أعين رجال الشارع والعمارة .
تململتُ في مقعدي، خشية أن تكون قد رصدت نظرتي الشبقة لفخذيها، واسْتَكْمَلَتْ :
- تعاطف شهاب معي بعدما عرف حكايتي، وبدأ يتردد على شقتي، مرة أو مرتين،
ليساعد ابنتي في بعض دروسها، خاصة اللغة العربية والإنجليزية، لكن خليل
الدمنهوري – الله لا يسامحه – هو وزوجته .
قاطعتها في تخابث :
- من خليل الدمنهوري؟
أجابت :
- جار شهاب في الرابع، وقتها كان الحب قد بدأ بيننا، طلبني شهاب للزواج،
وتفاجأت، فهو شاب وسيم وابن عائلة، ولم يسبق له الزواج، ما الذي
يجبره على الارتباط بامرأة مثلي .. لكنه أصر، فاشترطت عليه أن يكون
العقد عرفياً وسرياً .
و قبل أن أتساءل :
- لماذا؟
أضافت فرحة :
- لأنني مُطلقة، ومن حقي معاش والدي، وهو مبلغ جيد، أتقاسمه مع
شقيقتي الأرملة، ولو تزوجتُ بعقد رسمي، ينقطع المعاش عني،
ووافق شهاب، أما عن السرية، حتى أكون مرتاحة الضمير، وأُتيح
له فرصة الانفصال لو شعر بذلك، كل ما عليه، أن يمزّق الورقة،
وينتهي ما بيننا ببساطة ومحبة .
تتنهد فرحة وتبتسم :
- و لأنه ابن أصول فقد أعطاني النسختيْن، وأخبرني بأنني استجابة
الله لدعاء جدته له، كان سخياً جداً معي ومع ابنتي، لم أشعر
منه بضجر أو ملل، وكنتُ أتردد على شقته كل خميس، حتى
أتفادى عيون خليل ولسان زوجته الفالت .
لم أتدخل تركتها تحكي، وأنا مذهول من تصرفات شهاب :
- لا أعرف ما الذي جرى؟، ولماذا قبضوا عليه، حاولت أن أصل
لمكانه، ولم أستطع، حتى عرفت أنه هنا فجئت لأزوره، تخيّل
يا دكتور أنه رفض أن يخبرهم أنني زوجته حفاظاً على سريّة عهدنا،
و خوفاً عليّ وعلى ابنتي من بطش أمن الدولة .
ثم أخرجت منديلاً ورقياً ومسحت دموعها :
- اليوم يستحلفني أن أُمزّق الورقتين، وأنساه، وعندما سألته عن
السبب، لم يجب وأصر على ذلك .
ثم أخذت الورقة مني، ومزّقتها وألقت بها في سلة المهملات، وقبل
أن تقوم لتنصرف، سألتني فرحة عن حالته، فأجبتها كطبيبٍ متخصص :
- انهيار عصبي، وصدمة عنيفة، ستزول مع الوقت .
هزّت رأسها، وحيتني ثم قامت منصرفة .
لم أستوعب ما حدث، هل أُصدّقها؟
و هل يعي شهاب تصرفاته؟
ولماذا طلب منها أن تمزّق الورقتين؟
استخرجت من سلة المهملات كل قصاصات الورقة الممزقة، ولملمتها كخبير
في كيس بلاستيكي خاص، وطلبت من المعمل الفني أن يعيد ترميمها من جديد
لكنني لم أرفقها أبداً بملف شهاب، ولا أدري .. لماذا؟
في اليوم ذاته، أصيب شهاب بنوبة هياج شديدة، حطم الكراسي والمناضد،
و لم يستطع أحد التحكم فيه، حتى النبي جمال سقط، عندما حاول إمساكه،
لأخذ الحقنة المُهدئة .
***
في تلك الليلة، لم أنم جيداً، طاردني طيفُ فرحة، صرتُ مشدوداً لها، كانت
أجمل بكثيرٍ من صورتها في الملف، أنثى حقيقية طازجة، ممتلئة بحيوية وعنفوان،
تلمحُ في عينيها شقاوة وتمرداً وحزناً نبيلاً، يطلُ عليك حين تشردُ مع خيط دخان
سيجارتك، أو تنظرُ ناحية البعيد، كأنها تنتظرُ فارسها الوحيد، لينجدها من ورطة الحياة .
حلمتُ بها كثيراً، وكنتُ أصحو نشوان من مجرد رؤيتها في حلمٍ عابر، راقبتها،
و تلصصتُ على مكالماتها .. وحسدتُ شهاباً عليها .
من أين جاءت بتلك الشجاعة، لتبحث عنه؟
و تصرُ على لقائه، بينما تخلى عنه أهله وذووه !
لم تكن أبداً اسماً على مسمى، طاردتها الأحزان وألفتها، فبعد أن حصلت
على دبلوم التجارة، أحبت أنور محسوب، مدرس التربية الرياضية،
بمدرسة البنين الملاصقة لمدرستها، كانت قصة حبٍ تشبه الأفلام القديمة، تزوجته
رغم رفض أبيها له، وتحدت فرحة الجميع، فقاطعها أبوها، وخاصمتها أمها،
لكنها ظلت مكتفية بأُنس المحبة مع أنور .
و ازدادت بهجتها، عندما أحست بجنينٍ ينمو في أحشائها، عاشت مع زوجها عاماً
من السعادة، أفسح قلبه لمتسعِ هواها، كانت مليكته الوحيدة .
حلمَ كثيراً بأشياء بسيطة وممكنة، لم تكن لتتحقق إلا بالإعارة لدولة خليجية،
ظل ينتظرها، شهوراً وسنوات ٍ، لكنها تجاوزته بصفاقة ذات صيف، مُخرجةً
لسانها لأحلامه العادية .
قالوا :
إنه عاد في ذلك اليوم مُصفّرَ الوجه، ينضحُ عرقٌ باردٌ فوق جبينه، لم يكلم أحداً،
أو يرد سلاماً على أحد، صعدَ إلى شقته، وبعدها .. تعالت صرخات فرحة .
نقله الجيران إلى المستشفى، وتبَيّنَ أنه أصيب بذبحة نجا منها بأعجوبة، ثم
تعافى وعاد إلى بيته، ظل حبيساً فيه لأسابيع كثيرة .
سكنته الهموم والأحزان، والشعور المرير بالهزيمة، لم ينطق بكلمة،
أو ينبس بحرف، أو ينظر في عينيها، حاولت فرحة بكل الحيل أن تخرجه من
نوبة الكآبة، لكنها فشلت، بكت وجثت على قدميه، ورجته أن يعود كما كان :
فقط فارسها في الغرام .
لم تعرف فرحة ما الذي حدث، استيقظت كعادتها مبكراً، لم تجد أنور في السرير،
نادت عليه، لم يجبها إلا الصمت، انقبض قلبها، خرجت كالمذعورة تسأل عنه،
لم يأتها رد .
أخبرها أحد الجيران أنه شاهد أنور يركب المترو في اتجاه المرج، وكان يرتدي
( تريننج سوت ) أحمر .
ظلت فرحة تبحثُ عنه لمدة عام كامل، حتى جاءت ابنتها إلى الدنيا، ولما أعيتها
الحيلة، وحفيت قدماها على الطرقات، وأضناها البحث عن أنور، وباءت كل
محاولاتها بالفشل، أيقنت تماماً أنها صارت وحيدة .
أشارت عليها جارة لها بالعمل، قدمت فرحة أوراقها في كل مكان، حتى ابتسم حظها،
و عملت كـ " دادة " في إحدى الحضانات، تُغيّر الحفاضات، وتهتم بالأطفال، تكنس
و تنظف المكان كل يومٍ، من السابعة حتى الخامسة عصراً .
لكن الروضة أقفلت بعدما وشى مالك العمارة بصاحب الحضانة، لأنه لم يرفع الإيجار
كما وعده، فأبلغ عنه السلطات، التي جاءت و" شَمّعتْ " المكان، حتى يستوفي تراخيصه .
التحقت بعدها فرحة بمشغلٍ للفتيات، تعلمت " الحياكة "، وشربت سر الصنعة في أسابيع قليلة، وأشادت بها صاحبة المشغل :
- أنتِ ذكية جداً .
ردت فرحة :
- الجوع يعلم الحمار !
و بعد شهور توفي والدها عبد الرحمن غنيم، موجه أول بالتعليم الصناعي، فتصالحت مع
أمها وأختها الأرملة، وأشارت عليها أمها أن ترفع دعوى طلاق غيابي، حتى تستحق
صرف معاش والدها، وبعد أن حصلت على الحكم، وصار من حقها المعاش، تركت المشغل، واشترت ماكينة خياطة، وقالت في افتخار :
- أنا مديرة نفسي !
كانت تحيك الملابس لأبناء العمارة والشارع، وبرعت في تقليد " الباترونات " المختلفة،
و أقبل عليه الزبائن، وصارت مستورة الحال، حتى جاء شهاب فَغَيّرَ من حياتها
.. وحياتي !
***
في كل ليلةٍ أستمتعُ بالتنصتِ على حديثها الهاتفي، صوتها يغردُ في روحي فينعشها،
و يخفقُ قلبي لضحكاتها الطفولية، أراقبها بشغفٍ، وأعشقُ مشيتها، بقدها الممشوق،
و خطواتها الواثقة الرشيقة .
ساعدتها كثيراً دون أن تدري، منعتُ عنها كل العيون الساغبة والطامعة في جسدها البض،
أصبح خليل الدمنهوري يتحاشاها تماماً، أطلق لحيته، ونبتت له زبيبة عجيبة في جبينه،
وصار يؤذن في زاوية المسجد أسفل العمارة، بعد ما استدعيته وهددته، وابتلعت زوجته
لسانها، فلم تعد تلوكُ سيرتها مطلقاً .
جعلتها تفوز ثلاث مراتٍ بثلاجةٍ وغسّالة أوتوماتيكية، وتلفزيون بشاشة LCD، عشرين بوصة، في مسابقات وجوائز وهمية، سددتُ عنها فواتير كثيرة، وبسطت سياجاً من الحماية حولها .
كنتُ أراقبها من بعيد، وأسمع صوتها كل يوم، لم أجرؤ أبداً على طلب مقابلتها، أو أحاول التقربَ منها، اكتفيتُ بمتابعتها من بعيد، وربما أبتسمُ وألوّحُ لبنتها الصغيرة، كلما مرت قريباً مني .
يبدو أنني أحببتُ فرحة !
***
بعد الشهادة الطبية الموّقعة من " كونسولتو " متخصص، والمعتمدة بخاتم
النسر، أصبح شهاب في نظر الدولة مجنوناً رسمياً، وتم إرفاق نسخة منها بملفه
لدينا، فتم الموافقة على خروجه، وخاطبنا كثيرين من أقاربه، لم يجرؤ أحد على
القدوم لاستلامه، فصرفناه عصر أحد الأيام، وتابعناه بالمراقبة .
لم يعد لمنزله، وبقي في الشارع، ينام تحت كوبري معروف، أو بجوار
مسجد أبو العلا خلف وزارة الخارجية، أو حتى في وكالة البلح، يتنقل بحُرية في
الشوارع .
اليوم رصدت رسائل على بريده الإلكتروني، وتحمل معانٍ غريبة، لم أنتظر
رأي المعمل الفني، ودخلت على صفحته في الـ facebook، منذ مدة
و أنا صديق له، قبلني قبل أن يُقبض عليه بأيام، أشارك بالرأي، وأعلق
على ما يحدث، وأنقد أشعاراً وقصصاً له ولأصدقائه الأدباء .
اليوم كان مكتوباً على الـ status الخاص به :
( وقال الحجّاج بن يوسف الثقفي، في وصيته لطارق بن عمرو :
لو ولاك أمير المؤمنين أمر مصر، فعليك بالعدل، فهم قتلة الظلمة،
وهادمي الأمم، وما أتى عليهم قادم بخير، إلا التقموه، كما تلتقم
الأم رضيعها، وما أتى عليهم قادم بشر، إلا أكلوه كما تأكل النار
أجف الحطب، وهم أهل قوة وصبر وجلد وحمل، ولا يغرّنك
صبرهم، ولا تستضعف قوتهم، فهم إن قاموا لنصرة رجلٍ، ما
تركوه إلا والتاج على رأسه، وإن قاموا على رجل، ما تركوه
إلا وقد قطعوا رأسه، فاتقي غضبهم، ولا تشعل ناراً، لا يطفئها
إلا خالقهم، فانتصر بهم، فهم خير أجناد الأرض، واتقي فيهم ثلاثاً :
نساؤهم فلا تقربهم بسوء، وإلا أكلوك كما تأكل الأسود فرائسها،
و أرضهم وإلا حاربتك صخور جبالهم .
و دينهم، وإلا أحرقوا عليك دنياك، وهم صخرة في جبل كبرياء الله،
تتحطم عليها أحلام أعدائهم، وأعداء الله ) .
ضغطت على like، ووجدت حوالي أربعين شخصا سبقوني، قرأت
التعليقات، ولفت انتباهي تعليق باسم الفارس الملثم، يقول :
- " صوت الشعب من صوت الله، والحرية كالحق تؤخذ ولا تُمنح،
و الغضب الساطع قادم " .
عرفت بعد تحرٍ دقيق أن مصدر التعليق، كومبيوتر متصل بهاتف
لمقهى إنترنت بوسط البلد .
هل يدخل شهاب على صفحته، ويضيف عبارات، ويخرج؟
و من هؤلاء أصحاب الأسماء الحركية، المتعذر تعقبهم ومعرفتهم؟
لم أستطع الإجابة، وشُل تفكيري تماماً، فانكمشت على الأريكة،
و غلبني النعاس فنمت من التعب مكاني، ولم أعرف كم مضى من
الوقت، استيقظتُ مذهولاً على رنين الهاتف، كان صوت اللواء
مروان النمر، يصرخ في أذني :
- أنت نائم والمجانين في التحرير بالمئات .
انتفضت جالساً :
- أفندم .
صاح بغضب :
- بسرعة على التحرير، الدنيا مقلوبة هناك يا أكثم .
ثم أغلق الهاتف في وجهي .
***
كان يركب حصاًنا خشبياً، وحول خصره حزام من الجلد،
ربط فيه جهة شقه الأيسر، سيفاً خشبياً، وعلى صدره تدلت علبة
معدنية، مربوطة في حبل من التيل الأبيض حول العنق .
حين ركب حصانه الخشبي في الميدان :
- درجن .. درجن .. درجن ...
توقف فجأة، وأمسك بيسراه العلبة المعدنية قبالة فمه :
- ( أيها الأخوة ..
سلميّة .. سلميّة )
و خلفه آلاف من الشباب، يهتفون :
- سلميّة .. سلميّة ..
تقدم بالمظاهرة من أمام عمر مكرم باتجاه الصينية الموجودة في
منتصف الميدان، فظهر تشكيل من الأمن المركزي، قادم من
طلعت حرب ليحاصرهم .
كانوا يرددون في حماس :
- عيش، حرية، عدالة اجتماعية .
ظلوا واقفين في مكانهم، رافعين شعارات تطالب بالتغيير،
و محاكمة الفاسدين في النظام .
و انضم إليهم حشد آخر قادم من شارع القصر العيني،
و محمد محمود .
كانت المؤشرات تتوقع حدوث تظاهرة كبرى، لكننا لم نخمّن
مثل تلك الأعداد، لم نتعامل من قبل مع هذه التكتلات البشرية،
لم نلمح الخوف في أعينهم، كان لديهم يقين بضرورة التغيير .
فتحتُ جهاز اللاسلكي، وأخبرت القيادة أننا مسيطرون على
الوضع .
لكن الأعداد بدأت في الزيادة، قادمون من قصر النيل،
و عبد المنعم رياض، ورمسيس، يهتفون :
- سلميّة .. سلميّة .
كانوا يتحركون في مجاميع باتجاهات مختلفة، يتفرقون،
ثم يندمجون، فأصابوا الجنود بالإعياء والإجهاد، فبدأ الانهيار
لم أكن أتوقع، وجود شهاب على رأس المظاهرة، ولمحت
من بعيد، النبي جمال، يرفع راية من القماش، مكتوب عليها :
- جاء الصباح والفجر لاح .
و كان الزعيم عكاشة، يرتجل الشعارات، ويهتف بها، فيرددها
الشباب خلفه، وتسلق حودة " المخفي " تمثال عبد المنعم رياض،
و وضع في يده علما كبيرا، يرفرف في الميدان .
بينما كانت سونيا " مجنونة ناصر "، تغني :
- ارفع رأسك فوق .. أنت مصري .
تجمع مئات المجانين في الميدان، وانضم إليهم آخرون، وهم
يطالبون بالحرية .
كانت المظاهرة نموذجاً مكبراً مما يحدث في عنبر المستشفى،
تماماً نفس الشعارات والهتافات .
هل خَدَعَنَا المجانين؟
و كانوا يتدربون تحت سمعنا وبصرنا، ونحن لا نصدق .
حين اقتربت كثيراً من تشكيل أمني، كان شهاب ينظر إلي
مباشرة، وابتسم، وهو يرفع في وجهي إصبعي السبابة
والوسطى، بحرف الـ v، علامة النصر .
شعرتُ باختناق شديد، مشيت باتجاه النيل، العرق يتصببُ
مني، وبدأتُ في فك أزرار القميص، وعندما وصلت إلى
الأسد الأيمن، الرابض فوق الكوبري، نظرت خلفي،
كان الدخان يتصاعد في خيوط نحو السماء، وصوت
الجماهير يهدر في المكان .
قاومت رغبة مُلحة في خلع ملابسي، والجري عُرياناً
على الكورنيش، ابتسمت وأنا أفكُ بقية الأزرار،
و شعرت براحة كبيرة، عندما لفح الهواء البارد
صدري العاري، وصوت الحشود يتردد صداه
داخلي :
- حرية .. حرية .
الجيزة،
الأحد : 14 أغسطس 2011 م
إشارات
* أروى صالح
كاتبة وروائية مصرية كانت من أعلام الحركة الطلابية في أوائل السبعينيات في جامعات مصر، قدمت كتابات في عدد من الصحف والمجلات الشهيرة، ضاقت بالحياة وألقت بنفسها من الطابق العاشر في صيف 1997، انتمت لجيل السبعينات أو ما عرف بجيل الحركة الطلابية ذلك الجيل الذي أشعل المظاهرات في جامعات مصر تأثراً بحركة الطلاب الفرنسية في 1968.
صدر لها :
* المبتسرون
(فَجّرَ ضجة كبرى حيث نقلت فيه تحليل لحركة جيل السبعينات ووجهت فيه انتقاداً لاذعاً لنفسها, الكتاب امتلك جرأة وقدرة على التحليل لحركة جيل السبعينات والذي كان في أوج صعوده في مختلف المجالات).
* سرطان الروح
( صدر عن دار النهر في 1998، ويضم خلاصة وافية عن أعمالها غير المنشورة حول الانعزالية، الشرود في أحلام اليقظة) .
* نجيب سرور
اسمه بالكامل محمد نجيب محمد هجرس سرور، ولد بقرية إخطاب، مركز أجا، محافظة الدقهلية في الأول من يونيو عام 1932، وتوفي يوم 24 أكتوبر عام 1978 م، شاعر مصري معاصر، لقب بـ "شاعر العقل" .
كتب نجيب سرور ما بين 1969 و1974، قصائد هجائية في قالب الرباعيات، سجل فيها ما رآه قلباً للأحوال، وسيادة النفاق والتصنع وتحكم التافهين بشروط معيشة وإبداع الموهوبين، بلغة تعد فاحشة وإباحية، وبكثير من التصريحات الجنسية وكلمات السباب، وعرفت في مجموعها بعنوان كس أميات، إلا أن من يرونه عنواناً محرجاً يؤثرون لأجل تلافي الحرج في معرض حديثهم عن أعمال سرور الإشارة إليها باسم الأميات.
ورغم شهرتها فإنها تعد أقل أعمال نجيب سرور قيمة فنية، وأقربها إلي الصراخ العصبي الذي أصاب نجيب بعد الإحباط النفسي والعقلي، ولم تنشر القصائد في حياته، لكن تسجيلاً صوتياً وهو يلقيها في جلساتٍ خاصة ذاع وانتشر، حتى نشرها ابنه شهدي نجيب سرور على الإنترنت عام 1998، مما أدى لملاحقته قانونياً وهروبه إلى روسيا حيث يعيش الآن، هو وأخوه فريد.
من أبرز أعماله المسرحية :
ياسين وبهية، آه يا ليل يا قمر، قولوا لعين الشمس، الذباب الأزرق، الكلمات المتقاطعة .
و من دواوينه الشعرية :
التراجيديا الإنسانية، لزوم ما يلزم، عن الوطن والمنفى، رباعيات، الكسميّات .
* يحيي الطاهر عبد الله
ولد عبد الفتاح يحيى الطاهر محمد عبد الله في 30 أبريل عام 1938 بقرية الكرنك مركز الأقصر بمصر، توفيت والدته وهو في سن صغيرة فربته خالته، التي أصبحت زوجة أبيه فيما بعد، وليحيى ثمانية أخوة وأخوات، وترتيبه الثاني بينهم، وكان والده شيخاً معمماً يقوم بالتدريس في إحدى المدارس الابتدائية بالقرية، وكان لوالده تأثير كبير عليه في حب اللغة العربية بالإضافة إلى أنه كان مهتماً بكتـابات العقـاد والمازني .
تلقى تعليمه بالكرنك حتى حصل على دبلوم الزراعة المتوسطة ثم عمل بوزارة الزراعة لفترة قصيرة قدمه يوسف إدريس في مجلة (الكاتب)، ونشر له مجموعة محبوب الشمس بعد أن قابله واستمع إليه في مقهى ريش، وقدمه أيضاً عبد الفتاح الجمل في الملحق الأدبي بجريدة المساء، مما ساعد على ظهور نجمه كواحد من أبرز كتّاب القصة القصيرة، وكتب يحيى الطاهر بعض القصص لمجلة الأطفال "سمير"
توفى يحيى الطاهر عبد الله يوم الخميس 9 أبريل 1981، قبل أن يتم الثالثة والأربعين بأيام في حادث سيارة على طريق القاهرة الواحات، ودفن في قريته الكرنك بالأقصر .
من أهم أعماله :
ثلاث شجيرات تثمر برتقالاً، حكايات للأمير حتى ينام، أنا وأنت وزهور العالم، الطوق والأسورة .
* محمد حافظ رجب
قاص مصري مميز، صاحب صيحة " نحن جيل بلا أساتذة " الشهيرة، ولد عام 1935، وأقام بالقاهرة فترة، عمل خلالها بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، ثم عاد للإسكندرية عام 1962، ليواصل الكتابة، حيث أصدر " الكرة ورأس الرجل "، و" مخلوقات براد الشاي المغلي "، و" حماصة وتهتهات الحمير الذكية "، و" طارق ليل الظلمات " .
وشارك رجب في تأسيس رابطة لكتّاب الطليعة بالإسكندرية عام 1956، ويعد واحداً من كتاب الستينيات
الحاشية
1- التفليش : أعمال هدم وهد الأبنية في العراق .
2- الكانون : موقد ريفي بدائي يعتمد على الأخشاب والقالوحات في الإشعال .
3- الخوخة : باب خشبي صغير، يبدو ككوّة داخل بوابة البيت الكبير .
4- القيعة : حجرة الخزين في البيت الريفي القديم .
5- مثل شعبي، يُضرب للتأكيد على بشاعة الحسد .
6- أنواع من الحلوى يفتقدها المؤلف .
7- التَرَسِيَنة : بلكونة خشبية في الدور الثاني من المنزل .
8- السيمافورات : أعمدة الإنارة الخشبية القديمة .
9- مِقْعَدِهَا : الحجرة العلوية في مباني القرية قديماً .
10- جبال الكُحل : موّال أحمر من الفلكلور الديني الشعبي .
11- لمبة الشيخ علي : مصباح كيروسين مصنوع من الصفيح بشريط قطني .
12- مَطْرُ الغِلال : بناء من الطوب اللَبِن، يأخذ شكلاً هرمياً صغيراً، تُحفظ فيه
الغلال من خلال فتحة تُسد بالطين لتحميها من السوس .
13- مثل شعبي، يدل على طول عمر المغامر .
14- النمس : حيوان يشبه الهرّ، يفترس البط والإوز، يعيش في الغيطان .
15- من نظم المؤلف .
16- رَكْية : نار هادئة يشعلها الفلاحون في الحطب والقالوحات .
17- الطُومَار : جمع طوامير، وهو الصحيفة .
18- درّة : السوط يُضرب به ( الكرباج ) .
19- ابن إياس، بدائع الزهور في وقائع الدهور، بولاق 1311 هـ، ج1 .
20- قَضْبُ : قطع صغيرة من الحطب متقدة .
21- تَشْتَقُ : تفتح فمها وتغلقه، طالبة العِشَار .
22- سليمان خاطر : الجندي المصري الفلاح، الذي كان ضمن قوات حرس الحدود،
فتح النار ببسالة على بعض الصهاينة عام 1985، عندما بصقوا
على العلم المصري المجيد، وقُتل داخل زنزانته، وخرج علينا
النظام السابق ليقول إنه انتحر .
23- مثل شعبي، يدل على عدم الوفاء .
24- مثل شعبي، يدل على السلبية والجُبن .
25- أغنية شهيرة في الستينيات، تحثُ على استصلاح الصحراء .
26- أغنية شهيرة لعبد الحليم حافظ .
27- شَكْمَة : البلكونة الأرضية التي تتصدر مدخل البيت الريفي، وتوجد
بها غالباً، المصاطب أو دِكَك خشبية للجلوس عليها .
28- أحمد سعيد : مؤسس إذاعة صوت العرب، وأول مدير لها .
29- نيجرات : ماكينات للتسجيل الإذاعي، ومفردها نيجرا .
30- سيكتشف الرائد أكثم – فيما بعد – مسودات لتلك الروايات المنشورة في طبعات محدودة
، أغلبها ( ماستر )، بعضها مكتوب بخط يد شهاب، والآخر على الكومبيوتر،
وأجزاء منها منقولة بتصرفٍ أحياناً، في دفاتر قديمة، وجدها عند مداهمة شقته، علق
عليها أكثم في الهوامش، لكنه احتفظ بتلك المسودات، ولم يرفقها بملف شهاب !
31- أمجد عرّار : ملحن وموسيقي فلسطيني، يطلقون عليه : " شيخ إمام فلسطين "
قام بتلحين وغناء قصيدة ( يا عريس الدولة ) لأحمد فؤاد نجم .